الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: إتيان مسجد قباء والصلاة فيه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين ) ].
هذا الحديث متفق عليه، رواه البخاري و مسلم بنفس اللفظ.
أن يشد الرحال لبقعة، وأن يكون بقصد العبادة، فلو شد الرحال لبقعة لا للعبادة مثل أن يزور بيت فلان أو استراحة فلان أو مكان فلان فلا بأس؛ لأنه شد الرحال بلا عبادة، فلا بد أن تجتمع صفتان، شد الرحال لبقعة بقصد التعبد، وقد جاء عند الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان كعمرة )، وهذا إسناد جيد، وهذا يفيد أن إتيان قباء فيه عبادة وفضيلة.
عن محمود بن لبيد ( أن
هذا الحديث متفق عليه، وفيه زيادة: ( أراد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التوسعة المعروفة: التوسعة العثمانية، وكره ذلك الصحابة فأحبوا أن يدعه مثل ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و
فـعثمان لم يبن مسجداً إنما وسع المسجد، فجعل التوسعة بمثابة البناء.
أما إدخال قبر رسول الله في المسجد فإنه ليس عثمان الذي فعله وإنما الذي أدخله الوليد .
وهناك زيادة ( ولو كمفحص قطاة ) هذه الزيادة رواها البزار وحسن إسنادها بعض المتأخرين، ومنهم الحافظ ابن حجر ، والحديث قابل، لكن يشكل عليه أن الزيادات مثل هذه في كتب البزار وغيرها إلى الضعف أقرب، فكتاب البزار المسمى البحر الزخار الذي جمعه وقصد به بيان روايات الغرائب، والغالب أن الأحاديث الحسنة فيها إذا لم يرد أصلها في البخاري و مسلم ، وأما الزيادات على البخاري و مسلم فالغالب فيها النكارة، والله أعلم.
ومثله المعاجم الثلاثة للطبراني .
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ( كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان! لو أنك اشتريت حماراً يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض، قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم، قال: فحملت به حملاً حتى أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: فدعاه فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك ما احتسبت ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهذا يفيد أن الإنسان إذا احتسب الشيء يؤجر على نيته، وإن لم يحتسب فلا يؤجر، وهذا إذا كان هذا الفعل ليس مقصوداً بذاته إنما هو وسيلة، مثل النوم إن احتسب الأجر بحيث أن يتقوى على العبادة أجر على نومه، وإلا فلا.
و أبي رضي الله عنه وقع في نفسه خشية أن يفهم الصحابة أنه لا يحب قرب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان ربما يريد الخير لكنه لا يحسن التعبير عنه، فيساء به الظن بسبب عباراته، وهذا كثير، وإن كان هذا ليس عيباً في حق السامع، كما قلنا في قصة مالك بن الدخشم : ( ودّوا أنه دعا عليه فهلك، ودّوا أنه أصابه شر )؛ وذلك لأنه يجلس كثيراً مع المنافقين، فوقع في نفس الصحابة منه ما وقع، وإن كان هو من أهل بدر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهذا الحديث والذي قبله فيهما فضل المشي إلى بيت الله، وقد جاء عند أهل السنن: ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، وهذا يدل على فضل المشي إلى الصلاة، وعلى أن المشي أفضل من الركوب، لكن هل يدل على أن إتيان المساجد البعيدة أفضل من إتيان المساجد القريبة؟ مثل لو كان مسجد قريب لك، ومسجد بعيد عنك، فهل الأفضل أن تذهب إلى البعيد لأجل أن تحصل على الأجر؟ وهذا الكلام فيه من جهات عدة منها:
أولاً: إتيان المسجد البعيد فيه أفضلية كثرة الخطا، وإتيان المسجد القريب فيه أفضلية القرب من الإمام.
ثانياً: أن الملائكة تصلي على من يحضر المسجد وتقول: ( اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، اللهم ارحمه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه )، وهذا إنما يكون في المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له ).
وأما من خرج فإنه جاء في رواية أو في حديث كعب بن عجرة : ( فلا يشبك بين أصابعه فإنه في صلاة ) إلا أن الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، وهي ثلاثة أحاديث: حديث أبي هريرة حديث كعب بن عجرة حديث أبي سعيد وكلها أشار البخاري إلى ضعفها، كذلك ابن رجب رحمه الله؛ ولهذا أقول: إن إتيان المسجد القريب لأجل القرب من الإمام ولأجل الصلاة من الملائكة لعله يكون أفضل، والله أعلم.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: ( بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع جلبة فقال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا ) ].
الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أبي قتادة ، وروياه من حديث أبي هريرة بلفظ: ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا ).
وهذا يدل على فضيلة السكينة في المشي إلى المساجد.
عن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: ( قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً ) ].
هذا الحديث رواه مسلم .
وهذا يفيد أنه لا يجوز للمرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تمس طيباً، فلما منعت من مس الطيب عند الذهاب إلى المساجد ففي غيرها من باب أولى، والله أعلم.
عن عمرة بنت عبد الرحمن : ( أنها سمعت
هذا الحديث متفق عليه.
وهذا يفيد أن الحكم الشرعي لا يمكن أن يكون سبباً لوقوع الفتن؛ ولهذا قالت عائشة : ( لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المسجد )، فدل ذلك على أن: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) إذا لم يكن هناك محظور في أصله، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها فهمت الحكم الشرعي حين صدوره إذا لم يقع فيه فتنة، والله أعلم.
ولا ينبغي التوسع بدعوى الفتن لإسقاط الأحكام الشرعية، والله أعلم.
عن أبي حميد أو عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
والقاعدة: أنه إذا جاء لفظ الصلاة فإنه من باب الاختصار أن يقال الصلاة، وإلا فهو الصلاة والسلام، يقول: اللهم صل وسلم على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج يقول: اللهم صل وسلم على رسول الله، اللهم إني أسألك من فضلك، فالراجح أنه لا يصح في التسمية عند دخول المسجد حديث، والله أعلم.
وأما الخروج فإنه يقول: ( اللهم إني أسألك من فضلك )، وهذا أصح شيء في الباب فقط.
وأما المصلى فليس فيه أفضلية المسجد وكذا البيت والشارع، بعضهم يقول: الشارع من الأسواق، لكن أنا أقول: لم يثبت فيه تقديم اليمين أو تقديم اليسار، كل شيء سواء.
المرتبة الأولى: أن يصرح بالتحديث في المغازي، فهو ثقة حجة.
المرتبة الثانية: أن لا يصرح بالتحديث في المغازي، فالأصل في حديثه في المغازي مقبول ولو لم يصرح بالسماع.
المرتبة الثالثة: أن يصرح بالسماع في أحاديث الأحكام ولم يخالف، فالأصل أنه حسن الحديث.
المرتبة الرابعة: أن يصرح بالتحديث في أحاديث الأحكام ويخالف، فالأصل أنها شاذة.
المرتبة الخامسة: أن يروي أحاديث الأحكام ولا يصرح بالسماع ولا يخالف، فهذا الأصل فيه أنه يتوقف في حاله.
المرتبة السادسة: أن يروي أحاديث الأحكام ولا يصرح بالسماع ويخالف، فهذا يرد حديثه.
هذه هي مراتب رواية محمد بن إسحاق .
أما غيره ممن وصف بالتدليس من المتأخرين فالأصل أنه يقبل، مثل ابن جريج رحمه الله، فهذا وإن وصف بالتدليس فإن الأقرب أنه يقبل حديثه إلا أن يأتي بما ينكر، وكذلك مثل قتادة وغيرهم، والله أعلم.
عن أبي قتادة رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس، قال: فجلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قال: فقلت: يا رسول الله! رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ) ].
هذا الحديث متفق عليه بلفظ، ( إذا دخل أحدكم المسجد ) مباشرة، وأما القصة: ( دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ... ) فإن ذلك من مفردات مسلم ، وأما البخاري و مسلم فروياه باللفظ مباشرة.
والقرائن التي تدل على ترك الوجوب لا يلزم أن تكون صحيحة فمجموع طرقها يتقوى بعضها ببعض، وهناك بعض القواعد العامة التي تدل على هذا، كقوله: ( هل علي غيرها، قال: لا، إلا أن تطوع )، كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أبا قتادة حينما جلس بالقيام.
ولا يقال: سنة فات محلها؛ لأن المقصود إشغال بقعة المسجد.
وكذلك حديث أبي واقد في قصة الثلاثة الذين أتوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، قال: ( فأما أحدهم فجلس فأوى فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )، فهذا جلس ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، والله أعلم.
عن أبي الشعثاء قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة رضي الله عنه، فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وأما أبو هريرة فحكم عليه بأنه عصى، وهذا مذهب الحنابلة أنه عصى لكن شريطة أن يترك المسجد ولا يصلي في مسجد آخر ويترك الجماعة، فأما إن خرج من هذا المسجد إلى مسجد آخر ويغلب على ظنه أنه سوف يدرك صلاة الجماعة فيه فإن ذلك لا يأثم.
وكره الإمام أحمد رحمه الله أن يخرج الإنسان حال الأذان لأجل ألا يتشبه بالشيطان؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ) وهذا اختاره ابن تيمية رحمه الله.
فإذا كان الإنسان يريد أن يخرج من المسجد فإنه يصبر حتى ينتهي المؤذن، حتى لا يتشبه بالشيطان.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وقوله: ( وكفارتها دفنها ) ليس معناه أن للإنسان أن يبصق في المسجد، ولكن معناه أنه لا ينبغي له أن يبصق فإن بصق فكفارة ذلك أن يدفنها، وبعضهم قال: إن كان المسجد من تراب فلا حرج، استدلالاً بحديث: ( إذا تنخع أحدكم وهو في الصلاة فلا يتنخع عن يمينه فإن عن يمينه ملك، ولا يتنخع قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولكن ليتنخع عن يساره أو تحت قدمه )، قالوا: فهذا يدل على أن للإنسان أن يبصق في المسجد؛ لأن الممنوع أن لا يدفنها.
والراجح والله أعلم: أن هذا ليس فيه دلالة؛ لأن الرسول إنما ذكر ذلك في حق المصلي، والمصلي جائز أن يكون في المسجد وخارج المسجد، ومما يدل على ذلك اشتداده صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر : ( حينما رأى نخامة أو نخاعة في قبلة المسجد فغضب فجعل يحكها فقال: أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإن الله قبل أحدكم وهو في الصلاة، فانطلق فتى من الحي، فأتى بخلوق فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم ) يقول جابر : فمن ثم اتخذ الناس الخلوق في المساجد.
وهذا يدل على أن البزاق ممنوع في المسجد، هذا هو الظاهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر ) وهذا من القذر.
والمراد أن يتفل عن يساره إذا أراد أن يتنخع أو يبصق، يلتفت ويجعله عن يساره، مثلاً: في ثوبه، من جهة يساره إذا كان يصلي خارج المسجد، أما في المسجد فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول ولا القذر ) وهذا من القذر بلا شك.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد ) ].
هذا الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر ومن حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر: ( من أكل من هذه الشجرة -يعني: الثوم- فلا يأتين المساجد ).
وهذا يدل على عقوبة وليس فضيلة، هذا يدل على أن عقوبته حرمانه من المسجد مع أنه يأثم إذا تقصد الأكل؛ لأنه قصد الحرمان والعياذ بالله.
والإمام أحمد رحمه الله يقول: المقصود بذلك عدم أذية ملائكة المسجد، فلو كان شباب في رحلة فأكلوا ثوماً فلا حرج عليهم فيما بينهم؛ لأن مقصود الأذية أذية ملائكة المساجد، وإلا فإن الملائكة تتأذى حتى ولو كانت في البيوت، مثل الملائكة التي لا تفارق الإنسان، هذا هو الراجح، والله أعلم.
فإذا كان الإنسان سوف يأتي إلى المسجد في وقت قصير بعد أكل الثوم وهي نيئة فإنه لا ينبغي له أن يأكلها، كرهها أهل العلم، وبعضهم يرى التحريم، وهذا الخلاف إنما لأجل حكم الصلاة في المساجد، والحنابلة كرهوا لأنهم لا يرون وجوب الصلاة في المساجد، وإن كانوا يرون وجوب الجماعة، ومنهم الأئمة الأربعة.
وعلى القول بأن الصلاة في المساجد واجبة إلا لعذر، فإنه يحرم أكل مثل هذا إذا كان فيه أذية، وهذا هو الأقرب.
ونهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكلها إنما ذلك لأجل المساجد فقط؛ ولهذا قال: ( فليعتزلنا وليصل في بيته )، الصلاة في بيته فيها الملائكة، لكن إذا أراد الإنسان أن يقرأ القرآن: ( فطيبوا أفواهكم بالقرآن )، حديث علي بن أبي طالب حسنه الدمياطي في المتجر الرابح، وتطبيب الأفواه يكون مثلاً بالسواك خاصة عند إرادتك قراءة القرآن؛ ولهذا ينبغي لمن يريد أن يقرأ القرآن أن يقرأه بريح طيبة، لكن هذا على سبيل الاستحباب.
وأما ( فليعتزلنا ) فالمراد ملائكة المسجد، وليسوا الملائكة الذين يتابعون الإنسان ومع الإنسان، بدليل أنه لو صلى في بيته فإنه سوف تتأذى منه الملائكة، ولكن المقصود بالملائكة في الحديث ملائكة المسجد.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته، وإنه أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحاً، فسأل فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها إلى بعض أصحابه، فلما رآه كره أكلها، قال: كل، فإني أناجي من لا تناجي ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وهذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره أن توجد منه الريح كما في الصحيحين من حديث عائشة ، وأنه يحب أن يكون رائحته طيبة بأبي هو وأمي عليه الصلاة السلام؛ ولهذا قال: ( كل، فإني أناجي من لا تناجي ) وهذا يدل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يأكل من هذه الأشياء حال أداء العبادة، لكن التحريم كما قلت: هو في ملائكة المسجد، والله أعلم.
وقد وردت أحاديث في الأكل من طيب الطعام ولكن المراد منها أن يكون الأكل حلالاً، منها: ( إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع ألا يأكل إلا طيباً فليفعل ) وهناك حديث آخر ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين )، لكن الطيب المقصود به: هو الحلال، وليس المقصود الطيب أنه ضد الخبيث الذي هو الرديء.
عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر ، قال: إني رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن أقواماً يأمرونني أن أستخلف وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال، ثم إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، فقال: يا عمر ! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء، وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن، ثم قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم، ثم إنكم أيها الناس! تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً ].
هذا الحديث رواه مسلم .
وفيه فوائد:
أما الذين توفي رسول الله وهو راض عنهم وعهد إليهم عمر بالخلافة وألا تخرج عنهم فهم: عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام و طلحة و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص فتركها كلهم ولم يبق إلا اثنان هما: عثمان و علي .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهذا يفيد أن نشدان الضالة غير سؤال الناس الصدقة، فالذي يظهر والله أعلم أن سؤال الصدقة من الناس في المسجد إذا لم يكن فيه أذية على المصلين ولم يكن يشغلهم عن طاعتهم فالأصل فيها الجواز؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم سأل الناس الصدقة لغيره، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي : ( أن قوماً جاءوا مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، ثم دخل ثم خرج فأمر بلالاً ... ) الحديث، ثم قال: ( تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره )، فهذا يدل على أن سؤال الإنسان لنفسه أو لغيره الصدقة لا حرج فيه، شريطة ألا يكون فيه أذية، ومن الأذية: قيام بعض الناس يوم الجمعة بعد السلام من الصلاة ورفع أصواتهم طلباً لذلك؛ لأن هذا فيه إشغال للمصلين عن تسبيحهم وتهليلهم، وقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري عند الإمام أحمد و ابن ماجه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يؤذينّ بعضكم بعضاً في القراءة ) فذكر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي أن يؤذي المسلم أخاه المسلم بشيء ولو كان في قراءة القرآن، فغيره من باب أولى.
وأما قياس سؤال المخلوق بنشدان الضالة فهذا قياس مع الفارق، والله أعلم.
فإذا قام متسول فإنه لا ينبغي إجلاسه؛ لكن يبين أن السنة أن لا يزعج المصلين.
عن عائشة و عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: ( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مثل ما صنعوا ) ].
هذا الحديث متفق عليه من حديث عائشة ومن حديث أبي هريرة وزاد: ( ولولا ذاك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ).
عن عائشة رضي الله عنها: ( أن
قول بالصحة مطلقاً، وقول بالمنع مطلقاً، وقول بالصحة مع الإثم، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله وهو الأقرب.
والتصاوير المحرمة هي التصاوير التي فيها نوع من المضاهاة وهي الرسم باليد أو المجسمة أو المعظمة، فالتعظيم ممنوع؛ لأنه لا يدع صورة إلا طمسها، ورفع الصور في الجدر نوع من التحريم، وهو محرم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون ) ]
هذا الحديث متفق عليه، ورواه البخاري و مسلم من حديث جابر بلفظ آخر: ( أعطيت خمساً ).
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود، قلت: يا
السائل: الذي قال: فقلت: يا أبا ذر ! هو عبد الله بن الصامت راوي الحديث.
وقد اختلف العلماء، هل هذه تقطع الصلاة من حيث البطلان أم من حيث النقصان، من الغريب في هذه المسألة أن الترمذي حينما ذكر هذا الحديث قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أي: أنهم يرون قطع الصلاة، فجعل قطع الصلاة في هذه الأشياء هو قول أكثر أهل العلم، وذكر الخطابي في معالم السنن: أن أكثر أهل العلم -عندما شرح حديث: ( لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم ) حديث أبي سعيد- ذكر أن قول أكثر أهل العلم على أنه لا يقطع الصلاة.
و الترمذي إنما أراد السلف و الخطابي إنما أراد المذاهب المشهورة، كالحنفية والشافعية والمالكية، والمسألة حقيقة مشكلة ومحتملة، والإعادة لمن مر أمامه شيء مما ذكر أحوط، والله أعلم.
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: ( كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر الشاة ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
وقوله: ( بين مصلاه وبين الجدار ممر الشاة )، اختلف أهل العلم في معنى (مصلاه) هل المقصود به موضع قدميه، أم موضع السجود؟ والأقرب والله أعلم أن المقصود به موضع السجود؛ لأن الغالب أن بين موضع سجوده وبين أرجله ثلاثة أذرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ).
عن عائشة رضي الله عنها وذكر عندها: ( ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت
هذا الحديث متفق عليه.
المراد من قولها: ( فأنسل من عند رجليه ) أي: من عند رجلي السرير؛ وكانت تنام عائشة والرسول معترضاً السرير، فتبدو لها الحاجة فتخرج من عند السرير، وليس من عند الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يرد على هذا الأمر وليس فيه دلالة؛ وذلك لأن سترة الرسول صلى الله عليه وسلم السرير وليست عائشة ، فمرور عائشة أنها كانت تنسل من عند رجليه هو مرور من وراء السترة، ولا إشكال في ذلك.
وبعض الفقهاء يقول: لا بأس أن يصلي الرجل وأمامه المرأة ثم تقوم، والعبرة إنما هو الإتيان من الشمال إلى اليمين، أو من اليمين إلى الشمال، وأرى أن هذا الجمع لا حاجة إليه، فإن سترة النبي صلى الله عليه وسلم هي السرير وليست عائشة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر