الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم! إني أسألك الإخلاص في القول والعمل.
وبعد:
فقد وصلنا إلى آخر ثلاثة أحاديث من باب الآنية، وهذه الأحاديث، هي: حديث أبي ثعلبة الخشني ، ثم حديث عمران بن حصين ، ثم حديث أنس بن مالك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه بلوغ المرام: [ عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: ( قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها ). متفق عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة). متفق عليه في حديث طويل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة). أخرجه البخاري].
هذه الأحاديث كلها صحيحة، وعلى هذا فالإشكال في الأسانيد أقل، لكن نشرع في الحديث الأول.
الحديث الأول يقول المؤلف: (وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: ( قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها )، قال الحافظ : متفق عليه).
وقد بدا لي والله تبارك وتعالى أعلم، وذكرت ذلك أن الحافظ ابن حجر رحمه الله أحياناً يذكر في آخر الحديث من أخرجه في حين أن من أخرجه ليس بلفظه، فقلت: الذي يظهر والله أعلم أن الحافظ ابن حجر إنما أملى غالب هذه الأحاديث من حفظه، فذكر ألفاظاً ليست موجودة فيمن عزاها إليه، مما يدل على أن ذلك كان من حفظه، وذكرت أيضاً كلام الإمام البيهقي حينما قال: أخرجه مسلم في حديث: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، وقلت: إن بعض أهل الحديث لا يهتم بالألفاظ، ولكنه يهتم بمخارج الأحاديث، وقلت أيضاً: إن هذه طريقة أهل الحديث؛ أنهم يرون أن الحديث إذا روي من طرق، يذكرون ويهتمون بالطرق، أما الألفاظ فليس لهم عناية فيها؛ لأنهم لم يقصدوا البحث فيها، وإن كان البحث في الألفاظ محل اهتمام الفقهاء أكثر.
فلعل الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر هذا على هذين المعنيين، وإن كان المعنى الأول؛ وهو أنه أخذه من حفظه أولى، ولعل هذا الحديث الذي بين أيدينا منها، فإن الحافظ رحمه الله ذكر هذا اللفظ، وهذا اللفظ ليس من ألفاظ البخاري وليس من ألفاظ مسلم ، ولكنه قريب من لفظ الإمام أحمد رحمه الله و الترمذي.
والحديث فيه: أبو ثعلبة الخشني الصحابي، والخشني بضم الخاء المعجمة، وفتح الشين المعجمة، من خشين بن نمر من قضاعة، فسموا باسم جدهم خشين بن نمر من قضاعة، واختلف في اسمه اختلافاً كثيراً، ذكر ذلك الحافظ في كتاب الإصابة، وكذلك أشار في الفتح، وذكر أن أكثر أهل الحديث يسمونه: جرثوم.
ومن المعلوم أن أهل الجاهلية كانوا يسمون أولادهم بأسماء فيها نوع من الخشونة، أو نوع من الوحشية، أو نوع من الأذية، وكأنهم يريدون أن يكون لهذا الاسم معنى منه، فإذا قالوا: ثعلب يريدون أن يكون مخادعاً لا مخدوعاً، وإذا قالوا: ذئب، يريدون أن يكون وحشاً مفترساً على من غلبه، وإذا قالوا: جرثوم، فمن المعلوم أن الجرثوم: هو ما كان صغير الحجم، إلا أنه يؤذي، فهذه طريقهتم في تسميتهم، ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم برد هذه المعاني الغير لائقة في الشريعة الإسلامية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـحزن جد سعيد بن المسيب : ( ما اسمك؟ قال:
وأبو ثعلبة الخشني ممن سكن الشام، وكانت قبائل من العرب سكنت الشام، وبسبب كثرة النصارى إذ ذاك في الشام تنصرت قبائل من العرب، كما ذكر ذلك كثر ممن شرح الحديث كالحافظ ابن حجر وغيره، فـكنعان وكذلك خشين -بطن من قضاعة- تنصروا، فهذا يدل على أنه لا يلزم من أن يكون النصارى كلهم غير عرب، بل من العرب العاربة، فالعرب من العرب المستعربة، وأما الروم فبعضهم من العرب العاربة، فأما نحن العرب فنحن من العرب المستعربة؛ لأن إسماعيل أمه هاجر ، فشرف الله سبحانه وتعالى العرب المستعربة بمحمد صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي فهو الشريف الكريم ابن الكريم، ولأجل هذا قال أبو ثعلبة الخشني : ( إنا بأرض قوم من أهل الكتاب )، وهذا يفيد على أنهم إما أن يكون منهم أهل كتاب، وإما أن يكونوا قريبين من هؤلاء.
وقد جاءت رواية أبي داود: ( إنا نجاور أهل الكتاب )، والذي يظهر والله أعلم أن رواية البخاري و مسلم تفيد أنهم في أرض أهل الكتاب؛ لأن من خشين من كانوا نصارى.
فذهب ابن حزم رحمه الله ورواية عند الحنابلة إلى أن الكافر نجاسته نجاسة حسية، ولهذا كان ابن حزم رحمه الله يرى أن عرق الكفار وريقهم نجس، واستدل بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].
قال ابن حزم في المحلى: ولعاب الكفار من الرجال والنساء الكتابيين، وغيرهم نجس كله، وكذلك العرق منهم والدمع وكل ما كان منهم، برهان ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وبيقين يجب أن بعض النجس نجس؛ لأن الكل ليس شيئاً غير أبضاعه، هذا مصطلح من مصطلحات المناطقة، أن البعض والشيء جزء من الكل، فإذا حكم الشارع بالنجاسة على المشركين فأي جزء منهم هو نجس: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، فالنجاسة جزء منها المشركون، فيقول ابن حزم : وليس يكون جزء من الشيء إلا بعضه، فحكم عليه بذلك.
وذهب عامة الفقهاء رحمهم الله -وهو القول الثاني- أن نجاسة الكافر نجاسة معنوية، بدليل حديث: ( إن المؤمن لا ينجس )، ما وجه الدلالة في هذا؟
القول الأول: استدلوا بهذا الحديث، وأنا جعلته دليلاً للقول الثاني، ( إن المؤمن لا ينجس )، لأجل أن أثبت أن النجاسة هنا نجاسة معنوية، والطهارة طهارة معنوية، ولمعرفة كيفية ذلك أقول: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن المؤمن لا ينجس )، أنا استدللت بهذا على أن المؤمن طهارته طهارة معنوية، فكذلك الكافر نجاسته نجاسة معنوية، بدليل أن المؤمن ربما تقع عليه نجاسة فينجس، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن لا ينجس ) دليل على أن المقصود به النجاسة المعنوية، فمفهوم المخالفة في هذا الحديث أن الكافر ينجس، ونجاسة الكافر هي نجاسة معنوية.
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع الكفار وأكل طعامهم، فأكل من طعام أهل الكتاب، وكان أهل الكتاب يدعونه، فيستجيب بناءً على المصلحة التي تقتضي دعوتهم إلى الإسلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك بأبي هو وأمي، وكذلك جوز الشارع زواج المسلم من الكتابية، ومن المعلوم أن الكتابية ريقها لا بد أن يخالط الزوج، وعرقها لا بد أن يخالط الزوج، فلو كانت نجاسة الكافر نجاسة عينية، لوجب على الزوج أن يتقي هذا، ولا دليل من السنة أو من فعل الصحابة، وهذا واضح إن شاء الله، ولكني ذكرت هذه المسألة لأجل أن أبين للناس ألا يكترثوا في بيان المسائل التي يكون قصد الإنسان فيها إرادة الحق، فلا يشغب ولا يخاف ولا يكترث من الذين يتقنصون بعض الأخطاء أو بعض الاجتهادات الفقهية من بعض العلماء وطلبة العلم، لبيان حالهم.
فلو أخذنا سير الأئمة الكبار لما سلم لنا أحد، الآن ابن حزم يقول ابن تيمية عنه: إنه من أذكياء العالم، ويأتي بأشياء يتعجب المرء من قوة ذكائه، كما أنه يأتي بأشياء يتعجب المرء كيف تأتي من ابن حزم، ولو أخذنا ابن حزم وجعلنا قاموس أقواله واختياراته على ميزان بعض الكتاب لوقع في ذلك إشكال.
على كل حال أنا أريد أن أبين أن الإنسان ينبغي له أن يكون مدار أقواله على مراد الله ومراد رسوله، وقول الله وقول رسوله، وكثيرون الذين يبحثون المسائل فتأتيهم بعض الأحاديث التي تخالف مذهبهم، فتجد أنهم يؤولونها على غير مراد الله ومراد رسوله، ودائماً أقول كما قال أبو العباس بن تيمية في المجلد السادس: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله، لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر، ولا على ما يقتضيه اللفظ، إذا كان قد علم أن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم شيء آخر، وهذا مهم جداً لطالب العلم كما سوف يأتي بيان بعض الأحاديث كحديث أبي ثعلبة الخشني ، فلماذا حملناه على غير ظاهره؟ فـابن حزم استدل بهذا الحديث على نجاسة الكافر نجاسة عينية، والراجح كما قلنا: إن نجاسة الكافر ليست عينية ولكنها معنوية، وإنما أمر العبد بأن يغسلها، يعني: يغسل أواني أهل الكتاب، لمعنى آخر سوف نذكره إن شاء الله في المسألة الثانية، وهي حكم استعمال آنية المشركين.
أنا قلت: إن نجاسة الكافر نجاسة عينية هو قول ابن حزم ولكني لا أعلم أنه رواية عند الأمام أحمد ، لكن أواني أهل الكتاب هو رواية عند الأمام أحمد وهو قول ابن حزم كما في المحلى، فجعل ابن حزم أن أواني أهل الكتاب الأصل فيها النجاسة، ولو غلب على ظننا أنها طاهرة، فيجب علينا أن نغسلها؛ لأن النبي أمر بغسلها.
والقول الثاني في المسألة: قالوا: إن الأصل طهارة أواني المشركين، لكن يكره استعمالها قبل غسلها، هذا القول هو مذهب أبي حنيفة ، لماذا ذهب أبو حنيفة إلى هذا؟ قال: إن حديث أبي ثعلبة الخشني يدل على النهي عن استعمال أواني أهل الكتاب؛ لقوله: ( إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها )، قال: فهذا يدل النهي في استعمال أواني أهل الكتاب، وحملنا النهي على الكراهة؛ لأن الله يقول: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:5]، ومن المعلوم أن طعام أهل الكتاب لا بد أن يطبخ وتمسه أيدي الكفار، وأوانيهم مستعملة بالطعام، فأطلق الشارع أن الطعام حل سواء وجدت الأواني أم لا، والقاعدة عند أهل الأصول: أن ترك الاستفصال بمقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فلما جاءنا نص بالإباحة، ونص بالمنع، دل على أن المنع للكراهة، وهذا القول فيه قوة.
القول الثالث: قالوا: يجب غسل ما استعملوه من الأواني وإن لم نعلم النجاسة، كما أنه لا يجب غسل ما لم يستعملوه ما لم نتيقن النجاسة، هذا قول مالك رحمه الله، واستدل بالأمر، في الحديث: ( فاغسلوها ).
القول الرابع: قول الشافعي : إن تيقنا الطهارة لم يكره الاستعمال، وإن تيقنا النجاسة كره استعمالها كراهة تحريم حتى نغسلها.
إذاً عند الشافعي أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لم تجدوا غيرها فكلوا )، على احتمال وجود شك في النجاسة فيكره الاستعمال، لماذا لم نحكم بالحرمة؟ لأننا لا نعلم وجود النجاسة، وإن تيقنا الطهارة جاز الاستعمال بلا غسل، وإن لم نتيقن كره استعمالها حتى تغسل، هذا قول الشافعي .
والقول الخامس: ولعله أظهرها وهو المشهور من مذهب الحنابلة؛ وهو أن الأصل طهارة أواني المشركين حتى يعلم نجاستها، وهذا مذهب الحنابلة، ولهذا قال صاحب الزاد: (وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم وثيابهم إن جهل حالها)، وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم وثيابهم يعني: تحل ثيابهم إن جهل حالها، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من طعامهم، وتوضأ هو والصحابة من أوانيهم من مزادة المرأة المشركة كما سوف يأتي بيانه، وهذا دليل على أن الأصل الطهارة.
وأما حديث أبي ثعلبة ، فإنما ذلك على سبيل الاحتياط، حيث أنه قال: ( إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم )، فالغالب في استعمال هؤلاء أنهم يشربون فيها الخمر، فلأجل هذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتعد المسلم عن الكافر حتى في أوانيهم، وهذا إشعار بأنه لا ينبغي أن يخالط المؤمن الكافر مخالطته للمؤمن، هذا بدلالة الالتزام، فنهينا عن استعمال أوانيهم، إذا كان عندنا ما يغنينا، فإذا لم يكن جاز، فكأن هذا نوع بدلالة إيماء لـأبي ثعلبة ألا تخالطوا أهل الكتاب إلا فيما جاءت الحاجة إلى مثله، وأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل مع عدم الوجود من باب الاستحباب، فغسلوها من باب الاستحباب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وقد قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وهذا عام لكل شيء، وهناك حديث لعله أصرح شيء في الباب، وهو حديث جابر الذي رواه الإمام أحمد و أبو داود وصححه بعض المتأخرين، وهو أنه قال: ( كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها فلا يعيبوا ذلك علينا )، وأنت تعلم أن الصحابة أكلوا من جبن أهل الكتاب بغزوة تبوك، ومن المعلوم أن الجبن لا بد من وضعه في الأواني، فهذا يدل على أن الأصل الجواز، والله أعلى وأعلم.
والحكم في المجوس كالحكم في المشركين، ولهذا من تفننات الإمام البخاري ، أنه يبوب باب مثلاً يقول: باب آنية المجوس والميتة، ثم يذكر حديث أبي ثعلبة الخشني ، وليس فيه ما يدل على أنهم من أهل المجوس، فكأن هذا كما أشار الحافظ في الهدي، كأن البخاري ذكر ذلك في بعض روايات الحديث، وقد ذكرنا أن الإمام أحمد روى من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي ثعلبة الخشني أنه فيه، ( إنا نأكل في آنية المجوس )، فدل ذلك على أن هذه الطريقة للإمام البخاري أنه يرى جواز الأكل من أواني المجوس، شريطة ألا يعلم أنها نجسة.
الفائدة الأولى: حسن أدب التعلم وإلقاء السؤال، فـأبو ثعلبة الخشني ذكر ما يكتنف الحكم الشرعي، فذكره كي يكون المفتي على علم ودراية، فقال: (إنا بأرض قوم من أهل الكتاب، نأكل في آنيتهم)، ولم يقل: ما حكم أواني أهل الكتاب مطلقاً؟ وإني أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم، وهكذا ينبغي أن يسأل الإنسان، فبعض الناس أحياناً يذكرون بعض الأشياء التي لا علاقة لها أصلاً في السؤال، وأحياناً يتركون أشياء لها علاقة جوهرية في السؤال.
وحذاري أن نكون كما كان بعض الإخوة حين إلقائهم السؤال للشيخ يذكرون بعض الأشياء، مما تجعل بعض المفتين يقولون بالجواز، أو بعض المفتين يقولون بالحرمة، وقد يكون التحريم ليس لأصل المسألة، ولكن لأجل ما يعتريها ويعتورها من ملابسات، فإذا سأل ما حكم السفر إلى بعض البلاد الإسلامية؟ فسوف تعطي حكماً عاماً مطلاقاً، وإذا قلت لك: ما حكم السفر إلى بعض البلاد الإسلامية التي لا ينفك الإنسان عن رؤية المنكرات، والنساء المتبرجات، ومعاهرة الفاجرات، ولا يسلم من سماع الأغاني، في حله وترحاله، من حين أن يخرج من بيته إلى أن يصل إلى بيته؟ طبعاً سوف تقول: حرام حرام لكن ليس هذا الحكم بهذه الطريقة.
ولهذا تجد بعض الإخوة هداهم الله في طريقة كتاباتهم للأسئلة للمشايخ كأنهم يريدون أن الشيخ لا يمكن أن يقول إلا: حرام، وأرى أن هذه طريقة ليست بمنصفة ولا عادلة، وقد يأتي زمان تزال هذه الملابسات عند هذه الفتوى، فيفتي العالم بخلاف فتواه السابقة، فيقولون: الشيخ متناقض! ولهذا دائماً أقول: في طريقة الفتوى اذكر الحكم الشرعي الأصل، ثم اذكر ما يعتريه من ملابسات، فإذا سئلت عن النقاب، قل: الأصل أن النقاب جائز في حق النساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تنتقب المحرمة )، كما عند البخاري من حديث ابن عمر ، فدل على أن المرأة تنتقب في غير الإحرام، وأما ما يحصل فيه من التبرج والسفور فهو محرم، لا لأجل وجود النقاب، ولكن لأجل التبرج فيه، أما أن أعطي حكماً فأقول: يحرم النقاب لما فيه من التبرج، مع أن بعض النقابات ليس فيه ذاك، فهنا أكون قد جانبت الصواب في بيان هذا الحكم لبعض المسلمات الآتي يعشن في غير بلدهن، وأعرف أن بعض النساء حينما أبلغهن بعض المفتين بأن النقاب محرم شق ذلك عليهن، وقد كن يرين أن النقاب محارب من قبل بعض غير الإسلاميين، فلهذا ينبغي أن يستحضر الإنسان في الفتوى العموم والخصوص، وهي مسألة: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ما في آنيتها ولم يستفصل عن حالها، فهذا هو وجه الدلالة في هذا الحديث، ثم إن قول الحافظ : (توضئوا من مزادة امرأة مشركة)، لم يرو بهذا اللفظ، ولكن الحافظ رواه بالمعنى، والغريب أن هذا المعنى لم يُذكر عند الحفاظ، ولكنه ذكره الحافظ رحمه الله، بمعنى: أنه لم يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة، فلا يجزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم توضأ منه، لكن في الغالب أن هذا هو الظاهر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر