للجمعة أحكام متعددة، منها ما يتعلق بالخطبة، ومنها ما يتعلق بالصلاة، فمن ذلك استحباب تقصير الخطبة ورفع الصوت بها وإطالة الصلاة، وحسن الاستماع إليها، ويستحب كذلك صلاة ركعتين أو أربع بعدها، وأن يفصل بين الفرض والنافلة بكلام أو خروج.
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: الإشارة بالإصبع في الخطبة.
عن حصين عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
رفع اليدين أثناء الخطبة
الدعاء في الخطبة
المسألة الثانية: قل أن يستدل بها من هذا الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً كان يدعو في الخطبة، فلما قال
بشر : (
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد بأن يقول هكذا )، فهذا يفيد أنه كان أحياناً يدعو ولا يرفع؛ لأنه حينما رفع
بشر بن مروان اليدين، أنكر عليه الرفع ولم ينكر عليه الدعاء، مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو أحياناً.
وكتب الفقه حينما تتحدث عن الدعاء لا تذكر هذا الحديث، بل إن بعض الفقهاء المالكية أشار إلى أن الدعاء في الخطبة بدعة، كما روي عن الشاطبي وغيره، والصحيح أنه لا بأس به، فما دام أنه من مقام الإجابة فإن الدعاء فيه حسن، والله أعلم.
رفع السبابة عند الدعاء أثناء الصلاة وخارجها
المسألة الثالثة: هل ترفع السبابة أثناء الدعاء في الصلاة؟
فإن بعض الناس إذا دعا وهو يصلي رفع السبابة، وهذا خطأ، السبابة في الصلاة لا ترفع إلا في موطنها، وهو التشهد الأول والثاني.
وأما رفع السبابة أثناء الدعاء خارج الصلاة لا حرج في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أحد أحد، فو الذي نفسي بيده إنها لأشد على الشيطان من جبل أحد )، والحديث إسناده لا بأس به، لكن في الصلاة لا يرفع السبابة إلا في موطنها.
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: في الجلسة بين الخطبتين في الجمعة.
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة ) ].
هذا الحديث جاء من حديث جابر عند مسلم، وروى البخاري و مسلم من حديث ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يقعد بينهما )، وأما حديث جابر هذا فرواه مسلم ( كان يخطب قائماً ثم يجلس، يقوم فيخطب قائماً ).
وقد استدل بهذا الحديث جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة على أن الخطبتين في الجمعة شرط، فمن لم يخطب خطبتين فإنه يجب عليه أن يخطب مرة أخرى، ومن لم يخطب فإنه يجب عليه أن يصلي أربعاً.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو خطب خطبة أجزأ؛ لأنه غاية ما فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ومداومته صلى الله عليه وسلم لا تدل على الشرطية؛ لأن غاية ذلك أنه فعل، والفعل لا يؤخذ منه شرطية، كيف ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على وجوب الأخذ من فعله؟ وأقول: هذا القول حسن إذا لم يتقصد ذلك الإمام، وأما إذا تقصد الإمام أن يصلي خطبة من غير نسيان فأرى أنه ينبغي أن يعيد، والله أعلم.
فإن قال قائل: ما دليل ذلك؟ قلنا: إن مداومته صلى الله عليه وسلم على الخطبتين هي دليل ذلك، بخلاف عدم ثبوت ما يدل على مداومته للصلاة عليه وقراءة القرآن، أما الخطبتان فإنهما ثابتتان عنه صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذكر، فكان لفظ قوله تعالى:
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
[الجمعة:9]، فذكر الله يجب السعي إليه، وقد بينه صلى الله عليه وسلم بخطبتين.
أقول: إن الوجوب يؤخذ من أنه صلى الله عليه وسلم داوم على ذلك مداومة، ولم يحفظ أنه خطب أقل من خطبتين، وهذا هو الذكر الذي يجب سماعه، وهو قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
[الجمعة:9]، فذكر الله هما الخطبتان، فيجب سماعهما، ويجب الإتيان بهما، وأما حال النسيان فإنه يغتفر في ذلك، بخلاف ما لو قلنا بأن ذلك شرط، فالشرط لا يسقط بجهل ولا نسيان، هذا لعله أظهر، والله أعلم.
فلا يصح من متعمد، ويصح من جاهل أو ناس، وقولنا: يصح إذا طال الفصل وخرج الناس، أما إذا كان قريباً فينبغي أن يعيدوا حتى ولو كان بعد الانتهاء من الصلاة، يقوم ويكمل ويعيد صلاته؛ لأنه يمكن إدراك تلك العبادة التي سقطت.
وقد ذكرنا في شرحنا للروض الفرق بين بعض الأشياء التي تجب في الخطبة، وبعض الأشياء التي لا تجب استدلالاً بقوله: بما ثبت عن مداومته، وأنه عموم داخل في تفسير عموم ذكر الله. وهل تعاد الصلاة؟ نقول: نعم، فلو أنه خطب خطبة واحدة ثم صلوا، فذكرهم شخص وقال: لا؛ بل يجب أن تخطب خطبتين، فعليه أن يخطب ثانية ثم يعيدوا الصلاة بخلاف العيدين، فإنما قلنا إنها يجب الإلقاء، ويستحب الاستماع، وهي خطبة واحدة.
والحاصل؛ نحن ذكرنا صلاة العيد، وقلنا: جمهور أهل العلم يرون أنهما خطبتان، ويستدلون بحديث جابر : ( ثم أتى النساء فخطبهن )، فهذا هو الأفضل، أن تخطب خطبتين؛ ولهذا قال ابن عباس : ( فخطب كما يخطب الجمعة ).
وذهب بعض العلماء إلى أن السنة في خطبة العيد خطبة واحدة.
أقول: أما السنية فإني لم أجد أحداً من العلماء قال بالسنية، وإنما قالوا بالإجزاء، وشيخنا محمد يقول: خطبة واحدة كافية، والذي يظهر أنه إذا كانت خطبة واحدة كافية، فهي السنة، ولم أجد أحداً من المتقدمين من يقول بالسنية، أما المتأخرون فشأنهم آخر، لكن الخلاف في الإجزاء من عدمه، والإجزاء شيء والسنية شيء آخر، والله أعلم؛ ولهذا فالأفضل الخطبتان.
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: إذا دخل والإمام يخطب يوم الجمعة يركع.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما ) ].
هذا الحديث متفق عليه.
قد استدل بهذا الحديث بعض أهل الظاهر على أن الركعتين اللتين للمسجد واجبة.
وذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم إلى عدم الوجوب، وهو الراجح، وأما الاستدلال بأن الركعتين لو كانت سنة لتركت لأجل استماع الخطبة الذي هو واجب فالجواب: أن الاستماع غير السماع، فالواجب هو السماع، فالله يقول:
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
[الجمعة:9]، فالواجب هو السماع, فلا نقول: يحرم على المرء ألا يستمع؛ لأن السماع لا يلزم منه التأني والتروي والتأمل، لكن السماع هو السكوت، وعدم الحديث، فهذا هو الواجب، وعليه فإذا صلى ركعتين لم يخالف الوجوب.
الثاني: أن القاعدة الشرعية: أن ما كان من ذوات الأسباب فإنه يفعل ولو كان في وقت أعظم منه، فإن وقت النهي أعظم من الاستحباب، إذا تعارض محرم ومستحب فالمقدم المحرم، ومع ذلك فإن الإنسان إذا جاءت ذوات الأسباب فإنها تفعل ولو كان وقت نهي؛ لأنها لم تفعل لوقت النهي، ولكنها فعلت لسبب معين، فكذلك الركعتان، فهي صليت بسبب المسجد، وليس معنى ذلك أنك تركت سماع الخطبة، والأحسن في الرد هو الرد الأول؛ أن ثمة فرقاً بين السماع والاستماع، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ باب: التغليظ في ترك الجمعة.
عن الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر و أبا هريرة رضي الله عنه حدثاه أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله عز وجل على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ) ].
هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
هذا الحديث يفيد التغليظ على من ترك الجمعة من غير عذر، وهل يدخل فيه من يخرج إلى البراري ويجلس الأيام الطوال ولا يحضر الجمعة، كما يفعل أصحاب الصيد: يجلسون شهراً، أو شهراً ونصف شهر في البر ولا يصلون الجمعة، أو الذين يضربون الخيام في وقت الشتاء فيبتعدون عن البلد، فيكون بينهم وبين البلد أكثر من مسافة فرسخ، ولا يسمعون الخطبة ولا الأذان، فهل يدخلون في هذا الوعيد؟ أقول: إذا كان من غير حاجة فهم على خطر عظيم، فينبغي ألا يترك الإنسان ثلاث جمع كما جاء ذلك في حديث ابن مسعود : ( من ترك ثلاث جمع طبع على قلبه )، وهذا يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يترك الجمعة من غير عذر، والله أعلم.
حكم صلاة الجمعة على المسافر كل أسبوع للنزهة
السؤال: هل المسافر الذي يترك صلاة الجمعة يدخل في التغليظ في ترك الجمعة؟
الجواب: أنا ما أقول إنه يدخل، المسافر طلب السفر مرة، أما أنه كل أربعاء وخميس وجمعة يذهب للبر، ويضرب خياماً ولا يصلي الجمعة هذا محل نظر، والله أعلم.
وهذا يفعله بعض الإخوة في وقت الشتاء ما يصلي الجمعة ثلاثة شهور.
حكم صلاة الجمعة في البر لغير مستوطنيها
السؤال: وهل يشرع لمن يخرجون إلى البر أن يصلوا في البر؟
الجواب: لا، ما يشرع هذا إلا على قول ابن حزم ، وهذا يفعله بعض الإخوة أصحاب المراكز الصيفية، يذهبون من الرياض إلى أبها فيجعلون أحداً يخطب بهم فهؤلاء لا تصح صلاتهم باتفاق الفقهاء الأربعة؛ لأنهم لم يستوطنوها، إلا أن يوجد أربعون على مذهب الحنابلة أو ثلاثة على رأي ابن تيمية من أهل أبها يصلون معهم فحينئذٍ تكون صحيحة، أما هؤلاء فإنهم يعيدون الصلاة ولو بعد ثلاثين سنة، إذا ذكروا بهذا عليهم أن يعيدوا الصلاة.
حكم صلاة الجمعة على المسافر
السؤال: هل تجب صلاة الجمعة على المسافر؟
الجواب: يجب على كل من سمع الأذان أن يحضر الجمعة سواء كان مسافراً أم غير مسافر.
فمثلاً الذين يذهبون إلى بعض القرى التي لا تتعدى ثمانين كيلو يجب أن يصلوا إن سمعوا الأذان.
حكم صلاة المأموم إن كان لا يرى الإمام ولا الجماعة
السؤال: ما حكم صلاة المأموم إذا كان لا يرى الإمام ولا الجماعة؟
الجواب: اختلف العلماء في ذلك، فذهب الحنابلة إلى عدم الصحة؛ لأنهم يرون من شرط الائتمام رؤية الإمام أو رؤية من خلفه أو اتصال الصفوف، وهذا لا يرى الإمام ولا يرى من خلفه، ولم تتصل الصفوف.
وذهب الشافعية إلى أنه إذا كان قريباً من المسجد ولم يكن بينه وبينه طريق فإنه تصح الصلاة متى ما أمكن الائتمام ولو بالصوت.
و ابن تيمية يقول: إن ذلك يصح للحاجة، مثل صلاة التراويح فإنها تضرب خيمة للنساء، فهذا ليس بمسجد، وليس هناك طرقات، ولا يرين الإمام، ولا يرين من خلفه، فيرى ابن تيمية أنه إذا كان هناك حاجة فلا حرج، وأنا أرى أن قول ابن تيمية جيد، أما من غير حاجة فلا، مثل أن تكون المرأة في بيت الإمام أو المؤذن، فلا تتابع الإمام، والخلاف في المسألة قوي.
نكتفي بهذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.