وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ) ].
الحديث رواه مسلم في صحيحه وتفرد به.
و(لا) هنا جاءت في بعض النسخ على أنها (لا) الناهية، وجاء الفعل بإثبات النون على أنها (لا) النافية، فتكون حرف نفي، وبالتالي تثبت النون، وإذا كانت لام النهي فإنها تحذف النون لأنها من الأفعال الخمسة المجزومة.
وهذا الحديث يفيد دلالة واضحة على أن إفشاء السلام من الصغير للكبير أو من الكبير في ذلك زرع للمحبة، وهذه سنة افتقدها كثير من أهل الصلاح فضلاً عن عامة الناس.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ). وكان أبو هريرة يلحق معهن: ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ). وفي حديث همام : ( يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها، وهو حين ينتهبها مؤمن ) وزاد: ( ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وهذا فيه فائدة: وهو أن يعلم الإنسان أن فعل الكبيرة يؤثر على إيمانه، فكما أن الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، وما وجد عن بعض السلف أنه أثبت زيادة الإيمان ولم يثبت نقصانه؛ لأن لفظ الزيادة ثابت في الكتاب والسنة؛ كقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فأثبتوا في الإيمان الزيادة وتوقفوا في مسألة النقصان، وروي هذا عن مالك ، ولكن هذا الخلاف الآن معدوم، واستقر منهج أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، الأدلة منها: ( ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فهذا نقصان للإيمان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين ) ].
الحديث متفق عليه.
وهو يفيد أن المؤمن لا ينبغي له أن يقع في حبائل الشيطان أكثر من مرة، فإذا كانت حبائل الشيطان قد جرته مرة عن طريق الشبكة العنكبوتية فلا ينبغي أن يأتيها مرة ثانية إذا كان مؤمناً حقاً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهو يفيد أن مجرد الوسوسة هي دلالة على وجود الإيمان، وعلى هذا فالذين يوسوسون فيقولون: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ وغير ذلك، فهذا ما جاءهم إبليس بهذا إلا لوجود الإيمان في قلوبهم، وهذه بشرى.
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت ) ].
الحديث متفق عليه من حديث أبي بكرة ومن حديث أنس بن مالك ولكن بلفظ آخر.
وهو يفيد أن الكبائر شعب كما أن الإيمان شعب، وأعظمها وأظلمها وأظلم الظلم هو الإشراك بالله سبحانه وتعالى وعقوق الوالدين، وهذا يفيد أن من عق والديه فهو على خطر عظيم والعياذ بالله.
قال المؤلف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وقوله: ( اجتنبوا السبع الموبقات ) يعني: الغليظات الشديدات، وملاحظ أنه لم يذكر عقوق الوالدين ولا شهادة الزور، والقاعدة عند أهل العلم أن العدد لا مفهوم له، يعني: ليست سبع موبقات فقط دون غيرها، فهناك غيرها من الموبقات: وهي عقوق الوالدين وشهادة الزور، والله أعلم.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: ( ويحكم، أو قال: ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ].
الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر ومن حديث جرير بن عبد الله البجلي ، وفي زياده لحديث جرير : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( استنصف الناس، ثم قال: أيها الناس! ويحكم لا ترجعوا بعدي كفاراً... ) الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ليس معناه أنه كافر إذا قتل مسلم، ولكن كما هو مذهب أهل السنة والجماعة أن معناه أن فعله فعل أهل الكفر.
عن أبي عثمان قال: لما ادعي زياد لقيت أبا بكرة فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: ( سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) فقال أبو بكرة : وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
هذا الحديث متفق عليه.
و زياد هو زياد بن أبي سفيان الذي يسمى زياد بن أبيه وذلك لأن معاوية بن أبي سفيان تبناه على أنه أخوه، وذلك أن أبا سفيان قد أتى وليدة يعني: جارية فأنجبت زياداً ، فكان معاوية رضي الله عنه ينسبه إلى أبيه لأنه ولد على فراش أبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) وكان بعض الصحابة أنكر أن تكون هذه الجارية فراشاً لـأبي سفيان وأن أبا سفيان إنما أتاها حال كفره قبل أن يسلم، وأنه كان في سفر، فأتى قريباً له أو صديقاً، فألم بهذه الجارية فحملت بـزياد ، والظن بـمعاوية رضي الله عنه هو أنه نسبه إلى أبيه على أنها فراش له، وأن هذه الجارية إما أن يكون أبو سفيان اشتراها أو أنها قد أهديت له، وهذا هو الظن.
وهو يفيد أيضاً على أن بعض المسائل قد تشكل على أهل الخير والصلاح، فهذه المسألة أشكلت على بعض الصحابة حتى أنكروا على معاوية إنكاراً شديداً، فكانوا يذكرون الأحاديث التي تدل على أن من ينتسب إلى غير أبيه فالجنة عليه حرام؛ ولهذا قال أبو بكرة : (أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالظن بـمعاوية رضي الله عنه أنه إنما نسبه عن طريق الشرع: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) والله أعلم.
عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) ].
الحديث متفق عليه، وقد ورد من حديث ابن عمر في الحديث المتفق عليه بلفظ آخر قال: ( ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) بلفظ: ( ولا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك ) هذا الحديث جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر.
المسألة الثالثة في هذا: هو أن معنى من انتسب لغير أبيه أي: وهو يعلمه، وأما إذا بنى ذلك على غلبة ظن فلا حرج في ذلك.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله عز وجل تصديقها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68] ) ].
الحديث متفق عليه.
ويفيد فائدة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد قبل أن يوحى إليه، فيوفق بتأييد أو تبيين، ولكنه لا يقر على خطأ، فإنه ربما يجتهد فيبين الله له ذلك، وعلى هذا فهذه هي العصمة، لأن عصمة الأنبياء ليس معناها أنهم لا يخطئون، ولكن معناها أنهم إن أخطئوا فلا يقرون على خطأ، هذا هو الراجح كما أشار إلى ذلك غير واحد من سلف هذه الأمة كـأبي العباس بن تيمية وغيره، وعلى هذا فعصمة الأنبياء على أنهم لا يقرون على خطأ، وإن كان قد يقع الخطأ منهم لكن قطعاً لا يقرون عليه بل يتوبون منه، كما حصل لداود عليه السلام، يقول ابن تيمية : فكان داود بإجماع المسلمين بعد الذنب أقرب عند الله منه قبل الذنب.
وقوله: ( فأنزل الله تصديقها ) دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي كان يجتهد بما يفهمه من القرآن؛ ولهذا أشار الإمام الشافعي في كتابه الرسالة: أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذها من الوحي، إما مما يفهمه من كتاب الله أو مما يأتيه جبرائيل من الوحي، والله أعلم.
عن جابر رضي الله عنه قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ) ].
الحديث رواه مسلم ، ورواه البخاري و مسلم من حديث ابن عمر في آخر اللفظ، ومن حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: ( من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار ) فقط، هذا متفق عليه، وإلا فإن الحديث رواه مسلم من حديث جابر .
قال المؤلف رحمه الله: [ عن أبي الأسود الديلي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف
هذا الحديث متفق عليه.
وهو يفيد أن من فعل كبيرة فإنه تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له إلا أن مآله إلى الجنة، وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: من دخل النار فإنه لا يخرج منها، وقد خالفوا إجماع المسلمين وإجماع أهل السنة والجماعة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله إلا دخل الجنة ) يعني: مآله إلى الجنة، إما أن يعذب ثم يدخل الجنة، وإما أن يدخل الجنة برحمة الله ومغفرته ورضوانه، وهذا دلالة على مذهب أهل السنة والجماعة.
أما الخوارج فقد خالفوا في ذلك فقالوا: إن من فعل الكبيرة فإنه كافر في الدنيا مخلد في الآخرة، وأما أهل الاعتزال فقالوا: هو فاسق في الدنيا كافر في الآخرة؛ ولهذا كان من بدع المعتزلة هذا التفريق.
وأما أهل السنة والجماعة فيرون أن الفسوق منه ما هو كفر ومنه ما هو كبيرة لا تخرج من الملة، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الماضي المتفق عليه: ( ولا يرمي رجل رجلاً بالفسوق إلا حار عليه ) والله أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس ) ].
الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهو يفيد أن التجمل ليس من الكبر.
وفيه فائدة: على أن ما ذكره بعض العلماء على أن المسبل لا بد أن يكون فيه خيلاء ليس بصحيح، فإن المسبل قد يكون فيه خيلاء وقد يكون ليس فيه خيلاء؛ ولهذا فإن بعض الناس إنما يصنع ذلك تجملاً، وعلى كلٍ فهو كله محرم، فإن كان من غير خيلاء ففي النار، وإن كان بخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة على الراجح.
وفيه فائدة: أن جمهور أهل العلم من الحنابلة والمالكية والشافعية يرون أن إسبال لإزاره من غير خيلاء مكروه، وهنا فيه إشكال؛ وذلك لأنهم قد قرروا قاعدة بإجماعهم على أنه إذا اختلف الحكمان فإنه لا يحمل المطلق على المقيد، فإذا وجد حديثان أحدهما بحكم والآخر بحكم، فلا يقال: يحمل المطلق على المقيد، وهذا بإجماع أهل العلم، نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم، كـالآمدي ، و المجد أبي البركات و غيرهم، عندنا الآن حديث: ( لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ) وهذا في حق المسبل إزاره خيلاء، فهو حكم مستقل، وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) والنار حكم آخر، فقول الجمهور يحمل هذا الحديث على هذا فيقال: إنما هو خيلاء، فيقال: كيف يحمل المطلق على المقيد وهما حكمان مختلفان.
ولهذا فالراجح الذي تطمئن إليه النفس: أن المسبل إزاره إن كان بخيلاء فإن عقوبته أغلظ، ( لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه ) وإن كان من غير خيلاء فعقوبته أنه في النار، وهذا هو الظاهر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت ) ].
وهذا عند مسلم تفرد به.
وهذا موجود إلى يومنا هذا: استنقاص الناس وازدراءهم موجود؛ ولهذا تجد أن الإنسان إذا أريد استنقاصه يستنقصونه بعلمه، فإن لم يكن فبفقره، فإن لم يكن فبانتسابه لأبيه، فإن لم يكن فبانتسابه للقبيلة، فإن لم يكن فبانتسابه للعروبة أو العجمى.
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ) ].
الحديث متفق عليه، وفي رواية للبخاري وأيضاً مسلم : ( وأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزقه وبفضل الله، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ).
والكفر هنا عند أهل السنة والجماعة كفران، فإن كان يعتقد أن تلك الأنواء والنجوم تنفع بنفسها وتضر فهذا كفر مخرج من الملة، وإن كان يظن أنها سبب لإنزال واستنزال المطر فإن القاعدة عند أهل السنة: أن جعل الشيء سبباً ولم يجعله الشارع كذلك فهو كفر أصغر، والله أعلم.
وأما من قال: مطرنا بسهيل، وهو لا يقصد أن سهيلاً سبب، ولكنه يقصد أن ذلك وقت لإنزال المطر فأتى بهذا اللفظ فإن هذا اللفظ منكر والمعنى صحيح؛ ولهذا ينبغي أن يعيد عبارته كما أشار إلى ذلك الإمام الشافعي، والله أعلم.
عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول: ( أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم )، قال منصور : قد والله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة ].
الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهو يفيد أن العبد إذا ترك مواليه فقد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ولهذا قال: فقد كفر، والحديث رواه منصور بن المعتمر عن الشعبي عن جرير مرفوعاً، لكن انظر إلى فقه منصور لما كان أهل البصرة قد انتشر الخوارج فيهم خاف عليهم من أن يروا في هذا الحديث قوة لبدعتهم كره منصور بن المعتمر أن يرويه مرفوعاً فيكون ذلك حجة لهم في كفر صاحب الكبيرة، وهذا من الفقه؛ ولهذا أنكر الحسن البصري و محمد بن سيرين على أنس بن مالك ذكره حديث العرنيين عند الحجاج بن يوسف ، والعرنيون: الذين فعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل فعلهم بالراعي، والله أعلم.
إذاً: أهل السنة والجماعة يرون أن الكفر كفران: كفر مخرج من الملة وكفر عملي ال يخرج من الملة، كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : كفر دون كفر، والحديث رواه ابن جرير الطبري.
قال المؤلف رحمه الله: [ عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
ومعنى: ( لم تقبل له صلاة ) يعني: لا يثاب عليها، وإن كانت قد برئت ذمته فلا يعاقب عليها، فمن فعل المأمور يكون له أمران: تبرأ ذمته من العقوبة ويثاب على فعلها، وأما إن أبق فإنه تبرأ ذمته من العقوبة لكنه لا يثاب عليها.
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: ألا إن آل أبي، يعني: فلاناً ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) ].
الحديث متفق عليه، وفيه زيادة عند البخاري : ( غير أن لهم رحماً أبلها ببلالها ) يعني: أني سوف أبرهم به.
وهذا يفيد أن الإنسان لا بأس أن يبر الكافر، إذا كان هذا الكافر قد أمن شره ولم يناكف أهل الإسلام، كما قال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة:8] والبر والإحسان غير التعظيم، فإننا نبرهم، يعني: نحسن إليهم ولا نظلمهم، لكن ليس معناه: أن نرفعهم فوق أهل الإسلام؛ ولهذا أنكر أهل العلم أن يعظم الكافر على المسلم، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها ) ].
الحديث رواه مسلم.
وهو يفيد فائدة وهي أن الكافر قد يعمل الشيء لله، يريد به وجه الله، لكنه كما تعلمون أن العمل لا يقبل حتى يكون فيه أمران: ابتغاء وجه الله، وعلى سنة سيد الأنام؛ ولأجل أنه فعل لله فإن الله سبحانه وتعالى يجزيه في الدنيا بثناء الناس عليه، كما يحصل للكافر أحياناً حينما ينفع البشرية فإن جزاءه في الدنيا فقط، وهي ما يطعم بها بحسنات من الثناء، كما يحصل لبعض الكفرة الذين ربما نفعوا البشرية بشيء، فإن ذلك جزاؤهم في الدنيا، أما في الآخرة فإن ذلك لا ينفعهم، إلا أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عندما قالت عائشة : ( يا رسول الله!
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقول: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق ).
حدثني يحيى بن أيوب و قتيبة بن سعيد جميعاً عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه عن طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نحو حديث مالك ، غير أنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق ) ].
الحديث متفق عليه دون زيادة: ( أفلح وأبيه ) والحديث رواه مسلم في صحيحه، وقد تكلم الحفاظ على قوله: ( أفلح وأبيه إن صدق )، فقال بعضهم: إن هذا منسوخ، وأنه في أول الإسلام جائز ولكنه نسخ، وهذا القول ليس بشيء، وإن قواه بعض الفضلاء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتفوه بكلام قبيح، فإن بعضهم عندما قال: منسوخ، يقصد أنه نوع من الشرك، ( أفلح وأبيه ) لأنه حلف بغير الله، فيبعد أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم يتلفظ بلفظ الشرك القولي، فهذا بعيد كل البعد، وعلى هذا فالقول بأنه منسوخ ليس بصحيح.
وأحسن الأقوال قولان:
القول الأول: إن هذه الزيادة منكرة شاذة، ولهذا أنكرها البخاري رحمه الله، ومن المعلوم أن هذا الأعرابي إنما جاء مرة واحدة، فكون البخاري لم يذكرها دليل على أن أحدهما أصاب، والذي يظهر والله أعلم أن البخاري هو الذي أصاب.
المعنى الثاني: أن قوله: ( أفلح وأبيه إن صدق ) ليست بيمين، وليست بمعنى اليمين، وأن هذه لغة من لغات العرب يقصدون بها التأكيد ليس إلا، ومما يدل على أن هذا من لغة العرب التي يقصد بها التأكيد وليس اليمين: أن الإمام أحمد رحمه الله روى عن أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حينما رأى الحسن قال: بأبه أنه لشبه بأبيه، وقوله: بأبه هل هذا يمين؟ بعيد أن يكون أبو بكر يحلف بغير الله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن هذه لغة من لغات العرب كانت معروفة بالتأكيد، كما يقولون: تربت يمينك، أو ثكلتك أمك، فإن هذه ليست على ظاهرها، والله أعلم.
وعلى هذا فالحديث الأقرب أن فيه نكارة، وإن صحت أو ضعفت فليست بيمين، والله أعلم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج )، فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
الحديث متفق عليه.
وهو يفيد أن بعض الصحابة كان يذكر الحديث بلفظه كـابن عمر و أنس كان يقول: أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث متفق عليه.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) ].
يعني: أن كثرة إطعام الطعام من محاسن الإسلام؛ ولهذا قالوا: من التقوى الشجاعة في الحق، والكرم في الجود، والطاعة في السر، وكف اللسان عن الفحش.
عن ابن شماسة المهري قال: ( حضرنا
الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهو يفيد أنه ينبغي لمن حضر الميت أن يذكره بمحاسنه حتى يعظم رجاؤه بالله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يموت أحدكم إلا وهو محسن بالله الظن ).
وفيه دلالة على أن من الصحابة من يجتهد، فإن عمرو بن العاص حينما قال: ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. هذا اجتهاد من عمرو بن العاص لم يوافقه الصحابة عليه، والله أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) ].
الحديث متفق عليه.
وهو كما مر معنا: أنه كفر عملي وليس اعتقادياً.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام ) ].
الحديث متفق عليه.
وهو على ظاهره: أن الذي أسلم وهو ما زال على عمل محرم أن الله يؤاخذه على عمله سواء كان قبل الإسلام أو بعده.
حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله)].
وأما قوله: ( قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به ) فهذا من مفردات مسلم .
وأما قوله: قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها ) رواها البخاري و مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ومن حديث أبي هريرة . (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله) متفق عليه من حديث أبي سعيد ومن حديث أبي هريرة.
الحديث متفق عليه.
وهو يفيد أن ما يضمره الإنسان في نفسه ويقع في خلجة قلبه لا يؤاخذه الله، ولكن إذا كان ذلك بعزيمة وإصرار فإنه يؤاخذ؛ لأنه كما تعلمون فيه قوة الإرادة وقوة الفعل، وهذا يحصل بالفعل، فإذا وجدت قوة الإرادة وعجز الإنسان عن الفعل مع تمنيه، فإنه يؤاخذ أو يؤجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا حسد إلا في اثنتين ) وقال: ( ورجل تمنى أن له مالاً، فيقول: لو أن عندي من المال لعملت بها كذا وكذا فهما في الأجر سواء ) فإذا كانت الإرادة قوية عازمة فإنه يؤاخذ أو يؤجر، وأما إذا خطر هذا الأمر فإنه لا يؤاخذ على ذلك بإذن الله، وأما الحسنة فإنه يؤجر على وجود الخاطر بالحسنة، إذا هم بالحسنة فإنه يؤجر، وإذا هم بالسيئة لينظر في ذلك، فإن كان هذا الهم عزم وإصرار فإنه يؤاخذ وإن كان خاطراً فإنه لا يؤاخذ، والله أعلم.
عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أي رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير ) ].
الحديث متفق عليه.
عن حذيفة رضي الله عنه قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة، قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا )، قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً ].
الحديث متفق عليه.
وقول حذيفة : (لا يصلي إلا سراً). هذا في بني أمية حينما كانوا يؤخرون الصلاة، ويخنقونها إذا شرق الموتى، فقال صلى الله عليه وسلم: ( صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل تكن لك نافلة )، فكان بنو أمية يؤخرون الصلاة، فكان بعض الصحابة يصلي وحده سراً، والله أعلم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها ) ].
الحديث رواه مسلم ، ورواه البخاري و مسلم بلفظ من حديث أبي هريرة : ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها )، هذا متفق عليه، وأما ( الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) فهذا رواه مسلم من حديث ابن عمر .
عن عروة بن الزبير : أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها قالت: ( كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى
الحديث متفق عليه، وفيه بعض الزيادات وخروج بعض، لكن الذي فيه فائدة من هذا الحديث:
قوله: (وهو التعبد الليالي أولات العدد) وهذا يسميه العلماء المدرج في المتن، وهو من كلام الزهري والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ عن يحيى يقول: سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، فقلت: أو (اقرأ)؟ فقال: سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، فقلت: أو (اقرأ)؟ قال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحداً، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحداً، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء، يعني: جبريل عليه السلام فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت
هذا الحديث متفق عليه، وقوله: (أي القرآن أنزل قبل)؟ يقصد بذلك الآية التي تبين النذارة، والنذارة إخبار القوم، وإلا فإن جابراً يعلم؛ ولهذا هو الذي ذكر: ( فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً بين السماء والأرض ) فهذا يفيد -(أي القرآن نزل قبل) يعني آية: الإخبار- وجوب الإخبار؛ ولهذا آية: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1] لا تفيد إلا نزول الوحي عليه، وأما يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] فإنها تفيد وجوب النذارة لقومه: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ].
يعني أكثر ما كان الوحي يأتيه قبل وفاته عليه الصلاة السلام، والحديث متفق عليه.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم و يحيى بن زكريا صلوات الله عليهما، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57] ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك. فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب! خفف على أمتي فحط عني خمساً. فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً. قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ) ].
والحديث رواه مسلم في صحيحه، ويفيد رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته عليه الصلاة السلام.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: أي واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق. فقال: كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فذكر من لونه وشعره شيئاً لم يحفظه داود واضعاً إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية ماراً بهذا الوادي، قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: هرشى أو لفت، فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خلبة ماراً بهذا الوادي ملبياً )]. الحديث رواه مسلم .
قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل حسبته قال: مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة، قال: ولقيت عيسى، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني حماماً، قال: ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه وأنا أشبه ولده به، قال: فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته، فقال: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك )].
الحديث متفق عليه.
وقوله: (حين أسري بي لقيت موسى) فإنما لقيهم بأرواحهم وأجساد خلقها الله سبحانه وتعالى لهم؛ وذلك لأن أجسادهم كانت في الأرض، وهذا هو الراجح والله أعلم، فليست أجسادهم هي تلك؛ لأن أجسادهم في الأرض، ولكن تلك هي أرواحهم، فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم بصورتهم التي خلقهم الله عليها، وليست هي الأجساد الحقيقية، والله أعلم.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال، فقال: إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية )، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أراني الليلة في المنام عند الكعبة فإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر، يقطر رأسه ماءً، واضعاً يديه على منكبي رجلين وهو بينهما يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح ابن مريم، ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت من الناس بـ
الحديث متفق عليه.
ومن المعلوم أن رؤى الأنبياء حق، فكيف يكون المسيح الدجال يطوف في البيت وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل مكة والمدينة؟
الجواب على هذا، من عدة أوجه:
أولاً: يظهر أن المسيح الدجال ربما يدخل البيت ولكن قبل ظهور فتنته، هذا قول.
ثانياً: أن رؤى الأنبياء حق بلا شك، لكن ليس ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم تكون كلها كفلق الصبح كأنه يراه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ورأيت بقراً تبقر، فأولت أصحابي )، فهذا معلوم أن الصحابة ليسوا هم البقر، فهذا هو الظاهر في هذا، وعلى هذا فرؤية المسيح الدجال يطوف بالبيت ليس معناه أنه سوف يدخل الكعبة أو أنه يطوف، ولكن هذا من باب الرؤى، والرؤى لها أمارات وأقيسة، والله أعلم.
ومعنى ( رؤى الأنبياء حق )، يعني: الرؤيا حق بالتفسير الذي هو حق، وليس دائماً يكون رؤى النبي صلى الله عليه وسلم على ما هي على ظاهرها، فهذا لا يلزم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً
قوله: (ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء) إلى نهاية الحديث هذا رواه مسلم ، وأما أول الحديث فإنما رواه البخاري و مسلم من حديث جابر . والله أعلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، قال: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم:16] قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات ) ].
الحديث رواه مسلم في صحيحه، وجاء في بعض الروايات: أن سدرة المنتهى في السماء السابعة، ولعل هذا أظهر، وأما رواية السادسة: فإما أن تحمل على الوهم، وإما أن تحمل على أن أصلها في السادسة وخيرها في السابعة، كما قال بعض العلماء، والعلم عند ربي والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر