إسلام ويب

كتاب التوحيد - باب من تبرك بشجر وحجر ونحوهمللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من أعظم الذنوب عند الله أن تجعل له نداً وهو الذي خلقك، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشرك واقع في هذه الأمة لا محالة، بل لقد وقع في زمنه ومن بعض من كانوا حدثاء عهد بكفر وذلك بجهل منهم، ولعظم الشرك فإن رسول الله لم يعذرهم لجهلهم بل أنكر عليهم وأغلظ عليهم فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ...)

    حكم التبرك بقصد العبادة أو بقصد طلب البركة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    اعلم أن التبرك بآثار الصحابة، أو بآثار الصالحين، الذي يظهر والله أعلم أن ذلك ممنوع، وأنه محرم، وأن ذلك بدعة، أما أنه شرك فليس بشرك، ولكنه محرم أو بدعة، والله أعلم.

    وهذا الباب هو مراد المؤلف في ذلك، ولهذا من دقته رضي الله عنه ورحمه لم يذكر حكماً؛ لأن ذلك يختلف، فمنه ما هو شرك أكبر أو أصغر، ومنه ما هو ليس بشرك، ولكنه محرم وبدعة.

    قال المؤلف رحمه الله: [وتبرك، أي: طلب البركة ورجاها واعتقدها. قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] ].

    البركة هي الخير الكثير، فالإنسان يسأل ربه البركة، والبركة أصلها من الباء والراء والكاف، والمقصود بها طلب الشيء الواسع والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20]، قال القرطبي: إن فيها حذفاً تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة؟ هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله؟ وقال غيره: (الثالثة الأخرى) المتأخرة الوضيعة المقدار. اهـ.

    فأما (اللات) فقرئ بالتخفيف والتشديد، فعلى الأولى قال ابن كثير: كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء عظيم ].

    السدنة هم خدمها والذين يحافظون عليها.

    المراد باللات وسبب تسميتها

    قال المؤلف رحمه الله: [ وحوله فناء عظيم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون به على من عداهم من العرب بعد قريش.

    قال ابن هشام: وكانت في موضع مسجد الطائف الأيسر، فلم يزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار، وعلى الثانية قال: قال ابن عباس: كان رجل يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره، ذكره البخاري، وعن ابن عباس أيضاً كان يبيع السويق والسمن عند الصخرة ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة، إعظاماً لصاحب السويق.

    فإذا كانت عبادة الصخرة لأجل صاحب السويق فلا تخالف بين القولين، فمن قال: إنها صخرة أو بنية لم ينكر أن يكونا على القبر].

    إذاً: اللات هل المقصود بها الرجل الذي كان يلت السويق، أم هي صخرة بيضاء نقية كان صاحب السويق يلتها وينشرها ويسلؤها في تلك الصخرة؟ والذي يظهر -والله أعلم- أن اللات صخرة كانت في ثقيف، وهي بقعة وصخرة، ولهذا جاء المغيرة بن شعبة حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمها وحرقها، هذا هو الظاهر والله أعلم.

    وأما سبب التسمية: فهل كانت لأجل صاحبها وهو الذي يلت السويق، أم لأجل أنها كانت يوضع فيها سويق؟ كلا القولين صحيح والله أعلم.

    فكان الذين يأتون إلى الصخرة يعبدون الصخرة ويعبدون نفس الرجل، فيدعونه من دون الله، فجمعوا بين شركين: شرك لصاحب الصخرة، وشرك للصخرة نفسها والله أعلم.

    المراد بالعزى وسبب تسميتها

    قال المؤلف رحمه الله: [وأما العزى فروى النسائي وابن مردويه أنها كانت ثلاث سمرات عليها بيت بوادي نخلة، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقطع الشجرة وهدم البيت، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ارجع فإنك لم تصنع شيئاً، فلما رجع وجد امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على وجهها فقتلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك العزى ). مختصر.

    وقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد ].

    إذاً: العزى الذي يظهر والله أعلم أنها مجموعة من شجر وبناء، وامرأة جنية فيها، وهذا يدل على أن أماكن التبرك من أماكن الشرك يكثر فيها الجن؛ لأنهم أحياناً يتكلمون مع من جاء يعبدها، فيظن هذا المسكين أن الذي يتكلم هو نفس الصخرة، أو أن الذي يتكلم هو نفس صاحب القبر، فربما كان الجني المشرك هو الذي مريضه أمرض بإذن الله، فإذا جاء إلى مثل هذا القبر فتقرب إليه أزال ما كان قد صنعه، فيظن هذا العابد المشرك بالله أن الذي شفى مريضه هي الصخرة، أو أن الذي شفى مريضه هي السمرة، أو أن الذي شفى مريضه هو صاحب القبر، وبهذا يغوونهم عن عبادة الله إلى عبادة ما سواه، فتراه يقول: إني دعوت الله ودعوت ودعوت فلم أر يستجاب لي، وذهبت إلى الراقي يرقى لي بالقرآن فلم أر ذلك ينفع، فلما ذهبت إلى الساحر وتقربت إليه بأن ذبحت أو فعلت شفي مريضي سريعاً، فهذا لا شك أنه من الفتن التي تقع كلما ابتعد الناس عن نهج النبوة.

    ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان ( لتضطربن أليات نساء دوس على ما كانوا يعبدونه من دون الله ) فيرجع الشرك بالله كما كان؛ ولهذا يخطئ كثير من المفكرين والتنويريين الذين يقولون: مسألة دعاء الموتى ودعاء القبور اندثرت وذهبت، فينبغي أن نكون مناقشين للمسائل العصرية، وكأن هذا الشرك قد اندثر وليس بموجود، ولا أريد أن أسمي بعض الدول الآن التي حينما تولى عليها بعض من كان ينتسب إلى الإسلام ويريد نصرة الإسلام قام الصوفية وتكلموا ونافحوا عن أضرحتهم وعن سدنتهم، مما يدل على أن هؤلاء يعظمونها أشد من تعظيمهم للمساجد والله المستعان.

    المراد بمناة وسبب تسميتها

    قال المؤلف رحمه الله: [وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج تعظمها ويهلون للحج منها.

    قال ابن هشام: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فهدمها يوم الفتح. اهـ.

    وقيل: كانت أكمة، ولا يبعد أن يكون البناء فوقها، وسميت مناة من اسم الله المنان، وقيل: لكثرة ما يمنى عندها من الدماء أي يراق].

    سميت مناة لأجل أنها اشتقت من اسم من أسماء الله وهو المنان، وقيل: مناة؛ لأن من عبدها يعطى من المن والبركة عياذاً بالله، وقيل: إنما سميت مناة لكثرة ما يراق من الدماء فيها. والذي يظهر -والله أعلم- أن سبب التسمية ليس لأجل أنها أريق بها الدماء ابتداء؛ أو لأنهم وضعوها وسموها فجاء الناس يعبدونها من دون الله، والذي يظهر أنها اشتقت من اسم الله، ولهذا كل هذه الأصنام: العزى ومناة واللات وإن كانت قد اشتق منها معنى من معاني الذي يفعل عندها، ولكن إنما أخذوها لأجل موافقة الاشتقاقين: اشتقاق من اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، أو ما كان يفعل عندها، ولهذا تجد أنهم حينما يسمون مناة فإنما يطلب السدنة ممن يجيء إليها أن يريق فيها الدم، وأما من أتى إلى اللات فإنما يطلبون منه الطعام والنقود، وقل أن يذبح لها، فكانوا يشتقون مما كان يفعل عندها، أو ما كان صاحبه يصنعه عندما يأتي إليها، والله المستعان.

    1.   

    شرح حديث: (اجعل لنا ذات أنواط)

    قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي واقد الليثي قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم ) رواه الترمذي وصححه ].

    هذا الحديث إسناده جيد، فقد رواه الترمذي من حديث أبي واقد الليثي ، و أبو واقد الليثي من متأخري الإسلام.

    توجيه طلب بعض الصحابة من رسول الله بأن يجعل لهم ذات أنواط

    وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل هؤلاء الذين هم حدثاء عهد بكفر طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبدوها من دون الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده)، أم أنهم أرادوا البركة ومشابهة الفعل لا العبادة؟

    وهذا هو القول الثاني ولعله أظهر؛ وذلك لأن عبادة غير الله كانت معروفة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم لمحاربتها، ففقه كل من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من الشرك، فهم لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادتها، ولم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم عبادتها، وإنما طلبوا التبرك بها، والتبرك هذا يشابه من يعبدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: اجْعَل لَنَا إِلَهًا [الأعراف:138] ) فجعل التبرك نوعاً من التعظيم والتأله، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا هل هم سألوا الشرك، أم لم يسألوه وإنما سألوا التبرك؟

    هناك قولان عند أهل العلم، والذي يظهر والله أعلم أنهم سألوا التبرك، وهذا التبرك يؤول إلى الشرك والتعظيم من دون الله، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالتوبة، بمعنى الدخول في الإسلام مرة ثانية، وإنما أمرهم بالتوبة من هذا القول القبيح، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه في مسائله أشار إلى أنهم لم يكفروا؛ لأنه يفرق بين الشرك بالقول والشرك بالفعل، وبيّن الفرق في الجاهل، أن الجاهل بقوله ليس مثل الجاهل بفعله، وقد قلت: إن مسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إنما يريد بها الاقتباس وليس التقريب، وفرق بين الأمرين: فالاقتباس يعني: أنه يؤخذ منها هذا، لكن لا يلزم أن يكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقرره، فإن بعض مسائل التوحيد التي أشار إليها قد قرر خلاف ذلك، كما في مسألة العذر بالجهل وغيره والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ووجه مطابقة الآية للترجمة أنه إن كان التبرك بالشجر والحجر والقبور من الشرك الأكبر فواضح، وإن كان من الأصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر. انتهى].

    هذا الصحيح، فحديث أبي واقد إن كان من الشرك الأكبر فهو واضح، وإن كان من الشرك الأصغر وهو التبرك على أنها تنفع بسبب من عند الله وليست تنفع بذاتها، فهذا من الشرك الأصغر، وقد كان السلف يستدلون بالأصغر على الأكبر.

    بعض مظاهر الشرك في الأزمان المتأخرة

    قال المؤلف رحمه الله: [وقد وقع في هذه الأزمان من عبادة الأوثان من القبور والأشجار والأحجار والبنايا والتبرك بها والذبح عندها ما هو أعظم وأكثر وأفحش مما فعله المشركون، وانتشار هذا وظهوره وكثرته تغني عن تعداد بعضه، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحت كلام الله ورسوله.

    وقد حدثني من وقف على شجرة بخانوقة أنه وجد عليها أربعة عشر مجلداً منشورة عليها مما ذبح عندها، ووجد الخرق وغيرها معلقاً عليها، ووجد المرضى عندها يطلبون الشفاء، وهي سمرة كالعزى فقطعها، وكذا عبيل الريان هناك جبل صغير يلقي عليه جهلة البادية اللحم والأقط والسمن ويخاطبونه بحوائجهم وهو شبيه بمناة، وما يفعله هؤلاء المشركون عند قبور الصالحين أعظم مما يفعل عند اللات].

    هؤلاء جهلة التوحيد يأتون إلى مثل هذه الأشياء فيلقون عندها ما يعظمونه عندهم من الأكل، فينشرون اللحم والأقط الذي هو اللبن إذا استجمع، فكل ما كان طعاماً يعظم عندهم فإنهم يقدمونه إلى هذا القبر أو إلى هذا الصنم، أو إلى هذه الصخرة فهذا كله عبادة من دون الله، فهو حينما يتقرب فإنه يتقدم بين يدي سؤاله بصدقة نسأل الله العافية والسلامة، وهذا كله من الضلال.

    ولا نقول: إنه بسبب عدم التطور، وإلا فإن اليابان قد وصلت إلى أوج الصناعات والعلم، ومع ذلك فإن عندهم من الشعوذة والخرافات ما يحتار العقل أن يأتي مثل هؤلاء فيعبدونها، لكن هو كما قال ابن تيمية رحمه الله: القلب محتاج إلى التأله والعبودية فإن لم يصرفها إلى الله سبحانه وتعالى فقد صرفها إلى غيره.

    بيان ما اشتمل عليه تعليق الكفار لأسلحتهم على الشجرة من أمور

    قال المؤلف رحمه الله: [(ونحن حدثاء عهد بكفر) أي: قريب عهدنا بكفر, ففيه دليل على أن غيرهم لا يجهل ذلك، قاله المصنف، أي من الذين تقدم إسلامهم.

    قوله: (ينوطون) بفتح الياء].

    هذا التعليق من الكفار حين كانوا ينوطون أسلحتهم ويعلقونها من باب طلب البركة، ثم يجلسون إليها وهو نوع من الاعتكاف يطلبون بها البركة، ويعبدونها والعياذ بالله.

    إذاً: فعلوا ثلاثة أمور:

    الأول: يعلقون أسلحتهم طلباً للبركة وأن تسدد في رميهم وغير ذلك.

    الثاني: أنهم يعكفون عندها طلباً للبركة، كما يجلس الإنسان في المسجد يطلب الخير من الله.

    الثالث: أنهم كانوا مع ذلك يعبدونها من دون الله، يطلبون منها المدد والقوة والنصرة والعياذ بالله، فأراد بعض حدثاء الإسلام أن يعلقوا أسلحتهم على الشجرة طلباً للبركة، وليس عبادة من دون الله، ولكنهم يظنون أن مثل هذا التعليق ينفع ويعطي الله سبحانه وتعالى فيه من البركة، فبما أنهم يظنون أنها سبب لحصول البركة فهذا من الشرك الأصغر والعياذ بالله.

    الموقف من طلب صحابة رسول الله ذات أنواط والحكم عليه

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ينوطون) بفتح الياء وضم النون أي: يعلقون، قوله: (فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط) أي: شجرة نعلق عليها سلاحنا ونعكف عندها. ظنوا أن هذا محبوب إلى الله، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل].

    هذا هو الظن بالصحابة، فكفار المشركين يعلمون معنى (لا إله إلا الله)، بل بعضهم يعرفها أفضل مما يعرفها بعض من ينتسب إلى الإسلام، فهم عندما سألوا التقرب إلى الله بتعليقهم لهذا، إنما يسألون البركة، فهم وقعوا في البدعة ولم يقعوا في الشرك والله أعلم، وقد يكون منهم من كان جاهلاً فوقع في الشرك الأصغر، أما أنهم وقعوا في الشرك الأكبر فالظاهر والله أعلم في هذا الحديث أنهم لم يقعوا فيه؛ لأنهم يعلمون خطر هذا الشرك الأكبر، ولهذا قال سدنة قريش: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5].

    المراد بقول رسول الله: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل)

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (الله أكبر) رواية الترمذي: (سبحان الله) أي: أنزه الله عن أن يتقرب إليه بمثل هذا، والسنن: الطرق.

    قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) أي: ستفعل هذه الأمة ما فعلت الأمم الماضية من الشرك فما دونه، وتأتي الأحاديث الدالة على ذلك في (باب ما جاء إن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) إن شاء الله، وقد وقع كما أخبر، ففيه الدلالة على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم].

    الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل ) قصد بذلك بأبي هو وأمي أن كلاً منكم قصد البركة والتقرب إلى الله، لكن هؤلاء يتقربون إلى الله بعبادتها وهم المشركون وأصحاب موسى، وأنتم طلبتم عبادة الله والتقرب إليه بمثل هذه الأشياء وهذا لا يجوز؛ لأنه لا يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بشيء إلا بدليل، وهذا من البدع والخرافات وربما وصل إلى الشرك الأصغر من حدثاء عهد بالإسلام.

    1.   

    مسائل متعلقة بحديث: (اجعل لنا ذات أنواط)

    قال المؤلف رحمه الله: [وفيه مسائل:

    الأولى: تفسير آية النجم.

    الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.

    الثالثة: كونهم لم يفعلوا].

    هذه مسائل التوحيد التي أشار إليها الشيخ محمد، إذاً هو يستنبط ولا يلزم أن يقرر.

    قال المؤلف رحمه الله: [ الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا ].

    ما الذي طلبوا؟ هل طلبوا الشرك الأكبر، أم طلبوا الشرك الأصغر، أم طلبوا البركة التي هي البدعة؟ ولهذا لم يقرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفي تبويبه لم يجعل ثمة أصلاً، بل قال: (باب من تبرك بحجر وشجر ونحوهما) ولم يذكر حكماً.

    قال المؤلف رحمه الله: [ الثالثة: كونهم لم يفعلوا.

    الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه.

    الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل].

    حكم من أشرك بالله وله حسنات أو كان جاهلاً

    قال المؤلف رحمه الله: [السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم].

    هل من وقع في الشرك سواء كان أكبر أم أصغر، ومعه حسنات فهل تمحوها؟

    الجواب: الأول: إن كان وقع في الشرك الأكبر فإنه لا خلاف عند أهل العلم أن الحسنات يمحوها الله ولو كان جاهلاً، فإن الله سبحانه وتعالى لا يثيبه عليها بإجماع العلماء، كما ذكر ذلك ابن تيمية، وأما جهله من حيث فعله لذلك، فهذا إن كان عنده توحيد وإيمان وحسنات فهو داخل في مسألة العذر بالجهل، وإن لم يكن عنده توحيد وإيمان وحسنات فهو كافر في الدنيا، وأما في الآخرة فعلى حسب جهله، وإن كان يعلم في الدنيا فإنه كافر في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار ).

    الثاني: إن كان قد وقع في الشرك الأصغر، فهل إذا كان الإنسان عنده حسنات يمحوها الله سبحانه وتعالى؟ الذي يظهر والله أعلم وفيه خلاف أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، سواء كان أكبر أم أصغر لا يغفره الله، فإن كان أكبر فصاحبه والعياذ بالله خالد مخلد في النار، وإن كان هذا الذي فعله من الشرك الأصغر فإنه مما لا يغفره الله له، لكن ماذا يصنع بالموازنة؟ فإذا كان الشرك الأصغر فيه من الذنب والسيئات، وكان عنده من الحسنات فهنا تتم الموازنة، فإن بقي عنده حسنات دخل الجنة، وإن لم يبق عنده حسنات دخل النار لينقى؛ لأن عنده شهادة التوحيد، فيخرج منها ويدخل نهر الحياة ( فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ) ويدخل الجنة بعد ذلك، والله أعلم.

    وإن كان تبرك بمعنى تقرب إلى الله، وظن أن هذه يحصل بها البركة ولم يعبدها من دون الله، ولم يظنها سبباً، فهذا من البدع، وهي التي أشار إليها المؤلف وهو أن عندهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، أما من وقع في الشرك فهذا لا ينفعه شيء.

    وأبو العباس بن تيمية ليس له كلام واضح في هذا حقيقة، نعم وجدت نقولات قد يقول مثل ما أراد الشيخ عبد الرحمن بن سعدي هذا الأمر وهذا الذي يظهر، والله أعلم.

    المقصود أن الشرك الأصغر لا يغفره الله له، لكن إن كان عنده حسنات، فإن هذه تطفئ الذنب العظيم، فإن بقي عنده حسنات دخل الجنة.

    إنكار المنكر على من وقع فيه ولو كان جاهلاً

    قال المؤلف رحمه الله: [ السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، فرد عليهم بقوله: ( الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم ) فغلظ الأمر بهذه الثلاث ].

    إن الإنكار على الذنب لابد منه، وكون الإنسان يقع في الذنب فيجب علينا أن ننكر عليه ولو كان جاهلاً ، فالجهل إنما هو من حيث التأثيم وغيره، لا من حيث إزالة المنكر، فإزالة المنكر واجبة جاهلاً كان أم غير جاهل، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء إلى عائشة وقد وضعت النمرقة فغضب صلى الله عليه وسلم فقالت: ( أتوب إلى الله وإلى رسول الله ماذا أذنبت؟ قال: ما هذه النمرقة يا عائشة ؟ قالت: اتخذناها لك، فأمر بإزالتها )، فالرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة وغضب عليها وإن كانت جاهلة، فإنكار المنكر شيء، والتأثيم والعذر بالجهل شيء آخر والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا [الأعراف:138].

    التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله )، مع دقته وخفائه على أولئك.

    العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.

    الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا.

    الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.

    الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه ].

    التكبير أو التسبيح كل ذلك إن شاء الله جائز، سواء قال: الله أكبر، أو سبحان الله، كل ذلك جائز.

    قاعدة: سد الذرائع وذكر من ينكرها

    قال المؤلف رحمه الله: [ الرابعة عشرة: سد الذرائع ].

    سد الذرائع قاعدة شرعية ولا ينكرها أحد، إلا ما نقل عن الشافعية والحنفية أنهم أنكروها، وإنما أنكروا التوسع فيها، لا أنهم لم يفعلوها، فإن الشافعية يقولون في الذي آجر شخصاً سيارة ليحمل عليها محرماً قالوا: إن ذلك محرم، والخلاف مع الحنابلة والمالكية هو في بطلان العقود، هل تبطل العقود إذا عقد على شيء محرم أم لا تبطل؟ أما التأثيم فإنه ثابت إذا عقد على شيء محرم أصالة، والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية].

    الغضب في مقام التعليم

    قال المؤلف رحمه الله: [السادسة عشرة: الغضب عند التعليم].

    هذا يفيد جواز الغضب عند التعليم، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يغضب في كل تعليم علمه أصحابه، فإن معاوية بن الحكم السلمي حينما تكلم في الصلاة لم يغضب، قال: ( فوالله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، فوالله ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني ) لكنه صلى الله عليه وسلم حينما يقع الناس في مثل هذه الأشياء العظيمة فإنه يغضب بأبي هو وأمي، فكان غضبه عليه الصلاة والسلام في أشياء، إما أن يكونوا قد وقعوا في أمر عظيم فغضب؛ وذلك لأجل أن يبين لهم عظم هذا الأمر، أو أن بعضهم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين أنه شيء والناس شيء آخر، مثال ذلك: قال رجل لرسول الله عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! كيف تصوم؟ فغضب صلى الله عليه وسلم فجعل عمر يقول: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، حتى سكن غضبه، فقال: يا رسول الله! كيف بمن صام الدهر؟ قال: لا صام ولا أفطر، قال: كيف بمن صام يومين وأفطر يوماً؟ قال: وهل يطيق ذلك أحد؟ قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: وددت أني أطيق ذلك، قال: فكيف بمن يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: ذاك صيام داود عليه السلام، ثم قال صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر تعدل ذلك )، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحب أن يسأل الإنسان سؤالاً ليس بالذي يفيد أو يفهم منه معنى قبيح، والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله (إنها السنن).

    الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر.

    التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.

    العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر، أما ( من ربك )؟ فواضح، وأما ( من نبيك )؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ( ما دينك )؟ فمن قولهم: اجْعَل لَنَا إِلَهًا [الأعراف:138] إلى آخره.

    الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.

    الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقولهم: ( ونحن حدثاء عهد بكفر ) ].

    الإخبار عن وقوع الشرك في هذه الأمة إلا من وقر في قلبه الإيمان

    ومن المسائل أيضاً: أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إنها السنن ) فلابد أن يقع في هذه الأمة مثلما وقع في غيرها.

    ومن المسائل أيضاً: أن التبرك أنواع: منه ما هو شرك أكبر، ومنه ما هو شرك أصغر، ومنه ما هو بدعة ومحرم.

    ومن المسائل أيضاً: أن من وقر الإيمان في قلبه فإنه لا يقع في البدع، وجه الدلالة ( ونحن قوم حدثاء عهد بكفر )، فمن وقر الإيمان في قلبه فإنه لا يقع في البدعة.

    مشابهة الفرع للأصل من كل وجه في القياس

    ومن المسائل أيضاً: أن قياس الفرع على الأصل لا يلزم أن يكون مشابهاً له من كل وجه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى ) مع أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يقولوا ذلك، والرسول قال: (قلتم)، وقد أقره صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن من القياس ما يمكن أن يقاس عليه بأدنى شبهة، وهذا يسمى عند العلماء: قياس الشبه، وهل هو حجة أم لا؟

    يقول الغزالي : أول من احتج به وذكره الإمام الشافعي رحمه الله، وقياس الشبه نوعان:

    النوع الأول: شبه بالصورة، النوع الثاني: شبه بالمعنى، أما الشبه بالصورة فالذي يظهر والله أعلم أنه لا يعول عليه وليس بحجة، إلا إذا فعل مثل فعله، مثل التشبه بالكفار فإذا كنا نتفق معهم بالصورة فإنه ممنوع، وأما إذا فعلنا فعلاً مباحاً وإن كان هذا الفعل المباح قد يشابه الفعل المحرم أو هو من فعل الكفار، فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك محل اجتهاد، مثل تشقير الحواجب، هل فيه تشبه بالنامصة أم لا؟

    فالذي يظهر والله أعلم أن مثل هذه الأشياء لا يعول عليها حكماً؛ وذلك لأن المنع ليس لأجل المشابهة بالصورة، ولكن لأجل المشابهة بالفعل، ولهذا حرمنا الحلق مثلما نحرم النتف، فالحلق والنتف كله مشابهة للنامصة؛ لأنها تزيل، وأما التشقير فليس فيه إزالة، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768033132