إسلام ويب

كتاب التوحيد - باب الشفاعةللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عرف أهل العلم الشفاعة بأنها التوسط للغير لدفع ضر أو لجلب نفع، وافترق الناس في الشفاعة بين مثبت لها بالكلية، ومنكر لها، ومتوسط فيها وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فهم يثبتون ما أثبته الله عز وجل وقررته السنة المطهرة في ثبوت الشفاعة بالشروط الثلاثة: إذن الله للشافع، ورضاه عنه، ورضاه عن المشفوع له.

    1.   

    الشفاعة معناها وحقيقتها وشروطها وأنواعها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب الشفاعة.

    وقول الله عز وجل: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ [الأنعام:51].

    وقوله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44].

    وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة :255].

    وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].

    وقوله : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ:22] الآيتين.

    قال أبو العباس : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونًا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال الله: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده -لا يبدأ بالشفاعة أولاً- ثم يقال له: ( ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع ).

    وقال أبو هريرة : (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.

    وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.

    قال الشارح: قوله: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:51]، وقوله: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:51] قال الزجاج: موضع (ليس) نصب على الحال كأنه قال: متخلين من ولي وشفيع والعامل فيه (يخافون)، وقال ابن كثير: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ [الأنعام:51] يومئذ شفيع من عذابه إن أرادهم به لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51] فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة ].

    معنى الشفاعة في اللغة والاصطلاح

    قول المؤلف رحمه الله: (باب الشفاعة) الشفاعة: هي طلب الدعاء، ومعناها: هو التوسط للغير لدفع ضر أو جلب منفعة، فكأن الإنسان يتوسط بين المشفوع له، وبين النافع أو الضار، فهؤلاء الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء يقولون: ما ندعوهم إلا لأجل أن يتوسطوا لنا عند ربنا لدفع ضر أو لجلب منفعة، وإنما جاء المؤلف رحمه الله بهذا الباب بعد الأبواب السابقة التي بين فيها أن الأنبياء ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الملائكة ومنهم حملة العرش ومنهم جبرائيل لا يملكون نفعاً ولا ضراً، وأنهم لا يملكون إلا الإقبال على الله، وأنهم ضعاف بجانب قدرة الله وجبروته، فأدخل المؤلف باب الشفاعة ليبين أن الأنبياء والملائكة حتى لو أرادوا أن يشفعوا للمشفوع له، فلن يشفعوا إلا بشروط.

    شروط الشفاعة والأدلة على ذلك

    وشروط الشفاعة ثلاثة:

    الشرط الأول: لا بد أن يأذن النافع الضار سبحانه وتعالى، فليس لأحد أن يتكلم بين يديه، وليس لأحد أن يشفع إلا بأن يأذن سبحانه، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم لا يتكلم ولا يشفع لأهل طاعته إلا بأن يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك، سل تعط، اشفع تشفع، فيقول: أمتي! أمتي!)، فلا بد فيه من أن يأذن سبحانه للشافع أن يشفع.

    الشرط الثاني: رضاه سبحانه للشافع، فليس لأحد أن يشفع إلا أن يأذن هو سبحانه وأن يرضى عمله، وعلى هذا فهؤلاء الذين يتخذون أرباباً من دون الله وهم عصاة فجرة كفرة، فهؤلاء لا يستطيعون الشفاعة، قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، ما لهم شفيع.

    الشرط الثالث: رضاه للمشفوع له، بأن يرضى عن عمله، فلو أن نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً أذن له الرب جل جلاله، لمن رضي فعله، فإنه يشفع، وإلا فليس له أن يشفع إلا لمن رضي الله عن عمله، وهم حاملي لواء (لا إله إلا الله)، وهم أهل التوحيد، هذه هي الشروط الثلاثة.

    والمؤلف رحمه الله كعادته في إبداعه وترتيبه للآيات، ذكر الآيات الدالة على أنه ليس لأحد أن يشفع، فقال: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51]، فنفى الشفاعة إلا له في هذه الآية، وحصرها له في الآية الثانية، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44]، وهنا تقديم الجار والمجرور فيه دلالة على الحصر، كما يقول علماء البلاغة، وهذا يدل على أنه لا أحد يشفع إلا بأن يأذن الله له، فصارت كأن الشفاعة ليست إلا له، قال بعض العلماء: إن الآية الأولى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا [الأنعام:51]، هو نفي الشفاعة عن الشافع إذا كان من العصاة فنفاها عنه؛ لأنه سبحانه لا يأذن بالشفاعة إلا لأهل طاعته وأوليائه، فنفاها بالآية الأولى لأنهم من الظالمين، وَأَنْذِرْ بِهِ [الأنعام:51] يا محمد الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:51].

    والآية الثانية: حصر الشفاعة لله سبحانه وتعالى، ثم رتب المؤلف الآيات التي بعدها، فجاءت الآية التي بعدها لبيان شروط الشفاعة، وهو إذنه سبحانه، هذا الشرط الأول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

    الثاني: رضاه للشافع وهي قوله: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، وقوله: (ويرضى) يعني: يرضى عمل الشافع، ويرضى عمل المشفوع له.

    حقيقة أن الشافع لا يملك ضراً ولا نفعاً

    بين سبحانه أن إذنه ورضاه بأن يشفعوا، ليس لأجل أنهم يملكون، فهم لا يملكون، ولا يشاركونه في ملكه سبحانه، وليس لهم معونة مع الله، فلا يعينونه، ولا يساندونه، ولا ينفعونه، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، يعني: مساعد ومساند فليس هؤلاء لأجل أنهم شركاء، ولا لأنهم يملكون، ولا لأنهم ظهير له سبحانه، ولكن تفضلاً وامتناناً وإكراماً وإنعاماً منه سبحانه وتعالى، وهذه الآيات لو تأملناها حق التأمل والله ما سألنا إلا الله، ولا طلبنا إلا الله، ولا توكلنا إلا عليه، ولا أنبنا إلا إليه؛ لأنه بين أن هؤلاء لا يملكون مثقال ذرة، ولا هم شركاء، وليس له منهم من ظهير، فإذا كانت هذه هي حقيقة المخلوق، فلماذا نطلب من غيره سبحانه وتعالى، ولماذا نسأل غيره؟

    الغريب أنك أحياناً تجد من يدعو ربه وهو في سجوده ويفكر، من المخلوق الذي يستطيع أن يقضي حاجته؟ المسئول الفلاني أو المدير الفلاني، وهو يدعو ربه بدون افتقار إلى الله، حتى وهو يدعو ربه منطرحاً بين يديه يبحث عن المخلوق، هذا الذي يعطيني، هذا الذي ينفعني، هذا الذي يضرني، ليس هذا ولا هؤلاء إنما هو الله سبحانه وتعالى، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحقق التوحيد في نفوس أصحابه، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى : (أن رجلاً قال: يا رسول الله! احملني، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: والله لا أحملك، وليس عندي ما أحملك، فجاء مرة فحمله، قال: يا رسول الله! إنك قد أقسمت، قال: نعم ما أنا الذي حملتك، ولكن الله حملك، وإني والله لا أحلف على شيء، ثم أرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني).

    هذا يدل على أن المخلوق ولو حلف وأقسم أن ينفع فلاناً فلا تستكين ليمينه، بل ادع ربك، ولو حلف فلان أن يضرك فلا والله لا ينفع ولا يضر.

    ولهذا كان عمر بن عبد العزيز إذا أعطى العطايا للناس من بيت المال يقول: لا تحمدوا إلا الله، فلولا الله ما أعطيتكم، ولما أراد أن يعطي المرأة وصباياها الثلاث، فكان كلما أعطى واحدة منهن يقول: لا تحمدوا إلا الله، فلست أنا المعطي، وإنما المعطي هو الله، فلما أعطى الأولى حمدت الله، ولما أعطى الثانية حمدت ربها، فقامت الثالثة فشكرت عمر بن عبد العزيز فحبس عنهم العطاء، وقال للمرأة: مري بنياتك ألا يحمدوا إلا الله، وإلا لن أعطيهم! هذا عكس ما يفعله الناس اليوم، يقول: لولا الله ثم أنا لكنت فقيراً، لولا الله ثم أنا ما تزوجت، ولا اشتريت سيارة، ولا توظفت، وأنا الذي فعلت وأنا وأنا! نسأل الله السلامة، فإن بعض الناس والعياذ بالله يشارك الرب في ربوبيته فيحب من المخلوق أن يستذل له، ويتمنى أن يكون رئيساً أو مسئولاً أو صاحب منصب لأجل أن يلتف ويحتف الناس حوله، يسألوه ليعطيهم، وما علم أن هذا نوع من مشاركة الرب في ربوبيته والله المستعان.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44] بعد قوله: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43] أنكر سبحانه وتعالى عليهم اتخاذ الشفعاء، ثم أمره أن يقول: لله الشفاعة جميعاً، أي: هو مالكها، فليس لغيره فيها ملك، وله ملك السموات والأرض وإليه ترجعون ].

    حصر الله سبحانه وتعالى الشفاعة له؛ لأنه لا أحد يشفع إلا بأن يأذن سبحانه، وبأن يرضى عمله، وبأن يرضى عن عمل المشفوع له، فصارت الشفاعة لا تكون إلا له سبحانه.

    قال المؤلف رحمه الله: [ فتعلمون أن من طلبها من غير الله فهو خاسر السعي ولا تحصل له.

    قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة :255] ].

    ولهذا عبدة القبور يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، هكذا لهم شفعاء، فيظنون أن هذا المعنى كافٍ بأن يقولوا: يا حسين! يا حسين! أو يا علي! يا علي! فيلطمون بذلك الخدود ويشقون الجيوب، ويدعون بدعوى الجاهلية والله المستعان.

    شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لغير أهل الموقف وشفاعة الأنبياء والعلماء

    يقول المؤلف رحمه الله: [ قوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود:105] قال ابن جرير : نزلت لما قال الكفار ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم. والإذن راجع إلى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له اشفع تشفع ].

    قول المؤلف رحمه الله: (والإذن راجع إلى الأمر فيما نص عليه كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: اشفع تشفع).

    الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع بين يدي الله في غير هذا الموضع، فإن قوله: (اشفع تشفع) هو شفاعته لأهل الموقف بأن يقضي الله سبحانه فيهم القضاء، وإلا فإن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعة لمن استحق دخول النار ألا يدخلها، ومن دخلها أن يخرج منها، وللأنبياء شفاعة وللعلماء شفاعة وهي شفاعتهم لمن دخل من ذريتهم الجنة وهم دونهم أن يسألوا ربهم أن يرتقوا إلى أعلى، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:21]، كذلك يشفعون لمن دخل النار أن يخرجها، قال الله في الحديث القدسي: ( شفع الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا شفاعة أرحم الراحمين، فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، فدل ذلك على أن قوله: (اشفع تشفع) إنما هي حالة واحدة وهي حالة ما إذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للفصل بين القضاء كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وإلا فإنه يشفع بإذنه سبحانه، فيأذن الله للملائكة وللأنبياء وللعلماء وللمؤمنين أن يشفعوا بين يدي الله فلا يشفعون إلا بإذنه، ولهذا قال عبادة بن الصامت كما في الصحيح عندما كان في حضرة الموت، فبكى بعض أصحابه فقال: مهلاً لم تبكون؟ فوالله لئن شفعت لأشفعن لكم، ولئن استطعت لأنفعنكم.

    قطع القلب عن التعلق بغير الله من شافع أو ملك وغيره

    يقول المؤلف رحمه الله: [ وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]. قال أبو حيان : (كم) خبرية ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر (لا تغني) وإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه أن يرضاه أهلاً للشفاعة فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها؟!

    قوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23] الآية.

    قال بعض العلماء: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها ].

    قيل: إن هذه الكلمة الذي قالها هو عبد الرحمن بن حسن ، والصحيح أن الذي قالها هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

    قال المؤلف رحمه الله: [ وكلام أبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية الآتي في تفسيرها كافٍ في بيان المثبت من الشفاعة والمنفي منها، فرحمه الله وعفا عنه ].

    لماذا كانت هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها؛ لأن الإنسان لا يطلب من أحد إلا وهو يملك، فنفى الله سبحانه وتعالى أن يكون أحد من دون الله شريكاً لله في ملكه، وأيضاً نفى أن يكون هؤلاء الذين يدعون من دون الله أن يكونوا ظهيراً لله ومساعداً ومسانداً ونافعاً ومؤيداً: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر) فنفى عنهم تلك الأشياء الثابتة، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22]، فلهذا قطعت هذه الآية شجرة الشرك والتعلق بغيره من القلب لمن عقلها.

    قال المؤلف رحمه الله: [ قوله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون أي: في هذه الآية.

    قوله: فنفى أن يكون لغيره ملك فإن في قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22].

    قوله: (أو قسط منه) أي: من الملك وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22].

    قوله: (أو أن يكون عوناً لله) أي: في قول الله تعالى: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22].

    قال ابن القيم في الكلام على الآية: قد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعاً يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا فمثله كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41]، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلةٌ من هذه الأربع، وجوه النفع من المعبودات لا بد من وجود خصلةٍ واحدةٍ من هذه الأمور الأربعة، إما مالك لِمَا يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكاً له كان معينًا له وظهيرًا ووزيرًا، يعني مقرباً إليه، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا منتقضاً من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي: الشفاعة بإذنه، وقال: فهو الذي يأذن للشافع وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه. انتهى ].

    كان الأولى أن يقول: فنفى الشفاعة عندما قال: (وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك)، وهي الشفاعة لمن يرضى؛ لأن هذا هو الشرط الثاني وهو رضاه للشافع، فالمشرك لا يرضى الله عمله، ولهذا الأولى أن يقول: وهي رضاه للشافع، وليس الإذن؛ لأن الإذن إذن من النافع الضار.

    يقول المؤلف رحمه الله: [ وقال شيخ الإسلام لما ذكر آيات الشفاعة: وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق: طرفان ووسط، فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة أثبتوا الشفاعة التي نفاها الله في القرآن، والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الإنسان بشفاعة غيره ودعائه، كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه، فأنكروا الشفاعة بقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] ومن قوله: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].

    أما سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعاته وشفاعة غيره من النبيين والملائكة، وقالوا: إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحدٌ، فأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته والصدقة عنه والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة، وما كان في معنى الصوم.

    قالوا: لأن الشفيع يطلب من الله ويسأله إلى أن قال: وأما من علَّق قلبه بأحد المخلوقين يرجوه ويخافه، فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة، فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده، بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده وإما لخوفه منه، فيحتاج أن يقبل شفاعته، والله غني عن العالمين كلهم، فما من شفيع إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع. انتهى من الاقتضاء].

    يعني: (اقتضاء الصراط المستقيم) لـأبي العباس.

    أنواع شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة

    يقول المؤلف رحمه الله: [ والحاصل أن الشفاعة الثابتة هي التي تطلب من الله بإذنه لمن يرضى قوله وعمله، والله لا يرضى إلا التوحيد، والمنفية هي التي تطلب من غير الله، أو بغير إذنه، أو لأهل الشرك به، إذا تبين هذا فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع:

    الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم حتى تنتهي إليه.

    الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها.

    الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته ألا يدخلوا النار.

    الرابع: شفاعته في إخراج العصاة من أهل التوحيد من النار.

    الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم.

    السادس: شفاعته في تخفيف العذاب عن أبي طالب.

    فيه مسائل:

    الأولى: تفسير الآيات.

    الثانية: صفة الشفاعة المنفية.

    الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.

    الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.

    الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع.

    السادسة: من أسعد الناس بها؟

    السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.

    الثامنة: بيان حقيقتها ].

    قول المؤلف: (إذا تبين هذا فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة ستة أنواع) هذه قد ذكرها العلماء رحمهم الله واستدلوا لها.

    أما الأولى: (الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم) فهي الشفاعة لأهل الموقف كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، حينما يأتي أهل الموقف إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقولون: ( يا محمد! أنت خاتم الأنبياء غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: أنا لها أنا لها ).

    الشفاعة الثانية: (شفاعته لأهل الجنة في دخولها) كما في صحيح مسلم من حديث أنس : (آتي باب الجنة فأستفتح فيقول: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك).

    الشفاعة الثالثة: قوله: (شفاعته لقوم من العصاة من أمته ألا يدخلوا النار) هذه الشفاعة يقول فيها ابن القيم : لا أجد لها دليلاً إلا الإجماع.

    أقول: والواقع أن فيها حديثاً، وذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة: (أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فاجتوى المدينة، فشقصت أصابعه، فجزع فقطع براجمه فمات، فرآه أحد أصحابه في المنام، قال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي لهجرتي مع نبيه، قال: ما لي أراك مغطياً يدك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت) إذاً سوف يعذب بسببها، فهو استحق دخول النار، (قال: فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: اللهم وليديه فاغفر)، وهذا يدل على أنه استحق دخول النار فلن يدخلها.

    الشفاعة الرابعة: (شفاعته في إخراج العصاة من أهل التوحيد) وهذه ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأنبياء والملائكة والمؤمنين يشفعون كما في الصحيحين.

    الشفاعة الخامسة: (شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم)، وهذه أيضاً ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21].

    الشفاعة السادسة: (شفاعته في تخفيف العذاب عن أبي طالب) هذا مع العلم أن من شروط الشفاعة أن يرضى سبحانه عن المشفوع له، ولكن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لقوله: ( ولولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار )، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    المراد بشفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم دخلوا النار

    السؤال: [ كيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في قوم دخلوا النار؟ ].

    الجواب: يعني بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يشفع في قوم دخلوا النار إذا كانوا قد قالوا: لا إله إلا الله خالصة بها قلوبهم، أو قوم استحقوا النار بعد أن قالوا: لا إله إلا الله خالصة بها قلوبهم، فالذين يخرجون من النار وفي قلوبهم مثقال ذرة من إيمان فيهم إخلاص مثقال ذرة من إيمان.

    الاكتفاء بقول: (لا إله إلا الله) لنيل الشفاعة والنجاة من النار

    السؤال: [ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمن قال: لا إله إلا الله واستحق النار، هل يكفي قول: لا إله إلا الله لنيل الشفاعة؟ ]

    الجواب: لا، القول مع التصديق، والتصديق عمل قلبي، فكما قال ابن تيمية : إن الإيمان تصديق مقيد، ليس تصديقاً فقط مثل تصديق الإخبار، لا، هو تصديق فيه معنى الانقياد، ولهذا صار فيه عمل القلب، وإلا لو كان تصديقاً مجرداً لصار قول القلب؛ لأن قول القلب هو المعرفة، والمعرفة هي إذا أنك عرفت الشيء صدقته، فلا بد فيه من قول القلب وعمل القلب، وعمل الجوارح يأتي تبعاً لعمل القلب، ولهذا لا يمكن أن يقول شخص: أنا منقاد لأمر الله، لكني لن أفعل ذلك في جوارحي، هذا لا يمكن.

    وأما الأنصاري الذي أسلم فلم يعمل عملاً ودخل الجنة الحقيقة أنه عمل، أما قول الرسول: (لم يعمل) يعني: لم يعمل عمل الجوارح التي بها الإسلام التي هي الصلاة أو الصوم وغيره، وإلا فقد عمل، ما هو العمل؟

    أولاً: الجهاد والجهاد دلالة على ما في قلبه.

    الثاني: انقياده وقبوله للعمل، هذا أيضاً عمل، قبولك لأن تعمل هو عمل، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768241282