إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد المحسن العباد
  5. محاضرات الحج
  6. كتاب مناسك الحج
  7. شرح سنن النسائي - كتاب مناسك الحج - (باب وجوب الحج) إلى (باب فضل الحج المبرور)

شرح سنن النسائي - كتاب مناسك الحج - (باب وجوب الحج) إلى (باب فضل الحج المبرور)للشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحج ركن من أركان الإسلام، ولهذا أجمعت الأمة على وجوبه عند توفر شروطه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، أما العمرة فاختلفوا فيها على قولين.

    شرح حديث أبي هريرة: (إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب مناسك الحج. باب وجوب الحج.

    أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي حدثنا أبو هشام واسمه المغيرة بن سلمة حدثنا الربيع بن مسلم حدثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فقال: (إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج، فقال رجل: في كل عام، فسكت عنه، حتى أعاده ثلاثاً، فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بالشيء، فخذوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه)].

    فهذا الكتاب: كتاب مناسك الحج وهو من العبادات وهو الكتاب الأخير من الكتب المتعلقة بأركان الإسلام بعد الشهادتين، الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وقبل الصلاة ما لا بد منه للصلاة وهو الطهارة، ويأتي بعد كتاب مناسك الحج كتاب الجهاد.

    والحج هو لغة: القصد، أي: القصد المطلق، الذي يشمل أي قصد يقال له: الحج، هذا من حيث اللغة، وأما من حيث الاصطلاح ومن حيث الشرع فهو: القصد إلى مكة أو القصد إلى بيت الله الحرام لأعمال مخصوصة، فهو قصد خاص وقصد معين، وقد ذكرت فيما مضى أن المعاني الشرعية تعتبر في الغالب جزئية من جزئيات المعاني اللغوية، أي أن المعنى اللغوي يكون واسعاً ويكون المعني الشرعي جزءاً من جزئياته، وهنا كذلك؛ لأن الحج في اللغة القصد المطلق الذي لا يتقيد بالذهاب إلى مكة ولا بغير الذهاب إلى مكة بل هو عام في كل قصد، وأما في الشرع فهو قصد مخصوص، وهو: قصد إلى بيت الله الحرام لأعمال مخصوصة التي هي مناسك الحج، من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ومنى ورمي الجمرات وذبح الهدي إذا كان قارناً أو متمتعاً، وما إلى تلك الأعمال التي يقوم بها الحاج: على حسب نسكه.

    والحج كما هو معلوم أنساك ثلاثة تمتع، وقران، وإفراد، سيأتي تفصيلها وبيانها وذكر الأحاديث التي وردت في ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    وعلى هذا فالحج عرفنا أنه في الشرع جزء من جزئيات المعاني اللغوية؛ لأن الاصطلاحات الشرعية في الغالب تعتبر من جزئيات المعاني اللغوية، ثم عنون بأول ترجمة لوجوب الحج، والحج واجب، وركن من أركان الإسلام، وهو فرض لازم لمن توفرت فيه شروطه وكان أهلاً له، ومن المعلوم أنه من حيث الفرض لا يجب إلا على المكلف المستطيع، وأما من حيث الصحة والوقوع، فإنه يقع من غير المكلف إذا كان صبياً، أو عبداً، أو ما إلى ذلك ولكنه يكون نفلاً، فإذا بلغ الصغير أو عتق العبد فإنه يجب عليه أن يؤدي حجة الإسلام، وتكون الحجة التي أداها في حال صغره وفي حال عبوديته نفلاً ولا تكون فرضاً، فالحج ركن من أركان الإسلام الذي يقوم عليه هذا الدين الحنيف والذي قال فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل لما قال: (أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً).

    وفي حديث ابن عمر المتفق على صحته (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان).

    فهو فرض فرضه الله عز وجل على عباده وقد فرضه في العمر مرة واحدة، والعبادات التي هي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فرضت على أوجه مختلفة، فالصلاة فرضت في اليوم والليلة خمس مرات، والزكاة فرضت في السنة مرة واحدة على من تجب عليه الزكاة، إذا كان الخارج من الأرض من الثمار فتجب الزكاة عند حصول الحصاد والجذاذ، وإذا كان نقوداً أو عروض تجارة فتجب الزكاة عند حولان الحول وفي كل ذلك لا بد من النصاب، فإذاً الزكاة تجب على بعض الناس وهم الأغنياء ولكنها بشروط معينة وهي كونه يبلغ النصاب وكونه يحول عليه الحول، إذا لم يكن من الأشياء الخارجة من الأرض فلا يجب في كل وقت وفي كل حين في أيام السنة وفي أشهر السنة وإنما يجب في السنة مرة واحدة، والصيام يجب في السنة شهراً واحداً، والحج يجب في العمر مرة واحدة، وما زاد على ذلك فهو تطوع.

    وقد أورد النسائي للاستدلال على وجوب الحج: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (إن الله فرض عليكم الحج) الرسول صلى الله عليه وسلم خطب الناس وأعلمهم بهذه الأحكام على المنبر، وهذا من كمال بيانه عليه الصلاة والسلام أنه بين للناس الأحكام على المنابر حتى يكثر سامعوها، وحتى يفهمها الناس ويعقلها الناس.

    ومن المعلوم أن بيان الأحكام يكون بالخطب وغيرها ويكون بالحديث للشخص الواحد، وبغير ذلك، لكنه إذا جاء عن طريق الخطب يكون أحسن لأن هذا من الأشياء أو من الأمور التي تعم ويكثر سامعوها ويكثر آخذوها، وهو من كمال بيانه عليه الصلاة والسلام ونصحه لأمته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    حكم الحج إلى بيت الله الحرام

    فوجوب الحج مأخوذ من قوله: (إن الله فرض عليكم الحج)، وفي بعض الأحاديث: (فحجوا)، (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)، لكن كونه عبر بالفرض هذا يدل على الوجوب، ومن المعلوم أن الوجوب يكون عن طريق الأمر ويكون عن طريق الألفاظ التي تؤدي ما يؤديه الأمر بل قد تزيد على ذلك مثل الفرض؛ لأن التعبير بالفرض يدل على الوجوب، إن الله تعالى فرض عليكم كذا، يعني أنه أوجبه، فهو يدل على وجوبه ولزومه، وليست الصيغة صيغ أمر؛ لأن الأمر يكون بالصيغة التي افعل أو افعلوا، ويكون له ألفاظ تؤدي معناه، وهي على صيغة الخبر، كما هنا: (إن الله فرض عليكم الحج)، عبر بفرض، وهي دالة على الوجوب، والتحتم واللزوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم الحج)، ومن المعلوم أن المتبادر للأذهان أنه يكون مرة واحدة؛ لأنه لو كان المقصود أن يحجوا في كل سنة، أو يحجوا في العمر عدة سنوات، لجاء بيانه، وتقييده، لكنه لما جاء مطلقاً ولم يأت شيء يدل على تقييده، دل على أن الحج إنما يكون مرة واحدة، فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: (إن الله فرض عليكم الحج)، قال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أعرض عنه -سكت- فلما كرر ذلك ثلاثاً يسأل هذا السؤال، قال: (لو قلت: نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم)، من ذا الذي يستطيع أن يحج في كل عام من حين أن يبلغ إلى أن يموت؟! هذا فيه من المشقة ما فيه، وفيه من الضرر ما فيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم، غضب من هذا السؤال، ولم يجب السائل، ولكنه لما كرر قال: لو قلت: نعم لوجبت -أي لوجب عليكم الحج في كل سنة- ولو وجبت ما استطعتم، ولو أوجب عليكم أن تحجوا كل عام ما استطعتم؛ لأن هذا فيه من المشقة ما فيه لأنه سيكون على كل مستطيع أن يترك بلده ويروح للحج، ففيه من المشقة والإصرار البالغ على الحاج وعلى من يخلفهم وراءه ممن هو مسؤول عنهم، فبين عليه الصلاة والسلام أنه كان ينبغي ألا يسأل عن هذا السؤال، إذ المتبادر للأذهان أنه يجب في العمر مرة واحدة ولا يجب في كل سنة؛ لأنه لو كان موجباً بأعداد معينة لجاء بيانها كما جاء بيان إيجاب الصلاة في اليوم والليلة خمس مرات، ما جاء كتب عليكم الصلاة وسكت، جاء كتب عليكم الصلاة في كل يوم وليلة خمس مرات، جاء التنصيص على الأعداد عندما فرضت، ولو كان هناك حجات معينة لازمة لكل إنسان لبينها رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لما أطلق وسكت علم أن الحج ما يجب إلا مرة واحدة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم غضب من هذا السؤال وأجاب بهذا الجواب.

    قال بعض العلماء: إن قوله: لو قلت: نعم لوجبت، إن هذا يدل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يأتي بالشيء ويفوض إليه تقدير ذلك الشيء -أي كونه يكون مرة أو يكون كل سنة فهذا يرجع إليه، وهذا الذي قالوه ليس بواضح؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام: كل ما يأتي به هو من الله سبحانه وتعالى وقد يحصل منه الاجتهاد ولكنه إما يقر عليه أولا كما جاء عتابه في قصص متعددة بما يتعلق بأسرى بدر، وكذلك فيما يتعلق بقصة ابن أم مكتوم، عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، وفي غير ذلك من الأشياء التي جاء بيانها في القرآن، فدل هذا على أن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يأتي بالشيء عن الله، ولو قال: نعم فإنما يقوله عن الله -يعني أن الله تعالى يوحي إليه بذلك- لكن كونه يقول من تلقاء نفسه وبدون وحي الله عز وجل إليه، هذا لا يحصل؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    ثم يدل على ذلك الحديث الذي سبق أن مر بنا في بيان فرائض الصدقة والتفاصيل التي فيه بالنسبة للإبل، والبقر، والغنم، ومقاديرها، وقد جاء في أوله فريضة الصدقة التي أمر الله تعالى بها رسوله، يعني أن هذه الفرائض وهذه التفصيلات إنما هي من الله سبحانه وتعالى والرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بها، وهو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك من الأدلة ما جاء في الحديث: (أنه يغفر للشهيد كل شيء)، قال بعد ذلك: (إلا الدين سارني به جبريل آنفاً)، هذا استثناء، وأن الدين لا بد من أدائه لأهله.

    فهو من الأمور التي يلزم أداءها إلى أهلها وأنها لا تغفر، لأنها حق للناس، وليست حق لله عز وجل، قال: (إلا الدين سارني به جبريل آنفاً)، معناه أن جبريل جاءه وسره بهذا الاستثناء فهو وحي من الله عز وجل، والسنة وحي وهي من الله وليست من الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداءً بل هي من الله عز وجل، والكتاب والسنة هما من الله، لقول الرسول عليه اصلاة والسلام: (أنا أوتيت القرآن ومثله معه)، فالكتاب والسنة كلاهما وحي من الله، إلا أن القرآن وحي متلو والسنة وحي غير متلو، ولكن التعبد والتقرب إلى الله عز وجل بالجميع -بما جاء في الكتاب والسنة- ومن لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن، والله تعالى يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فما آتاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو منه سبحانه وتعالى، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام لما بين أن هذا السؤال ما كان ينبغي أن يسأل عنه، وأنه لو قال: نعم لوجبت ولو وجبت ما استطاعوا، قال: (ذروني ما تركتكم)، يعني مثل هذه الأسئلة التي فيها تكلف وفيها تشدد لا ينبغي أن يشتغل بها ولا ينبغي أن يسأل عنها، فإن الناس يأخذون بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما يقتضيه كلامه ولا يحتاجون إلى استفسار يترتب عليه مضرة ومشقة، مثل ما حصل لبني إسرائيل، الذين شددوا فشدد الله عليهم، في قصة البقرة، التي أمروا بأن يذبحوها، وأن يأخذوا قطعة منها، ويرموا بها على جسد القتيل، فسألوا أسئلة، وشددوا في أسئلتهم فشدد عليهم، فصار الحصول على نوع البقرة، أو على عين البقرة التي يريدونها صعبا، مع إنه كان بإمكانهم أن يذبحوا أي بقرة، لأنها داخلة في حكم إن الله يأمركم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، لكن شددوا فشدد عليهم، فالأسئلة التي فيها تشدد وتعنت قد يترتب عليها مضرة، هذه لا تصلح لا سيما في زمن الوحي الذي يحصل فيه التشريع، إذ قد يحصل للناس شيء فيه مشقة عليهم بسبب السؤال الذي يسأل عنه.

    علاقة الاستطاعة بالقيام بالفعل أو تركه

    (ذروني ما تركتكم)، ثم قال: (فإنما أهلك من كان من قبلكم كثرة مسائلهم) وليس المقصود السؤال عن الأشياء التي الناس في حاجة إليها وليس فيها تشدد، فإن هذه كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يسألونه عنها إذا كانوا يسألون عن أمور دينهم وعن الشيء الذي يحتاج إلى تفصيل وإلى بيان، لكن الأسئلة التي فيها تشدد وفيها مضرة وفيها تكلف هذه هي التي أنكرها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: (إنما أهلك من كان من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).

    ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أن الأوامر التي تأتي عنه فإنها في باب المأمورات يؤتى بها على قدر طاقة الإنسان، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وأما المناهي فقد أمر أ/راً جازماً بتركها؛ لأنها في وسع الإنسان وفي طاقته فتترك والترك سهل لمن وفقه الله عز وجل ولهذا قال: (فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا به ما استطعتم)، فالله تعالى إذا أمر بأمر من الأمور، ليس معناه أن يلزم الإنسان في كل وقت وفي كل حين على جميع أحواله، لا، هناك أشياء قد يستطيعها الإنسان في وقت، وقد لا يستطيعها في وقت، كالصلاة، فإن الإنسان يستطيع أن يصلي قائماً في حال صحته وعافيته، لكن قد يصيبه مرض، فلا يستطيع أن يصلي قائماً، فليس ملزماً بأن يصلي قائماً أبداً ولو كان مريضاً، ولو كان لا يستطيع، بل الإنسان يصلي على قدر طاقته يأتي بالأمر وينفذه على قدر طاقته، فإذا كان يستطيع أن يصلي قائماً فلا يجوز أن يصلي قاعداً، وهذا في حال الفرض، ولو صلى قاعداً وهو قادر على القيام، لا تصح صلاته، (إذا أمرتكم بالشيء فخذوا منه ما استطعتم)، معناه: اجعلوه على قدر طاقتكم، لستم ملزمين بأن تأتوا بالشيء وأنتم لا تقدرون عليه، بل هناك فرق بين حال الصحة، وحال المرض، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ما يوضح ذلك بالنسبة للصلاة حيث قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، وبالنسبة للصيام، إذا كان الإنسان مريضاً يفطر، ويقضي أيام فطره، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة:184]، ليس ملزماً بأن يصوم، وهو لا يستطيع.

    إذاً: الأوامر تكاليف، والتكاليف يمكن للإنسان أن يأتي بها في حالة صحته، وعافيته، وقدرته، وقد لا يتمكن لحصول مرض طرأ عليه، فلا يلزم بالفعل في جميع الأحوال، بل هو معذور في حال مرضه، وله أن يصلي قاعداً، وله أن يفطر إذا كان مريضاً ويقضي بدل الأيام في رمضان التي يفطرها أيام أخر، (إذا أمرتكم بالشيء، فخذوا منه ما استطعتم)، ما قال: افعلوه لازماً افعلوه بدون قيد أو شرط بل قيده بالاستطاعة، لكن لما جاء النواهي ما قال: ما استطعتم، قال: (اجتنبوه)، ولم يقيده بالاستطاعة لماذا؟ لأن الترك مستطاع، ما هو مثل الأمر يستطاع أو قد لا يستطاع، وأما الترك فهو مستطاع، إذا قال: صل فقد تستطيع قائماً وقد تستطيع قاعداً أو على جنب، لكن إذا قال: لا تزن لا تسرق لا تفعل كذا، فأنت تستطيع ألا تفعل، ما هو مثل الأمر الذي فيه تحمل فقد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، أما الترك فيستطيع أن يتركه؛ لأن الترك مستطاع، ولهذا جاء التقييد بالفعل بالاستطاعة ولم يقيد الترك بالاستطاعة، بل قال: (اجتنبوه)، أي كونوا في جانب بعيد هو في جانب وأنت في جانب بأن تبتعدوا عنه ولا تقربوه، وهذا مثل لو أن إنساناً قال: احمل هذه الصخرة -أي انقلها- قد يستطيع الإنسان حملها وقد لا يستطيع؛ لأن الحمل فعل، لكن إذا قال لك: لا تدخل من هذا الباب يستطع ألا يدخل من هذا الباب فكذلك لا تزني لا تسرق لا تفعل هذه تستطاع؛ لأنها تروك والتروك مستطاعة، وإنما التي قد تستطاع ولا تستطاع هي الأوامر والتكاليف وهي التي فيها مشقة، والإنسان يؤدي ما أمر بفعله ولو شق فعله عن النفس، ولا يقدم على المعصية ولو مالت إليها النفس، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) حفت الجنة بالمكاره فيها أفعال تحتاج إلى صبر، حفت النار بالشهوات، ما تميل إليه النفوس تشتهيه النفوس، لكن التكاليف التي يصبر الإنسان عليها ولو شقت على النفوس تعقبها الفائدة والنتائج الطيبة والعواقب الحميدة، وأما المعاصي التي تشتهيها النفوس وتميل إليها النفوس فإن هذه لذة عاجلة محرمة تتبعها الحسرة والندامة والعذاب، فالجنة حفت بالمكاره فالطريق إليها يحتاج إلى صبر والأوامر تحتاج إلى صبر عليها، والطريق إلى النار محفوف بالشهوات فهو يحتاج إلى صبر عنها.

    ولهذا فالصبر يكون على أقسام أو على أنواع: صبر على طاعة الله ولو شقت على النفوس، فالإنسان عندما يكون في فراشه في آخر الليل في فراش وثير، في مكان دافئ، والجو بارد، ثم يسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، فإنه يهب، وإن كانت النفوس تميل إلى الراحة، وتميل إلى الفراش وإلى النوم، وإلى الاطمئنان الذي فيه الإنسان، لكن ما يدعى إليه الإنسان خير مما هو فيه، أي: هذا الذي أنتم متلذذون فيه وهو النوم، فإن ما تدعون إليه وهو الصلاة خير منه، الصلاة خير من النوم، هذا الذي طاب لكم واستحسنتموه ما تدعون إليه خير، فهبوا واذهبوا إلى المسجد، وصلوا وإن كان الجو بارداً وإن كان عليكم مشقة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، وتحتاجوا إلى صبر على الطاعات، ولو شقت على النفوس، فلا بد من الصبر على طاعة الله، ولا بد من الصبر عن معاصي الله ولو مالت إليه النفوس، ولابد من الصبر على أقدار الله المؤلمة إذا حصل قضاء وقدر ومصائب حلت على الإنسان، فيصبر الإنسان، يصبر الإنسان عند المصيبة، ولا يجزع ولا يحصل منه تسخط ولا الكلام في القضاء والقدر، فالصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله، فيصبر على الطاعات ولو شقت على النفوس، ويصبر على المعاصي ولو مالت إليه النفوس، ويصبر على أقدار الله المؤلمة، كالحوادث، والمصائب، التي تحصل للناس من فقد الآباء والأبناء، وحصول الكوارث المالية، وما إلى ذلك من المصائب الذي تحصل للإنسان والتي لابد أن يصبر عليها.

    فهذا الحديث الذي معنا هو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، لا سيما قوله في آخره: (فإذا أمرتكم بالشيء فأتوا منه ما استطعتم: وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، فالأمر مقيد بالاستطاعة؛ لأنه قد يستطاع وقد لا يستطاع، والنهي مستطاع ولهذا لم يقيد بالاستطاعة فمن يوفقه الله عز وجل البعد عن المعاصي وترك المعاصي فإنه لا يتحمل مشقة يتكلفها إلا مجاهدة النفس، ولكنه ترك لا يقدم على أي فعل والكل يستطيع ألا يفعل، لكن افعل، قد يستطيع وقد لا يستطيع.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة: (إن الله عز وجل قد فرض عليكم الحج ...)

    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي].

    ثقة، حافظ، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي.

    [عن أبي هشام واسمه المغيرة بن سلمة].

    هو أبو هشام المغيرة بن سلمة، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

    [عن الربيع بن مسلم].

    هو الربيع بن مسلم الجمحي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

    [عن محمد بن زياد].

    هو محمد بن زياد الجمحي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [عن أبي هريرة].

    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب الرسول عليه الصلاة والسلام وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام، بل هو أكثرهم، وقد جمعهم السيوطي في الألفية بقوله:

    والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر

    وأنس والبحر

    أي ابن عباس:

    كالخدري وجابر وزوجة النبي

    يعني عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ستة رجال وامرأة واحدة، هؤلاء هم المعروفون بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام والمتميزون على غيرهم بالكثرة.

    شرح حديث ابن عباس: (إن الله تعالى كتب عليكم الحج ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا موسى بن سلمة حدثني عبد الجليل بن حميد عن ابن شهاب عن أبي سنان الدؤلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: (إن الله تعالى كتب عليكم الحج، فقال الأقرع بن حابس التميمي:كل عام يا رسول الله؟ فسكت، فقال: لو قلت: نعم لوجبت ثم إذاً لا تسمعون ولا تطيعون ولكنه حجة واحدة)].

    أورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مثل الذي قبله في الجملة أن الرسول قام -يعني خطب الناس- فقال: (إن الله تعالى كتب عليكم الحج فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول الله؟ فسكت، فقال: لو قلت: نعم لوجبت ثم إذاً لا تسمعون ولا تطيعون، ولكنه حجة واحدة).

    فهذا الحديث فيه: بيان الذي سأل هذا السؤال؛ لأن الحديث لم يعين من هو السائل، وهنا ذكر من هو السائل، وأنه الأقرع بن حابس التميمي، وأنه قال: في كل عام يا رسول الله، وبين عليه الصلاة والسلام أنه حجة واحدة، وأن الواجب على الناس أنه حجة واحدة في العمر، والذي يزيد على ذلك إنما هو تطوع، ومن باب التطوع.

    ثم قوله: [(كتب)] هو بمعنى فرض، لأن هذه يدل على الوجوب، والحديث الذي تقدم فرض عليكم الحج، وهنا كتب عليكم الحج، وكلها تدل على الوجوب، وهي بلفظ الخبر، وهو لفظ يدل على وجوب الشيء وليس بصيغة الأمر، بل بلفظ الكتابة والفرض، وهو من الألفاظ الدالة على الوجوب، وفي آخر الحديث قال: (ثم إذاً لا تسمعون ولا تطيعون) يعني لا تسمعون سماع قبول؛ لأنهم سيقعون في مشقة بتكرار ذلك ولا يطيعون يعني لا ينفذون، ولكنه حجة واحدة، وهذا من تيسير الله عز وجل في شرعه، إذ شرع ويسر، ولم يكلف الناس ما لا يطيقون، بل كلفهم ما يطيقون.

    تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: (إن الله تعالى كتب عليكم الحج ...)

    قوله: [أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري].

    هو الذهلي، وهو ثقة، أخرج له البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.

    [عن سعيد بن أبي مريم].

    هو سعيد بن الحكم بن أبي مريم المصري، وهو ثقة، ثبت، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

    [عن موسى بن سلمة].

    هو موسى بن سلمة المصري، وهو مقبول، أخرج له أحاديثه النسائي وحده.

    [عن عبد الجليل بن حميد].

    هو عبد الجليل بن حميد المصري، وهو لا بأس به، أخرج أحاديثه النسائي وحده، ولا بأس عند الحافظ ابن حجر تعادل صدوق، والمعنى أن من خف ضبطه عن التمكن وعن القوة فحديثه يكون حسناً على الأقل هذا هو الصدوق الذي خف ضبطه، وكلمة لا بأس به تعادل صدوق، وهذا مشهور إلا عند يحيى بن معين، فإن كلمة لا بأس به تعادل ثقة، وهذا في اصطلاح ابن معين، ولهذا يقولون: لا بأس به عند ابن معين توثيق، وإذا قال ابن معين عن شخص: لا بأس به كأنه قال: ثقة، ولهذا يأتي جهابذة متمكنون، في الحفظ فيصفهم ابن معين بلا بأس به، فلا يستغرب ذلك؛ لأن هذا اصطلاحه أن يطلق لا بأس به على الثقة.

    [عن ابن شهاب].

    هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهو ثقة، فقيه، من صغار التابعين، مكثر من الرواية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    [عن أبي سنان الدؤلي].

    هو يزيد بن أمية، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وهو مشهور بكنيته أبي سنان.

    [عن ابن عباس].

    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ذكرتهم آنفاً عند ذكر أبي هريرة رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088615099

    عدد مرات الحفظ

    777640287