الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع من الاجتماعات التي يباهي الله سبحانه وتعالى بها ملائكته، وأن يجعلنا وإياكم من الزمرة الذين يحشرون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبعد:
فهذا المجلس هو المجلس الأول من أمالي شرح بلوغ المرام، نسأل سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
ولأجل هذا أنا أعتب على طالب العلم أن يكون فقيهاً ولا يفقه علم الرجال، أو يكون محدثاً ويفتي ولا يحسن معرفة أساليب العلماء في الترجيح وغير ذلك، ولهذا إذا جمع الله للعبد فن الفقه وفن الحديث، فهذا لا تكاد تخطئ عنه مسألة، ولهذا كان مالك حينما جمع بين فني علم الرجال وعلم الفقه هو الأولى بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بعض أهل العلم كـالطحاوي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يوشك أن تضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالماً إلا عالم المدينة )، والحديث ضعيف، لكن أجمع الذين فسروا هذا الحديث على أن مالك بن أنس هو أولى بهذا الحديث.
لهذا فإننا سوف نشرح هذه الأحاديث، وسوف يكون شرحنا أربعة أحاديث في كل مجلس، إن شاء الله، وسوف يكون الكلام على الحديث من وجوه: الوجه الأول: تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه، الثاني: الكلام على شرح ألفاظ الحديث، ثم بعد ذلك: الكلام على المسائل الفقهية، ولعلنا نبدأ إن شاء الله في أول هذا الكتاب.
أما بعد:
فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، حررته تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً، ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي، وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة، والمراد بالسبعة: أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وبالستة من عدا أحمد ، وبالخمسة: من عدا البخاري و مسلم ، وقد أقول: كالأربعة و أحمد ، وبالأربعة من عدا الثلاثة الأول، وبالثلاثة من عداهم، والأخير بالمتفق عليه: البخاري و مسلم ، وقد لا أذكر معهم غيرهما، وما عدا ذلك فهو مبين، وسميته: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، والله أسأل ألا يجعل ما علمنا علينا وبالاً، وأن يرزقنا العمل بما يرضاه سبحانه وتعالى ].
الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر مقدمة إضافية ذكر فيها سبب تأليفه؛ وهو أنه أراد أن يكون حجة لطالب العلم. وطريقة الحافظ ابن حجر في هذا الكتاب طريقة فذة، حيث إنه لم يقصد أن يستوعب الأحاديث الصحيحة في الباب، ولكنه أراد أن يبين بعض الأحاديث التي يستدل بها الفقهاء في المسألة المعنية، وسواءً كانت هذه المسألة فيها حديث صحيح أو فيها حديث ضعيف، فأحياناً يذكر حديثاً وهو حديث ضعيف، وغيرها مخالف لحديث صحيح، فلا يذكر الحديث الصحيح؛ لأنه لم يقصد أن يستوعب الأحاديث الصحيحة، ولكنه أراد أن يبين أن مذهب الإمام من الأئمة؛ حديثه ودليله، وهذا الدليل الذي ذكره ربما يكون ضعيفاً، فيبينه، ولم يقصد الاستيعاب؛ لأن أحاديث البخاري و مسلم لو جمعت فهي أربعة آلاف أو قريبة من ذلك، فيبعد أن يكون ألف وستمائة تقريباً يستوعب كل الأبواب، ولكنه أراد أن يبين الأحاديث التي عليها مدار الأئمة في كلامهم على المسائل، هذه المسألة الأولى.
وبعضهم أراد أن يتكلف لماذا فرق؟ والذي يظهر والله أعلم: أنه من باب التنويع؛ لأنه ذكر ذلك في المقدمة، فليس ثمة قصد للإمام الحافظ ابن حجر رحمة الله تعالى عليه.
والذي أريد أن أبينه هنا أن الحافظ أحياناً يقول: (وإسناده صحيح)، ويذكر هنا إسناداً صحيحاً، في حين أنه في بعض كتبه يتكلم فيه، فإما أن يقال: إن الحافظ وهم في ذلك، وإما أن يقال: إن آخر قولي الحافظ هو تصحيحه لهذه الأحاديث، وهو محتمل حقيقة، يعني: محتمل هذا وذاك؛ لأنه أحياناً يتكلم فيه في البلوغ، ويتكلم فيه أيضاً في الفتح ويقويه، فإما أن يقال: إنه نسي؛ لأن العالم ينسى، فربما كان هذا منها، والعلم عند الله تعالى.
هذه مقدمة بسيطة أراد الحافظ ابن حجر أن يبين طريقته في المصطلحات، ومن المعلوم: أن مصطلحات الأربعة والخمسة والستة هي مصطلحات حادثة، وبعضهم إذا أراد أن يؤلف يصطلح لكتابه مصطلحاً آخر، فـالمجد أبو البركات مثلاً في كتابه المنتقى يقول: إذا قلت: متفق عليه فأقصد البخاري و مسلم و أحمد ، وهذه طريقته، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا بين الإنسان، لكن الأصل والغالب أنه إذا قال: الأربعة فإنه يقصد كما أراده الحافظ ابن حجر ، وهم أصحاب السنن: أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وكذلك إذا أراد السبعة، وغير ذلك، والله تبارك وتعالى أعلم.
فهذه مقدمة بسيطة، ولعلنا ندلف إلى الأحاديث مع ذكر الباب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، أخرجه الأربعة و ابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة و الترمذي].
والحديث مداره على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة المخزومي عن المغيرة بن أبي بردة من بني عبد الدار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو المشهور في إسناد هذا الحديث، وقد روي من طرق أخرى، ولكن أصحها هي هذه الرواية، وقد أخرجها مالك، ورواها أكثر الرواة عن مالك من طريق صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة ، عن المغيرة بن أبي بردة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل معنا الماء القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ).
وهذا الحديث اختلف العلماء في إسناده فقال بعضهم: إن الحديث ضعيف؛ لأجل أن الصحيح: أن الرواية الصحيحة مرسلة، كما هي طريقة الإمام الطحاوي و أبي عمر ابن عبد البر ، وذلك لأن الطحاوي رواه من طريق يحيى بن سعيد ، عن المغيرة بن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: رواه يحيى بن سعيد عن المغيرة بن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواية يحيى أحفظ، ولهذا قووا المرسل، فضعفوا هذا الحديث.
وبعضهم ضعف هذا الحديث؛ لأجل الاضطراب فقال: إنه يروى مرة عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يروى عن يحيى بن سعيد عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يروى من طريق آخر من طريق الليث ، قالوا: فلأجل هذا الاختلاف في الحديث فإننا نحكم على الحديث بالضعف لأجل الاضطراب؛ لأن العلماء يقولون: إن الحديث إذا روي من طريق فإنه يحكم عليه بالضعف لأجل اضطرابه، ولا شك أن من طرق تضعيف الحديث أن يكون مضطرباً، ولكن ليس كل حديث يروى من طرق يكون مضطرباً؛ لأن الاضطراب أن تكون الأسانيد على قوة واحدة، فحينئذٍ نحكم على الحديث بأنه مضطرب، أما إذا كانت بعض الأحاديث أقوى من بعض فإننا لا نقول عنه: إنه مضطرب، وإلا لبطلت أحاديث كثيرة، ولهذا فالراجح كما أشار إلى ذلك الدارقطني في العلل: أن أصح الروايات وأصح الأسانيد هي رواية صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن القول بالتضعيف -كما هي طريقة ابن عبد الهادي في تنقيحه التحقيق- ليست بجيدة.
ومن العلماء من ضعفه بسبب جهالة سعيد بن سلمة ، وجهالة المغيرة بن أبي بردة ، كما هي طريقة الإمام الشافعي رحمه الله، والإمام ابن دقيق العيد ، وذلك أنهما قالا: إن سعيد بن سلمة مجهول، وأن المغيرة بن أبي بردة مجهول، ثم إن سعيد بن سلمة مع جهالته فقد اختلف الرواة في اسمه، فمرة يقولون: سعيد بن سلمة ، ومرة يقولون: عبد الله بن سلمة ، وغير ذلك من الأوجه، قالوا: فلأجل هذا حكمنا بأنهما مجهولان، والله أعلم.
إذاً للعلماء في تضعيفهم لهذا الحديث ثلاث طرق:
الطريق الأول: قالوا: لأنه روي مرسلاً، وهي الرواية المحفوظة، كما هي طريقة الطحاوي ، و أبي عمر ابن عبد البر ، والصحيح أن رواية صفوان به -يعني بهذا الإسناد- أصح، والعلماء يقولون: وطريقة مالك بهذا أو به، يقصدون بهذا الإسناد الذي هو معلوم، هذه مصطلحات أهل الحديث.
الطريق الثاني: ضعفوها لأجل دعوى الاضطراب، كما هي طريقة ابن عبد الهادي ، والصحيح أن الاضطراب إنما يحكم به إذا كانت الأسانيد على قوة واحدة، ووتيرة واحدة، أما إذا كانت بعض الأحاديث ليست بذاك فإننا نقول: إن رواية صفوان أصح، ثم إن صفوان بن سليم لم يتفرد بهذا، فقد تابعه الجلاح أبو كثير عن سعيد بن سلمة عن المغيرة ، فدل ذلك على أن صفوان لم يتفرد به.
الطريق الثالث: ضعفوها لأجل جهالة سعيد بن سلمة ، وكذلك المغيرة بن أبي بردة ، والذي يظهر والله أعلم، أن سعيد بن سلمة لم يكن بالمجهول، فقد روى عنه صفوان بن سليموالجلاح أبو كثير، وهذا يبعده عن الجهالة في العين، ويكون معروفاً، وقد أشار كثير من المحدثين إلى أن الراوي إذا روى عنه شخص واحد لم ترتفع عنه الجهالة، وإذا روى عنه رجلان من أهل الحديث ارتفعت عنه الجهالة وصار معروفاً، وعلى هذا: فإذا قال الدارقطني : معروف، فليس ذلك دلالة على أنه ثقة، بل يكون معروفاً، فتنتفي عنه جهالة العين، ويبقى الحكم عليه على حسب القرائن والأحوال، وهذه الطريقة -أعني بها: الحكم على الرجل بأنه مجهول- هي طريقة محمد بن يحيى الذهلي ، وتبعه على ذلك أكثر المتأخرين، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه الفذ: شرح العلل.
وأما طريقة بعض المتقدمين من أهل الحديث فإنهم لا يحكمون على الرجل بأنه مجهول أو انتفى عنه الجهالة لأجل أنه روى عنه رجلان أو واحد أو اثنان، فإن يحيى بن معين سُئل عن الرجل: متى ترتفع عنه الجهالة؟ قال: إذا روى عنه أئمة الحديث مثل محمد بن سيرين فإنه لا يكون مجهولاً، وإذا روى عنه أمثال محمد بن إسحاق صار في عداد المجاهيل، قال الحافظ ابن رجب : وهذه طريقة حسنة، وهي تختلف عن طريقة محمد بن يحيى الذهلي ، وهذه هي الأصح عند المتقدمين، فلهذا يكون هذا رد على بعض المتأخرين الذين يقولون: كيف يصحح الإمام أحمد حديثاً وفيه مجهول؟ أو كيف يصحح الإمام البخاري حديثاً وفيه مجهول؟ فالجواب: أنه إذا كان الراوي من كبار التابعين، وروى عنه من أئمة الحديث حديثاً، ولم يخالف أصلاً من أصول الأحكام، فإن أهل العلم يقبلونه كما أشار إلى ذلك الإمام الذهبي في كتاب المغني في الضعفاء، وفي كتابه ميزان الاعتدال، وفي كتابه أيضاً الموقظة، فعلى هذا إذا روى التابعي عن الصحابي، وكان هذا التابعي مجهولاً، فكيف تحكم عليه؟ انظر إلى الراوي عنه، فإن كان الراوي عنه من أئمة الحديث الكبار فإننا نقبل حديثه، إذا لم يأت بمنكر، يعني لم يأت بحكم جديد.
ومن المعلوم أن هذا الحديث وافق ظاهر القرآن بأن الله يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، فوافق ظاهر القرآن، فلأجل هذا رواه صفوان بن سليم ، و الجلاح أبو كثير عن سعيد بن سلمة عن المغيرة ، ثم إن تصحيح الأئمة لهذا الحديث دليل على أنهم قووه، وهذه طريقة أهل العلم، وعلى هذا فلنعلم أننا إذا وجدنا مجهولاً روى عن الصحابة فلا نحكم عليه بالضعف ولا نحكم عليه بالصحة، بل نقول: إذا روى عنه أحد من كبار الأئمة حديثاً ولم يأت بما يخالف الأصول، وكان من كبار التابعين، قبلنا حديثه، وهذه طريقة معروفة عند الأئمة.
ولعلنا نذكر مثالاً على ذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله و البخاري كما نقل ذلك الترمذي في العلل، و البيهقي و الخطابي صححوا هذا الحديث، كذلك سعيد بن المسيب روى أبو تميمة حديثاً عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ مرة القرآن فقرأ بعض الصحابة خلفه فقال: ما لي أنازع القرآن؟ ) فصحح هذا الحديث أبو عمر ابن عبد البر و أبو حاتم وقالوا: إن أبا تميمة كونه يحدث عند سعيد يكفيه حجة.
إذاً: نعلم أن طريقة المتأخرين بأنهم إذا وجدوا مجهولاً حكموا عليه بالضعف ليست بطريقة أهل الحديث عند أئمة هذا الشأن، فلا بد أن نعلم ذلك. وهذه الحال الأولى.
الحال الثانية: إذا كان من أوساط التابعين، ولم يرو عنه من أئمة الشأن، فإننا نتوقف في حاله، فإن جاءت شواهد تقويه قبلنا، وإلا فلا.
الحال الثالثة: أن يكون المجهول هذا من صغار التابعين، يعني لا يروي عن صحابي إنما يروي عن تابعي، فيكون هذا من صغار التابعين، والراوي عنه ليس من الثقات الحفاظ، أو ممن عرف عنه رواية المجاهيل، فهذا الأقرب أنه ضعيف. هذه ثلاثة أحوال أشار إليه الإمام الذهبي رحمه الله.
وعلى هذا: فالصحيح أن الحديث صحيح، وقد صححه الإمام البخاري رحمه الله كما نقل ذلك الترمذي ، وصححه مالك بن أنس ، بدليل أنه أخرجه في موطئه، وتخريج مالك الحديث في الموطأ إذا كان مسنداً دليل على أنه صحيح عنده، والله أعلم.
وصححه أيضاً ابن حزم و ابن المنذر و ابن خزيمة و ابن حبان و الدارقطني وقال: إن هذا أشبه بالصواب.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه)، بفتح الطاء، وهذه صيغة مبالغة، والمقصود بها: اسم للشيء الذي يتطهر به، هذه طريقة أكثر علماء اللغة؛ أنهم يرون أن صيغة المبالغة إذا كانت على الفتح فإنه اسم لما يتطهر به، وأما إذا كانت على الضم فهو اسم للفعل نفسه، فيقولون: السَّحور والسُّحور، فإذا كان السَّحور اسم لما يتسحر به، وأما إذا قالوا: السُّحور فهو فعل السحور نفسه، وكذلك الطَّهور والطُّهور، وغير ذلك، ومما يدل على ذلك: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الطُّهور شطر الإيمان )، يعني: فعل التطهر شطر الإيمان، ولهذا قال في حديث آخر: ( ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).
وأما قوله: ( هو الطهور ماؤه ) فإن هذه صيغة مبالغة أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن (أل) للاستغراق، فالسائل سأل عن الوضوء فقال: أفنتوضأ بماء البحر؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم جواباً عاماً فقال: ( هو الطهور ماؤه )، فكأنه أراد أن يبين أن طهارته ليست من باب الضرورة، وإنما طهارته من باب السعة في الوضوء وإزالة النجاسات، ورفع الحدث، ورفع الجنابة.
وأما قوله: ( الحل ميتته ) فمن المعلوم أن السائل لم يسأل عن الميتة، لكن إنما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجواب لأن السائل حينما جهل حكم الوضوء بماء البحر مع أن الأصل أنه على أصل الخلقة، فهو يحتاج إلى بيان حكم آخر، فلأجل أنه من الملاحين؛ لأنه من بني مدلج، وكان عركياً: يعني ملاحاً، فناسب أن يعطى هذا الحكم؛ لأنه يجهله من باب أولى، فكان هذا من الجود والكرم؛ لأن الجود أنواع: جود المال، وجود الوقت، وجود الصبر، وجود النفس، وجود العلم.
وأعظم الجود جود العلم، ولهذا تجد بعض الناس إذا سأله سائل والسائل طالب علم تجده يقول: نعم، لا بأس، جائز، السائل ما يريد منك هذا، السائل يريد منك أن تعطيه مما أعطاك الله من العلم، فتقول: أما الحديث الذي ذكرته.. لا تقل: لا لا لا، كله ضعيف لا، قل: هذا ضعيف وفي سنده كذا، وهذا صحيح كلامه ولكن عليه إشكال كذا، فتعطيه وتجود عليه، وهذا من أعظم الجود، ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يعطي السائل بأبي هو وأمي، أعظم مما سئل، ولهذا سأل عن الماء، فأجابه عن الماء وعن ميتة البحر.
ثم اعلم أن ميتة البحر المقصود بها: هي ما يموت في البحر مما يعيش فيه، وليس مما دخل فمات فيه، فالإنسان من حيث اللغة لو مات في البحر فيصدق عنه لغة أن يقال: ميتة بحر، لكن ليس المراد هنا هذا، ولكن المراد من كان يعيش في البحر وكانت حياته في البحر؛ فإنه لو مات فإن ميتته حلال.
جاء أعرابي كما في الصحيحين فقال: ( يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فماذا أعددت لها؟ )، نستطيع أن نقول مثلما يقال في هذا: الله أعلم، وانتهى الجواب، وهو جواب حكيم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعطي حكمة أعظم بأبي هو وأمي، فقال: ( ماذا أعددت لها؟ ).
وانظر حينما سأله السائل كما في الصحيحين من حديث ابن عمر فقال: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم من الثياب؟ ) إنما السائل سأل عن لبس المحرم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة أوسع فقال: ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويل )، ولهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث قال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، ويقول ابن القيم رحمه الله: وهذا من كمال علم العالم، وكمال شفقته، وهذا رد على من منع ذلك، وإنما منع من ذلك لقلة علمه، وضيق عطنه؛ لأن بعض الناس يقول: لا، أجب السائل فقط بإجابة بسيطة، وليس بصحيح، بل إن من شفقة العالم بالسائل أن يجيبه بالأحاديث، أو بأقوال أهل العلم، حتى ينوره وينفعه، فإن أعظم النفع وأعظم الجود هو جود العلم.
والذي يظهر والله أعلم على طريقة أئمة الشأن أن الحديث لا بأس به، ولهذا أشار الإمام أحمد رحمه الله إلى تصحيحه لهذا الحديث، وكذلك ابن معين ، و يحيى بن سعيد القطان ، و ابن حزم ، و البغوي ، و ابن تيمية و ابن القيم .
وعبيد الله بن عبد الله اختلف في اسمه على سبعة أقوال، ولكن نقول: لا شيء ولا بأس في الاختلاف في اسمه؛ لأن عينه قد علمت، فالاختلاف إنما يتأتى إذا كان اختلافاً في الزيادة والنقصان، أما إذا اختلفنا في اسمه فإن الذي يظهر والله أعلم أن هذا ليس سبيلاً للتضعيف، إلا إذا كان هذا الرجل يختلف فيه، هل هو ذاك الثقة، أو هو هذا الضعيف، فـعبد الكريم مثلاً الجزري يختلف عن عبد الكريم بن أبي المخارق ، فإذا قال الراوي: عن عبد الكريم ، ولم يتميز بين عبد الكريم الجزري وبين عبد الكريم بن أبي المخارق فإننا نتوقف في هذا الحديث، أما إذا علمنا هذا الرجل ولكن الخلل في اسمه أو اسم جده أو اسم أبيه، فلا شك أن ذلك لا يضعف به الحديث، ولهذا على طريقة المتقدمين أن الراوي عن هذا الحديث هو محمد بن كعب القرظي ، وهو من أئمة الشام، وهو من كبار التابعين، وهذا المجهول من كبار التابعين؛ لأنه روى عن الصحابة، ولم يأت بما ينكر؛ لعموم قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، إذاً: هذا الحديث على طريقة المتقدمين رحمهم الله، وهو أن هذا المجهول إذا كان من كبار التابعين، وقد روى عنه من أئمة أهل الحديث، ولم يأت بما ينكر قوله فإنه مقبول، ولهذا صححه الإمام أحمد و يحيى بن سعيد القطان و ابن حزم و ابن معين و البغوي و ابن تيمية و ابن القيم ، والحديث له شواهد يدل على أن له أصلاً.
وقوله في الرواية: (أنتوضأ)، وفي رواية: (أتتوضأ)، حكاها النووي بالتاء ولم يحكها بالنون، بل غلط من حكاها بالنون وقال: لأن النسائي رواها بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بها، وسؤال السائل لأجل هذا، والواقع: أن هذا ليس دليلاً على أنها لا تروى إلا بالتاء، فلهذا أنكر العراقي إنكار النووي ، وقد روى الدارقطني ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نتوضأ من بئر بضاعة )، فهذه رواية تمتنع أن تكون بالتاء، فقول: إنا تتوضأ ما تأتي، ولهذا تأتي من وجهين: (إنا نتوضأ)، ورواية: (أتتوضأ)، يمكن أن تكون: أتتوضأ، وأنتوضأ، هذا هو الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقد أشار بعض أهل العلم إلى أن هذه البئر عين جارية، والواقع بخلاف ذلك، فإن الراجح والله أعلم أن هذه العين ليست عيناً جارية، وقد غلط أبو العباس بن تيمية من قال: إنها عين جارية، ولأجل هذا لو كانت عيناً جارية لما وقع الخلاف؛ لأن الماء يتبدل، ولكن الإشكال حينما سأل السائل لأنها بئر ليست بجارية.
ثم اعلم أن السائل حينما قال: (وهي بئر يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب)، ليس المقصود أن الناس يأخذون قمامات وحفاظات حيض النساء فيلقونها في البئر، حاشاهم؛ لأن هذا من الملعونين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا اللعانين )، فإذا كان هذا ملعوناً بسبب أنه يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم، فإن استقدام الماء وتنجيسه من باب أعظم، بل قال الحافظ الخطابي: لا ينبغي أن يظن بذمي ولا وثني، فضلاً عن مسلم، فضلاً عن الصحابة؛ لأنهم أطهر الخلق بعد الأنبياء، وإنما المراد أنها تلقى إليها ذلك بسبب السيول التي تجرف هذه الأشياء التي تكون في البراري، فتأتي بها إلى الوديان؛ لأنهم قالوا: إن هذا البئر كانت منخفضة، أو يقال: إنه بسبب الريح سقطت، وعلى كل حال ليس المراد أنها يلقى إليها تلك القاذورات، وقال بعضهم: يمكن أن يكون بعض المنافقين وبعض اليهود يصنعون ذلك، وهذا أيضاً بعيد، لأنها بئر يستفيد منها الجميع، ليست خاصة للمسلمين، ولأجل هذا قلنا: إن الذي يظهر أن ذلك بسبب إلقاء الرياح أو السيول إليها.
قوله: ( لا ينجسه شيء )، (شيء) نكرة في سياق النفي فتعم، وعلى هذا فهذا عام، سواء وقعت فيها نجاسة غيرت الماء أم لم تغيره، فإنه يبقى طهوراً، وهل هذا العموم على إطلاقه؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا ينجسه شيء )، سواء وقعت فيه نجاسة أو لم تقع فيه نجاسة، وسواء غيرت النجاسة فيه أم لم تغيره، فهل هذا العموم على إطلاقه؟ لا؛ لأنهم أجمعوا على أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد أوصاف الماء بلون النجاسة، أو طعمها، أو رائحتها، فإن العلماء حكموا بأنه نجس، حكى الإجماع الشافعي و ابن المنذر و أبو العباس ابن تيمية ، وغير واحد من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع.
إذاً: هذا الحديث أو هذا العام إنما هو مخصوص بالإجماع، وبعض أهل العلم يقول: إنه مخصوص بحديث، والذي يظهر أن الحديث المخصص هو حديث أبي أمامة الباهلي ، لكنه ليس بصحيح.
ثم أعلم أن العلماء -أعني بهم علماء الأصول- حينما يقولون: إن الإجماع لا بد أن يكون مستنده دليلاً، فبعض المتأخرين ظن أن مستند الإجماع لا بد أن يكون دليلاً نصياً من الكتاب والسنة، وليس بذلك، ولكن المقصود هو أن يكون مستند الإجماع إما حديث، وإما آية، وإما ظاهر القرآن، وإما أن يكون ظاهر السنة، وإما أن يكون القياس الصحيح الجلي، وهذا منها، فلم يحفظ حديث صحيح: (أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو ريحه أو طعمه)، بهذا اللفظ حديث لا يثبته أهل الحديث، كما أشار إلى ذلك الإمام الشافعي رحمه الله.
على هذا نعلم أن دعوى أن الإجماع لا بد أن يكون مستنده دليل، ليس المقصود عند العلماء بالدليل أن يكون من الكتاب أو السنة، بل المقصود بالدليل: هو العموم، فيه جميع الأدلة الدالة عليه، إما أن يكون نصاً، أو ظاهر القرآن والسنة، وإما أن يكون فحوى الكتاب والسنة، وإما أن يكون ما يوافق القياس، والله تبارك وتعالى أعلم، وقد ذكر ذلك بعض علماء الأصول، والله أعلم.
وللبيهقي : ( الماء طاهر إلا أن تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه، بنجاسة تحدث فيه )].
وهذا الحديث ضعيف جداً، وذلك أن رشدين بن سعد المصري ، وإن كان من العباد، إلا أنه صالح في دينه مغفل في روايته، وأهل الحديث ليس العبرة عندهم أن الإنسان يحسن أن يصلي، أو أن يكون ملتزماً، أو مطوعاً كما يقولون، فيظنون أن كل من كان مستقيماً يقبل حديثه، وليس الأمر كذلك، ولهذا قال الإمام مالك : إن بالمدينة أقواماً من أستنزل بهم المطر -يعني أطلب أن يدعوا لأستنزل بهم المطر- لا أقبل منهم حديثاً واحداً، ولهذا بعض الإخوة يقول: حدثني ثقة، وقوله: ثقة، لأنه رآه خرج من المسجد وهو ظاهر الالتزام فيقبله، فيقول: ثقة، نعم هو ثقة في دينه، لكن ليس ثقة في علمه وروايته؛ لأن كثيراً من الناس إذا أراد أن يحدث يأتي بأحاديث جانبية توقعها وفهمها من السياق، فأضافها من ضمن المتن الذي يريد أن يروي عنه، وهذا خطأ، ولهذا يجب علينا أيها الإخوة! أن نتثبت في مثل هذه الأشياء وأن نكون متيقظين، يعني: أحياناً الرغبة والعاطفة الدينية هي التي تقودنا، مثل الرسائل الذي تذكر في الجوال، فأحياناً يقول: ذكر فلان بن فلان كذا في جريدة كذا، صفحة كذا، فأنكر عليه، ويقول: جواله كذا، وبيته كذا، ورقم مكتبه كذا، انشرها تؤجر، فتجده ينشر وربما يتكلم: الله يهديك يا فلان! وأنت قلت كذا؟ قال: ما هو صحيح، ما قلت كذا، ما هو بأنا، قال: ما هو أنت بفلان؟ قال: لا يا أخي! أنا فلان لكن والدي ليس هو فلان، قال الرجل: أنا آسف، ومثل هذا يحدث كثيراً، فيجب عليك أن تتثبت، وأن تعلم جيداً، وهذه هي وظيفة طالب العلم، أنا حينما تأتيني رسالة ويقول: انشر تؤجر، اعلم أنك ربما تأثم، فأحياناً الذي يأثم الذي يقول هذا؛ لأنه تقول على الله ما لم يقل، فلا نظن أن العاطفة هي كل شيء، ثم إن قوله: انشر تؤجر، من يظن أنها تؤجر، حكومتكم ليس فيها أجر، فهذه أحكام شرعية لا ينبغي الاستهانة بها قال الله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، فيجب على الإنسان أن يتثبت، وأن يعي جيداً، وأنه يوقع عن رب العالمين، ولا يجوز أن يقول: هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116]، فما تفلح، حتى رسالتك صارت خسارة عليك، ووزارة الاتصالات أو شركة الاتصالات إذا دمرت عليك الفاتورة، فهذا ربما يكون عقوبة، فينبغي لنا أن نعلم جيداً أن أحكام الشرع لا ينبغي الاستهانة بها، والله أعلم.
على كل حال: رشدين بن سعد المصري رجل ضعيف، كما أشار إلى ذلك غير وحد من أهل العلم، بل حكى النسائي بأنه متروك الحديث، وقال أبو حاتم الرازي : منكر الحديث، وضعفه الإمام أحمد و ابن معين .
وأما الحديث الآخر وهو قوله: وللبيهقي : ( الماء طاهر إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه )، رواه البيهقي من طريق عطية بن بقية بن الوليد عن أبيه، وهذا الحديث في سنده ضعف، فإن عطية بن بقية ضعيف، وبقية مدلس، والعلماء يقولون كما يقول مسعر بن كدام المصري يقول: أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية، فهذا منها، والله أعلم، ولكن العلماء أجمعوا على الأخذ بظاهر هذا الحديث، وإن كان أجمعوا على أن الحديث ضعيف، فقد حكى الإجماع الإمام الشافعي رحمه الله وقال: ولا أعلم هذا الحديث يثبت عند أهل العلم، وكذلك حكى النووي رحمه الله ذلك، وقد رجح أبو حاتم إرسال هذا الحديث أنه مرسل من حديث راشد بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل من أقسام الضعيف، والله أعلم.
وعلى هذا: فيكون حديث أبي سعيد الخدري : (إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) هل هو من العام المخصوص أم من العام الذي أريد به الخصوص؟ والفرق بينهما: أن العام المخصوص: هو العام بجميع أفراده، إلا أنه خص بعض أفراده بحكم آخر، فيقال: هذا عام مخصوص؛ لأن بعض أفراده قد خص، أما العام الذي أريد به الخصوص: وهو أنه بلفظه عام، لكن المراد بعض أفراده فيقولون: هذا عام أريد به الخصوص، فيكون المقصود به بعض أفراده دون أكثرها، فإذا أرادوا أكثر أفراد العام قالوا: عام مخصوص، وإذا أرادوا قصر بعض أفراد العام دون أكثره قالوا: من العام الذي أريد به الخصوص، فهل حديث أبي سعيد : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) عام مخصوص أم عام أريد به الخصوص؟ نقول: عام مخصوص خص بالإجماع، والله تبارك وتعالى أعلم.
وهل يفرق في ذلك إذا وقعت النجاسة في الماء القليل ولم تغيره؟ هل يقال بأنه نجس بناءً على التفريق في القليل والكثير، أم يقال: إنه طاهر ما لم يتغير بلون نجاسة أو طعمها أو ريحها؟ قولان عند أهل العلم، وهذه المسألة من المسائل المشكلة، ولهذا أشار الإمام الشوكاني رحمه الله بقوله: وهذا المقام من المضايق التي لا يهتدي إليها إلا الأفراد، يعني هذه المسألة مسألة القليل والكثير، لحديث عبد الله بن عمر : ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، فجعل بعض العلماء هذا الحديث نصاً على أنه يفرق بين الكثير والقليل من الماء، فإذا وقعت نجاسة في إناء مثلاً، فبعض العلماء؛ وهم الحنفية، وأحد القولين عن مالك وهو مذهب الشافعية في المشهور عنهم، ومذهب الحنابلة في المشهور عنهم مع اختلاف فيما هو القليل والكثير، سوف نأتي إليه في شرح آخر، لكن مذهب الجمهور أن القليل هو دون القلتين، والكثير فوق القلتين، فقالوا: إذا وقعت النجاسة في الماء القليل فإنه ينجس، تغير الماء بالنجاسة أم لم يتغير، هذا مذهب عامة الفقهاء، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، فقالوا: إن هذا منطوق، وحديث أبي سعيد مفهوم، والمنطوق مقدم على المفهوم، كذا قالوا، والقول الثاني وهو قول مالك بن أنس ، وهي الرواية المعتمدة عند مالك ، وهو قول عند الشافعية، وهو رواية عند الإمام أحمد ، اختاره أبو العباس ابن تيمية ، و ابن القيم ، وأكثر المحققين من أهل العلم، كالشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة، وكذلك شيخنا عبد العزيز بن باز ، وشيخنا محمد بن عثيمين ، والشيخ الألباني، قالوا: إنه لا فرق بين القليل والكثير، فإذا وقعت النجاسة في الماء، سواء كان كثيراً أم قليلاً ولم تغير أحد أوصافه، حكمنا عليه بالطهورية؛ لحديث أبي سعيد : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وإن وقعت فيه نجاسة فغيرته، حكمنا بنجاسته للإجماع قالوا: وأما حديث عبد الله بن عمر فعلى فرض صحته فإن معناه لم يحمل الخبث، أن ظاهره أن الكثير لا يحمل الخبث، والمفهوم: أن القليل يحمل الخبث، قالوا: هذا المفهوم معارض بمنطوق العموم، وهو حديث أبي سعيد ، خلاف ما قيل في القول الأول، وهذا القول أظهر، والله أعلم، وإن كان ينبغي أن يتحرى المسلم في هذا الماء إذا وقعت فيه نجاسة، خاصة إذا كان هذا الإناء صغيراً؛ لأنه ربما تؤثر فيه النجاسة وهو لا يعلم، فأحياناً تقع النجاسة فيه، ثم ينزعها، ولا يعلم تغيرها، لكن لو جئتها من الغد وجدت أثر التغير فيها، فهذا يدل على أن ثمة تغير، ولكنك لم تعلم به، ولهذا نقول: إنه ينبغي أن يحتاط الإنسان، فينظر هل النجاسة مائعة أم ليست بمائعة، وليس معنى ذلك وجود الفرق بينهما، ولكن المراد هو قوة التأثير في المائعة دون اليابسة.
هذه هي مسائل هذا الباب، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر