الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يشغلنا عن طاعته، ولا عن طلب العلم، فإن الانقطاع عن العلم مهما بلغ الإنسان من الحفظ والذكاء ينسي العلم، ولهذا قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه الفذ العظيم التمهيد، عندما ذكر حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )، قال: وكان العلم في ذلك الوقت هو الحديث والكتاب، يعني: القرآن؛ لأن سليقتهم وفهمهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم تتأتاها طبيعتهم فكيف وقد تغيرت الطباع، وتغيرت المفاهيم، وأصبح الإنسان لأجل أن يفهم الكتاب أو الحديث لا بد له من علم الرجال، ولا بد له من علم أصول الفقه، ولا بد أن يكون عنده علم الآلة، فتفلت العلم في حق المتأخرين أولى، وهذا واضح وظاهر، فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يشغلنا عن طاعته ولا عن طلب العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: [ عن عبد الله بن أبي بكر رحمه الله : ( أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ
أراد الحافظ بكلمة (رحمه الله) ألا يفهم أحد أنه هو عبد الله بن أبي بكر الصحابي الصغير المعروف، وهذا ليس هو، وإنما هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن حزم عندما كان أميراً على أهل اليمن: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر ).
القول الأول: قول من حكم عليه بالضعف، وذلك لأن الصحيح في هذا الحديث أنه مرسل كما رواه مالك في الموطأ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكر هو ابن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لــعمرو بن حزم ، فدل ذلك على أن عبد الله هذا هو ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وأخطأ صاحب شرح بلوغ المرام وهو المغربي في كتابه البدر التمام، فنسبه إلى عبد الله بن أبي بكر الصحابي المعروف، وأخطأ في ذلك أيضاً الصنعاني ، وهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ لا بد أن ينظر إلى من سبقه، فربما تبعه على أخطائه، واليوم يشدد على الناس في مثل هذه الأشياء، ويقولون: سرقة علمية، وينبغي ألا يشدد في هذه المسائل، لكنه ينبغي له إذا قيل له: من أين لك هذا ألا ينسبه إلى نفسه؛ لأن نسبته إلى نفسه نوع من التشبع، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )، وكما يوجد الآن في بعض المقالات والصحف فقد تحدثت عن بعض الدعاة حينما أخذ من بعض الكتب المطبوعة، فبعضهم قال: يا ليتني ما دريت ولا تليت، وهذا لا ينبغي؛ لأن المسألة خطبها يسير، وأذكر أن شيخنا الشيخ بكر أبو زيد عندما طبع كتاب شرح عمدة الأحكام لـابن الملقن فوجد أن كثيراً مما كتبه الحافظ ابن حجر في فتح الباري مأخوذ من كلام ابن الملقن ، فيقول الشيخ بكر وكان شديداً في السرقات العلمية: يا ليتني ما دريت ولا تليت، ولكن ليس نشهد إلا من وجدنا بضاعتنا عنده، يعني: بذلك أن الكلام كلام ابن الملقن .
و ابن الملقن ممن فتح الله عليه في التأليف، وأنا أنصح طلاب العلم أن يقرءوا كتبه، فله البدر المنير تخريج أحاديث الرافعي الذي اختصره الحافظ ابن حجر ، وله كتاب أيضاً عظيم في شرح عمدة الأحكام، وله كتاب تحفة المحتاج على المنهاج، فهو ممن وفقه الله جل جلاله في التأليف، ومن العلماء من يفتح الله عليه في التأليف ما لا يفتحه عليه في الكلام، ومنهم من يفتح الله عليه في الكلام ما لا يفتح عليه في التأليف، ومنهم من جمع الله له بين الأمرين، وأحسب أن أبا العباس ابن تيمية قد ضرب بذلك بعطن رضي الله عنه ورحمه.
وعلى كل حال: فقد ضعف الحديث أبو داود رحمه الله، وقال: إن الصحيح المرسل يعني: رواية مالك ، وضعف الموصول، ورأى أن الحكم بن موسى وهم في هذا الحديث؛ وذلك لأنه رواه من طريق يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود ، و سليمان بن داود هذا ليس هو ابن داود والصحيح أنه سليمان بن أرقم ، و سليمان بن أرقم كثيراً ما يروي عن الزهري أحاديث باطلة، فبعض العلماء قال: إن هذا وهم، والصحيح أنه سليمان بن أرقم وليس سليمان بن داود ، وهذه طريقة الإمام أبي داود و أبي زرعة وبعضهم يرى أن سليمان بن داود هو سليمان بن أرقم ، وأن سليمان بن داود هو اسمه و الأرقم لقبه، ولهذا قال أبو حاتم قيل: هما واحد، والله أعلم في ذلك، فهو لم يتحقق من ذلك إلا أنه أشار إلى أن الحديث ضعيف، فسواء قلنا: هو سليمان بن داود أو قلنا: سليمان بن أرقم فـسليمان بن داود مجهول، وكذلك رجح المرسل الإمام الدارقطني رحمهم الله جميعاً، وضعفه أيضاً عبد الحق الإشبيلي و ابن حزم وغيرهم.
ومن العلماء من صحح هذا الحديث، إلا أنهم اختلفوا في طريقة تصحيحه، فبعضهم نظر إلى ظاهر الإسناد وصححه على ضوء ذلك، ومنهم من نظر إلى أصل الكتاب فصححه لذلك، وممن صححه لظاهر الإسناد -وهي طريقته- الإمام ابن حبان و الحاكم ، فإنهما صححاه لظاهر الإسناد؛ لأن الحكم بن موسى حسن الحديث، ورواه عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود وهو الدمشقي فقالوا: إن الحديث حسن، فصححوه لأجل ذلك، ولا شك أن الأقرب والله أعلم أن الحديث معلول، كما قال الحافظ ابن حجر ، وذلك أن سليمان هذا هو سليمان بن الأرقم وأن تصحيحه بناءً على ظاهرية هذا الإسناد محل نظر.
وقول الحافظ : (حديث معلول) يشير إلى أن الحديث فيه علة، وإن كان ظاهر إسناده الصحة، وكلمة معلول تتداول عند الفقهاء وعند المحدثين، وليست بمستغربة عند المتقدمين، وعلى هذا فكلام الحافظ ابن الصلاح في مقدمة كتابه أن كلمة معلول كلمة مبذولة مرذولة عند أهل النحو واللغة هكذا يقول، ثم قال: والصحيح أنه يقال: حديث معل، والذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بإطلاق حديث معلول؛ لأنه من الفعل الثلاثي عل يعل، أو عل فهو معلول كما ذكر ذلك الجوهري ، والكلام ليس في علم اللغة، بل في علم الاصطلاح لأهل الحديث، فهل وجدنا لأهل الحديث كلاماً قبل الحافظ ابن حجر ؟ نعم وجدنا، فـالبخاري رحمه الله ضعف حديثاً كما ذكر ذلك الترمذي في العلل قال: سألت محمد بن إسماعيل فقال: هذا حديث معلول ولم يذكر علته، يعني بذلك: ( من أعمر عمرى فهي له ولمن ورثه )، وحديث عبد الله بن الزبير ضعفه البخاري وقال: حديث معلول، كذلك قاله البيهقي رحمه الله، فأشار في السنن الكبرى إلى أن هذا حديث معلول، وليس هذا الحديث بل حديث آخر، وكذلك كثيراً ما يقول الإمام العقيلي في كتابه الضعفاء، فإنه يقول: حديث معلول، وكذلك يقولها ابن رجب وغيرهم.
إذاً: كلمة معلول لا غضاضة فيها عند أهل الحديث.
القسم الثاني: ممن صححه فإنما نظر إلى شهرة هذا الكتاب، وأن الكتاب الذي أرسله نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم ثابت، ولأجل هذا فلسنا بحاجة إلى أن ننظر إلى إسناده بعد ما تثبتنا أنه كتاب، ويكون أبو بكر بن محمد بن حزم عن أبيه لم يسمعه من جده، أو لم يسمعه من أبيه، وأبوه لم يسمعه من جده؛ لأنه وجده كتاباً، ولأجل هذا صحح كثير من أهل العلم هذا الحديث، فممن صححه لأجل شهرة الكتاب الإمام الشافعي ، فإنه صحح الحديث كما في كتابه الرسالة، وقال رحمه الله ورضي عنه: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسائل أبي القاسم البغوي عن الإمام أحمد أن الإمام أحمد سئل عن حديث الصدقات فقال: أرجو أن يكون صحيحاً، وحديث الصدقات هو حديث عمرو بن حزم وهذا يدل على أن الإمام أحمد قوى كتاب عمرو بن حزم .
ومنهم: يعقوب بن سفيان تلميذ علي بن المديني المعروف، فإنه قال: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم ، كذلك ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: فإن هذا معروف عند أهل العلم متفق عليه إلا قليلاً، وقال: إن تلقي الأمة له بالقبول يغني عن إسناده، وكذلك قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إن هذا مشهور مستفيض عند أهل العلم، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الآحاد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم، يعني: إن كتاب عمرو بن حزم وإن كان لم يرد بإسناد صحيح لكن شهرته أقوى من حيث اليقين من خبر الواحد العدل المتصل، يعني: أن الأمة تلقت كتاب عمرو بن حزم بالقبول، فالشأن في وجود هذا الحديث في كتاب عمرو بن حزم لا في إسناد عمرو بن حزم .
فإذا قال قائل: إن هذا الحديث موجود في كتاب عمرو بن حزم نقول: أثبت أنه موجود في كتاب عمرو فإن ثبت فلسنا بحاجة إلى صحة الإسناد لأنها وجادة وهي قوية، وهذه طريقة محكمة وهي صحيحة؛ وعلى هذا فكل حديث جاء عن عمرو بن حزم لا بد أن نثبت هل صحيح أنه موجود في كتاب عمرو بن حزم أم لا؟ فإن ثبت لدينا فإننا نقول: نعمل به على أنه خبر مشهور أحسن من خبر الآحاد.
الشاهد الأول: حديث حكيم بن حزام : ( ألا يمس القرآن إلا على طهارة )، وهذا الحديث رواه الدارقطني و الحاكم وحسنه الحازمي وضعفه النووي ، والحديث ضعيف، وكذلك ضعفه ابن عبد الهادي قال: إسناده فيه نظر؛ وذلك لأن في سنده مَطَر أو مُطْر أو مَطْر بن طهمان الوراق ، وعنه سويد أبو حاتم ، وهما ضعيفان.
الحديث الثاني من الشواهد: ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، والحديث إلى الضعف أقرب.
والحديث الثالث: حديث ابن عمر : ( ألا يمس القرآن إلا طاهر )، وهذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر : إسناده لا بأس به، وذكر الأثرم أن الإمام أحمد احتج به، وقال الجوزقاني في الأباطيل: هذا حديث مشهور حسن، والحديث فيه كلام، وفي إسناده سليمان بن موسى قال عنه البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
أقول: إن الأقرب أن الحديث فيه كلام، ولكن مع كتاب عمرو بن حزم فإنه يدل على أن الحديث له أصلاً، وأنه إلى الحسن أقرب، أعني حديث ابن عمر فهو موقوف على ابن عمر ، وقد صح عن سلمان الفارسي ، فقد قال علقمة : كنا عند سلمان فقضى حاجته، فقلنا: توضأ فإنا نريد أن نسألك عن آية في القرآن فقال: سلوني إني لست أمسه، وفي رواية أنه قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وهذا الحديث إسناده جيد عن سلمان .
وكذلك ما رواه مالك في الموطأ، و البيهقي بسند جيد، أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: كنت أمسك القرآن لأبي يعني: مثل الذي نسميه مراجعة، قال: فحككت نفسي أو جسدي، فقال: ما لك، لعلك مسست ذكرك؟ قلت: نعم، قال: اذهب فتوضأ، وهذا يشير إلى أن سعد بن أبي وقاص كان معروفاً عنده أن مس القرآن لا بد فيه من طهارة، وأن مس الذكر ينقض الوضوء، وهذا ما أردت أن أبينه.
ثم إن تصحيحهم لا يلزم منه أن يكون الرجل ثقة ثبتاً أو حسن الحديث؛ لأنهم ينتقون من الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، ولو كان الحديث الضعيف دائماً ضعيفاً لأشبهناه بالموضوع الكذاب، ولأجل هذا فلا نستعجل في مخالفة الأئمة رحمهم الله، و ابن حزم خالف الأئمة؛ لأنه على منهج ارتضاه لنفسه، وأنكره جمع من أهل العلم، بل ذكر إمام الحرمين و ابن العربي إجماع أهل العلم على أن الظاهرية غير معتد بهم في مخالفة الإجماع، وهذه أيضاً مبالغة.
على كل حال أدلة الجمهور واضحة: الأول: أحاديث الباب، الثاني: وآثار الصحابة.
الثالث: قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، من هم؟ قولان: المعروف والله أعلم أن قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] ليس المقصود به القرآن، وإنما المقصود به الكتاب الذي في اللوح المحفوظ؛ لأنه لو أريد به القرآن لكان المخاطب به المتوضئين، ولما قال جل جلاله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]؛ ولقال: لا يمسه إلا المتطهرون؛ لأن المتوضئ متطهر، وليس مطهراً دائماً كالملائكة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
الثاني: أنه لو أريد به النهي لقال: لا يمسسه بالجزم كما ذكر ذلك ابن القيم و ابن تيمية ، ومع ذلك وهذا الشاهد يقول ابن تيمية : ويستدل به بدلالة الإشارة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله، فهذه الصحف يعني: القرآن أولى ألا يمسها إلا طاهر، وهذا يسميه العلماء دلالة الإشارة، أو إن شئت قل: بدلالة اللزوم والإيماء، فإن الدلالات ثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، وهذا المقصود والله أعلم.
إذاً: عندنا في هذه المسألة قول الصحابة، وصحة حديث عمرو بن حزم ، والآية بدلالة التنبيه والإشارة.
القول الثاني: جواز مس المصحف ولو على غير طهارة، وهو قول ابن حزم ، وهو أيضاً قول الشوكاني ، وقالوا: إنه لو صح الحديث فلا يفيد الطهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر )، وكلمة طاهر تحتمل الطهارة من الشرك، وتحتمل الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وتحتمل الطهارة الحسية من النجاسة، وهذه المعاني الثلاث لا يمكن حملها على واحد منها إلا بدليل، ولا دليل يصار إليه فهو مجمل، ولا شك أن هذا القول ليس بشيء؛ لأننا نقول لهم: لا شك أن الفهم الذي فهمتموه يلزم منه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات ولم يبلغ البلاغ المبين، وهذا لا يجوز، ولهذا تجد كلاماً عند بعض علماء الأصول بعيداً عن واقع السنة أحياناً، ولهذا يقول ابن القيم : إن بعض علماء الأصول أبعد عن فهم الأحاديث، حتى إن صغار أهل الحديث أعلم منهم بسبب أن الإنسان قد يفكر بالمسألة من غير تصور. فتقول: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسله إلى عمرو بن حزم فهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مراده، فإما أن يكون لم يفهم، وإما أن يكون قد فهم، فإن لم يكن قد فهم فيبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعله إماماً لقومه وهو لا يفهم، فيكون هذا القدح في النبوة وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قد فهم، فإما أن يكون فهماً سقيماً، وإما أن يكون فهماً صحيحاً، ويبعد أن يكون الصحابي قد فهم فهماً سقيماً، ولا بد أن يكون قد فهماً صحيحاً، وهذا هو المراد.
إذاً: يجب أن ننظر إلى كلام علماء الأصول حينما يتحدثون عن المجمل، فإنهم إذا سئلوا أحياناً قالوا: هذا لفظ مجمل، والمجمل يحتاج إلى دليل ولا دليل، فنقول: ولا دليل عندك، لكن ليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الغزالي : ليس ثمة لفظ مجمل لم يدل عليه دليل إلا وقت نزول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، فلو سكت عن قوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] لكان مجملاً، فلما بين تبين، إذاً: المجمل في حق المجتهد، وليس في نفس النصوص الشرعية.
وعلى هذا فإن كلمة (طاهر) لفظ مشترك، وقد اختلف علماء الأصول في اللفظ المشترك المجرد، هل يمكن حمله على جميع معانيه، أم لا بد من حمل معنى واحد؟ فذهب الإمام الشافعي و أبو بكر الباقلاني ، ونسبه بعضهم إلى جمهور أهل الفقه إلى أنه يحمل على جميع معانيه ما لم يكن ثمة دليل يعارضه، ومعنى دليل يعارضه: مثل القرء، فإن القرء فيه تعارض طهر وحيض، فلا يمكن حمله على جميع معانيه، فإن أمكن حمله على جميع معانيه، فالأصل هو حمله على جميع معانيه، فلا يمس القرآن إلا طاهر من الطهارة الكبرى، وطاهر من الطهارة الصغرى، وطاهر الطهارة الحسية، وطاهر من الحدث الأكبر، فإن قال قائل: إن المقصود به الطهارة من الشرك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسل هذا الكتاب إلى عمرو بن حزم فإن أهل اليمن كانوا أهل شرك، فليس المقصود به الطهارة الصغرى والكبرى، هذا قاله الشوكاني ، والجواب عليه: أنه يبعد أن يكون المخاطب به الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، فكيف ينهى عن سفره إلى أرض العدو، ثم يقول: لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث المعنوي الذي هو الشرك، فالمقصود به خطاب أهل الإيمان، وإذا ثبت أنه خطاب لأهل الإيمان فهو قطعاً مقصود به الطهارة الشرعية، وهي النظافة والطهر، وهي تشمل الحسية وتشمل الحدث الأصغر والحدث الأكبر.
وعلى هذا فهذا المسألة واضحة بإذن الله، فلا يجوز أن يمس الإنسان القرآن إلا على طهارة.
أما القرآن الإلكتروني فإن الإنسان لا يستطيع أن يفتحه في الآي فون، مثل نسخة بنك التمويل الكويتي إلا إذا وضع إصبعه، فهل يجوز مسه؟ نعم؛ لأنه لا يعتبر مساً؛ لأن هناك حائلاً، ولو أنك أدخلت يدك لخرب الجهاز، فبينك وبينه حائل فلا حرج إن شاء الله.
وإنما ذكره الحافظ هنا لبيان أن مس القرآن يشترط فيه الطهارة مثل الصلاة، وعلى هذا فإن مس المصحف من غير طهارة يأثم صاحبه، ويؤجر على القراءة، فهي علاقتان منفصلتان، والله أعلم.
والقول الثاني في المسألة: هو جواز قراءة القرآن حال الحيض وحرمتها في حال الجنب، وهو مذهب المالكية ورواية عند الإمام أحمد وهو قول عند الشافعية وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمهم الله جميعاً.
والقول الثالث: جواز قراءة القرآن مطلقاً وهو قول ابن عباس كما ذكره ابن حزم ، وهو مذهب ابن حزم ، وهو ظاهر صنيع البخاري ، والأحاديث تفيد منع قراءة القرآن في حق الجنب وجوازها في حق الحائض، والأحاديث الواردة في هذا الباب أولاً: حديث عبد الله بن عمر فإنه يرويه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقرأ إني لا أحل القرآن لحائض ولا جنب )، أو ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، وهذا الحديث ضعيف بمرة، وذلك لأن إسماعيل بن عياش روايته عن غير الشاميين ليست بذاك، وقد قال ابن تيمية : واتفق أهل المعرفة بالحديث على ضعفه، والحديث الآخر حديث علي بن أبي طالب وله طرق، وهو: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة )، يعني: إلا الجنابة، وفي رواية من رواية أبي الغريف عن علي قال: ( أما الجنابة فلا ولا آية )، والحديث تكلم فيه، وذلك لأن في سنده رجل يقال له عبد الله بن سلمة تكلم فيه أهل العلم، وقال فيه شعبة رحمه الله: نعرف منه وننكر، وهذا ليس فيه دلالة على أن شعبة يقول به، لكن قوله: إن هذا الحديث يعني: حديث عبد الله بن سلمة عن أبي الغريف عن علي قال: هذا ثلثي مالي، دلالة على أنه يقويه، وقد حسنه الدارقطني من طريق أبي الغريف ، وعلى كل فهو صحيح عن علي موقوفاً، فقد رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن علي ، وهو موقوف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فهو يدل على أن قراءة القرآن في حق الجنب ممنوعة، وهو قول أكثر الصحابة، صح عن عمر وصح عن علي ، وصح عن ابن عمر ، وقد روي عن عبد الله بن رواحة ، كما ذكر ذلك الذهبي ، وإن كان الذهبي أشار إلى أن فيه انقطاعاً (أنه تسرى بجارية يعني: أمة فجاءت امرأته إليه، وكانت شديدة الغيرة، فنظرت إليه، وجاءت بشفرة يعني بسكين من الغيرة، فقال لها: والله ما مسستها وإنا نهينا أن نقرأ القرآن ونحن جنب، وإن شئت قرأت عليك القرآن قالت: اقرأ، قال: وهي لا تعرف القرآن، فقال: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرين، وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمين. قال: فسكتت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فتبسم
والذي يظهر والله أعلم أن الأصح عن عبد الله بن رواحة أنه كان يغتسل عند جاريته ما عدا رأسه، فإذا ذهب إلى زوجه غسل رأسه، فلا تشك زوجته في ذلك، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة، و أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في ترجمة عبد الله بن رواحة .
إذاً: الذي ثبت هو قول عمر بن الخطاب و ابن عمر وروي عن عبد الله بن رواحة ، و علي بن أبي طالب هؤلاء الثلاثة، وبعضهم يقول: وهو قول ابن عمر بناء على أنه هو الذي روى حديث: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب )، وصح عن ابن عباس خلاف ذلك، وأنه يقرأ ما شاء من القرآن؛ والصحيح والله أعلم هو منع قراءة القرآن في حق الجنب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا تقربهم الملائكة وذكر منهم: الجنب حتى يغتسل )، والحديث رواه الإمام أحمد ، وإن كان في سنده بعض الشيء، فقد حسنه الإمام المنذري رحمه الله، وهذا الذي يظهر والله أعلم، وحديث عبد الله بن سلمة عن أبي الغريف عن علي لا بأس به والله أعلم.
فالجنب يجوز أن يذكر الله على كل أحيانه هو وغيره، لكن القرآن هو الذي وقع فيه الخلاف، والراجح هو القول الثاني في المسألة؛ أن الجنب ممنوع من قراءة القرآن، ولكن الحائض يجوز لها أن تقرأ القرآن، وذلك لأنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نساء كلهن تائبات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، ويبعد أن يهجرن القرآن إلا عن علم، ولم ينقل عنهن ذلك، فدل ذلك على أنه لو كان شيء ممنوعاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه، فلما لم ينقل مع توفر الداع إلى نقله دل على جواز قراءة القرآن في حق الحائض والله أعلم.
ومن المعلوم أن الحائض والجنب بينهما فرق، فالجنب يستطيع أن يزيل المانع الذي فيه، أما الحائض فليس أمرها بيدها والله أعلم.
إذاً: الحديث يقول الحافظ : فيه لين؛ لأن صالح بن مقاتل ضعيف، وهذا هو الراجح، وكلمة (لين الحديث) هي أن يوجد في الراوي ما يقدح في روايته، وإن كان لا يضرب على حديثه، ومعنى لا يضرب على حديثه يعني: لا يترك، فهو يقبل في حال الاعتبار، هذا معنى لين الحديث، وقد قال الحافظ الدارقطني : إذا قلت: لين، لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكنه مجروح بشيء لا تسقط به العدالة.
فالحمد لله قد سهل على الإنسان البحث في هذا الزمان، فهو يصل إلى كلام أهل العلم بسرعة، فقبل أن آتيكم دخلت على الكمبيوتر فكتبت معلولاً في كتب العلل، فقد ذكرها البخاري في العلل، والعقيلي وغيره، وفي السابق كان الواحد لأجل أن يبحث هذا الأمر يحتاج إلى زمن ليس باليسير، وأنا أقول: علم الكمبيوتر وغيره ينفع طالب العلم الذي عنده طريقة في البحث في سابقة تقليدية، أما الذي يبحث في الكمبيوتر وهو لا يعرف البحث في السابق فإنه يضره كثيراً خاصة أنه قد يرجع إلى كتاب وهو لم يتعود أن يتصفحه، كأن يرجع لـابن حبان وهو ليس عنده؛ فإن هذا يضره، فأحياناً قد ينقل كلاماً لـابن حبان وليس من كلامه، وإنما هو كلام ابن حبان ينقله عن بعضهم، أو ابن القيم ، والذي يحصل أن هناك خللاً عند بعض الباحثين الذين يبحثون في بعض الملتقيات الكمبيوترية، فإنهم يبحثون بهذه الطريقة فيخطئون، لكن إذا كان الإنسان عنده فهم وإلمام بالبحوث التقليدية، ثم استفاد بالطريقة الكمبيوترية فإنه بإذن الله سوف يحصل على علم سريع وعلم يوفر له الوقت الكافي، والله أعلم.
أولاً: هل النوم حدث أم ليس بحدث؟ ذهب بعضهم إلى أنه حدث، والصحيح هو مذهب عامة أهل العلم على أنه ليس بحدث، والذين قالوا: ليس بحدث اختلفوا، فقالوا: ليس بحدث بنفسه، ولكنه مظنة، وبعضهم قال: ليس بحدث أصلاً، والصحيح هو مذهب الجمهور أنه مظنة الحدث، وهؤلاء الجمهور وهم الأئمة الأربعة اختلفوا متى يقال بأن هذه المظنة تنقض.
فذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا اضطجع فإنه ينقض وضوءه، وذهب الإمام أحمد إلى أنه إذا مكن مقعدته من الأرض، فإنه لا ينقض وضوءه، وما عدا ذلك ينقض وهو قول الشافعي ، وذهب مالك إلى أن العبرة بذهول الإنسان وغياب عقله، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله و الخطابي بحيث إذا نام، بحيث فلم يشعر من بجانبه؛ لأنه حينئذ لا يعلم أخرج منه شيء أم لا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وقد كان أحد علماء المالكية كما ذكر ذلك الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب بيان العلم وفضله والإنسان أحياناً قد يرجح قولاً وهو لا يدري، يقول: إن بعض علماء المغاربة كان يرجح أن النوم لا ينقض الوضوء، فبينما هو في صلاة الجمعة إذا رجل بجانبه قد نام، فاستطلق وكاؤه، فلما استيقظ قال له: اذهب فتوضأ، قال: مم؟ قلت: قد خرج منك شيء، قال: والله ما خرج إلا منك، قال: فعرفت أن الإنسان إذا نام استطلق وكاؤه فرجعت إلى أن غياب العقل يجعل الإنسان لا يشعر بحاله، فأفتى بذلك، وهذا يسمى السبر والتقسيم في الواقع؛ لأن بعض الناس يتكلم وينظر الذي يطبق بعيداً، ولازم إذا رجحت قولاً فيلزم أن تنظر إمكانيته في الواقع، مثل قول عامة أهل العلم: إنه إذا قطع المسافة وهي أربعة برد يقصر الصلاة إذا نوى السفر، وابن تيمية يقول: لا، العبرة بالعرف، والعرف لا يمكن أن يطبق، وأنت الآن لو سألت العلماء أنفسهم هل هذا عرف؟ ما استطاع أن يحدد إلا بناءً على المسافة، وأكثر من يسافر هم العوام، فإذا كان طلاب العلم والعلماء لا يميزون هل هذا عرف أم لا فغيرهم من باب أولى، ويقول الإمام الشاطبي في الموافقات: إن الحكم الشرعي لا بد أن يعرفه جمهورهم، هذا لازم وليس حكراً على فلان أو علان أو أهل العلم بل يجب أن يعرفه الناس ويطبقوه، فإذا جاء حكم يعرفه العلماء ولا يفهمه العامة إلا بالتقليد فقط من غير تصور فهذا يجعل القول به محل نظر.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر