الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: عشر من الفطرة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء ). قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وزاد قتيبة : قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء ].
هذا الحديث ( عشر من الفطرة ) استدل به بعض أهل العلم على أن هذه الأشياء المذكورة سنة، واستدرك عليهم بأن اللحية لم يحفظ في القرون المفضلة لا عن الصحابة ولا عن التابعين أنهم قالوا: إن حلقها ليس بحرام؛ فالمحفوظ عند أصحاب المذاهب الأربعة أن حلقها محرم وليس بكبيرة؛ لأنه لم يختم عليها بلعنة ولا غضب ولا نار، وهذا الحديث مما تكلم به على الإمام مسلم ، فقد ضعفه الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وإن كان الأقرب ما قاله أحمد أن هذا الحديث فيه نكارة، وأحسن منه الحديث الذي قبله، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( الفطرة خمس ).
وقد سبق أن قلنا: إن الفطرة هي ما يجبل عليه الإنسان مما يرضاه الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه، وعلى هذا فالفطرة منها ما يكون مما أوجبه الله على عباده، ومنها ما شرعه واستحبه لعباده، فليست الفطرة على الوجوب دائماً ولا على الاستحباب دائماً، مثل السواك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى ظننت أنه سيوجب على أمتي )، والحديث تكلم في إسناده، لكن الشاهد من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على السواك والله أعلم.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر ) ].
هذا الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ورواه الإمام مسلم موصولاً.
المسألة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك باليمين، واستدل بعض أهل العلم على أفضيلة التسوك باليد اليمنى، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أراني أتسوك بسواك فدفعته ) فالفاء للتعقيب، فقطعاً أن الأخذ والعطاء إنما يكون باليمين، فكان يتسوك باليمين، وهذا ليس بظاهر، وذهب أبو العباس بن تيمية ونسبه إلى جمهور أهل العلم إلى أن السواك يكون باليسار.
وذهب الإمام مالك إلى أن الأمر في ذلك على السعة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك إن كان قصد به التنظف فيكون باليسار، وإن كان قصد به البركة فيكون باليمين، والأقرب في هذا كله هو كما قلنا مراراً وتكراراً في هذه القاعدة أن كل ما ثبتت مشروعيته ولم يتبين لنا صفته دل على أن أي صفة تفيد وتؤيد فعل المشروعية فهي جائزة. والله أعلم.
ولم أجد في هذه المسألة أصلاً في أيهما يقدم إلا ما جاء عن محمد بن نصر المروزي و إسحاق بن راهويه فكانا قد تدافعا عند الباب، فقال إسحاق لـمحمد بن نصر تقدم قال: أنت تقدم، فقال إسحاق : أنت أكبر، قال: إن كنت أكبر سناً فأنت أكبر علماً، فتقدم إسحاق . هذه وجدتها في ذكر سيرة محمد بن نصر المروزي والذي يظهر لي والله أعلم أنه يبدأ بالكبير أو باليمين، وأما إذا تساوى الناس فينظر كما ذكر ذلك بعض فقهاء الشافعية، إن كان المدخول إليه فضيلة فلا يستحب التدافع في القرب؛ لأن هذا من باب الإيثار بالقرب فيتقدم الإنسان لأن دخوله أفضل إلا لمصلحة، إذا كان تقديم الشخص إلى ما هو خير من باب مصلحة لا بأس مثل تقديم الصف الأول وغيره. والله أعلم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى ).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة ) ].
حديث ابن عمر جاء بألفاظ عدة، واللفظ المتفق عليه هو لفظ: ( أحفوا الشوارب ووفروا اللحى ) والحديث متفق عليه، وحديث أنس عند مسلم.
فإن قال قائل: ما حكم حلق اللحى في هذا الحديث؟ فالجواب محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها فقال: ( أعفوا اللحى ).
فإن قيل: إذا كان هذا على سبيل الوجوب، فلماذا قلتم بأن قص الشارب مستحب -خلافاً لما نقله ابن حزم أنه واجب- والدليل واحد.
وأحسن ما يقال في هذا أن هذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران تنقسم إلى قسمين: فإن ذكر العامل في كل جملة دل ذلك على أن كل جملة على حدة ولها حكمها الخاص وهنا الحديث ( وفروا اللحى وأعفوا الشوارب ) أعفوا عامل، ووفروا عامل آخر، فلا يقال بدلالة الاقتران في هذا الموضع، كما قال الله تعالى في سورة الأنعام: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] فقال كلوا والأكل مباح وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] وهذا واجب، فقالوا: إذا وجد العامل في كل جملة دل تشكل الآية على أن كل جملة على حدة، وأما إذا كان العامل واحد وعطف بعضها على بعض دل على أنه لا فرق في الحكم، وقد استدل العلماء على ذلك بحديث ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) وهذا التفصيل من كلام ابن القيم رحمه الله.
هذه هي دلالة الاقتران، فيقال هنا: إن الشارع قال: ( وفروا اللحى وأعفوا الشوارب )، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخل بتوفير اللحى، أما قص الشارب فإنه جاءت السنة فيه كثيرة.
ومن الأجوبة التي هي من الفقه أن يقال: إن هذا مبني على مخالفة المشركين، ومخالفة المشركين إن كانت المخالفة من باب الترك دل على أن مقصود المخالفة الاستحباب، وإن كانت المخالفة جاءت من باب الفعل دل على التحريم، فالأصل أن الإعفاء الترك، فإذا فعل خالف الشرع ووافق المشركين، فصار الفعل موافقة للمشركين، وليس الترك هو الموافقة، فإذا كان الفعل هو الموافقة للمشركين دل على الحرمة، وأما إذا كان الترك موافق للمشركين فإن ذلك على الاستحباب، مثاله: قص الشارب، ومثاله كذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )؛ لأن الشيب فطرة خلق عليها البشر، واليهود والنصارى لا يصبغون، إذاً: هم تركوا فإذا تركنا شابهناهم فدل ذلك على أن الترك يدل على أن موافقتهم غير مستحبة، وأن المخالفة هي المستحبة.
وهذه تعطينا مسائل كثيرة، إن اليهود والنصارى لا يصلون بنعالهم فخالفوهم، هذا من الترك؛ لأنهم يتركون فلا يصلون، أنتم صلوا فنحن تركنا، وعلى هذا فقس، وهي قاعدة حسنة جميلة، والله أعلم.
ذكرت أربعة أمثلة، إذا وافقناهم في الترك فإن ذلك خلاف السنة، وإن خالفناهم فإن ذلك سنة، وإذا وافقناهم في الفعل دل على أن الموافقة محرمة والمخالفة واجبة، انظر حديث: ( قال: يا رسول الله! إن هذا يوم تصومه اليهود، قال: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ) وافقناهم في العبادة فإذا تركنا فهذا هو الأصل، فصار مخالفة لهم في الفعل وليس بالترك، فإذا تركنا هم يتركون، فدل ذلك على أن الاستحباب المخالفة بالصفة مثل هذه القاعدة، والله أعلم.
وأما حديث أنس فقد ذكر النووي أن مذهب عامة أهل العلم أنه لا يترك فوق الأربعين، فإن ترك فإن ذلك مكروه، وذهب بعضهم إلى التحريم، وهو قول للظاهرية، وشيخنا عبد العزيز بن باز مرة قال بالتحريم، والذي يظهر والله أعلم أن ما زاد عن الأربعين فهو خلاف السنة، والدليل على هذا أن ما زاد عن الأربعين يكثر، والكثرة والقلة يحصل فيها مخالفة المأمور، فدل ذلك على أن ما زاد على أربعين من باب الاستحباب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (حلق العانة)، فإذا طالت فإنه خالف الأمر، فسواء زاد على الأربعين أو كان قبل الأربعين كله مخالفة للمأمور فدل ذلك على أن الأربعين من باب الكراهة ليس إلا، والله أعلم.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه! مه! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه ) ].
هذا الحديث اللفظ لـمسلم وهو متفق عليه بدون قوله: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن )، هذا تفرد به مسلم ، ورواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ).
وهذا الحديث استدل به أهل العلم على قاعدة وهي: أنه إذا تعارضت مفسدتان قدم أدناهما؛ فإن هذا الأعرابي بال في المسجد والبول في المسجد مفسدة، وقطع بوله قبل استكماله مفسدة، فإذا تعارضت مفسدتان قدم أدناهما، والأدنى هنا إبقاء البول؛ لأنه حاصل من أول التبول.
واستدل أهل العلم أيضاً بهذا الحديث على أنه يجب صيانة المسجد من كل ما يؤذي بني آدم إذ أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فلا يجوز وضع القذر ولا النجاسة ولا أي شيء.
واستدل أهل العلم أيضاً على أن الذكر في المسجد أفضل من الذكر خارج المسجد بقوله: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن )، واستدلوا أيضاً به على أن الصلاة في المساجد أفضل من الصلاة في غيرها، وهذا محل إجماع، وكذلك قراءة القرآن، وعلى هذا فمراجعة القرآن في المسجد أفضل من مراجعته خارج المسجد، وهذا يخفى على كثير من الناس خاصة في رمضان.
ومن المسائل أيضاً حسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة إنكار المنكر صلوات ربي وسلامه عليه، والله أعلم.
عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: ( أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، قال
الحديث متفق عليه، وجاء من حديث أم عطية ومن حديث عائشة ( أنه كان يؤتى بالصبيان فيدعو لهم، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال عليه )، هذا حديث عائشة.
واستدل أهل العلم بهذا على أن الصبي إنما كان ذكراً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي السمح : ( يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية ) وهذا هو مذهب عامة أهل العلم من الشافعية والمالكية والحنابلة وبعض الحنفية، وهو قول ابن حزم إلا أنه رحمه الله كعادته على ظاهريته يقول: ( يرش من بول الغلام ) قال: الغلام هو من لم يبلغ، فإذا بال من لم يبلغ فإنه يرش منه حتى يبلغ؛ لأن الغلام لا يطلق في العربية إلا على من لم يبلغ، وهذا على ظاهريته، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الغلام من لم يأكل الطعام أصلاً؛ ولهذا قالت عائشة : ( أتي بصبي يحنكه فبال عليه ) يعني: لم يكن قد أكل.
وهناك مذهب ثالث وهو أنه ( لم يأكل ) يعني: لم يكن يتلهف للطعام، وليس هو الأصل، أما أن يحنك أو يطعم ويتلمظه وإن كان لا يتلهف له فالأصل أنه ما زال الحليب هو الأصل، فإنه يرش من بول الغلام وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وأما قول ابن حزم فضعيف، واستدل العلماء على ضعفه بما جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: ( فأحمل أنا وغلام نحوي أداوة من ماء وعنزة فيتوضأ بالماء ويصلي إلى العنزة ) قالوا: إن الغلام هذا بالغ وهو من بني الأنصار، كما أشار إلى ذلك بعض أهل العلم. وعلى كل حال قول ابن حزم ضعيف، وأصحها هو القول الثالث أنه ( لم يأكل الطعام )، يعني: لم يكن الطعام هو الأصل، وبالمناسبة الصبي أحياناً يعطى سيريلاك بالقمح وهو نوع من الطعام غير الحليب، فإذا كان يشرب السيريلاك ويتلهفه وينتظره فإن هذا يكون قد انتقل من الحليب إلى الطعام.
عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: ( كنت نازلاً على
الحديث عند مسلم.
مذهب جمهور أهل العلم أن الصحيح في المني أنه طاهر؛ لأن عائشة تقول: ( أحكه يابساً بظفري وكان يصلي فيه )، فلو كان نجساً لأمر بإزالة أجزائه، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية وإن كان مالك يرى وجوب حكه وإزالته، وأن ذلك من باب التخفيف، والراجح هو أنه ولو لم يحكه فإنه يجوز.
وبعضهم يقول: إنه يخفف إذا أزيل بيبسه، والراجح أنه مهما بلغ فإنه يبقى شيء من أجزائه، والراجح أنه طاهر؛ لما جاء من حديث ابن عباس : ( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تميطه عنك بأذخرة ) والحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عباس كذا رواه ابن خزيمة و البيهقي و الدارقطني .
عن أسماء رضي الله عنها قالت: ( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه ) ].
الحديث متفق عليه.
واستدل أهل العلم به على أن الدم نجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإزالته، ويعفى عن يسير الدم سواء كان دم الحيض أم دم النجاسة، وهذا قول عامة أهل العلم.
واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا رأت فيه دماً نصعته بريقها ثم قرصته ثم صلت فيه ) وقولها: ( قصعته بريقها، ثم قرصته ) مجرد هذا الفعل لا تزول به النجاسة فدل ذلك على أن هذا من باب اليسير، وهذا هو مذهب جمهور الصحابة، وهو قول عائشة وقول ابن عمر، والله أعلم.
وأما نجاسة الدم فالراجح أن الدم المسفوح نجس وهو كل ما خرج من حيوان مع بقاء حياته، فالذي يخرج من الإصبع يسمى الدم المسفوح؛ لأنه خرج من حيوان مع بقاء حياته، هذا الذي أشار إليه القرطبي في جامعه، والله أعلم، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، وروي عن أحمد أنه قال: نجاسة الدم مجمع عليها، ونقل الإجماع أيضاً بعض المالكية وخالف في ذلك المتأخرون، والصواب أن الدم نجس ويعفى عن يسيره.
عن عبد الله بن عمر أنه قال: ( كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال
هذا الحديث متفق عليه، وهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحب موافقة أهل الكتاب بعد الهجرة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وهو يدل أيضاً على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الإتيان إلى الصلاة، ثم قول عمر رضي الله عنه: (ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟) قالوا: إن ذلك إنما هي رؤيا رآها عمر ، وأن ابن عمر اختصر ذلك، وقد جاء عند الترمذي و أحمد وغيرهما في قصة عبد الله بن عبد ربه حينما رأى الرؤيا فقال: ( اذهب إلى
عن أبي محذورة : ( أن نبي الله علمه هذا الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة (مرتين) حي على الفلاح (مرتين) -زاد
هذا يسمى أذان أبي محذورة وهو الأذان الذي فيه الترجيع بأن يكبر أربعاً ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله (مرتين) بحيث يسمع نفسه ومن بجانبه، ثم بعد ذلك يرجع فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله بصوت مرتفع (مرتين)، أشهد أن محمداً رسول الله بصوت مرتفع (مرتين)، وهذا يسمى الترجيع، ثم يؤذن الأذان الباقي، فيكون كما جاء عند أهل السنن من حديث أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان وهو تسع عشرة جملة، والإقامة سبع عشرة جملة، وإقامة أبي محذورة هو أذان بلال ، زاد عليه الإقامة قد قامت الصلاة (مرتين)، أما أذان بلال خمس عشرة جملة، وإذا قيل: قد قامت الصلاة (مرتين) صار سبع عشرة جملة.
واختلف العلماء أي الأذانين أفضل؟ وقد ذكر ابن رجب هذه المسألة في القاعدة الثانية عشرة، وهي أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة، هل يختار واحدة منها على أنه الأفضل ويجوز الباقي كما هو مذهب أحمد في المشهور عنه، أم أن الأفضل هو أن تفعل هذا مرة وهذا مرة كما هو اختيار ابن تيمية لأن ذلك هو الأقرب لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ألا يعتاد الإنسان على ذكر مشروع فيذهب من عبادة إلى عادة، ولأجل وجود الخشوع، وهذا هو الأقرب، وذهب ابن هبيرة إلى أن الأفضل الجمع بينهما إذا أمكن مثل دعاء الاستفتاح.
والصحيح أن هذا جاء في حديث عند البيهقي ولكنه حديث ضعيف، والراجح هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
وأما أذان بلال فإن الإمام أحمد اختاره وكذا أبو حنيفة ، واختار الشافعي أذان أبي محذورة ، واختار الإمام أحمد و الشافعي إقامة بلال ، واختار أبو حنيفة إقامة أبي محذورة ، وسمعت بعض طلبة العلم يقول: من أذن أذان بلال فإنه يجب أن يقيم بإقامة بلال ، ومن أذن أذان أبي محذورة فإنه يجب أن يقيم بإقامة أبي محذورة ، وهذا قول لا يعرف، فإن أبا حنيفة اختار خلاف ذلك، و الشافعي اختار خلاف ذلك، وهذا لا بأس به، لم أقل مالكاً لأن مالكاً يرى أذان أبي محذورة فقط، لكن لا يقول التكبير إلا مرتين، ويرى إقامة بلال لكنه لا يرى التكبير إلا مرة، فيقول: الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر لا إله إلا الله فيكون بهذا تسع جمل، وأما المشهور (أمر
وأذان أبي محذورة قد اختلف العلماء فيه في عدد التكبير هل هو أربع أم مرتان بسبب هذه الرواية، فقد زاد إسحاق بن إبراهيم : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فرواه بالتكبير مرتين مرتين، وخالفه بعضهم فقال: التكبير أربعاً بدليل حديث: ( علمه الأذان تسع عشرة جملة ).
والفرق بين أذان بلال وأذان أبي محذورة أن أذان أبي محذورة أشهد أن لا إله إلا الله (مرتين)، أشهد أن محمداً رسول الله (مرتين) بصوت منخفض.
أما أذان بلال فلا يوجد فيه هذا، ليس فيه إلا أشهد أن لا إله إلا الله (مرتين) بصوت مرتفع.
عن أنس رضي الله عنه قال: ( أمر
هذا حديث متفق عليه.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المقصود على سبيل الأعم، وإلا فإن التكبير كان يقال أربع، فخفض إلى مرتين، وذهب مالك إلى أن ( أمر
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان
هذا الحديث متفق عليه.
وكان ابن أم مكتوم يؤذن الأذان في الفجر وإذا غاب بلال ، وإذا سافر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد يؤم نيابة عنه في الصلاة، والله أعلم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان
وهذا يفيد أن الأعمى إذا كان عالماً بالوقت، أو عنده من يخبره بالوقت فلا حرج أن يؤذن، وكان لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار فنظروا فإذا هو راعي معزى ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
واستدل به بعض أهل العلم على أنه لا يجب متابعة المؤذن؛ لأن الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتابعه؛ لأنه لو تابعه لنقل، فنقلوا لنا قوله: ( خرجت من النار ) ولم يتابعه صلى الله عليه وسلم، ويكون حديث: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ) كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد ، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن ذلك على سبيل الاستحباب وهو الراجح.
[ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول له: اذكر كذا واذكر كذا لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وفيه زيادة: ( فإن لم يدر أحدكم كم صلى أثلاثاً أم أربعاً فليسجد سجدتين وهو جالس )، هذا الحديث استدل أهل العلم به على أنه لا يستحب للإنسان إذا أذن المؤذن أن يخرج حتى لا يشابه الشيطان، واستدل أهل العلم به أيضاً على أن الإنسان إذا خاف شيئاً بحيث إذا ذهب إلى مكان خافه من الجن أو غيرهم فإنه يؤذن فإن الأذان يطرد الشيطان، وقد روى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: إنهم كانوا يؤذنون إذا نزلوا منزلاً، وهذه سنة تخفى على كثير من الناس، ولا يحفظون في هذا الباب إلا: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) وكذلك الأذان.
عن عيسى بن طلحة قال: ( كنت عند
استدل بعض أهل العلم -وهم الحنابلة والشافعية- بهذا الحديث على أن الأذان أفضل من الإمامة، وذهب أبو حنيفة و مالك إلى أن الإمامة أفضل، والصحيح أن ذكر الثواب لا يلزم الأفضلية، والذي يظهر لي والله أعلم أن الإمامة من حيث هي أفضل، وأما من حيث المكلف فإنما هو على حسب، حاله والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر