الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فأسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التوفيق والتسديد، والهداية والرشاد في القول والعمل، وأن يمن علينا بعد أن من علينا باستكمال هذا الدرس واستئنافه أن يمن علينا باستكمال شرحه إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وقد توقفنا عند باب المسح على الخفين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه بلوغ المرام: [ وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما ) متفق عليه.
وللأربعة عنه إلا النسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )، وفي إسناده ضعف.
وعن علي رضي الله عنه قال: ( لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه )، أخرجه أبو داود بإسناد حسن ].
لأن الواو تقتضي العطف على (فاغسلوا) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6]، فجاءت (فامسحوا برءوسكم وأرجلَكم)، فقراءة (وأرجلَكم) ترجع إلى الغسل، يعني: (واغسلوا أرجلَكم)، وأما قراءة الجر (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم) فللعلماء أربعة مخارج:
المخرج الأول: هو مخرج من علماء اللغة كـالأخفش و أبي البقاء العكبري الإمام النحوي المعروف، فإنهم قالوا: إن هذا الجر إنما هو من باب المجاورة، وإن كان في محل نصب، فكان الجر لأرجلكم من باب المجاورة كما يقولون: جحر ضبٍ خربٍ، وإلا فإنها خربٌ، فإنه جرت لأجل المجاورة، أو جحر ضب خرب؛ لأنه صفة للجحر، فهذا قول: أنه من باب المجاورة، وقد قواه الشنقيطي رحمه الله، وذكر أدلة من أشعار العرب ما يدل على المجاورة، ولا شك أن المجاورة معروفة في لغة العرب، لكن هل هذه الآية داخلة في لغة العرب من باب المجاورة أم لها معنى آخر كما سوف يأتي، هذا القول الأول.
المخرج الثاني: قالوا: إن قوله: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم) يقتضي أيضاً الغسل؛ لأن معناه هو أن يمسح، ثم يمسح ثم يمسح حتى يحصل الغسل، كما جاء ذلك عند أبي داود من حديث علي بن أبي طالب (أنه رش على رجليه)، ومعنى الرش كما يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: أنه هو الرش الذي يحصل به الغسل، هذا المعنى الثاني، ولا شك أن هذا المعنى متكلم فيه.
المخرج الثالث: أشار إليه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، فقال: إن رواية النصب على الأصل، وهو الغسل، وأما رواية الجر فهي تفيد الدلك، فكأن المشروع في حق المسلم حينما يغسل رجليه أن يدلكهما مع الغسل، فيكون داخلاً في حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وخلل بين الأصابع )، فيكون هذا نوع من الدلك، وهذا تفسير ابن جرير الطبري .
المخرج الرابع ولعله أظهر وأقوى: وهو الذي مال إليه طائفة من أهل الحديث كالإمام الشافعي رحمه الله، و ابن القصار المالكي والإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وقواه الإمام الصنعاني قالوا: إن قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:6] بالكسر دليل على إثبات المسح على الخفين، فكأن الآية أشارت إلى معنيين، الغسل في حال عدم وجود الخف، والمسح في حال وجود الخف، فإذا كان فيه الخف ففيه الجر، وعلى هذا فيمسح، وإن لم يكن فيه الخف ففيه النصب على الغسل، وهذا القول لعله أظهر والله تبارك وتعالى أعلم.
وأما السنة فقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأجل هذا قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي في المسح على الخفين شيء، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مرفوع وموقوف، أو كما قال رضي الله عنه، فهذا جعل الإمام أحمد يطمئن في المسح على الخفين؛ لأن عنده أربعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة تفيد المسح على الخفين، بل ذكر الإمام ابن المنذر عن الحسن البصري كما في كتاب الأوسط لـابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا المسح على الخفين، بل بالغ الإمام وتحقق وحقق الإمام ابن مندة في كتابه التوحيد فذكر ثمانين صحابياً كلهم قد ذكروا أحاديث المسح على الخفين، وقد ذكرها الإمام ابن الملقن في كتاب البدر المنير.
وعلى هذا فإن مخالف المسح على الخفين جعل أهل العلم يقولون عنه: بأنه مبتدع، وعلى هذا فكان شعار أهل السنة والجماعة المسح على الخفين، ويخطئ كثير من العامة كبار السن والعجائز النساء أنهم لا يمسحون على الخفين، ولو كان في شدة البرد، ويقولون: لا تسمح نفسي بذلك، وهذا مشكل، بل ينبغي للمسلم أن يمسح على الخفين ولو مرة، ليكون بذلك مثبتاً لشعار أهل الإسلام، وإن كان العلماء قد اختلفوا أيهما أفضل: المسح على الخفين أم الغسل أم هما سواء كما سيأتي إن شاء الله تحقيق هذه المسألة، لكن الذي نريد أن نبينه هو أن المسح على الخفين ثابت متواتر عن الصحابة.
فيحمل على أن الأفضل الغسل، لا أن المسح لا يجوز، وفرق بين الأمرين، وعلى هذا فما نقل من إنكار بعض الصحابة على ذلك محمول على ثلاث احتمالات:
الاحتمال الأول: أنها ضعيفة، وقد نقلنا عن الأئمة كالإمام أحمد و الدارقطني ، و أبي عمر بن عبد البر و النووي إنكارهم هذه الروايات.
الاحتمال الثاني: أنه كما قال عبد الله بن المبارك : وما نقل عن بعضهم كراهة ذلك، فقد نقل عن بعضهم الجواز، فهذا يدل على أنهم تراجعوا.
الاحتمال الثالث: محمول على أن الأفضل في حقهم الغسل لا كراهة أو منع المسح، هذه ثلاث احتمالات.
وقد جاءت أحاديث تفيد أن المسح على الخفين رخصة، من ذلك: ما رواه عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال أنه قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا للجنابة، ولكن من غائط وبول ونوم )، فلفظ رواية: (رخص) جاء في بعض الروايات وقد قال البخاري رحمه الله: أصح شيء في المسح على الخفين حديث صفوان بن عسال وقد جاءت لفظة الرخصة أيضاً من طريق المهاجر عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمسافر إذا سافر ثلاثة أيام بلياليها أن يمسح إذا تطهر ولبس خفيه كما سيأتي في أحاديث البلوغ، والحديث تكلم فيه بعض أهل العلم وقالوا: إن المهاجر لا يعرف كما ذكر ذلك العقيلي في كتابه الضعفاء، وقوى أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث، ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: أصح شيء في الباب حديث صفوان بن عسال وحديث أبي بكرة حديث حسن، وهذا إشارة إلى تحسين الإمام البخاري حديث أبي بكرة ، وقد مر معنا في مسألة رواية المجهول أنه إذا جاء بما لم يخالف الثقات وقد روى عنه خلق كثير، فإنه يقبل والله أعلم، وهذا منها، وعلى هذا فلا ضير أن نسمي المسح على الخفين رخصة أم لا، ولا بأس وهذا هو المذهب.
إذاً المسألة ذكرناها في مسألة مسح الرأس على العمامة، وهل يجوز مسح كامل الرأس، أم يجوز الربع أو الثلث كما هو مذهب الشافعي و أبي حنيفة أم لا بد فيه من استكماله كما هو مذهب أحمد و مالك أليس كذلك؟ وذكرنا هذا الحديث وهذا منها، ولهذا جاء في بعض الروايات قال: ( فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما ).
الجواب الأول: أن عنعنة الرواة في البخاري و مسلم محمولة على السماع؛ لأنهما لا يذكران هذا اللفظ أو هذه الرواية إلا وقد علماه من طريق أخرى، وكما يقول أبو الحجاج المزي : فلأجل هيبة الصحيحين لا نقول بضعفهما، هذا معنى لمن لم يعقل ولم يدرك الأحاديث الواردة في هذا.
الجواب الثاني: أن أبا عوانة قد رواه من ثلاث طرق عن زكريا بن أبي زائدة قال: حدثنا عامر الشعبي ، فهذا دلالة على أن رواية زكريا قد رواها مصرحاً فيها بالسماع، وعلى هذا فليس في الحديث إشكال، وهذا الحديث من أصح الأحاديث الواردة في المسح على الخفين، وقد اختلف العلماء أيهما أصح حديث المغيرة بن شعبة أم حديث صفوان بن عسال ؟ فذهب بعضهم إلى أن أصح شيء في الباب هو حديث صفوان بن عسال كما نقل الإمام الترمذي عن الإمام البخاري رحمه الله أنه قال: أصح شيء في الباب حديث صفوان بن عسال وحديث أبي بكرة حديث حسن، وقال بعضهم: إن أصح شيء في الباب هو حديث المغيرة بن شعبة ، والجمع بين هذا الكلام أن تصحيح الإمام البخاري لحديث صفوان بن عسال ؛ لأجل أن في حديث صفوان وحديث أبي بكرة فيها رواية: ثلاثة أيام بلياليها، وأما حديث المغيرة بن شعبة ففيه إثبات المسح على الخفين دون ذكر ثلاثة أيام أو يوم وليلة، هذا هو الذي يظهر والله أعلم.
وفي الحديث مسألة وهي: مسألة اشتراط الطهارة كما سيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
الفائدة الأولى: في الحديث دليل على جواز المسح على الخفين، وقد أشرنا ونقلنا كلام الأئمة في هذا الباب، إلا أن أهل العلم اختلفوا أيهما أفضل المسح على الخفين، أم الغسل، أم هما سواء، أم في المسألة تفصيل؟ ثلاث روايات عند الإمام أحمد ، والقول الرابع اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
القول الأول: مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن الأفضل الغسل، قالوا: لأن هذا هو الغالب من حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعله، فإن أكثر الذين رووا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرون غسل القدمين، وقد روى ابن المنذر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: حبب إليّ الطهور، وهذا يفيد أن عمر كان يرى الغسل، حبب إليّ الطهور، وإن كانت هذه اللفظة تحتمل أن عمر رضي الله عنه كان يتوضأ لكل صلاة، كما قال: ( يا رسول الله! قد رأيتك تصنع اليوم شيئاً لم أرك تصنعه قبل ذلك، قال: عمداً صنعت يا
القول الثاني: ذهب الحنابلة في المشهور عندهم وهو المذهب إلى أن الأفضل المسح، ثم قالوا: ولا يستحب أن يلبس ليمسح، هم يرون أن الأفضل المسح، وقالوا: ولا يستحب أن يلبس ليمسح، فيقول: الأفضل المسح، فإذا كان الإنسان لابساً خفيه، فالأفضل أن يمسح، ولكن لا يستحب له أن يتقصد اللبس للمسح.
القول الثالث: وكأن هذا القول هو اختيار ابن تيمية وهو أن الأفضل في حق المتوضئ ما كان على حال قدماه، فإن كانت قدماه حال الوضوء على الخلع فالأفضل الغسل، وإن كانت قدماه فيهما الخف فالأفضل المسح، وكأن هذا القول هو اختيار المذهب؛ لأنهم قالوا: الأفضل المسح ولا يلبس ليمسح، فكأن هذا هو المذهب والله أعلم.
وإن كان هناك اختلاف دقيق، حيث أن الحنابلة يرون أنه إذا كان في الشتاء يلبسهما دائماً ويمسح، والله أعلم، لكن حال الوضوء لا يتقصد المسح، وفرق بين الأمرين هذا الفرق بين ابن تيمية والحنابلة، فالحنابلة يقولون: لو لبس لأجل أن يستمر في المسح فهو أفضل، لكن حال الوضوء يلبس ليمسح لا، هذا الفرق بين ابن تيمية وبين الحنابلة.
القول الرابع: لا فرق أن يمسح أو أن يغسل.
إذاً في المسألة أربعة أقوال: الغسل وهو قول الجمهور، المسح وهو قول الحنابلة في المذهب، الرواية الثالثة اختيار ابن تيمية أن الأفضل هو حال القدمين، فإن كانت من غير خف فالأفضل الغسل، وإن كان بالخف فالأفضل المسح، والقول الرابع هما سواء، وهذه رواية ثالثة عند الحنابلة والله أعلم.
والذي يظهر لي والله أعلم أن الحنابلة إنما قالوا بذلك؛ لأن المسح رخصة، كما ثبت في حديث صفوان وفي حديث أبي بكرة ، وقد قلنا في حديث أبي بكرة : فيه المهاجر عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وقلنا: إن المهاجر قال فيه العقيلي : لا يثاب على حديثه، وقد قلنا: إن أبا عمر بن عبد البر قال: وما ذكره بعضهم أنه مجهول فليس بمجهول، فقد روى عنه ثلاثة، فهذا يدل على أنه ليس بمجهول العين، ولكنه ربما يكون مجهول الحال، وهذا مجهول، فيقبل حديثه؛ لأنه أتى بما لم يخالف الثقات، والحنابلة قالوا: لأنه ثبت عند ابن حبان من طريق هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )، قالوا: فلأجل هذا يفعلها، ثم قالوا: ولأن هذا شعار أهل الإسلام وأهل السنة على أهل البدع، والأفضل في حق الشعائر إظهارها، واختيار ابن تيمية فيه قوة، والله أعلم؛ وهو حسب حال القدمين وقت الوضوء والله أعلم.
ولكن العلماء اختلفوا في مسألة وهي: إذا قلنا بأن الطهارة المائية واجبة في المسح على الخفين، فهل يجب استكمال الطهارة في أعضاء الوضوء كلها، كما هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، أم يكفي بأن يغسل رجله اليمنى أو اليسرى بعد استكمال أعضاء الوضوء السابقة؟ فلو لبس بعد ذلك ثم غسل الرجل الأخرى جاز له أن يمسح قبل استكمال الطهارة، أهم شيء أنه يغسل رجليه، الطهارة المائية قلنا: إنه لم يخالف إلا أصبغ ، فلو غسل رجليه بالماء، ثم أدخلهما ولو لم يتوضأ جاز عند أصبغ ، ولكن العلماء يقولون: إنه خطأ.
القول الأول: قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، فقالوا: يجب استكمال الطهارة لكامل أعضاء الوضوء، فلا يدخل الخف إلا بعد استكمال كامل الطهارة، واستدلوا بأدلة:
أولاً: حديث المغيرة ( فإني أدخلتهما طاهرتين )، قالوا: وجه الدلالة أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( أدخلتهما طاهرتين )، المقصود الطهارة الشرعية، ومن المعلوم أن الإنسان إذا غسل أحد الرجلين ولم يكمل الأخرى فهل تطهر طهارة شرعية؟ قالوا: لا، ومن ذلك قالوا: وقد جاء صراحة في رواية أبي بكرة فإنه قال: ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء للمسافر أن يمسح إذا تطهر فلبس خفيه )، فقالوا: وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى وجود الطهارة كاملة، ثم لبس الخفين، ولهذا أشار بالفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب (إذا تطهر فلبس خفيه).
القول الثاني في المسألة: هو مذهب أبي حنيفة و ابن حزم واختيار ابن تيمية رحمه الله، و ابن المنذر و المزني قالوا: إن الإنسان إذا استكمل أعضاء الوضوء السابقة حتى وصل إلى أحد القدمين فغسلها جاز أن يدخل الخف، ثم إذا غسل الآخر أدخل الخف، وقد بالغ أبو العباس بن تيمية في الرد على أصحاب القول الأول، كما في مجموع الفتاوى في المجلد الواحد والعشرين، بل قال: وهذا هو الصحيح بلا شك، وقال: ثم إن أصحاب القول الأول يأمرون من فعل ذلك -ما معنى فعل ذلك؟ يعني: غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف، ثم غسل اليسرى- أن يخلع الخف الأيمن، ثم يلبسه بعد ذلك، قال ابن تيمية: وهل هذا إلا عبث محض ينزه الشارع عن الأمر به! وهذه كلمة قوية من أبي العباس بن تيمية ، ولا حرج فقد بلغ القنطرة رحمه الله، إلا أن أصحاب القول الأول يقولون: هذا الأمر منا لم يكن من أمر الشارع، ولكنه علاج ودواء لمن أخطأ، ومن المعلوم أن معالجة الخطأ لا يلزم فيها ثبوت حكم شرعي، الآن إعادة العضو بعد قطعه لو أن إنسان أعاده هل جاء عن الشارع تعيده أو لا تعيده؟ ما جاء عن الشارع، فلو أعاده في مسألة خلافية، فهل يقال بأنه عبث تنزه عنه الشريعة بعد وجود القطع؟ نقول: لا، الشريعة إنما جاءت بأصل العقوبة، فثبت القطع، فمسألة يرجع أو لا يرجع هذه مسألة أخرى لها أدلتها، كما أننا نقول: أحياناً في أن الإنسان تزاد عليه العقوبة مكاناً لوجود أمر آخر وهو العلاج ونحو ذلك، وقد يقال بأن القول الأول قوي لظاهر النصوص إذا تطهر فلبس خفيه، وهذا هو الأحوط، والقول الثاني قد يقال بجوازه إذا غسل رجله اليمنى، ثم لبس الخف ثم غسل رجله اليسرى؛ لأن الإنسان لم يزل بعد في الموالاة، فما زالت الرجل اليمنى رطبة فإذا كانت الرجل اليمنى ما زالت رطبة فلا حرج أن يمسح، وأما إذا غسل اليمنى ثم نشفت ثم أدخلها فإن القول الأول أظهر، وهذا ربما يكون جمعاً بين الأقوال والله أعلم.
العلة الأولى: لم يثبت سماع ثور بن يزيد عن رجاء ، فإن ثور بن يزيد لم يسمع هذا الحديث عن رجاء ، ولهذا روى الدارقطني عن عبد الله بن المبارك قال: حدثنا ثور بن يزيد قال: حدثت عن رجاء بن حيوة ، وهذا يدل على أنه لم يسمع من رجاء .
العلة الثانية: أن الحديث محفوظ فيه الإرسال، وهو أن الحديث من طريق ثور بن يزيد قال: حدثت عن رجاء بن حيوة ، عن كاتب المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه المغيرة ، ولأجل هذا ضعف الإمام أحمد هذا الحديث و أبو حاتم و البخاري و أبو زرعة و الترمذي و أبو داود وغيرهم كثير.
والعلة الثالثة في هذا الحديث: أن هذا اللفظ فيه نكارة، حيث أن الأحاديث الواردة عن المغيرة بن شعبة لم يذكر فيها المسح على أسفل الخف وأعلاه والله أعلم.
المسألة الأولى: أنه يستحب مسح أعلى الخف، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صفة ظاهرة، إلا أنه يكفي الإنسان أن يبلل يديه ثم يمررهما على ظاهر الخفين من أولهما إلى أعلاهما، ويبدأ بهما جميعاً، ولم يرد في ذلك كبير شيء، وإن كان بعض الفقهاء ذكر أنه ما دام ثمة مسح فإنه يمسح بهما جميعاً كما يمسح الأذنين، وهذا ليس فيه ظاهر؛ لأنه قال: فمسح عليهما، فيمكن أن يقول: مسح عليهما مرة جميعاً، ومرة خلع الكف واحد ثم مسحه ثم لبسه ثم الآخر، فكل ذلك جائز، ولا يقال في ذلك: سنة؛ وهنا قاعدة أقولها دائماً: إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل شيء، ولم يبين لنا صفته، فإن الصفة لا يستحب فيها شيء، لم يثبت فيها كبير شيء، فعلى هذا فإما أن يمسحهما جميعاً، وإما أن يمسح يده اليمنى على رجله اليمنى، ثم يده اليسرى على رجله اليسرى، كل ذلك جائز إن شاء الله، ثم إنه إذا ثبت هذا فلا يستحب التكرار، إلا على قول عند الشافعية القائلين بأن مسح الرأس يستحب فيه ثلاثاً، وقد أشرنا إلى أن هذه الرواية ضعيفة، فيمكن أن يكون هذا قياس عندهم، ولم أطلع على قول عندهم في ذلك، فلعله من باب القياس فيقولون بذلك، ولكن الراجح أنه لا يستحب التكرار والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الجواب: أنا قلت: إن الأقرب والله أعلم أنها رخصة من حيث أصل التشريع وإلا فهي عزيمة، فعلى هذا فيفعلها الإنسان كما قلنا: إن الأفضل إذا لبس الخف فالأفضل المسح، وإذا لم يلبس الخف فالأفضل الغسل، وعلى هذا فهما سواء بالعزيمة.
الجواب: هذه مسألة أشار إليها بعض العلماء في قولهم: ( فإني أدخلتهما طاهرتين )، قال في معنى طاهرتين: هل يجوز إدخالهم طاهرتين على طهارة تيمم أم لا؟
الذي يظهر والله أعلم أنه إذا لم يجد الماء وتيمم، فإنه يجوز لبس الخفين سواء لبسهما على طهارة أم لا؛ لأنه لا حكم للرجلين حينئذٍ بعد وجوب التيمم إذا انتهت مدة المسح، ما له حكم، يعني: مثلاً: الإنسان انتهت مدة المسح سواء كان سفراً أو حضراً، ثم عدم الماء، فإننا نقول: تيمم ولا حكم للخفين بعد ذلك، هذا الذي يظهر والله أعلم.
الجواب: عامة أهل العلم بل أظن أنه إجماع أنه إذا مسح مسافر يوم وليلة، ثم قدم بلده فإنه تنتهي مدة المسح كما هو مذهب الجمهور والله أعلم.
الجواب: هذه مسألة ثانية نذكرها، مع أن كل هذه المسائل سوف نذكرها إن شاء الله في شرحنا، مسألة لبس الجوربين -وأنا أذكرها من أجل وقت البرد الآن- إذا غسل رجله ثم لبس الخف أو الجوارب فهل يجوز أن يلبس الجوارب الثانية؟
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يلبس الجوارب الثانية بعد أن مسح على الجوارب الأولى بشرط ألا يدخلهما إلا على طهارة مسح، لكي يمسح عليهما، وهذا هو قول لبعض الأحناف، ورواية عند الإمام أحمد ذهب إليها بعض مشايخنا كشيخنا محمد بن عثيمين ، وعلى هذا فلو أنه غسل رجله لصلاة الظهر، ثم لبس الخف فأحدث، فمسح العصر، ثم بعد العشاء أحس بالبرودة فإن أحدث لم يشرع له أن يدخل الخف الثاني لكي يمسح عليه إلا بعد أن يمسح على الأول ثم يدخلها لكي يمسح على الثاني، وحينئذٍ إذا مسح على الثاني يكون الحكم للأول، يعني: أنه الآن لبس الخف الظهر ثم مسح العصر، ثم احتاج العشاء إلى لبس خف آخر، فنقول: إن كان الإنسان ما زال طاهراً بطهارة مسح الأول جاز له أن يلبس الثاني ويمسح عليه في مدة الأولى، وهل هذا كله على القول الأول؟ وهل إذا أحس بحر وخلع الثاني بعد أن مسح عليه يستمر الحكم للأول أم ينتهي الحكم؟ شيخنا محمد يرى أنه يستمر الحكم قال: كما أن في الخف ظاهره وباطنه بناءً على هذا الترتيب.
القول الثاني في المسألة: وهو مذهب الجمهور قالوا: لا يصح أن يدخل خفاً على خف طاهرة ليمسح عليه، وعليه فلو في صورتنا الأولى احتاج إلى أن يلبس الخف الثاني لا بأس بشرط ألا يمسح عليه، وهذا هو الراجح؛ لأنه كما قلنا في حديث: ( إني أدخلتهما طاهرتين ) يعني طهارة مائية، ولو قلنا بجواز ذلك للزم منه التسلسل يعني: أنه قبل انتهاء المدة ما يخلع الجورب، إذا كان طاهراً يلبس الجورب الثاني، ويكون الحكم جائز؛ لأنكم إذا جوزتم مسح الخف الأعلى بدعوى طهارة المسح، فليشرع حكم جديد وهو يوم وليلة، أما أن تأخذوا بعض الحكم وتتركوا بعض فلا.
الجواب: هو أنا أعرف فهم القول، هذا يسموه فهم القول، لكن ما فيه دليل، تقول أنت: المسح على الفوقاني بطهارة مسح وأنتهي من المدة بطهارة التحتاني، قلنا: ولكن إذا جوزت المسح على الثاني؛ لأنه أدخلها على طهارة ومسح الأول فالحكم حينئذٍ معلقاً بالثاني ليس معلقاً بالأول، كما أنك تقول: إني أدخلت القدمين على طهارة غسل صار الحكم للمسح، وعلى هذا فلا يسوغ لبس خف ثانٍ بعد أن مسح على الخف الأول، لكن لو أنه غسل رجله ثم لبس خفاً أو جورباً واحداً وثانياً، ثم مسح على الفوقاني، ثم خلعه، وبقي خف تحت هل الحكم يبقى أم لا؟ رواية في المذهب ينتهي، والرواية الثانية أنه لا ينتهي، والأحوط الانتهاء، ولكن لو استمر جاز، والله أعلم خروجاً من الخلاف والله أعلم.
الجواب: الأخير لا، بهذا اللفظ ضعيف، أما حكمه ثابت، ( فقد رأيت رسول الله مسح أعلى الخف ) هذا ثابت، أما رواية لفظة (لو كان الدين بالرأي) هذا لم يقله علي ، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: المهاجر أبو مخلد ، ذكر بعضهم أنه ضعيف وأنه مجهول، حكى ذلك أبو حاتم رحمه الله، فقال في ترجمته كما في الجرح والتعديل: لين الحديث وليس حديثه بذاك، وليس بالمتقن ويكتب حديثه، وأنا أريد أن أبين لكم فائدة يا إخوان! الذي يقرأ كتاب الجرح والتعديل لـلإمام أبي حاتم الرازي يتنبه فإذا قال أبو حاتم : لين الحديث يكتب حديثه، فمن المعلوم أن أبا حاتم شديد في الرجال، حتى أنه ترجم لـمسلم بن الحجاج صاحب الصحيح فقال: صدوق! وهذا يدل على أن له طريقة في التصحيح إذا رأى أن الرجل أخطأ في بعض حديثه ولو واحد أو اثنين أو أن روايته تخالف رواية عامة الناس فإنه لا يجعله من باب الثقة، ولهذا تعرف أنت في ترجمة هذا الراوي إذا قال: ليس بالمتقن تعرف أنه إلى الحسن أقرب، وإذا قال عن رجل: صدوق فهو ثقة، لكنه ليس بحجة، وعلى هذا فقال: ليس بذلك، يعني: ليس بالذي يرضي أن يعتمد على حديثه، ثم قال في المهاجر أبي مخلد : وليس بذاك حديثه، وليس بالمتقن يكتب حديثه، ومعنى يكتب حديثه: أنه قابل للتحسين قابل للعمل به، لكن أبو حاتم متوقف فيه، ويا ليت أحد طلاب العلم خاصة أصحاب البحوث الأكاديمية أن يجمع لنا من يقول فيه أبو حاتم : يكتب حديثه، فيقارن بين كلام يحيى بن سعيد القطان ورواية عبد الرحمن بن مهدي و علي بن المديني و أحمد بن حنبل و البخاري فنجد أن كلام أبي حاتم يدل على أنه يتشدد في الرجال، ولهذا شرط أبي حاتم أشد من شرط البخاري من حيث الرجال لا من حيث الاتصال والوصل فإن أبا حاتم قريب من الإمام البخاري .
على هذا فإن أبا حاتم تكلم في المهاجر، وكذلك ذكره العقيلي في الضعفاء وقال: لا يتابع على حديثه، وقد روي الحديث من غير وجه، ولا يتابع على حديثه، فكأنه إشارة إلى ضعفه، في حين أن بعض العلماء قووه، ورأوا أن ضعف المهاجر أبي مخلد مما ينجبر؛ وذلك لأن الذين تكلموا فيه إنما تكلموا فيه للجهالة، يقول يحيى الساجي : صدوق، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي أنه صحح حديثه في سنن حرملة، وهذا يدل على أن الإمام الشافعي قوى حديث المهاجر ، وقال أبو عمر بن عبد البر : وليس عند من ضعفه حجة، فقد روى عنه إسماعيل بن علية ،و عبد الوهاب الثقفي ، و أيوب السختياني ، وهؤلاء ثقات لا يكادون يروون عن رجل ضعيف أو رجل لا يعرف حاله، ولأجل هذا نقل غير واحد من أهل العلم تصحيحه لهذا الحديث، فمن صححه الإمام الشافعي ، وكذلك ابن خزيمة ، وكذلك الخطابي و أبو عمر بن عبد البر .
ومما يدل على صحة هذا الحديث على قاعدتنا: أولاً: أن رواية المجهول إذا كان من كبار التابعين، وقد روى عنه أكثر من واحد، ولم يأت بما ينكر فيقبل حديثه، وهذا منها، فإن هذا الحديث ذكر فيه الرخصة، ومن المعلوم أن الرخصة في المسح على الخفين ليست من مفاريد حديث أبي بكرة ، فقد جاء من حديث آخر كما رواه صفوان بن عسال وقد قال الإمام البخاري : أصح شيء في الباب حديث صفوان بن عسال .
ثانياً: أن في الحديث التوقيت في المسح، ومن المعلوم أن توقيت المسح جاء في غير ما حديث؛ منها حديث صفوان بن عسال ، ومنها حديث علي بن أبي طالب ، وغير ذلك من الأحاديث، يعني: أن للمسافر ثلاثة أيام وليالهن وللمقيم يوماً وليلة.
ثالثاً: مسألة تعليق الحكم بانتهاء أو استكمال الطهارة لقوله: إذا تطهر فلبس خفيه؛ لأن الفاء تفيد التعقيب كما سيأتي الكلام فيها، فكونه إذا تطهر دليل على أن الطهارة لا بد فيها من استكمال القدمين، وهذا مذهب الجمهور كما قلنا، وهذا يؤيده بالمعنى حديث: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين )كما في حديث المغيرة ، وعلى هذا فهذا الحديث ليس بمنكر، ولم يأت بما ينكر، وهو قريب إلى التحسين.
الحديث كما سبق معنا أنه حجة لمن قال بأن المسح على الخفين له مدة لا يجوز تجاوزها، وهي: أن للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوماً وليلة، وليس المراد باليوم والليلة خمس صلوات كما يفهمه العامة، وإنما هو أربع وعشرون ساعة كما قال عمر بن الخطاب وصح ذلك عنه كما روى عبد الرزاق ، قال: إذا مسحت فامسح إلى مثل ساعتك هذه من يومك، فهذا يدل على أن المقصود به يكون أربعاً وعشرين ساعة.
وعلى هذا لا يمكن للمقيم أن يبقى على المسح أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وعلى هذا هل يمكن أن يمسح المقيم أربعاً وعشرين ساعة؟ أم قلت: يمكن أن يبقى على خفيه أربعاً وعشرين ساعة؟ يمكن أن يبقى وصورتها: أن يلبس خفيه قبل صلاة الظهر، ثم يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بطهارة الظهر، مثل وقت الشتاء قريب، ثم ينام، فإذا صلى الفجر مسح على خفيه، ثم يشرع في المسح إلى اليوم الثاني، ولو قلنا بالقول الآخر كما سيأتي بيانه أن انتهاء المدة لا يستلزم منها انتهاء الطهارة، فلو أنه مسح بالأمس الساعة الرابعة أو الخامسة فجراً، ثم من اليوم الثاني وبقي على طهارته خمس صلوات جلس ثلاثة أيام!
لكن الراجح كما سيأتي إن شاء الله أن انتهاء مدة المسح ينتهي بها الطهارة كما سيأتي تفصيل ذلك، وهذا أحوط، وإن كان القول الثاني له حظ من النظر.
المسألة الثانية كما مر معنا: قوله: ( إذا تطهر فلبس خفيه )، فالفاء عند جمهور علماء اللغة تفيد الترتيب مع التعقيب، وقد تكلمنا في مسألة الفاء هل تفيد التعقيب في درس القواعد لـابن اللحام وقلنا: إن من علماء اللغة من جعل أن الفاء لا تفيد التعقيب، ولا الترتيب أيضاً، وذكروا أمثلة كما نقل عن الفراء ، وذكر بعضهم أنها تفيد الترتيب كل بحسبه، ولعل هذا القول أظهر، معناه أنها تفيد الترتيب مع التعقيب ولكن تعقيب كل شيء بحسبه، فقوله: ( إذا تطهر فلبس خفيه ) المقصود بالتعقيب المبادر فيه، لكن في بعض الأشياء ربما تكون الفاء لا يقتضي فيها في الظاهر المقاربة الشديدة فكل شيء بحسبه، يقول: تطهرت فركبت السيارة، فمن المعلوم أنه ليس المقصود أن تطهرك قريباً من السيارة ثم ركبت، فإن المقصود بذلك هو أنك تطهرت ثم لم تنشغل بشيء إلا الانشغال بالركوب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر