الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد وصلنا إلى الحديث السادس وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ), وهذا الحديث بمجموع رواياته فيه مسائل كثيرة, وأشياء حديثية، وللمعلومية -حتى يعلم الجميع- نحن في شرحنا للبلوغ القصد منه هو أن يتدرب طالب العلم على معرفة الأسانيد وطرق الترجيح فيها, وأن يعرف بعض مصطلحات علم الحديث, وأن يعرف طرق الترجيح في الجرح والتعديل, فإذا جاءنا رجل اختلف العلماء فيه, فإننا نذكر كلام أهل العلم فيه ونرتبه على مراتب, وقد كانت طريقة الحافظ ابن رجب رحمه الله أنه يقسم حديث الراوي إلى أقسام, على حسب حفظه وإتقانه وتغير حفظه بآخره, يعني: بآخر زمانه.
كذلك إذا جاءت مسألة من مسائل الحديث, ومن مسائل المصطلح فنحن نعرج عليها فيما يسع فيه الوقت, وكذلك إذا كانت المسألة مسألة فقهية فإننا نذكر الأقوال، ودليلاً أو دليلين لكل مسألة ونرجح.
وإذا جاءت مسألة أصولية في الأحاديث فإننا نذكرها, بحيث يكون طالب العلم إن شاء الله قد ألم بجميع فنون علم الشريعة.
قال الحافظ ابن حجر : [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ), أخرجه مسلم , وللبخاري : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه )، ولـمسلم : ( منه )، ولـأبي داود : ( لا يغتسل فيه من الجنابة )].
درس هذا اليوم الكلام على هذا الحديث من وجوه:
ورواها كل أهل العلم الذين رووا هذا الحديث إلا النسائي رحمه الله, فإنه لم يروها.
لو جاءنا شخص فقال: هل لي أن أغتسل أو أتبول في الماء الدائم وأنا جنب؟ قلنا: لا, قال: ما الدليل؟ قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغتسل أحدكم ), وأنت داخل في هذا العموم, وهذا يسمى عند الأصوليين من باب تحقيق المناط, وهو دخول جميع المسلمين في الأحكام الشرعية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم أو الشارع بلفظ عام, يا أيها الناس, يا أيها الذين آمنوا, عليكم! كل الآيات والأحاديث الدالة على لفظ عام فدخول الأفراد فيه من باب تحقيق المناط, وهذا أحد معاني تحقيق المناط.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( في الماء الدائم ), المقصود بالماء الدائم هو: الماء الراكد الساكن المستقر الذي لا ينتقل من مكان إلى مكان, يعني: لا يجري؛ ولهذا جاء في رواية البخاري و مسلم في حديث آخر قال: ( في الماء الدائم الذي لا يجري ), ومن أمثلة هذا مياه البرك, ومياه الغدران, ومياه الخزانات التي تكون في الأرض, فغالب الخزانات أحياناً تعبأ بالماء فيسبح بها الشباب وهو راكد, بمعنى: لا يجري ولا ينتقل, وليس المقصود بالماء الراكد هو الساكن الذي لا يتحرك, كما فهم ذلك بعض شراح الحديث كـصديق حسن خان رحمه الله وغفر الله لنا وله, وقال: وإذا كان الماء راكداً وأراد أن يتبول فإنه يحركه من أحد أطرافه ثم يبول, حتى لا يكون داخلاً في هذا الحديث! وهذا غاية في الجمود الذي لا يقبل, وأنا أذكر أحياناً بعض الأقوال الشاذة ليعلم أن العلماء رحمهم الله يخطئون مهما علا كعبهم, وارتفع صيتهم, ونالت منزلتهم عند الأمة رتبة عالية فإنهم يخطئون, وخطؤهم يؤجرون عليه, ولكن من جاء بعدهم لا يسوغ له أن يأخذ بأقوال هؤلاء العلماء التي تعتبر من الأقوال الشاذة؛ لأن هذه الأقوال قال بها بعض أهل العلم, فكثيراً هم الناس الذين يأخذون الآن بهذه الأقوال الشاذة, فإذا قلتم: هذا مخالف للنص, قال: قال به فلان, فكأن فلاناً حجة على الله أو حجة على الخلق, والله يوم القيامة سوف يسألك فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فلم يقل: ماذا أجبتم المرسلين والعلماء, فجعل المناط التكليفي في الاتباع هم المرسلون.
قوله صلى الله عليه وسلم: ( وهو جنب ), يعني: وهو ذو جنابة, وهذه جملة حالية, يعني: أنه لا يغتسل أحدكم حال كونه جنباً بالماء الدائم, وكلمة: جنب تطلق على الرجل وعلى المرأة, فتقول: امرأة جنب ورجل جنب, ورجلان جنب, ورجال جنب, وبعضهم يجوز إطلاق ذلك على حسب التثنية أو الإفراد, رجلان جنبان, أو رجل جنب, ونحو ذلك.
إذا رأيت هذه الأحاديث علمت أن أصحاب أبي هريرة اختلفوا على أبي هريرة في لفظه, ولتعلم أن رواية الحديث بالمعنى جائزة عند عامة أهل العلم, وما زال المسلمون والرواة يروي بعضهم على بعض في الاختلاف في بعض الألفاظ, فتجد أن البخاري رواه بإسناد و مسلم رواه بنفس الإسناد، وتجد أن لفظ البخاري غير لفظ مسلم , فهذا يدل على أن الأئمة يروون الأحاديث بالمعنى, ولهذا كان الإمام البخاري أكثر رواته من أهل اللغة, فتجد أن عبارة ألفاظ البخاري قوية, بخلاف مسلم , ففيها نوع من السهولة الأدبية, فتجد أن عبارة مسلم أسمح وأسهل وأكثر سلاسة في اللسان, وتعلمون خلاف أهل العلم في صحة البخاري و مسلم وقول الرجل:
فقلت: لقد فاق البخاري صحة كما فاق في حسن الصناعة مسلم
فـمسلم يمتاز بسلاسة عبارة أحاديثه, وعلى هذا اختلفت بعض الروايات. وهذا اختلافهم هل هو اختلاف أن أبا هريرة رواها على أكثر من وجه, أو رواها من وجه واختلف الحفاظ في هذا؟ الذي يظهر والله أعلم أن أبا هريرة رضي الله عنه يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة, فيرويه على نحو ما سمعه, وليس الوهم من أبي هريرة ولا من غيره, إلا في بعض الألفاظ, وأنت ترى أن رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة وهو أنه جمع بين النهي عن أن يتبول الإنسان في الماء الدائم, والنهي أن يغتسل الإنسان في الماء الدائم وهو جنب, فليس فيه ما في الأحاديث السابقة, ولكن هذه جملة مستقلة؛ ولأجل هذا تكلم العلماء في رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة , فقالوا: إن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أتى بلفظ لم يروه الحفاظ, وهو أنه جعل نهيان في حديث واحد, في حين أن بعض الرواة روى حديث الاغتسال وبعضهم روى حديث التبول, فحديث الاغتسال رواه مسلم من طريق أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة : ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ), فهذا نهي عن الاغتسال حكم واحد, والرواة الآخرون وهم ثمانية, محمد بن سيرين عند مسلم , الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري , همام بن منبه عند أحمد و مسلم , وكذلك غيرهم من الرواة، يروون عن أبي هريرة بلفظ واحد, وهو النهي عن التبول, ثم العطف على ذلك بالاغتسال: ( ثم يغتسل ), أو ( يغتسل ), كما سوف نأتي إلى بيانه.
ولأجل هذا الاختلاف ضعف العلماء كـــالبيهقي رواية محمد بن عجلان عن أبيه, وهذه فائدة لطالب العلم, وهي أن طريقة الفقهاء تختلف عن طريقة العلماء المحدثين, حيث أن الفقهاء يرون أن الحديث إذا لم يكن فيه خلاف كبير, أو كان الراوي ثقة قبلوها بحجة أن زيادة الثقة من الرواة مقبولة مطلقاً.
أما طريقة أهل الحديث فإنهم يختلفون تماماً في هذا, فليست رواية الثقة عندهم على وتيرة واحدة, زيادة الثقة تقبل, أو زيادة الثقة لا تقبل, فهم يفرقون بين كثرة الرواة للفظ معين, وبين ضبط الراوي لما يرويه, وبين ملازمة الراوي لشيخه, فهذه الضوابط تجد أن لهم دوراً ليس كغيرهم من أصحاب عدم التخصص؛ فلهذا قبلوا أحاديث رجل واحد تفرد عن جمع من العلماء؛ لأن هذا الراوي لا يكاد يخطئ, فالإمام أحمد قبل رواية مالك بن أنس عن الزهري , عن سالم عن أبي هريرة , وهو حديث معروف في الصحيحين: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من طعام على الذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين ), فزيادة: (من المسلمين) تفرد بها مالك عن أصحاب الزهري , قال أحمد : تفرد بها مالك قيل: أتقبلها؟ قال: مالك يرويها, يعني: دليل على أن مالكاً إنما رواها وقد حفظها, فقبلها, في حين أنهم أحياناً لا يقبلون زيادة الثقة؛ فلهذا أنكروا أحاديث كثيرة, من ذلك:
رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر في قصة رفع السبابة ويحركها, فلفظة: (يحركها) تفرد بها زائدة بن قدامة عن عاصم في حين أن أكثر من اثني عشر راوياً منهم أبو عوانة و شعبة و سفيان الثوري وخلق كثير لم يرووا هذه اللفظة عن عاصم , وإن كان زائدة ثقة, فقالوا: هذه اللفظة منكرة, ولا يقال: إنها زيادة من الثقة مقبولة, وهذه طريقتهم رحمهم الله.
وأحياناً يروي رجلان ثقتان عن رجل حسن الحديث, فيختلف الثقتان في هذا الحديث, فلا يجعلون الوهم من الثقتين ولكن الوهم من شيخهم الذي هو حسن الحديث, من ذلك:
خالد الحذاء روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة المرأة التي في يدها مسكتان من ذهب, قال: ( أتؤدين زكاته؟ قالت: لا, قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ ), هذا يرويه خالد الحذاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي, فيسمى موصولاً, ورواه المعتمر بن سليمان وهو أقل حافظاً من خالد وإن كان أوثق من عمرو , فرواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم, فيكون مرسلاً, ومع ذلك قال النسائي : خالد الحذاء أوثق من المعتمر, ورواية المرسل أصح؛ التي هي رواية المعتمر, فلم يقبلوها, فدل ذلك على أن الوهم من عمرو بن شعيب , وعمرو بن شعيب حسن الحديث ولكن لا تقبل أحاديثه التي تفرد بها.
وقالوا: إن محمد بن عجلان عن أبيه أخطأ في هذه الرواية, إذ أن أكثر من ثمانية رواة رووه عن أبي هريرة بالإفراد, وعلى هذا فالإشكال هو في الجمع بينهما, وإن كان الحديث ورد في النهي عن التبول في الماء الدائم, وورد النهي عن الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب؛ لحديث أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ).
وعلى هذا فالحديث بمجموع طرقه يدل على أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة ألفاظ:
اللفظ الأول: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم وهو جنب, وهذه رواية مسلم من طريق أبي السائب عن أبي هريرة .
اللفظ الثاني: النهي في الجمع بين التبول في الماء الدائم والنهي عن الاغتسال فيه من الجنابة, حكمان مستقلان, وهذا رواه أبو داود من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة : ( لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري, ولا تغتسل فيه من الجنابة ).
اللفظ الثالث: النهي عن التبول في الماء الدائم وهو حديث التبول والاغتسال.
الراوية الأولى: الاغتسال، والرواية الثانية: الجمع بين النهي عن التبول والنهي عن الاغتسال, والرواية الثالثة: النهي عن التبول وهي رواية البخاري و مسلم .
على هذا يعلم طالب العلم أنه ليس كل إسناد صح رجاله أن يكون صحيح الإسناد أو صحيح الحديث, وطريقة العلماء عند حكمهم على الحديث من باب التوقي يقولون: حديث إسناده صحيح, ولا يلزم إذا قلنا: إسناده صحيح أن يكون الحديث صحيحاً؛ لأني إذا قلت: إسناده صحيح فإنني أتكلم عن الرجال الواردين في الحديث, فهم ثقات عدول, لكن لا يمنع أن يكون في الحديث علة ترك بعض العلماء بيانها، فيكون الحديث ضعيفاً وإن كان إسناده صحيحاً, وهذه طريقة أهل الحديث رحمهم الله.
نقول: أولاً: إن رواية: ( ثم يغتسل فيه ) تفيد الظرفية, وهذا يدل على أن النهي عن الاغتسال بالانغماس في الماء الدائم, فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم, ثم ينغمس في الماء الدائم الذي تبول فيه وهو جنب ), وأما (منه) فإن النهي إنما المقصود منه الأخذ والتناول والاغتراف, فنهى الشارع أن يتبول المسلم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يأخذ منه ليغتسل منه, فيكون النهي عن الاغتراف, فيكون من باب الاستقذار, يعني: كيف يبول أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه, ولو كان من غير انغماس, فالنفس تستقذر ذلك, وتستبشع هذا الأمر، وهذه روايتان, والذي يظهر والله أعلم أن الحكم للجميع, سواء قلنا: ينهى عن الانغماس فيه, أو ينهى عن الأخذ منه.
وهذا الحديث فيه نهي الإنسان أن يتبول في الماء الدائم ثم ينغمس فيه, أو يتبول في الماء الدائم ثم يغترف ليغتسل منه, يقول أبو هريرة: (ولكن يتناوله تناولاً), وهذا في حق الاغتسال من غير تبول, أما أن يتبول ثم يريد أن يغتسل فهذا ينهى عنه, سواء تناوله تناولاً أو انغمس فيه.
وعلى هذا فلأجل هذه الروايات -وانظروا إلى اللغة وأثرها في تغيير الحكم- الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ثم يغتسلُ فيه ), أو ( ثم يغتسلْ فيه ), أو ( ثم يغتسلَ فيه ), ثلاثة أوجه, كل وجه له حكم أو مسألة, فإذا قلنا وهو الوجه الأول: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسلُ فيه), بالضم, على أن يغتسل فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره, وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره, ثم هو يغتسل فيه, فيكون النهي حينئذٍ أن الاغتسال علة, فكأن الحديث معناه: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري؛ لأنه سوف يغتسل منه, فصار النهي هنا عن التبول فقط, وهذا على رواية الضم؛ لأنها تفيد التعليل.
وأما الوجه الثاني: وهو الجزم, وهو: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسلْ منه ), فهنا يكون فعلاً مضارعاً مجزوماً بلا الناهية, (لا يبولن), فكأن هذه عطف جملة على جملة, وعلى هذا فيكون النهي عن كل من الأمرين, وهو أنك لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري, وأيضاً لا تغتسل في الماء الدائم, وهذا الوجه يؤيد رواية أبي داود من طريق محمد بن عجلان , مع أن لها وجهاً في اللغة لكن أنكرها العلماء؛ لأن العبرة ليست بأن رواية محمد بن عجلان تؤيدها الرواية الثانية، لكن العبرة ماذا سمع أبو هريرة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: وهو رواية النصب: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسلَ ), فهذه لها وجه عند علماء اللغة, وهو أن (ثم) بمثابة واو المعية, والعلماء يقولون: إن بعد واو المعية تأتي (أن) المضمرة, وكأن الحديث: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, وأن يغتسل فيه, فيكون النهي عن التبول والاغتسال معاً, أما أن يتبول وحده فعلى هذه الرواية جائز, أو أن يغتسل وحده فعلى الرواية جائز, ولكن هذا بعيد؛ لأنه جاء حديث بالنهي عن التبول وجاء حديث عن نهي الاغتسال, فيكون هذا الوجه ضعيفاً لا تؤيده الأحاديث الأخرى, وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن أصح الأوجه رواية السكون والجزم: ( ثم يغتسلْ), ورواية الضم, وهو رواية التعليل.
فالمسألة الأولى: هو حكم الاغتسال في الماء الدائم أو الراكد للجنب, وهذا جاء نهي فيه (بلا). ومن الأحاديث ما جاء عند مسلم , ( لا يغتسل أحدكم بالماء الدائم وهو جنب ), وهذا يرويه أبو السائب عن أبي هريرة , وأيضاً جاء نهي آخر.
في حديث عند أبي داود , وهو: ( ولا يغتسل فيه من الجنابة ), وقد اختلف العلماء في حكم الاغتسال في الماء الدائم هل يفيد التحريم أم الكراهة أم الإباحة؟ على قولين:
القول الأول: الاغتسال في الماء الدائم يفيد التحريم, وهو مذهب أبي حنيفة , وهو مذهب الظاهرية, وهو قول عن الشافعية, ورواية عن مالك رحمه الله, ووجه الدلالة: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاغتسال, والنهي يفيد التحريم, إذ لا صارف عن التحريم, ويبقى الأمر على حرمة أن يغتسل الإنسان في الماء الدائم وهو جنب.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب الجمهور: مذهب المالكية والشافعية والحنابلة, فإنهم قالوا: يكره أن يغتسل الجنب في الماء الدائم الذي لا يجري, إلا أن الحنابلة رحمهم الله قيدوا ذلك بالكثير, كما سوف يأتي بيانه.
وقالوا: إن النهي يفيد الكراهة, وهو قول مالك و الشافعي و أحمد, والصارف في هذا هو أن الاغتسال في الماء الدائم يجعل النفس تستقذره, وتستبشع استعماله, فكره ذلك حتى لا يبقى الماء من غير انتفاع.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن الراجح أن النهي يفيد التحريم, سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً؛ لأنه إن كان قليلاً أو كثيراً فإن ذلك مدعاة إلى أن تستقذره النفوس, وربما تلوث من كثرة الاستعمال, فيجعل هذا الماء لا يستعمل ألبتة, وفيه من هدر النعمة, وإضاعة المال, وقد (كره لنا قيل وقال, وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
الآن قلنا: محرم أن تنغمس فيه, يقول: أنا فعلت التحريم, أو فعلت الكراهة على الخلاف, هل يرتفع حدثي؟ وأنتم تعلمون أن الجنب إذا انغمس في الماء ونوى رفع الحدث وتمضمض واستنشق فإن حدثه يرتفع بالإجماع؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]؛ ولما جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في قصة الرجل الذي أجنب, قال: ( خذ هذا فأفرغه عليك ).
طيب, هل يرتفع حدثه؟ هذه مسألة مبنية على خلاف أهل العلم في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام, وهي على أقوال:
القول الأول: إن كان الماء كثيراً فإنه لا يسلبه الطهورية, وحينئذ يرتفع حدثه، وإن كان قليلاً فإن نوى بغسله رفع الحدث فلا يرتفع حدثه؛ لأنه صار ماء مستعملاً فيه طهارة حدث وهو قليل, فصار طاهراً, وإن لم ينو رفع الحدث مثل أن اغتسل للتبرد, لم يسلبه الطهورية, هذا مذهب الحنابلة والشافعية, وهذا عجيب, لكن هكذا قالوا غفر الله لنا ولهم!
وهذا هو كما قلت: هو مذهب الشافعية والحنابلة وأيضاً الحنفية, وهذا مبني على تقسيمهم المياه إلى ثلاثة أقسام, وهو مذهب ابن حزم , لكن ابن حزم إنما منع من رفع الحدث؛ لأنه يرى أن النهي يفيد الفساد والتحريم, ولا عبرة بكون الماء قليلاً أم كثيراً عنده.
القول الثاني: حدثه يرتفع بالانغماس, سواء قلنا بتحريم الانغماس, أم بالكراهة, وهو المذهب عند المالكية ورواية عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله, وهو قول غالب من يقسمون الماء إلى قسمين.
لعلنا نقف هنا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر