الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة.
وقيل: عاش إلى خلافة معاوية .
قوله: ( من شهد أن لا إله إلا الله )، أي: من تكلم بها عارفاً بمعناها، عاملاً بمقتضاها، باطناً وظاهراً، كما قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]].
وقد جاء فيهم حديث وهو ما رواه ابن ماجه وغيره عن صلة عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يكون في آخر الزمان قوم يقولون: لا إله إلا الله أدركنا عليها آباءنا، قال صلة: فما تنفعهم (لا إله إلا الله)؟
قال: فسكت حذيفة ، ثم أعاد صلة : فما تنفعهم (لا إله إلا الله)؟ فسكت حذيفة ، ثم قال: ما تنفعهم (لا إله إلا الله)؟ قال: تنجيهم من النار يا صلة! تنجيهم من النار يا صلة! وهذا يدل على أن من شهد أن لا إله إلا الله بالإجمال إذا كان لا يحسن غيرها فإنه بإذنه تعالى ورحمته وبركته تنفعه.
ومثل ذلك: ما خرج عليه أهل العلم في الحديث المتفق عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم يخرج الله من النار أقوماً لم يعملوا خيراً قط )، وهذا ليس على إطلاقه؛ لأن من الخير شهادة أن لا إله إلا الله، فلا بد أن يقولها، ويؤمن بمقتضاها ولو في الجملة.
وأما في الآخرة فهؤلاء يبعث الله لهم رسولاً فإن أجابوه دخلوا الجنة، وإن عصوه دخلوا النار، كما روى الطبراني في هذا حديثاً رواه الأسود بن سريع عن النبي عليه الصلاة والسلام أن قال: ( يأتي المعتوه وصاحب الفترة، فيقول: يا رب! جاءني الإسلام ولم أفقه شيئاً، ويقول صاحب الفترة: لم أعلم شيئاً، فيبعث الله لهم رسولاً ) كما ذكر ذلك أهل العلم كـأبي العباس بن تيمية وابن القيم في كتابه العظيم: (طريق الهجرتين).
وأما في الأصل فإنه لا بد أن يفهم معناها وإلا لكان كافراً كفر إعراض: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107].
ومثل كفر الإعراض مثل اتباع العوام سلاطينهم بحيث يفعلون الشرك لأجلهم، مثلما سمعنا وبلغنا من يقول: لا إله إلا بشار، والعياذ بالله، فهؤلاء كفرة فجرة، ولا خير فيهم، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166].
وحينما نتحدث عن هذا أيها الإخوة! فلا يقع في قلوبنا إشكال أن الكافر الأصلي إن مات على الكفر فإنه تجرى عليه أحكام الكفر، ولا يقال: إنه مسلم، ولو كان جاهلاً، ولو لم يسمع بالتوحيد فإنه يموت كافراً، لكن من سمع منهم بالإسلام حال حياته ثم مات فإننا نقول: إنه كافر وخالد مخلد في النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )، فجعل الكافر إذا سمع بالإسلام ولم يسلم فإنه يكون كافراً ومخلداً في النار.
أما الكافر الذي لم يسمع بالإسلام أصلاً فهذا تجرى عليه أحكام الدنيا بأنه كافر، أما في الآخرة فإنه يبعث له رسول كما جاء في حديث الأسود بن سريع، وعلى هذا فإن الكفرة الذين يعذبون ويحاربون المسلمين اليوم إن ماتوا على الكفر فلا إشكال أنهم مخلدون في النار؛ لأنهم سمعوا بالإسلام، فـشارون في النار ورابين في النار؛ لأنهم ماتوا على الكفر؛ ولأنهم سمعوا بالإسلام، وبوش إن مات فهو في النار إلا أن يتغمده الله برحمته؛ لأنه الآن حي.
أما الذين سمعوا بالإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار )، هذا وعيد، وهو في حق من سمع بالإسلام، وفي حق من لم يسمع بالإسلام فإنه يبقى وعيداً، والوعيد يتخلف، والوعد لا يتخلف، وأرجو أن يكون هذا واضحاً جداً.
وعليه فالعلم بالشهادتين يشمل العلم بمعناها والعلم بمقتضاها باطناً وظاهراً، هذا إما أن يكون في الجملة، وإما أن يكون بالجملة، فبالجملة هذا في حق أهل العلم والعارفين، وأما في الجملة -وهو أهم شيء- فإنه يكون واجباً في حق كل أحد، كما في صحيح مسلم من حديث عثمان كما قال صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة )، فلا بد فيها من العلم أنه لا معبود إلا الله، ولا أحد يستحق العبادة والتذلل والمحبة الكاملة ولا التأله إلا الله جل في علاه.
وأما بالنسبة لمن مات على الكفر فلا يجوز لنا أن نترحم عليه، ومن ترحم عليه فإنه جاهل، والله سبحانه وتعالى قد قال لرسوله: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] يعني: لا تدع له ولا تصل عليه.
ولا يجوز لنا أن نقول عن شخص بعينه: إنه كافر، أو إنه من أهل الفترة وسيبعث الله له رسولاً؛ لأننا لا ندري هل مات كافراً فتجرى عليه أحكام الكفر فلا يصلى عليه ولا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين أم لا.
واعلم أن الكفار يوم القيامة تبقى قلوبهم هي هي، فالقلوب التي في الدنيا هي القلوب في الآخرة؛ وأرواحهم موجودة إما في الجنة وإما في النار، فالأرواح لا تزول، ولهذا فإن الروح لا تفنى كما هو معلوم، وقد قال الشاعر:
ثمانية حكم البقاء يعمهم من الخلق والباقون في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
عندما ذكر المؤلف هذا فإن المقصود به في الجملة، أما الأول: فالمقصود به بالجملة، فمن لم ينطق بها أو لم يعمل بمقتضاها في الجملة فإنها لا تنفعه، فما معنى الإسلام إلا أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وقد تجد في كتب بعض مرجئة الفقهاء من بعض متأخري الحنفية أنهم يقولون: يمكن أن يكون الإنسان مسلماً ولو لم ينطق بالشهادتين، لكن هذا لا يتأتى أبداً أن يكون مسلماً ولم ينطق بالشهادتين، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب، فهذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان.
وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً].
يقول البخاري: أدركت ألفاً من علماء أهل السنة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
إذاً: عمل الجوارح ركن من أركان الإيمان وليست شرطاً، فإن الخوارج والمعتزلة جعلوها شرطاً، وأما أهل السنة والجماعة فقد جعلوها جزءاً من مسمى الإيمان، وهي ركن من أركان الإيمان، وهي وإن كانت فرعاً عن عمل القلب إلا أنه لابد من جنس العمل.
فمن قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكني لا أريد أن أعمل شيئاً بسبب الكسل، فنقول: إن هذا ليس عنده الانقياد بمعنى (لا إله إلا الله)؛ لأن الانقياد هو الطاعة، ولو مطلق الطاعة، وليست الطاعة المطلقة.
ولتكن على علم أن هذه مسألة، ومسألة أن تارك الصلاة كافر مسألة أخرى؛ لأنه وجد من بعض الباحثين من يقول: من لم يقل بأن تارك الصلاة كافر فقد تأثر بالإرجاء، وهذا خطأ، فإن الشافعي في الأم نص على أن تارك الصلاة لا يكفر، ومع ذلك فلم يقل أحد: إن الشافعي تأثر بالإرجاء.
لكن الذي يقول: إن تارك الصلاة لا يكفر، لا يقول بأن تارك جنس العمل لا يكفر، بل يكفر، وليس ثمة تلازم، فيمكن أن يقول: تارك الصلاة لا يكفر، لكن لا يمكن أن يقول: تارك جنس العمل لا يكفر، بل إن تارك جنس العمل يكفر؛ لأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، قد يتخلف العمل إما لجهل عظيم، وإما لعدم إدراك الوقت، لكن عنده الانقياد لأن يعمل، فهذا ينفعه؛ لما جاء في قصة خريت الذي أسلم فدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة فمات، فقال: ( أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: عمل يسيراً وأجر كثيراً )، فهو لم يعمل إلا أنه شهد أن لا إله إلا الله، لكن شهد أن لا إله إلا الله وانقاد لها، ولو لم يكن منه إلا الجهاد، فهذا هو الذي فسره بعض أهل العلم عند قوله: ( لم يعملوا خيراً قط ) يعني: عمل جوارح، لا لأنهم لا يريدون أن يعملوا، ولكنهم لم تسنح لهم الفرصة لأن يعملوا، إما لإطباق الجهل، وإما لعدم الوقت الكافي لذلك.
ومعنى (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود بحق إلا الله، وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحاً.
قوله: (وحده): تأكيد للإثبات، وقوله: (لا شريك له) تأكيد للنفي، قاله الحافظ، كما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، فأجابوه رداً عليه بقولهم: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف:70]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62]].
أعظم ذكر تذكر الله تعالى فيه بعد القرآن هو أن تقر له بالوحدانية، وأن تنزهه عن صفات النقص، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: ( أحب الكلام إلا الله بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر )، وهذه الكلمات جمعت بين إقرار الله بالوحدانية، وتنزيهه سبحانه وتعالى، فالتنزيه تعظيم، لكن تعظيم من حيث اللازم، فإنك إذا نزهت الله عن صفات النقص أو مشابهة خلقه، أو عن صفة كمال فيها نقص فقد عظمته، ولهذا إذا قال الإمام في الدعاء: أنت القوي، فقلت أنت: سبحانك! فهذا لا إشكال فيه، بخلاف ما يظنه بعض الفضلاء إذ يقولون: إذا قال الإمام: اللهم أنت الواحد الأحد الصمد، فلا تقل: سبحان الله؛ لأن هذا خطأ، وهذا جهل منهم؛ لأنك حينما تقول: سبحان الله! فإن كلمة: (سبحان) متضمنة التعظيم، ولهذا فإن الملائكة حينما تخشع لصوت الرحمن يقومون فيقولون: سبحانك! فهذا تعظيم.
وكذلك إذا سمعت إقراراً بصفات الكمال لله فقل: سبحانك! يعني: أنزهك عن هذه الصفة أن تصاب بنقص.
وكذلك أتعجب من بعض الفضلاء حينما يبحث عن بعض الكلمات التي فيها نوع من التنزيه التي لم يسمعها الناس، ويقول: إن الشيخ الفلاني يقول: إن هذا الدعاء جيد فلازموه؛ فإن فيه كذا وكذا، والثاني يقول: إن هذا الدعاء أفضل. والصحيح أن أفضل ما يحبه منك حبيبك هي (لا إله إلا الله)، فأكثر منها، ويحب منك أن تقول: (سبحان الله وبحمده)، فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر وقلت: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر الله لك ذنبك؛ لأنه يحب ذلك منك، ولو قلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حط عنك مائة سيئة، ورفع لك مائة درجة، وكانت لك حرزاً من الشيطان يومك ذاك، ولم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جئت به، إلا رجل قال مثل قولك أو زاد عليه.
ولهذا فإنك تتعجب يوم عرفة حينما ترى بعض الناس وهو يكثر من دعاء المسألة، يقول: يا رب! افعل كذا، يا رب! أريد كذا، يا رب! أريد كذا، أقول: يكفيك هذا فإن الله يعلم حاجتك ويعلم ما في قلبك.
إذاً: هذا موطن يحب الله منك أن تتذلل له، يحب منك أن تقر له بالوحدانية؛ لأنك ما خرجت من بيتك وخلعت ثيابك إلا وهو يعلم ما في قلبك، فهو يريد منك دعاء الثناء: ( وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ).
ولهذا دائماً حاول أن تشرح في قلبك قبل دفترك معنى (لا إله إلا الله)، لماذا أحب (لا إله إلا الله)؟ لماذا عظمت (لا إله إلا الله)؟ فإنك كلما استحضرتها تجد أن قلبك يخضع وأنت لا تشعر، حينما تجد الطغاة يقتلون ويعذبون أهل التوحيد فتقول: لا إله إلا الله، يعني: ما أحلم الله! لا أحد أعظم من الله؛ لأن الله حينما أمرك أن توحده علم أنه ناصرك، ولهذا سوف يذكر المؤلف رحمه الله أن معنى (لا إله إلا الله) تفيد النصرة منه سبحانه وتعالى.
ذكر ابن القيم في النونية أن العبادة حب مع تذلل فقال:
وعبادة الرحمن هي غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
يعني: هذا الحب وهذا التذلل لا نعلمه ولا نعرفه إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: [فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد جعله نداً لله، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.
ذكر كلام العلماء في معنى (لا إله إلا الله).
قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: (شهادة أن لا إله إلا الله)، يقتضي أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله تعالى كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله].
ومعنى الكفر بالطاغوت أي: الكفر بكل ما يعبد من دون الله؛ لأنه من عبد من دون الله وهو راض فإنه يعتبر طاغوتاً.
قال المؤلف رحمه الله: [وقال ابن القيم في (البدائع) رداً لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه، قال: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلاً في المستثنى; إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: لا إله إلا الله؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذا ألبتة. انتهى بمعناه].
لو قلت: الله إله، فقد أثبت لله الألوهية، لكنك لم تنفها عن غيره، فلا بد أن تنفي الألوهية عن كل أحد وتثبتها لله وحده.
ولهذا فإن الإله لا يكون إلا الله، وعلى هذا فهناك إشكال حينما نقول: عبد الإله؛ لأن بعض الناس يشكل عليه، وسمعت بعض الفضلاء يقول: هناك إله الشرق، وإله الغرب، وهناك إله للنور، وإله للظلمة، أعوذ بالله من هذا الكلام، هل هناك إله غير الله؟ إذاً: لا حرج أن تقول: عبد الإله، ولا إشكال في ذلك؛ لأن الله هو الإله حقاً، وأما لو فتح الباب في هذا لقيل في اسم عبد العزيز: هناك عزيز مصر وعزيز كذا، فيفتح الباب، والصحيح أن نقول: لا نعلم عزيزاً كامل العزة إلا الله، ولا نعلم رحيماً كامل الرحمة إلا الله، ولا نعلم سميعاً كامل السمع إلا الله، وإلا فكيف يسمى عبد السميع، وهناك سميع من بني آدم، كما في قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:1-2]؟ إذاً: وجود بعض الخلائق التي تتصف بهذه الصفة فهي إما أن تكون صفة نقص وإما أن تكون صفة زعم، لا ينفي أن يكون الله هو الإله وهو السميع وهو البصير.
ولهذا من الحاكمية -وهي التشريع- أنه لا يسوغ ولا يجوز أن تجعل الشريعة أحد مصادر التشريع في دستور البلاد، بل لا بد أن تكون الشريعة هي الدستور الأوحد، ولهذا حينما يقولون: في المادة الأولى أو الثانية في دساتيرهم الوضعية: إن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع، نقول: لا يصح أن يقال: إن الشريعة هي مصدر من مصادر التشريع؛ لأن هذا الكلام يثبت أن هناك مصدراً آخر للتشريع إما مجلس الشعب، وإما غير ذلك، فهذا لا يجوز، بل الشريعة هي المصدر الأول والأوحد، وإلا فإن ذلك لا يعد إسلاماً كاملاً، وهذا مثله مثل أن يقول: الإله هو الله فقط؛ لأن إثبات الإلهية لله وحده إذا لم يكن فيها نفي عما سواه لا يصح، وإلا فإن هذا يتضمن الشرك والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (لا إله إلا الله) أي: لا معبود إلا هو.
وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. قال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.
وقال رحمه الله تعالى: إن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم : الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابةً وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً.
وقال ابن رجب : الإله هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك].
تجد بعض الناس فيه من الخوف من المخلوق مع فقهه في شرحه لمعنى (لا إله إلا الله) وهو لا يشعر، فلو دخل المسئول عن يمينه أو شماله اضطربت فرائصه، وتغير لونه، واحمر وجهه، وأحب أن يحمد، وأن يثنى عليه بين يديه، ولا يحب أن ينتقص بين يديه، ولو كان ذلك على حساب دينه والعياذ بالله، فهذا فيه خلل وقدح في معنى (لا إله إلا الله) وهو لا يشعر، وكل من عظم الخالق وأله الإله الحق فإنه لا يضيره ثناء الناس ولا قدحهم، وإن كان ذلك يغضبه.
ومعنى يضيره يعني: لن يكترث عما هو مؤمن به، وإن كان ذلك يغضبه؛ لأن بعض الناس حينما يفسر الإخلاص يقول: هو أنه لا يزيد بحب وثناء الآخرين، ولا ينقص بمعصيتهم ولا بقدحهم، يظن أنه لا بد أنه لا يتأثر، لا ليس هذا معناه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخلص حقاً فقال: ( من لي بـ
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
وقال الطيبي : الإله: فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي: عبد عبادة.
وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم، أن الإله هو المعبود خلافاً لما يعتقده عباد القبور وجهالة المتكلمين من أن معناه هو الخالق، وهو القادر على الاختراع ونحو ذلك].
المشكلة أن أكثر علماء الكلام وخاصة الأشاعرة لا يفسرون معنى (لا إله إلا الله) إلا بتوحيد الربوبية، فيقولون: لا خالق إلا الله، أو حينما يقولون: القادر على الاختراع، فيفسرونه بتوحيد الربوبية، الذي هو الخلق والنفع والعطاء فهذا هو توحيد الربوبية، وأما توحيد الألوهية فهو المعبود الذي يستحق أن يعبد؛ لأنه كما يقول ابن تيمية : الإله هو المعبود، وهو الذي يستحق أن يعبد بما اتفق من صفات الكمال.
قال المؤلف رحمه الله: [ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو فعلوا ما فعلوا في عبادة غير الله كدعاء الأموات والاستغاثة بهم في الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر في الملمات إلى غير ذلك من أنواع العبادات].
وحينما نقول لمن يعبد الشياطين أو يعبد الأضرحة: إنه لا يكفر وهو يشهد أن لا إله إلا الله، دون النظر في مسألة العذر بالجهل، فإنه لو كان غير جاهل حتى العلماء منهم يقولون: لا يكفر ون، لماذا؟ يقولون: لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، ولو كان ينادي صباح مساء: يا علي! يا حسين! نقول: لا يكفر، حتى ولو كانوا علماء فلا تكفرهم! وهذا والله عجيب جداً، أن تجد هذا في بلاد التوحيد، لكن سبب هذا هو غلبة الجهل.
قلت: ودلالاتها على هذا دلالة تضمن، وأن ذلك يقتضي بالقطع إثباته لله وحده، فدلالتها على نفي ... وإفراد الله تعالى في عبادته دلالة مطابقة].
الدلالات أنواع:
دلالة مطابقة: وهي التي تطابق اللفظ والمعنى، فإذا قلت: (لا إله) فإن دلالة المطابقة هي إثبات الإلهية لله ونفيها عما سواه.
ودلالة التضمن: وذلك بكونها متضمنة للعبادة، فلا يكفي أن تقول: لا إله معبود إلا الله، أو لا تأله القلوب إلا لله، فإنها متضمنة عبادته، ومن لازمها أن يكون المعبود متصفاً بصفات الكمال، ولهذا قال إبراهيم: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].
وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهو حجة عليه بلا ريب.
فقوله في الحديث: (وحده لا شريك له) تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله تعالى ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا (لا إله إلا الله) لفظاً ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع العبادة.
بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً لهم، بخلاف حال المشركين الأولين; فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، الآية.
فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم.
وقوله: (وأن محمداً عبده ورسوله) أي: وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل.
ومعنى العبد هنا: المملوك العابد، أي: أنه مملوك لله تعالى، والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين.
وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشاركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وقوله: (عبده ورسوله) أتى بهاتين الصفتين وجمعهما؛ دفعاً للإفراط والتفريط، فإن كثيراً ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وفعلاً، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها؛ فإن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر; وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان.
والواقع اليوم وقبله ممن ينتسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك، والله المستعان].
الآن إذا سُب الأب أو الجد أو الفخذ أو القبيلة فترى الإنسان يتغير لونه، ويظن أن ذلك من أعظم السب عليه، ولو سب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأيته يكترث، وربما اكترث بأن تضايق وقال: يجب أن يفعل.
وقد روى أن عمر حينما قال: ( يا رسول الله! والله إنك أحب الناس إلي إلا من نفسي، قال: لا يا
ولعل في هذا كفاية والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: المعرفة أنك تعرف أن هذا معنى (لا إله إلا الله) لكن لا تصدق، مثل إبليس يعرف لكنه لم يصدق، فالتصديق أمر زائد على المعرفة، فأنت مصدق لكنك لست منقاداً، بمعنى أنك لا تنقاد إلى هذا الأمر، فالتصديق جزء من الإيمان، وهو قول القلب، لكن عمل الجوارح ليس موجوداً.
ولهذا قال أهل العلم: ليس الإيمان التصديق فقط؛ لأن التصديق لا يكفي، فلو قال: أنا مؤمن أن الله إله معبود لكني لا أعبده، هذا صدقه لكنه لم ينقاد.
الثاني: المعرفة كأن يقول: أنا أعرف أن الله مألوه، ولكن لا يلزم أن أصدق، فهذه نسميها معرفة.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر