الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
كيف يتعلق الإنسان بغير كتاب الله؟ يقرأ عند شخص فيقول: ما تأثرت بقراءته سأذهب وأبحث عند شخص أفضل منه، إذاً هو تعلق بالقارئ ولم يتعلق بالمقروء.
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أولاً يعمل بما يعلم؛ فإنه مسيء آثم. وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم.
قوله: (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. دعا له فقال: ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ) فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين ].
يقول ابن عباس عن نفسه: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، وهذا لا يتأتى لكل أحد، و ابن مسعود يقول: ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تطاله الإبل لركبت إليه، وهذا يدل على أنه من الراسخين في العلم، هذا الكنيف الذي ملئ علماً، ولهذا والله نضيع أوقاتنا كثيراً في عدم تأمل ما في كتاب الله، يقول ابن القيم رحمه الله: فمن فهم عن الله وعن رسوله وتأمل النصوص من الكتاب ولازم معانيهما اكتفى عن سائر العلوم، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله يقول في كتاب الرسالة: إن فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه إنما أخذها عن الله وفهمها عن الله، وهذا أشار إليه الشاطبي وهذه لا يتأتى إلا ممن فرغ قلبه ووقته للتأمل في كتاب الله، وابن تيمية كتبه مليئة بالنصوص والآيات والأحاديث وأقوال السلف فعندما سجن كان يتأمل القرآن، وكان يختم في ثلاث مع تدبر وتأمل فتأسف على أيام مضت لم يتأمل فيها القرآن، والله المستعان.
قال المؤلف رحمه الله: [وفيه عمق علم السلف لقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
قوله: ( عرضت علي الأمم )، وفي الترمذي و النسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء. قال الحافظ : فإن كان ذلك محفوظاً كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضاً. قلت: وفي هذا نظر].
بلا شك أن في هذا نظراً، والذين قالوا بتعدد الإسراء بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بروحه ولم يعرج بجسده، وهذه رواية يرويها في الصحيح شريك بن أبي نمر ، وقد أخطأ شريك بن أبي نمر حينما ظن أن إسراء النبي صلى الله عليه وسلم كان بروحه وهذا وهم بلا شك.
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: ( فرأيت النبي ومعه الرهط ) والذي في صحيح مسلم (الرهيط) بالتصغير لا غير; وهم الجماعة دون العشرة. قاله النووي.
قوله: ( والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ) فيه الرد على من احتج بالكثرة.
قوله: ( إذ رفع لي سواد عظيم ) المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
قوله: ( فظننت أنهم أمتي )؛ لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة. وفي صحيح مسلم: (ولكن انظر إلى الأفق) ولم يذكره المصنف; فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم ].
الكثرة تغر الإنسان، انظر الروافض يقرءون مثلما نقرأ ويتعلمون وهم صبيان مثلما نتعلم، ومع ذلك غرهم طول الأمل وكثرة ما عليه أهلهم وأصحابهم هم، فاغتروا بذلك، فإذا أراد أن يرجع إلى الحق التفت فوجد آباءه وأجداده وأعمامه وأخواله وخلانه فيصعب عليه أن ينفطم، ولهذا يصدق عليهم قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] الله المستعان.
قال المؤلف رحمه الله: [(قوله: ( فقيل لي: هذا موسى وقومه ) أي: موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
قوله: ( فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذا أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) أي: لتحقيقهم التوحيد.
وفي رواية ابن فضيل : ( ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفاً )، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم ( تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر ).
وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً )، قال الحافظ : وسنده جيد.
وقوله: ( ثم نهض ) أي: قام.
وقوله: ( فخاض الناس في أولئك ) (خاض) بالخاء والضاد المعجمتين، وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع].
العام الذي أريد به الخصوص، والعام المخصوص أمران، يعرف ذلك بالمستثنى، فإذا كان المراد باللفظ أكثروا ما ليس مراداً باللفظ أقل فهو العام المخصوص، وإن كان العكس فهو العام الذي أريد به الخصوص فقوله: (فخاض الناس في أولئك)، الناس هم الذين سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أقل من لفظة الناس، فصار المراد بـ(الناس) أقل من معنى لفظه (الناس) فصار هذا من العام الذي أريد به الخصوص، فصار لفظ العام المقصود به أقل من دلالة اللفظ، فهو من العام الذي أريد به الخصوص، فإن كان اللفظ العام أكثر يعني: المقصود به أكثر من غير المراد صار من العام المخصوص، فإذا قلت: الطلاب من جامعة الإمام يحضرون الدرس وأنا أقصد طائفة منهم، فهذا يسمى من العام الذي أريد به الخصوص؛ لأنني أقصد الطلاب الذين يحضرون عندي فقط وهم قليل، لكن إذا قلت: لا يحضر طلاب المعهد إلا الذين في جامع الفلاح فهذا اللفظ العام وهو (الطلاب) من العام المخصوص؛ لأن المستثنى أقل من المستثنى منه والله أعلم.
العام المخصوص هو أنه يعمل بجميع أفراد العام، ولم يستثن إلا بعض الأفراد، أما اللفظ العام الذي أريد به الخصوص فلم يقصد به جميع أفراده، إنما يقصد به أناس معنيون.
قوله: فقال: (هم الذين لا يسترقون) هكذا ثبت في الصحيحين، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد ، وفي رواية لـمسلم: (ولا يرقون).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يرقون)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى: ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه )، وقال: ( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً ).
قال: وأيضاً فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن.
وقال: وإنما المراد وصف السبعين ألفاً بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم.
قوله: (ولا يكتوون) أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء ].
التلذذ بالبلاء ليس لأجل البلاء، ولكن لعلمهم بما أعد الله لأهل البلاء كما جاء عند ابن حبان : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم أهل الدنيا ما للمبتلى يوم القيامة من أجر لتمنوا أن يقرضوا بالمقاريض).
قال المؤلف رحمه الله: [قلت: والظاهر أن قوله: (لا يكتوون) أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل بهم ذلك باختيارهم، أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى
كل هذه أمراض؛ ذات الجنب مرض يصيب الإنسان بجنبه، وكذلك الشوكة بسبب لسعة أصابته.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: ( الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي )، وفي لفظ: ( وما أحب أن أكتوي ).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبته.
والثالث: الثناء على من تركه.
والرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
قوله: (ولا يتطيرون) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها].
قوله: (لا يتطيرون) يعني: لا يتشاءمون، ولكنها قيدت بالطيور؛ لأن الغالب في الجاهلية أنهم يتشاءمون بالطيور، فإن تشاءم بغير الطير فإنه يكون داخلاً في هذا، ولهذا بعض الناس يتشاءم بيوم السبت، وبعضهم يتشاءم بصفر، وبعضهم يتشاءم بالأعور إذا رآه في الصباح، وهذا كله من التطير والعياذ بالله.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً؛ فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه، وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجاتهم إليها توكلاً على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث فيما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: ( ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله )، وعن أسامة بن شريك قال: ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: نعم -يا عباد الله- تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحد. قالوا: وما هو؟ قال: الهرم ) رواه أحمد ].
الهرَم، الهرِم هو الشخص نفسه، تقول: فلان هرِم، أما إذا كنت تصف الهرم نفسه تقول: الهرم.
قال المؤلف رحمه الله: [ قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً].
فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر ، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد، حتى يداني به الوجوب، قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه ].
مذهب أحمد أنه مباح، وأنا أقول: إن في هذا الزمان وقلة التوكل على الله يجعل قول الشافعي قوياً؛ لأجل ألا تتعلق النفوس بسوء الظن بالله سبحانه وتعالى، قد يقول بعضهم: لماذا أنا مريض؟! فلان صحيح وأنا لماذا أكون مريضاً؟ فيسيء الظن بالله، وهذا هو ظن الجاهلية الذين يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154].
قال المؤلف رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام : ليس بواجب عند جمهور الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي و أحمد .
(فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين].
دليل الاستحباب قوله صلى الله عليه وسلم: ( تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام )، وأما إذا كان العلاج سبباً للشفاء بإذن الله، وأن ترك العلاج مؤذن بالموت، مثل مرض السرطان نسأل الله العافية، فبعض المعاصرين وبعض الفقهاء قالوا: العلاج واجب، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه:
كم من صحيح مات من غير علة وكم من عليل عاش حيناً من الدهر
قال المؤلف رحمه الله: [ابن حرثان -بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة- الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال. هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.
قوله: ( فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم ) وللبخاري في رواية: ( فقال: اللهم اجعله منهم ). وفيه: طلب الدعاء من الفاضل.
قوله: ( ثم قام رجل آخر ) ذكره مبهماً ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه.
قوله: ( فقال: سبقك بها
الواقع أن هذا من أدبه صلى الله عليه وسلم، يعني: لما كان هذا السائل ليس بمقام عكاشة ، وليس عندهم من الأحوال مثلما عند عكاشة ناسب أن يعطيه هذا (سبقك بها
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر