الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171]، وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.
وقال ابن القيم : قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله )، أخرجاه.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ).
ولـمسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً ).
قوله: وتركهم بالجر، ودينهم بالنصب، أي: أراد إقامة الحجة على أن الغلو سبب للخروج من الدين خصوصاً في الصالحين فإن الشيطان يخرجه في قالب محبتهم ].
المؤلف رحمه الله لما بين غلو بعض الناس بأفضل ما خلقه الله تعالى وهو محمد صلى الله عليه وسلم بين أن محمداً لا يغني عنهم من الله شيئاً, كما قال صلى الله عليه وسلم: ( يا
ثم ذكر في الباب الذي بعده الملائكة، وأنهم وإن كانوا لا يعصون الله ما أمرهم وما من أحد منهم إلا وهو ساجداً راكع لله تعالى، ومع هذا فإنهم لا يغنون عنهم من الله شيئاً، وبين أنهم إذا سمعوا صوت الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه خروا لله سجداً، فقالوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23].
فبين أن هؤلاء وهم من أعظم من خلقهم الله سبحانه وتعالى، وهم الأنبياء وأفضلهم محمد لا يغنون عنهم من الله شيئاً، ثم بين الملائكة وقد أعطاهم الله ما أعطاهم، وهم أيضاً لا يغنون عنهم من الله شيئاً، فإذا كانوا هؤلاء وهؤلاء لا يغنون عنهم من الله شيئاً فلم يبق لهم إلا الغلو في الصالحين، وبين الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء من باب أولى، أنهم لا يغنون عنهم من الله شيئاً، ولكن الذي يحصل هو أن بعض الناس يبالغ ويغلو في الصالحين.
المرتبة الأولى: بأن يعطيهم منزلة أكبر من منزلتهم، وهي العبادة، وهذا وإن لم يتأت في أمة محمد، لكن ربما يحصل في المرتبة الثانية، أو فيما يطول به العهد، فإن أكثر عباد القبور لا يقولون: يا فلان! المدد المدد، وهم يقصدون أنه ينفع ويضر وإن وجد منهم من وجد، لكنهم يقولون: يا فلان! المدد المدد على أنه يدعو لنا عند ربنا، وهذه هي المرتبة الثانية، وهو أيضاً من الشرك المعلوم من الدين بالضرورة، قال الله تعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فهؤلاء الذين يدعون الأموات يدعونهم لا لأنهم ينفعون ويضرون بذواتهم، ولكنهم سوف يشفعون عند الله أن يشفي مرضاهم، أو يعافي مبتلاهم، أو يغني فقيرهم، أو يكشف ضر كربهم، وهذا أيضاً من الشرك المعلوم من الدين بالضرورة.
المرتبة الثالثة: من غلوهم أن يعطوهم منزلة لا تصلح لهم، إنما تصلح للرب جل جلاله، وهذه المنزلة يقولون: إن الله أعطاهم إياها كما يوجد عند مشركي أهل زماننا من الرافضة وغيرهم، الذين يقولون: يا علي يا علي ! ويعطون علياً رضي الله عنه منزلة لا تكون لأحد من الأنبياء، مثلما يقولون: إنه سيرجع ويقتص، فهم يقولون بالرجعة أن علي سيرجع مثل عيسى عليه السلام، ويقولون: إنه سوف يرجع ويعلم من سبه أو غير ذلك، وينادون علياً أو حسيناً أو فاطمة وكل هذا من الشرك المعلوم من الدين بالضرورة.
المرتبة الرابعة: أنهم يجعلونهم مشرعين، ومعنى هذا التشريع هو أنه إذا حرم ما لم يحرمه الله قالوا: صدق، وإذا أباح ما حرمه الله قالوا: صدق، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي : ( فتلك عبادتهم، أليسوا إذا حرموا ما أحل الله أطعتموهم، وإذا أباحوا ما حرم الله أطعتموهم؟ قالوا: نعم، قال: فتلك عبادتكم ).
وقد ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله حينما أراد أن يبين ضلال من قلد، قال: إن هؤلاء لم يقلدوهم إلا حينما أعطوهم منزلة أكبر من أن تكون منزلة البشر وأنهم لا يخطئون، وقصروا في حق أنفسهم، فقال بعضهم: ما من آية أو حديث تخالف قول إمامنا إلا وهي منسوخة أو مؤولة، كما نقل عن أبي الحسن الكرخي عفا الله عنا وعنه، وإنما قال ذلك لأنه عظم إمامه، وأنه لا يكاد إمامه يخطئ، وأنه إذا حصلت آية تخالف قول إمامه فقد أدركها إمامه، ولكنه أولها، ويكون تأويله صحيحاً فهو أعلم منا، وإذا مر بحديث ولم يأخذ به إمامه فيقول: قد بلغه ولم يأخذ به ثم أوله، فيكون تأويله صحيحاً فهو أعلم منا، فيكون قد أدرك من العلم ما لم يدركه، وهل أتى الناس ما أتى إلا بعلم هذا؟ فهذا أيضاً من الغلو في الصالحين.
الإمام الغزالي ذكر في كتابه: (إحياء علوم الدين) حينما ذكر مسألة وقوع النجاسة في الماء القليل أن مذهب الشافعي يرى أن مجرد ملاقاة النجاسة للماء القليل ينجسه ولو لم يتغير أحد الأوصاف، وهذا هو قول الجمهور: أبي حنيفة و الشافعي و أحمد .
والقول الثاني: قول مالك أنه لا ينجس إلا بالتغير، وهو اختيار ابن تيمية ، الشاهد: أنه قال: إن القول بالتنجيس فيه عسر ومشقة، وذكر خمسة أدلة تبين أن هذا القول ضعيف، ثم قال: فإن قال قائل: ولماذا لا تذهبون إلى قول مالك ؟ نقول: كنت أقول: وددت أن مذهب الشافعي كمذهب مالك في هذا، فإن قال قائل: فلماذا لا تذهبون إلى مذهب مالك ؟ قلنا: لا؛ لأن هذا من التنقل بين الأقوال على حسب التشهي. الله المستعان، كيف التشهي وقد ذكر خمسة أدلة؟ ولكن في زمان أبي حامد الغزالي كانوا يعظمون التقليد، ويواجهون من خرج عنهم إلى الاجتهاد وجابهوه بالنقد اللاذع، فإذا كان أبو حامد -وهذه منزلته في العلم- يأبى أن يرجع إلى قول يخالف قول الشافعي ويتمنى أن يكون قول الشافعي هو الأرقى، يدلك على أن الناس أحياناً يتركون التأمل في النصوص والتأمل في واقع الحال، بسبب أهل هذا الزمان خوفاً من أن ينقدهم أحد أو يسبهم والله المستعان، ولأجل هذا قال المؤلف رحمه الله: إن سبب ترك الناس دينهم -والدين عام وقد يكون في مسألة وقد يكون في عقيدة- هو غلوهم في الصالحين.
وحينما تناقش بعضهم في بعض البلاد يقول: أنت أعلم أو مفتي هذه البلاد؟ وهو يرى الناس يذهبون إلى الأضرحة وإلى الست زينب وإلى البدوي، ويقولون: المدد المدد، ولم ينكروا في ذلك أأنت أعلم أم هم؟ فهم يحاجونك بالأشخاص، وهذا نوع من الغلو فيهم، وحينما كنت أرد في إحدى القنوات على أحد الذين جوزوا الربا في البنوك، قال لي: من المتحدث الذي يخالف مفتي مصر؟ يقصد بذلك سيد طنطاوي ، عفا الله عنا وعنه وقد مات، فقلت له: لست أنا أرد على السيد طنطاوي ولكن السيد طنطاوي عفا الله عنه خالف المجامع الفقهية وعلماء الأمة، وأنا أرجع إلى علماء الأمة وهو الذي أخطأ ولست أنا الذي أخطأت، فهم أحياناً يريدون أن يلقوا عليك اللائمة ولا يلقون اللائمة على غيرك، فالخلل ليس مني، أنا رجعت إلى علماء كبار وهو الذي خالف العلماء الكبار ولست أنا، وهذه المسألة كثيراً ما ترد حتى على بعض طلبة العلم، إذا خالف قول شيخه من أهل هذا الزمان قالوا: لا ينبغي للإنسان أن يفتي خلاف الفتوى السائدة، والفتوى السائدة هي أن الشيخ الفلاني والفلاني يقولون بذلك، وقد خالف الشيخ الفلاني مشايخه الذين قبله، والغريب أنهم أحياناً يثنون على العالم في هذا الزمان وأنه كان يفتي وعمره لم يخط شاربه بعد، وإذا جاء أهل زمانه من بلغ من العلم أكثر مما جاء هذا الشاب الذي كان في وقت شبابه يخالف مشايخه، يقول: لا ينبغي للإنسان أن يخالف مشايخه، وكأنهم يريدون أن يجعلوا هذه الحظوة لفلان فقط، أو لعلان، وهذا كله من الغلو في الصالحين.
ولو أن النفوس عظمت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تستطيع أن تقبل مثل ذلك، ولما نهى عثمان رضي الله عنه عن المتعة في الحج كما في صحيح مسلم ، قال علي : ( قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع، والله لا أدعن شيئاً علمته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قلته )، ولما قيل لـأبي ذر : لا تفت برأيك وقد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لو وضعوا الصمصامة على ذقني، وقدرت أن أنفذ شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تيجزو علي لأنفذتها. وهذا كله دليل على تعظيم كتاب الله، ولما قال ابن عباس رضي الله عنه: أن من مس الحجر فقد حل شاء أم أبى، ناقشه عروة بن الزبير ، فقال له عروة : يا ابن عباس ، أأنت أعلم أم أم المؤمنين عائشة ؟ فقال: يا عرية ! سل خالتك، يعني بذلك أسماء بنت أبي بكر ، أليست هي التي قالت: فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة أقمنا حلالاً؟ ونقل عنه: أنه قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر و عمر ، وهذه لم تثبت عن ابن عباس بإسناد صحيح، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] أي: لا تجاوزوا ما حد الله في الدين، وأهل الكتاب اليهود والنصارى، وكذا نهى هذه الأمة في قوله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا [هود:112]، قال شيخ الإسلام: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك فقد شابههم].
ذكر العلماء أن قال سفيان الثوريقال: فمن غلا في الدين فقد تشبه بالنصارى، وهم الضالون، ومن ترك الدين وتهاون فيه فإن فيه شبهاً من اليهود وهم المغضوب عليهم، واليهود عندهم علم لكنهم بغوا فيه، قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، ولا يتأتى البغي والعياذ بالله إلا بعد العلم، وهو العلم الذي فيه افتخار، يقول ابن تيمية : وليس الذي يثير الخلاف والنزاع هو الاجتهاد السائغ، إذ كان ذلك موجوداً في عهد الصحابة، ولكن الذي يثير النزاع والشقاق هو الخلاف الذي فيه نوع بغي وعدوان، كما قال الله في حق أهل الكتاب: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وهذا البغي هو الذي يوجد في زماننا هذا، فتجد أن الردود تقرأ ما تحت السطور، وما فوق النقاط، حتى يجد زلة، فتحصل بذلك الردود، والله المستعان.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وقد روي مرفوعاً ولا يصح: يبصر أحدهم القذاة في عين صاحبه وينسى الجذع في عينيه، وهذا هو سبب عدم السلامة في قلوب بعضهم بعضاً، ولهذا قال من قال من أهل العلم كـسفيان الثوري و أبي العباس ابن تيمية : إن من فرط في دينه أو غلا فإن فيه شبهاً من أهل الكتاب والله المستعان، وهذا كله من الغلو في الدين، والغريب أنهم يتحدثون في هذا الزمان على التطرف وهو الغلو، ولا يسألون عن التطرف المضاد وهو ترك الدين، وترك النص، وترك تعظيم النص، كما يوجد في ما يسمى بالليبرالية، والقرآنيين الذين يقولون: ما لنا إلا كتاب الله، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5].
والناس والعلماء وطلبة العلم يتحدثون عن الغلو في الدين، ولا شك أن الغلو في الدين أعظم من التفريط فيه؛ لأن الذي يفرط لا ينسبه للحق، ولكن الذي يغلو في الدين ينسبه للحق، وهذا هو الذي قال عن الله وعن رسوله ما لم يقله صلى الله عليه وسلم ولم يقله الله في كتابه، فصار الغلو في الدين أعظم من التفريط فيه من هذا الوجه، لكن ليس معناه أننا لا نذكر التطرف المضاد وهو ترك النص وتعظيمه كما يوجد في هذا الزمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قوله: في الصحيح إلى آخره فيه فوائد نبه عليها المصنف، منها: معرفة أن أول شرك حدثت في الأرض بشبهة محبة الصالحين، ومنها معرفة سبب قبول النفوس للبدع مع كون الشرائع والفطر تنكرها ].
ولهذا فإن تعظيم الصور -وهو وضعها على الجدر- يعتبر من تعظيم محبة الصالحين، والمشكلة أن النفوس أحياناً تنسى هذا، فإذا مات عالم من العلماء تجد الصحف تجد ستة أشهر تندب حال الأمة بفقدها هذا العالم، وينبغي للعلماء وطلبة العلم أن ينكروا هذا الأمر، وأن يكون من أهل العلم من يخاطب ولاة الأمر في هذا، وبين أن هذا من الغلو في الصالحين، ولا شك أن فقد العالم فقد أمة، وأن أثره ووفاته فيه ضرر ونقص على الناس، كما في تفسير قوله تعالى: نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41] قال بعض المفسرين: هو موت العلماء، ولكن هذا شيء والغلو والأشعار الذي تندب حال الأمة لفقده شيء آخر، والله المستعان.
فينبغي أن يبين هذا، ومثل ذلك: وضع صورهم، فإن وضع صور الساسة والعلماء خطورتها عظيمة جداً جد عظيمة، وهي بخلاف صور الأطفال الصغار فهذه الخطر فيها يسير، فالذين منعوا وضع هذه الصور ليس لأجل التصوير الفوتوغرافي فقط، فإن من العلماء من يجوز التصوير الفوتوغرافي وهو الراجح والله أعلم، لكن تمنع من وجه تعظيمها، لقول علي رضي الله عنه لـأبي الهياج الأسدي : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه محمد صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ) يعني أنك أهنتها ولم تعظمها.
هذا مثل الذين وضعوا احتفال المولد النبوي، فهم لم يقصدوا إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كم من مريد للخير لم يصبه، فالنفوس أحياناً تتوق لفعل البدع ولا تتوق لفعل الحق، وأذكر أني خرجت من الحرم مرة عند جهة باب الملك فهد، وكان ذلك في وقت حج، وكان في زحام شديد حتى عجزت أن أخرج من الباب الذي هو في أول مدخل الحرم، فحاولت أن أتمسك بشيء فوجدت أحد مصراعي الباب يمكن أن أضع يدي اليمنى عليه، فوضعت يدي اليمنى وتمسكت به وبدأت أشد به حتى أصل إلى الباب، فوصلت إلى الباب والحمد لله وخرجت، فقلت في نفسي: لعل أحدهم بدأ يصنع مثلما صنعت، فالتفت فإذا أحد العجم يمسك ما مسكته وإذا هو يتمسح به، فحاولت أن أقف ثم جاء الآخر فصنع مثله، وبدأت أنادي: لا يا إخوان! هذا لا يجوز، هذا لا يجوز، فنظروا إلي وتركوني والحمد لله، وانتهى.
انظر هذا الأمر، نظروا شخصاً له لحية، وأنا لم أقصد إلا أن أتمسك به، فبدأ هذا الذي خلفي يقلدني وهذا آخر يقلدني حتى نبهت على ذلك فرجع الناس وتركوا، فالناس يحبون البدع، ولو أن الإنسان لم يقصدها، ولهذا ينبغي للعالم وينبغي لطالب العلم الذي له سيما أهل العلم والخير ألا يفعل شيئاً عند العامة؛ لأن العامة أحياناً لا تفرق، ولأجل هذا كان عثمان رضي الله عنه قد أتم الصلاة في الحج خشية أن يفهم الأعراب أن الأصل في الصلاة أنها قصر مطلقاً، فأتم الصلاة خوفاً من ذلك. والله المستعان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيرها] .
فهذه الصور أول الأمر وضعوها من باب أنهم يتذكرونهم ويتذكرون الخير الذي فيهم ويتشجعون على فعل الخير، هذا كله يقولون هي وسيلة، فلما ماتوا حزنوا عليهم وجلسوا ينظرون إلى قبورهم ويعكفون، عليها يعني: يجلسون ويدعون لهم، فنسي الجيل الذي بعده فظنوا أنهم يعكفون لأجل عبادتهم، ولهذا كره السلف التقرب إلى الله عند القبر، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله، ومن ذلك ما اختارته اللجنة الدائمة: أن توزيع الماء في المقابر ممنوع، خشية أن يأتي زمان فيتقربون إلى الله عند المقبرة، ولا شك أن العبادة عند القبر بدعة، وأقول: لا شك أن الذي يأتي بالماء اليوم لا يقصد به الصدقة، وإنما يقصد به الإعانة ولهذا يشرب من هو أغنى منه، وإن كنت أرى أنه توضع المياه عند أبواب المقابر وليس في المقبرة؛ لأنه في هذا الزمان والحمد لله في بلادنا يندر أن يتصدق الإنسان ويقصد به عند القبر، لكن ربما يوجد في بلاد أخرى مثل هذا، ولا شك أن ترك ذلك أولى، لكن لا نقول: إن ذلك محرم؛ لأن الذي يتصدق عند القبر، لم يقصد الصدقة عند القبر.
البدعة غالباً لا يتاب منها؛ لأنه يستحسنها في الشرع، فإذا أردت أن تنهى عنها قال لك: هي خير وأنا أتقرب إلى الله، وأنا أتأثر فيها ما لا أتأثر في غيرها، فيستحسنها، والله المستعان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومنها معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، ومنها معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها، ومنها وهي أعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات].
يقصد بذلك: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنكر على هؤلاء الذين يذهبون إلى القبور ويدعون الله عند القبر، وبين أنهم يقرءون كتب التفسير ويقرءون كتب الحديث ويقرءون هذا الحديث، لكني أقول: هؤلاء ليسوا منا، ولم نصل نحن عند ذلك، فبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن عبادة الله عند القبور أو أن دعاء الله عند القبور بدعة، ويخشى أن يأتي بعد ذلك زمان يدعى القبر نفسه، والله المستعان.
وهذا يوجد عند بعض العلماء، فقد ذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر -غفر الله لنا وله وعفا الله عنا وعنه-: أنه إذا أصابته مدلهمة يذهب إلى قبور الصالحين ويمرغ وجهه لله تعالى حتى ينكشف ما به، والعياذ بالله، وهذا كله من البدع.
وقد ذكر ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر عندما ذكر ذهابه إلى قبور الصالحين ودعاءه لله تعالى عند القبور وأن لها أثراً والعياذ بالله، فما حصل له ما حصل إلا بسبب أهل زمانه، والغريب أنهم يقولون كما قلت: إن العلماء لم يتحدثوا عنها، نقول: نعم؛ لأن بدعة القبور أصلاً لم تأت إلا في أواخر السنة الثانية، وأول ووسط السنة الثالثة، ولهذا لم ينقل عن الشافعي ولا أحمد ولا مالك ولا عن أبي حنيفة أيضاً شيء من ذلك؛ لأنه لم يوجد عندهم عبادة القبور، وأن الغلو في الصالحين جاء من بعدهم عندما ظهرت الصوفية وهم لم يأتوا بعد، وكانت صوفيتهم فيها نوع من زيادة العبادة والتضرع إلى الله، فأنكر السلف المبالغتة في العبادة، كما يوجد عند أهل البصرة كـخالد بن معدان ، وكما يوجد عند مكحول وغيره في بعض تصرفاتهم واجتهاداتهم وغير ذلك، لكن أن يعبدوا الله عند القبور أو أن ينادوا القبور فهذا لم يتأتى إلا في أواخر المائة الثالثة، والله المستعان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال، ومنها التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها معرفة القبر وجوده ومضرة فقده.
قوله: ( لا تطروني )، الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
قوله: ( فقولوا: عبد الله ورسوله )، أي: صفوني بما وصفني به ربي في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، ولا تدعوا في ما ادعته النصارى في عيسى بن مريم فأبى الظالمون إلا كفوراً، وادعى بعض الضالين فيه أعظم مما ادعت النصارى في عيسى، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الاستغاثة عن بعض أهل زمانه: أنه جوز الاستغاثة بالرسول في كل ما يستغاث فيه بالله ].
يقصد شيخ الإسلام بذلك البكري حينما ألف كتابه، وزعم أن الاستغاثة إنما هي التوسل، وقال إذا قلت: يا محمد يا محمد! فكأنما تتوسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أنك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة عند الله، فإذا ناديت يا محمد! فكأنك تقول: يا محمد! قل لربك أن يشفيني، يعني: اشفع لي عند الله، أو بين يدي الله، يقول ابن تيمية : ولما ألف كتابه هذا بعثه إلى علمائه ومشايخه ولم يوافقه على ذلك أحد؛ لأن هذا مع مخالفته للشرع مخالف للغة، فإن الاستغاثة شيء والتوسل شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وصنف في ذلك مصنفاً وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب، وذكر عن آخرين أنه كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله، وأن بعضه قال في قوله: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:9]، إن الرسول هو الذي يسبح، ومنهم من قال: نحن نعبد الله ورسوله إلى غير ذلك من الكفر الصريح، فأين هؤلاء من قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188]، وقوله: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:21]، وقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] ].
أمرهم بهذا حتى لا يظنوا أن الحصاة الكبيرة أبلغ من الحصاة الصغيرة، لأن القصد ليس هو الإيجاع ولكن القصد هو الامتثال، كذلك فإن بعض الناس إذا فعل ما أمره الله سبحانه وتعالى أو أمره رسوله يقول: لا، أنا سوف أزيد؛ لأن الزيادة أرغم للشيطان، وما علمت أن الشيطان يريد أن يخل بالعبادة لأجل ألا تقبل، فيوهمه أنه على خير، والله المستعان.
كما يوجد عند بعضهم إذا فاتته الصلاة يذهب إلى الجدار فيضرب نفسه يعذبها ظاناً أن ذلك أنفع، وما علم المسكين أن ذلك لا يرضاه الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم مطلقاً وإبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به؛ وإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك. انتهى كلامه ملخصاً.
قوله: ( هلك المتنطعون ).
قال ابن الأثير : هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً.
وقال غيره: الغالون في عباداتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة ].
هؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعضهم: ( تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) وهذا يوجد حتى في زماننا، أحدهم يقول -والعياذ بالله- وأثر الطاعة على وجهه: يغضب علي أن أقول عن الشيخين: إنهما أئمة ضلال، وهذا أقل ما أقول في حقهما، يقصد بذلك شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين ، أعوذ بالله، وهو يؤلف كتباً، وتُقرأ كتبه وتعاظم في هذا الزمان، وإذا ناقشتهم قال لك: هو مجتهد، لا والله، والله إنه هو الضلال، لكن لما كان الشيخان موجودين وكانا يردان على مثل هذه الشبه عجزوا أن يمروا أقوالهم وشبههم على صغار طلاب العلم، أو على الصغار المنتسبين إلى الدين، ولكن لما مات الشيخان نسوهم؛ لأن الناس لا يستدلون بالشيخين فيما لم يدركوه، فوقع مثل ما وقع، فنسأل الله أن يعصم دينه، وأن يعصم هذه الأمة وهذا البلد من كيد الكائدين وتنطع المتنطعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قوله: ( قالها ثلاثاً ) مبالغة في التحذير والتعليم، فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب، قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة].
يعني اعتقادهم أنهم ما دعوهم إلا لأجل الشفاعة بين يدي الله، وهذا هو الشرك كما قال تعالى عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، فإذا وقع الإنسان في الكفر وأحسن ظنه بالكفر فهذا لا ينفعه، والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذي صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم )، فصلوات الله وسلامه عليه بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء ].
ومن التنطع أن ينسب لأهل العلم ما لم يقولوه، فيصفهم بالبدعة، بحجة أنه يخاف على الدين أو يخاف على أقوال السلف، ولا والله ليست هي أقوال السلف وليس هو قريباً من أقوال السلف، فيصف العلماء الربانيين بأنهم مبتدعة، لأجل أنه خالفه في مسألة من المسائل، وهذا من الغلو والتنطع في الدين، ويقول: قال أبو العباس بن تيمية : إن التبديع والتفسيق والتكفير هو لله تعالى، لا يجوز أن يلجه إلا أهل العلم الكبار، كذا قال رحمه الله.
واليوم تجد الواحد لو سألته عن بعض أحكام الطهارة من المذي والمني الذي لا يعلمها تجد أنه لا يجيب، ثم بعد ذلك يصف العلماء الربانيين بأنهم مبتدعة، والله المستعان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر