الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، وانفعنا يا رب! بما علمتنا، وزدنا علماً وخشية وتقوى إنك على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وبعد:
وكنا قد توقفنا في باب الغسل من الجنابة، في حديث أبي سعيد الخدري ، والآن سنشرح ثلاثة أحاديث: حديث أبي سعيد ، وحديث عائشة ، وحديث عائشة .
قال الحافظ رحمه الله: [ كتاب الطهارة، باب الغسل وحكم الجنب: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً ) رواه مسلم . زاد الحاكم : ( فإنه أنشط للعود ).
وللأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ) وهو معلول.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه ) متفق عليه، واللفظ لـمسلم ].
وقال المؤلف: (وزاد الحاكم ( فإنه أنشط للعود )، وأما الزيادة التي رواها الحاكم فقد رواها الحاكم و ابن خزيمة و ابن حبان من طريق مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن عاصم الأحول ، وقال الحاكم : وهي زيادة من شعبة ، وهي مقبولة.
والواقع أن شعبة لم يروها هو، وإنما اختلف فيها على شعبة ، فرواها مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن عاصم بهذه الزيادة، وروى الأكثرون عن شعبة من غير هذه الزيادة، فدل ذلك على أن هذه الزيادة شاذة، ومسلم بن إبراهيم ثقة، فتكون هذه الزيادة شاذة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإن زيادة ( فإنه أنشط للعود ) زيادة ضعيفة، وذلك لشذوذها، فإن مسلم بن إبراهيم رواها عن شعبة واختلف عليه، فقد رواها غير واحد عن شعبة من غير هذه الزيادة.
وكذلك تابع شعبة عن عاصم الأحول خلق كثير فلم يذكروا هذه الزيادة، فدل على أن هذه الزيادة معلولة، فإذا أردت أن تعرف كيف تكون الرواية شاذة؟ فانظر إلى هذا الراوي الذي زاد هذه الرواية عن شيخه، فتنظر تلاميذ هذا الشيخ، فإذا وجدت أن هذا الراوي تفرد بها، علمت أنه تفرد بها عن هذا الشيخ من بين سائر الرواة، ثم تأتي إلى الطبقة الأعلى، فتنظر الذي اختلف عليه وهو شعبة ، هل تابعه أحد على هذه الرواية عن شيخه وهو عاصم الأحول أم لا؟ فإذا بحثت عن ذلك، تيقنت أن هذه الزيادة منكرة شاذة، أو فيها نكارة على اختلاف في طريقة أهل العلم.
وحديث أبي سعيد الذي رواه مسلم حديث صحيح، وإن كان الإمام الشافعي رحمه الله أشار إلى ضعف هذا الباب، فقال في مسألة استحباب الوضوء لمن أراد أن يأتي أهله ثم أراد أن يعود: وقد روي في ذلك أحاديث لكن لا يثبتها أهل العلم، ولعل الإمام الشافعي رحمه الله لم يبلغه حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد ، كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي فإن الإمام البيهقي ذكر: أنه ربما لم يبلغ هذا الحديث -يعني: حديث أبي سعيد - الإمام الشافعي ، وقد روي في هذا الباب حديث عمر وحديث ابن عمر ، وكلاهما حديثان ضعيفان، فلعل الإمام الشافعي إنما قال: إنه ضعيف لأجل حديث عمر و ابن عمر ، والله أعلم.
المسألة الأولى: مشروعية الوضوء لمن أراد أن يعود إلى المجامعة، بعد أن أتى أهله، وهذا الاستحباب سواء أراد أن يعود إلى زوجته الأولى، أو أن يذهب إلى زوجة أخرى، فكل ذلك يستحب له أن يتوضأ، وقد اختلف العلماء في حكم ذلك، فذهب عامة أهل العلم -وهو مذهب الأئمة الأربعة- إلى أن ذلك على سبيل الاستحباب، واستدلوا على الاستحباب برواية: ( فإنه أنشط للعود )، وهذه الرواية شاذة، تفرد بها مسلم بن إبراهيم عن شعبة .
وقالوا: (فإنه أنشط للعود) دل على أن الحكمة من ذلك: هو أن يكون ذلك أنشط لحال الرجل، ولا شك أن هذا لا علاقة له بالعبادة، وإنما هي نوع من حاجة الإنسان، وكل ما كان حاجةً للإنسان لا يمكن أن يوجب، وقد استدل العلماء على استحباب الأضحية بقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم أراد أحدكم أن يضحي)، فالإرادة البشرية لا يناط بها حكم شرعي، ولكن هذه الرواية ضعيفة.
واستدلوا على ذلك: بما جاء عند مسلم وأهل السنن من حديث ابن عباس رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ثم دعي إلى طعام؛ فأكل فذكر له الوضوء، قال: أريد أن أتوضأ فأصلي)، هذه رواية مسلم، ورواها الأربعة بلفظ: (إنما أمرت بالوضوء إذا قمت للصلاة)، فدل ذلك: على أن إيجاب الوضوء من غير صلاة ولا عبادة محل نظر، فقوله: (إنما أمرت) يعني على سبيل الوجوب والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام أو يأكل وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة)، فدل على قوله: (إنما أمرت) دليل على أن الأمر للإيجاب، وإلا فإن المشروعية ثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على استحباب ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في غسل واحد)، قال قتادة : (أو كان يطيقه؟ قال
وهناك حديث آخر عند الطحاوي من حديث عائشة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أهله ثم يعود ولا يتوضأ)، وهذا رواه الطحاوي وفي الحديث بعض النكارة.
القول الثاني: وجوب الوضوء إذا أراد أن يأتي أهله، سواء أراد أن يأتي زوجته الأولى، أو أن يأتي زوجة أخرى، وهذا مذهب الظاهرية وابن حبيب من المالكية كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح، واستدلوا على ذلك بحديث أبي سعيد ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ )، قالوا: فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، قالوا: وأما حديث أنس : ( أنه كان يغتسل )، قالوا: إن حديث أنس هذا منسوخ بحديث أبي رافع ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه ويغتسل عند كل واحدة منهن قال: فذكرت ذلك له، فقال: إن ذلك أزكى وأطهر )، والحديث قواه ابن حجر وفي سنده سلمى عمة عبد الرحمن بن أبي رافع التي روت الحديث عن أبي رافع ، والحديث أنكره كثير من الحفاظ، وقال أبو داود بعد سياقه لهذا الحديث: وحديث أنس أصح من هذا.
فهذا يدل على أن رواية الصحيحين من حديث أنس أصح من رواية: ( أنه يغتسل عند كل واحدة من نسائه )، فدل ذلك: على أن الراجح والله أعلم: أن أمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء، إنما ذلك على سبيل الاستحباب، وقد جاء في حديث عائشة: ( من غير أن يمس ماءً )، ولكن هذا ليس في العود وإنما هو في النوم كما سوف يأتي إن شاء الله.
والحديث يرويه أبو إسحاق السبيعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة ، اختلف الرواة في حكم هذه الرواية، فأكثر أهل العلم ضعف رواية أبي إسحاق ، وقال: إن أبا إسحاق اختلط بأخره، وأن رواية غيره أصح، فإن إبراهيم بن يزيد النخعي روى هذا الحديث عن الأسود عن عائشة من غير زيادة: ( من غير أن يمس ماءً )، وكذلك رواه عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه الذي هو الأسود بن يزيد عن عائشة ولم يذكر هذه الرواية.
الآن علمنا: أن أبا إسحاق تفرد بالرواية عن الأسود بدليل رواية النخعي ورواية عبد الرحمن ، فنريد أن نرقى إلى الطبقة الأخرى، حتى نعلم هل الرواية صحيحة أم لا؟
فقد رواها غير الأسود عن عائشة وهم عروة و عبد الله بن أبي قيس و أبو سلمة بن عبد الرحمن رووه عن عائشة من غير زيادة: ( من غير أن يمس ماءً )، فقد حكمنا على أن هذه الرواية وهي رواية أبي إسحاق السبيعي رواية منكرة شاذة.
وقد حكم غير واحد من أهل العلم على شذوذ هذه الرواية، وأنها خطأ، وبعض أهل الحديث إذا علموا وتيقنوا أن هذه الرواية خطأ، ربما يضعونها في الأحاديث الموضوعات، فلا يتعجل طالب العلم حينما يجد الحديث في الموضوعات، يقول: هذه مبالغة، فإن أبا إسحاق السبيعي ثقة لكنهم يقولون: حينما علمنا أن هذا خطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ صارت في حكم الموضوع، كما كان يصنع الإمام ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وقد حكم غير واحد من أهل العلم على ضعف هذه الرواية، فقال أحمد : هذا حديث لا يصح، يعني حديث أبي إسحاق ، وقال الراوي له: الحديث بسبب أبي إسحاق ؟ قال: من قبل أبي إسحاق، وكذلك ضعفه أبو داود وضعفه أيضاً الأثرم ، وضعفه الدارقطني ، وضعفه الثوري وقال: أخطأ أبو إسحاق ونحن نقول به، يعني أن معناه صحيح وإن كان الحديث ضعيفاً، وكذلك شعبة فإنه روى هذا الحديث عن أبي إسحاق ، وقال: وكنا نتقيه، يعني نتقي هذه الرواية، وقال ابن مفوز وقد بالغ: أجمع المحدثون على أنه خطأ من أبي إسحاق ، قال الحافظ أعني به ابن حجر وفي هذا تساهل في نقل الإجماع.
قلت: ولم يتفرد ابن المفوز في نقل الإجماع، فقد قال الحافظ ابن رجب : أجمع المحدثون من السلف والخلف على أن هذه الرواية غير صحيحة، منهم: أحمد ، و شعبة و الثوري و إسماعيل بن أبي خالد و يزيد بن هارون ، و ابن أبي شيبة ، و مسلم بن الحجاج و الأثرم ، و الجوزجاني ، و الترمذي و الدارقطني ، فهذا يدل على أن أهل العلم ضعفوا هذا الحديث.
وبه تعلم: أن هؤلاء الذين ضعفوا هذا الحديث طريقتهم في التضعيف واحدة، فإنهم حينما رأوا أن أبا إسحاق ولو كان ثقة إذا روى حديثاً خالف فيه غيره من الثقات؛ علمنا أنها غير مقبولة، وعلى هذا فلا نقول: إنها زيادة من الثقة، فالزيادة من الثقة مقبولة، كما يقول متأخرو أهل الحديث، وهي قاعدة أصولية، وهي أن المثبت مقدم على النافي، ولا شك أن التقعيد الأصولي لا علاقة له بعلم الحديث؛ لأن التقعيد الأصولي إنما نظر فيه إلى التجويز العقلي، وأما أهل الحديث فإنما ينظرون فيه إلى الإسناد والاختلاف عليه، ولا ينظرون إلى التجويز العقلي، فجائز أن يخطئ الصحابي، وجائز أن يهم الصحابي، فهذا كله تجويز عقلي، ما ننتهي من هذا إذا بدأنا نفتح الباب، ولكننا ننظر إلى ثقة الراوي واختلافه وضبطه من عدمه.
إذا ثبت هذا: فإن بعض أهل العلم لم يوافق على التضعيف، وأشار إلى أن الرواية صحيحة، منهم الإمام البيهقي ، والإمام البيهقي وإن كان تضعيفه على طريقة أهل الحديث، إلا أن اختياره في زيادة الثقة يميل إلى رأي أهل الأصول، فإنه قال: وقد خطأ بعض أهل العلم أبا إسحاق ، فوجدنا أن الرواية عنه صحيحة؛ وذلك لأن الراوي عن أبي إسحاق قد رواها عنه من غير اختلاط، قال: ورأينا أن ذلك رواية صحيحة.
فعلى هذا: فالإمام البيهقي صحح الرواية وقال: إن تضعيف أبي إسحاق بالحديث لأنه اختلط بآخره، فإن الراوي عنه قد رواه عنه قبل الاختلاط، ولهذا فإنه صحح هذا الحديث، ويقول: إن زهير بن معاوية رواها عن أبي إسحاق قبل الاختلاط، فيقال: إن زيادة الثقة مقبولة. لكن نقول: إن التضعيف ليس بسبب الاختلاط من أبي إسحاق ، ولكن بسبب الشذوذ، فإنه لو كان أبو إسحاق قد رواها عنه غير واحد؛ فإن الخلاف في أبي إسحاق نفسه ، فإن العالم مهما بلغ من العلم فقد يهم، ولهذا قال الإمام يحيى بن معين : لست أعجب من الحافظ إذا أخطأ، ولكن أعجب ممن إذا أخطأ فبين لم يرجع، وعلى هذا فإن البيهقي صحح الرواية بدعوى أن أبا إسحاق قد رواها عنه زهير بن معاوية قبل الاختلاط.
وقد أشار الإمام الدارقطني فقال: ويشبه أن يكون الحديثان صحيحين على ما قال بعض أهل العلم، ذكر ذلك في العلل، وهذا إشارة منه: إلى أن الروايتين صحيحتان، والراجح والله أعلم ضعف لفظ: ( من غير أن يمس ماءً )، وبالمناسبة صحح الحديث الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني ، والصحيح أن الحديث ضعيف لا يعول عليه، والله أعلم.
المسألة الأولى: حكم الوضوء للجنب قبل النوم، اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال:
القول الأول: ذهب الأئمة الأربعة إلى أن ذلك على سبيل الاستحباب، وتركه بعضهم قال: الأفضل الوضوء وهو مذهب أبي حنيفة و مالك وقالوا باستحباب الوضوء، إلا أن الشافعية والمذهب من متأخري الحنابلة وهو اختيار ابن تيمية ذهبوا إلى أن ترك الوضوء مكروه، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
الدليل الأول: حديث ابن عباس : ( إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة )، وقالوا: إن حديث عمر كما رواه الإمام أحمد و ابن خزيمة وغيرها: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: يتوضأ إن شاء )، وجه الدلالة قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء على سبيل الاختيار، والأحكام الشرعية لا تناط باختيار الإنسان، إلا إذا كان ذلك على سبيل الإباحة والاختيار له، وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، وفي حين أن بعضهم يضعفه.
وبالمناسبة فإن الشيخ أحمد شاكر صحح حديث: ( من غير أن يمس ماءً )، بطريق آخر، وهو ما رواه وكيع بن الجراح من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وهذا الحديث لا يفرح به، فإن الراوي عن وكيع ضعيف، فأحمد شاكر قوى هذا الأثر بمجموع طرقه وقال: إن رواية وكيع حسنة، لكن الإشكال أن الراوي عن وكيع ضعيف، فلا تتعب نفسك، إذا رأيت عامة أهل العلم على قول؛ فإنهم بالاجتهاد أحرى، وبتأمل النصوص أدرى، وبجمع الطرق أقوى، فهم أعلم منا، فاختصار الطريق اذهب إلى فقه الحديث والتأمل فيه من غير روايات شاذة؛ لأن العلم محفوظ، وعندما نقول: العلم محفوظ، هو محفوظ في الجملة، نعم قد يعلم بعضهم فوائد علمية في القرآن أو السنة، لكن حكماً شرعياً يستطيع أن يستدل على مسألة مشهورة معروفة بحديث ربما لم يستدل به بعض أهل العلم، لكن أصل المسائل أن يوجب ما كان أهل العلم على خلافه، أو أن يستحب ما كان أهل العلم على خلافه، الظاهر والله أعلم أن القول قول عامة أهل العلم.
يقول الإمام الذهبي : لا يكاد يخرج الحق عن عامة أقوال أهل العلم، وإن كان ليس إجماعاً، لكني أقول: لا يكاد يخرج الحق عن عامة أهل العلم، وحينما أقول: ينبغي ضبط مذهب الجمهور، وليس الجمهور هو أن تقول: أبو حنيفة و مالك يقول قولاً، ثم الشافعي له أحد القولين فتجمعهم فتقول: أكثرهم بل تقول: الجمهور إذا نظرت إلى أقوال الصحابة، ونظرت إلى أقوال السلف، ونظرت إلى نصوص الأئمة، فنقولات ابن عبد البر فوجدته ينسبه إلى عامة فقهاء الأمصار، وفي الغالب أن هذا لا يخالف والله أعلم.
ومعنى الدليل عند متقدمي السلف غير مفهوم الدليل عند متأخري الخلف، فإن متأخري الخلف يرون الدليل هو الدليل النصي، وأما أهل العلم فإنهم يرون أن الدليل لا يلزم أن يكون ظاهراً، فإن من أدلتهم الاستقراء، فإنهم إذا جمعوا الطرق، فلو نظرت إلى آحاد الأحاديث أو آحاد الأدلة، ربما تجد أنها ليست قوية، لكن بمجموع الطرق يدل على أن لها أصلاً، وإلا فمن أين لهم هذا؟ إلا أنهم تأملوه، ولعلي أذكر أمثلة في هذا الباب يفيد التقعيد العلمي.
لو سألنا سؤالاً فقلنا: الموالاة في غسل الجنابة ما حكمه؟
فالجواب: عامة أهل العلم -بل نقل بعضهم الإجماع- على أنه لا يشترط فيه الموالاة، ولو بحثت عن دليل صريح وهو نص في هذا فلن تجد، فحديث: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، كل هذه عمومات، وحديث العلاء الحضرمي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل، ثم جاء إلى المسجد، فوجد موضع شيء على قدمه، فعصر رأسه أو لحيته ثم غسله )، هذا حديث مرسل، يقول الحافظ ابن رجب : مرسل صحيح، لكن المرسل من أقسام الضعيف، فبمجموع الطرق قالوا بذلك، فأنت حينما تقول: لا يوجد دليل، لا تتعجل، يعني لم يشرعوا ما لم يشرعه الله ورسوله، ولكنهم أرادوا أن الدليل هو بمجموع الطرق وبمجموع الأصول.
فإذا كان طريقة أهل الحديث أنهم يصححون الشيء بمجموع طرقه، فاعلم أن الأئمة أحياناً يستدلون بمجموع الاستقراء الذي يسمى السبر، والله أعلم، وهذا أمثلته كثيرة جداً جداً، في مسألة عدم وجود حديث نصي في المسألة، لكنهم لا يستدلون به، أو ربما يصرفون الأمر عن الوجوب بأدلة ربما تكون قرائن وليست صريحة في هذا، ولو نظرت إلى مسألة ترك الواجب، وفعل المحظور، توارد الأئمة ومدارس الأئمة على هذا الأمر لا ينبغي التعجل بأن يقال: ليس فيه دليل، أو أن دماءنا وأموالنا حرام علينا بأدلة عمومية قد لا تخفى على صغار الكتاتيب، فضلاً عن أئمة كبار كالصحابة وغيرهم.
فبهذا نعرف أن للأئمة منهجاً في التلقي والتدريس، ولهذا أشار الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: على أنه ينبغي للعالم وطالب العلم ألا يأتي بما يندر من المسائل، وكل من كان طريقته في العلم ليست على طريقة الشيوخ كلما أتى بأقوال شاذة، ولهذا قال الإمام الشاطبي عندما ذكر في المقدمات وهو التتلمذ على أهل العلم والتحصيل عندهم قال: ولذا عيب على أبي محمد بن حزم أنه لم يعرف عنه الجثي على الركب، ثم قال: ولقد نال مالك بن أنس قصب السبق في ذلك، فهذه مدارس لا ينبغي التعجل فيها وعدم إدراك أئمة الشأن فيها، فإنما أخذوها كابراً عن كابر ومدرسة عن مدرسة من الصحابة ثم من جاء بعدهم، وهلم جراً، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.
ولهذا عندما أتى ابن حزم رحمه الله ببعض الأصول التي تخالف الأئمة، أنكر عليه الأئمة إنكاراً شديداً، وأبو ثور عندما أخذ بأصول مذهب الظاهر في بعض المسائل؛ أنكر عليه الأئمة، فـأحمد رحمه الله كان يراه فقيهاً، لكنه يعتب عليه، فعندما قال أبو ثور : يجرى المجوس مجرى أهل الكتاب ( سنوا عليهم سنة أهل الكتاب )، غضب الإمام أحمد ، وقال: أبو ثور كاسمه، من شدة غضبه رحمه الله؛ لأنه كيف يقول مسائل لم يقل بها أحد؟ مع أنه عندما قال: من نسأل؟ قالوا: اسألوا أهل العلم، سلوا إسحاق سلوا أبا ثور ، ولكن هذا من باب إنه ما ينبغي للعالم أن يأتي بما ينكر أو بما يشذ.
وللأئمة طريقة في الاستدلال، وطريقة في الأقوال ينبغي أن تستنبط من فقه الصحابة، وفقه من جاء بعدهم مثل ابن تيمية ، ومثل طريقة أحمد وطريقة الشافعي ، وطريقة مالك ، وطريقة أبي حنيفة ، أما الطرق التي أحياناً تضر أكثر مما تنفع؛ فإن ذلك لا ينفع طالب العلم.
وأقول: إنه في النهاية سوف يضيع وقته ويرجع إلى أصول الأئمة التي تتلمذوا عليها، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وسبحان الله! كل طبقة أحياناً تأتي بخلاف ذلك.
أذكر وأنا صغير كان هناك عالم يرى أنه لا يستدل إلا بالصحيحين فقط، وما لم يكن في الصحيحين؛ فإنه يلتمس من باب دلالة الإيماء والتضمن والتنبيه وفحوى الخطاب ودليل الخطاب، فإذا لم يجد؛ قال: الأصل براءة الذمة، فإذا كان خلاف ذلك أباح كثيراً من الأشياء، وهو يوجد معروف، وهو حافظ للصحيحين متقن له، وأنتم تعرفون الشيخ علي الهندي له فتاوى في هذا الباب، لكن الأئمة في وقتهم تكلموا وردوا، فيأتي بعض أقوال الشوكاني رحمه الله التي أخذها من أصول ابن حزم ، فيفتي بها أحياناً بعض طلاب العلم، وتجد أنه أحياناً يأتيك بأسلوب بسيط وهو السؤال عن الدليل؛ وكأن الأئمة، حينما رأى سائر أهل العلم على أمر يقول: ليس فيه دليل، ولا يلزم الدليل أن تفقهه أو تعلمه، لكن الدليل هو ما يحرمونه إلا ما علم من الدين بالضرورة، ولا يبيحون إلا هذا، ولهذا يقول ابن تيمية في المجلد الثامن عشر: وحاشا الأئمة أن يستدلوا بحديث ضعيف على التحريم، حتى أبو حنيفة ، يقول: حتى إن أبا حنيفة قد يترك القياس لقول صحابي فضلاً عن قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى الوضوء من النبيذ حينما صح عنده أن ابن مسعود كان يقول به.
فإذا كان أبو حنيفة يترك القياس لأجل أن ابن مسعود يخالف ذلك، فما بالك إذا كان حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل: القول الثاني في المسألة وهو مذهب ابن حزم و ابن حبيب المالكي هو وجوب الوضوء استدلالاً بحديث عمر عند البخاري و مسلم ( قال: يا رسول الله! أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ فليرقد )، فكأن هذا إشارة إلى أن هذا على سبيل الأمر.
والذي يظهر والله أعلم: أن هذه الرواية أصح من الرواية السابقة: (إن شاء)، فإن رواية (إن شاء) رواية منكرة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، ولهذا ضعفها غير واحد من أهل العلم، فأشار الترمذي إلى تضعيفها، ولكنا نقول: كما هو معلوم أن الوضوء تركه مكروه وليس بواجب؛ لأن الوجوب لا يثبت إلا بدليل صريح صحيح، (إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة)، كما رواها أهل السنن، ولهذا يقول أبو عمر بن عبد البر: وأما من أوجبه -يعني الوضوء- من أهل الظاهر فلا معنى للاشتغال بقوله لشذوذه، وهذا يدل على أن الذي يظهر والله أعلم أن الراجح أن ترك الوضوء مكروه.
قد تقول: ما الدليل على الكراهة؟ الدليل على الكراهة هو ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم له، والقاعدة على أن الفعل لا يدل على الوجوب، إلا إذا جاء أمر منه، والأمر هذا لا يدل على الوجوب مطلقاً، إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل القول، لا يقال: الأصل فيه الوجوب، يقال: الأصل فيه أنه مأمور به، فإذا اختلف العلماء في أمره الصريح، هل يدل على الوجوب أم يدل على الاستحباب؟ فإن أمره غير الصريح لا يدل على الوجوب، ولا يدل على الاستحباب، إنما يدل على مطلق الأمر.
ولهذا فرق ابن تيمية في هذه القاعدة، وكذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله فقال: إن علماء الأصول يقولون: إن الفعل إذا خرج بياناً لمجمل قول؛ دل على الوجوب، والراجح لا يقال: دل على الوجوب، وإنما يقال: دل على مطلق الأمر، والفرق بين العبارتين ظاهر، لأننا لو قلنا: دل على الوجوب، إذاً تطلبنا صارفاً للوجوب، وأما إذا قلنا: مطلق الأمر؛ عرفنا أن ذلك مشروع، ثم نبحث عن وجوبه أو استحبابه بدليل آخر، والله أعلى وأعلم، ولم يذكر الحافظ رحمه الله أحاديث تبين مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل، أو أراد أن ينام، خاصةً أنها مهمة في هذا الباب.
ولهما من حديث ميمونة : ( ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب بها الأرض وفي رواية: فمسحها بالتراب وفي آخره: ثم أتيته بالمنديل فرده، وفيه: وجعل ينفض الماء بيده ) ].
والحديث إسناده من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وقول الحافظ : واللفظ لـمسلم ، مسلم تفرد عن البخاري في روايته لهذا الحديث بأمرين: الأمر الأول: غسل الفرج، فإن البخاري رواها من ثلاث طرق عن عائشة لم يذكر غسل الفرج، وإنما رواها مسلم ، فقوله: ( فغسل فرجه ) لم تذكر عند البخاري ، قال الحافظ ابن حجر : وهذه زيادة جليلة؛ لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه -يعني: مس الفرج- أثناء الغسل، ولهذا نقول: واللفظ لـمسلم ؛ لأجل أن فيها زيادة غسل الفرج، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: فيها زيادة غسل القدمين، وزيادة غسل القدمين تفرد بها أبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير رواها عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وقد أنكرها بعض أهل العلم، ورأوا أن أبا معاوية تفرد بالرواية عن هشام ، وإلا فإن أكثرهم رواها بعدم ذكر غسل القدمين، وإنما فيه: (توضأ وضوءه للصلاة)، وفي رواية: (أنه أخر الغسل)، ولهذا أشار إليها مسلم ، وأنكرها أبو الفضل الشهيد ، صاحب علل الأحاديث عند الإمام مسلم ، والواقع أن مسلماً لم يتفرد بهذه الرواية، وأن أبا معاوية لم يتفرد بهذه الرواية، وإنما رواها أيضاً حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، و عطاء بن السائب اختلط بأخره، إلا أن رواية حماد بن سلمة عنه قبل الاختلاط.
فعلى هذا: فيكون غسل القدمين ثابت عن عائشة ، وعرفنا هذا؛ لأن الرواية عن عائشة رواها عنه اثنان: عروة و أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فعروة رواها عنه هشام بن عروة ، و أبو سلمة بن عبد الرحمن رواها عنه عطاء بن السائب الذي روى عنه حماد بن سلمة ، وعلى هذا: فرواية غسل القدمين والتأخير كله ثابت والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأما حديث ميمونة فإنه يرويه الأعمش عن سالم بن أبي الجعد ، يرويه الأعمش وهو سليمان بن مهران .
من الطريف أن سليمان بن مهران كان جالساً عند أبي حنيفة ، فجاء رجل فسأله، فتأمل فلم يجد جواباً، فالتفت إلى النعمان فقال: ما تقول فيها يا نعمان ؟ فقال أبو حنيفة النعمان : فيها كذا وكذا، قال: من أين لك هذا؟ قال: أو ما حدثتنا عن فلان بن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا؟ فتفطن لها الأعمش فقال: حقاً يا معشر الفقهاء! أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، كما رواها بإسناد جيد الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه.
فحفظ الحديث كما قال الحافظ الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه يقول: فإن أهل العلم في حفظه متفقون، وفي فهمه مختلفون. الأئمة يختلفون في فهم الأحاديث، ولكن في حفظهم يتفقون، كل يسرد، لكن العبرة بالفهم، والعبرة بالحفظ والفهم.
ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله، أو قال غير واحد: ما ناظرت أحداً إلا حججته إلا أهل الحديث، يعني إذا كان فاهماً، فإذا كان عنده أصول، فاهم للنصوص الشرعية، فإن حجته بإذن الله سوف تقوى.
على كل حال: الحديث فيه مسائل، أجملها على عجل:
وذهب أبو حنيفة و مالك إلى خلاف ذلك، وقالوا: إنه يستحب، وأنه إن أنقى أجزأ، وإن كان الأفضل أن يكثر إلى ثلاث ولكن الراجح أن ذلك واجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنه يجزئ أحدكم أن يستجمر بثلاث )، وقوله: (يجزئ) دليل على أن عدمه لا يجزئ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أما الاستنجاء بالماء: ليس له حد محدود، وهذا هو المشهور من مذهب الأئمة الأربعة، والله أعلم.
المسألة الأولى: وجوب غسل الرأس، وقد جاء في الحديث النهي في التهاون في هذا، وقلنا: إن الأحاديث في هذا الباب ضعيفة مثل: ( تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة )، وقلنا: إن هذا الحديث لا يصح، وإنما روي عن علي بن أبي طالب ، ولكن هذا هو فعله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الشعر من سائر البدن؛ فيجب إفاضة الماء عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، وقوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].
المسألة الثانية: وجوب إيصال الماء إلى أصول الشعر؛ لأن وفرة الشعر وبشرة الرأس من الظاهر، فيجب غسلها، وهذا محل إجماع عند أهل العلم، وإنما اختلفوا في المرأة الحائض، هل تزيل ما قد ربطته؟ وهل تؤمر بالنقض أم لا؟ والراجح كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله أنه لا فرق بين الحيض والجنابة، وأنه يكفيها أن تفيض على سائر رأسها، شريطة أن يبلغ أصول الشعر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة في قصة غسل المحيض قال: ( ثم تفيض على رأسها حتى تبلغ به أصول شعرها، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، قالت: يا رسول الله! وكيف أتطهر بها؟ فاستحيا صلى الله عليه وسلم وقال: سبحان الله! تطهرين بها، قالت: يا رسول الله! وكيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهرين بها، قالت
المسألة الثالثة: حكم التثليث في الغسل، جاء في الحديث: ( ثم أخذ ثلاث حفنات )، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في حديث عائشة عن أسماء في غسل المحيض قال: ( ثم تغسل رأسها حتى تبلغ أصول الشعر )، فهذا هو الأصل، وفي حديث عائشة استحباب ثلاث حفنات، فالراجح أن ثلاث حفنات بعد إيصال الماء إلى أصول الشعر أن ذلك على سبيل الاستحباب، وهذا مذهب عامة أهل العلم، وقد ادعى الماوردي أنه لا يستحب التثليث كما في الوضوء، والله أعلم، والراجح خلاف ذلك، وقد أنكر عليه الإمام النووي والله أعلم.
القول الأول: قالوا: إنه يغسل؛ لقول عائشة : ( ثم توضأ وضوءه للصلاة )، قالوا: وأما الرواية في غسل القدمين فهي رواية صحيحة، لم يتفرد بها الراوي، وقلنا: تفرد بها بعض الرواة، مسلم بن إبراهيم في الحديث الأول وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، والراوي عن هشام هو أبو معاوية الضرير ، وأبو معاوية الضرير لم يتفرد بهذه الرواية، وإنما رواها حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، وهذا مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد .
القول الثاني: يتوضأ ولا يغسل رجليه ويؤخرهما؛ لحديث ميمونة وبعض أحاديث عائشة ، وهذا مذهب الحنفية وقول عند المالكية، ورواية عند الإمام أحمد .
القول الثالث: إن كان المكان نظيفاً؛ غسلهما مع الوضوء، وإن كان المكان غير نظيف؛ أخرهما آخر الغسل، وهذا مذهب المالكية و أحمد .
القول الرابع: هو التخيير، وهذه رواية عند الإمام أحمد اختارها شيخنا عبد العزيز بن باز ، وهذا قوي؛ وذلك لأنه ثبت عن عائشة أنه غسل، وثبت عنها أنه أخر، وحديث ميمونة ثبت عنه أنه أخر وثبت عنه أنه غسل، فدل ذلك: على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أحياناً ويترك أحياناً، ولعل هذا القول أظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة خلافاً لـمالك إلى أن الواجب هو: أن يفيض على سائر بدنه، وأما العرك أو الدلك فإن ذلك ليس بواجب، ولكنه يستحب من باب تحقيق الوجوب الذي هو الإفاضة، وإلا فإن الدلك لا يجب، وقالوا: إن الغسل في اللغة العربية لا يدخل فيه الدلك، والواجب هو أن يغسل، فدل ذلك على أن غسل الرجلين في الوضوء، وكذلك في الجنابة إن الواجب هو الغسل، والغسل ليس فيه ما يدل في لغة العرب على الدلك، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: حديث عائشة ( ثم يفيض على سائر بدنه )، ولم يذكر فيه الدلك.
الدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، ولم يأمره بالدلك، وهو أعرابي قد خفي عليه التيمم، فما بالك بمسألة دقيقة في الغسل.
القول الثاني: مذهب المالكية و المزني من الشافعية في وجوب الدلك، واستدلوا بحديث جابر عند أحمد و الدارقطني: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار على مرفقيه الماء )، قالوا: فهذا يدل على وجوب الدلك، والصحيح كما أشار أبو عمر بن عبد البر وهو مالكي أنه لم يثبت الدلك ولا العرك لا في حديث غسله صلى الله عليه وسلم ولا في شيء من ذلك، ولهذا فالراجح أن العرك أو الدلك من باب الاستحباب، والله أعلم.
والقول الثاني: إنه لا يرتفع، فلا بد أن يتوضأ وينوي الوضوء لرفع الحدث، ويغتسل وينوي رفع الحدث الأكبر، وهذا حكي عن مالك ، و داود ، و أبي ثور ، وقد أنكر بعضهم نقل الخلاف عن أبي ثور وعن داود ، ولهذا حكى الطبري و أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أن الحدث يرتفع، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فإن من دخل في البركة وعنده حدث أكبر فما حكمه؟ وقبل أن أجيب لابد أن نعرف أن من يذكر الحكم الشرعي فقط ليس بفقيه، ولكن الفقيه قبل أن يفتي يعرف أن الحديث فيه مشكلة، وفيه خلاف، ويعرف الجواب فيه، ولهذا تجد بعض طلاب العلم حينما يقول لك: الراجح كذا، تقول: طيب، هناك حديث في المسألة، يقول: نعم ولكني لا أدري، ومع ذلك الراجح كذا، فهذا ليس بفقيه، فلا يتفقه الإنسان حتى يستحضر المسائل كلها.
فإذا كان جنباً وسقط في بركة ذهب عامة أهل العلم إلى أن حدثه يرتفع لكن مع الإثم أو الكراهة.
وذهب ابن حزم وهو رواية عند الإمام أحمد : إلى أن حدثه لا يرتفع، فإن كان الماء قليلاً؛ فلا يرتفع عند الحنابلة والشافعية، وإن كان كثيراً يرتفع، ولكن مع الكراهة، والله أعلم، وقلنا: إن الراجح أنه يرتفع ولو كان قليلاً، ولكن هذا مكروه أو محرم؛ لأنه مدعاة إلى أن يتركه الناس استقذاراً، والله أعلم.
أما لو أفاض الماء على سائر بدنه وتمضمض واستنشق؛ فإنه يرتفع الحدث الأكبر والأصغر، لكنه لو أراد أن يدخل البركة وليس عنده حدث أكبر، وقال: أريد أن أنوي فيه الحدث الأصغر هل يجزئ؟ ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجزئ حتى يتوضأ؛ لأن من شروط الوضوء الترتيب، وهذا مذهب عامة أهل العلم، وخالف في ذلك من لا يرى الترتيب في الوضوء، وهو قول عند الشافعية ورواية عند الإمام أحمد ، والراجح وجوب الترتيب فيمن دخل البركة أو أفاض على سائر بدنه الماء للتبرد، أما من نوى رفع الحدث فهذا لا يجزئه حتى يرتب في وضوئه، والله أعلم.
أولاً للفائدة: جاءت أحاديث كثيرة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشف أعضاءه بعد الوضوء، وجاءت أحاديث أيضاً كثيرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالتنشيف في الوضوء، ويقول ابن القيم في المنار المنيف: أحاديث التنشيف في الوضوء لا تصح، وهذا هو الراجح، وأصح شيء في الباب حديث ميمونة ( ثم أتيته بالمنديل فرده، وجعل ينفض الماء بيده )، ولأجل هذا اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:
القول الأول: قالوا بأن ذلك مكروه، واستدلوا بقوله: (فرده)، وهذا ليس بقوي، ( فجعل ينفض الماء بيده )؛ لأن نفض الماء دليل على عدم مقصود إبقاء الماء، فلهذا نفضه بالمنديل أو نفضه بيده، كل ذلك سواء بسواء.
القول الثاني: إن ذلك مكروه في الصيف، مباح في الشتاء، ولعل من أدلتهم قالوا: مكروه في الصيف؛ للأحاديث الواردة في النهي، ومباح في الشتاء؛ لأن ذلك مما يكره على الإنسان ويشق عليه، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره )، فإن ذلك فيه كره؛ فصار ذلك عذراً له؛ فصار مباحاً.
القول الثالث: أن ذلك مستحب، يعني: التنشيف مستحب، واستدلوا بأحاديث التنشيف وهي ضعيفة كما هو معلوم.
والقول الرابع: إن ذلك مباح، قالوا: كل ذلك قد فعله، مرةً نشف، ومرةً ترك، فدل على أن الترك ليس بمقصود العبادة، وعلى التنشيف ليس بمقصود في العبادة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا هو الراجح أي: أن تنشيف الأعضاء مباح، فبعضهم ما يضع في دورات المياه فوطة، من أجل ألا ينشف بناءً على الاستحباب، والقول بالاستحباب يحتاج إلى دليل أو على أن ذلك مكروه، والراجح أن كل ذلك جائز، والله أعلم.
ولعل في هذا كفاية، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: التبرد أو التنظيف لا يصح إلا بالترتيب لكي يرفع الحدث، والله أعلم.
الجواب: وهو جنب؛ لحديث عائشة في الصحيحين: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ للصلاة ).
الجواب: الراجح والله أعلم: أن المضمضة والاستنشاق في الغسل والوضوء واجبان، وهذا مذهب الحنابلة، وذهب الشافعية والمالكية إلى استحباب المضمضة في الوضوء والغسل، وذهب أبو حنيفة إلى وجوبها في الوضوء وعدم وجوبها في الغسل، يقول ابن رجب : فإذا جازت في الوضوء، فالغسل من باب أولى، ولهذا صح عن ابن عباس كما رواه ابن المنذر أن رجلاً سأل ابن عباس : إنني اغتسلت للجنابة ولم أتوضأ ولم أتمضمض؟ قال: تمضمض إذاً؛ لأنه لا يشترط الموالاة، فالراجح مذهب الحنابلة.
الجواب: إذا قصد رفع الحدث فهذا يكفي، فيرفع الحدث لأجل الصلاة، ويقول: أنا أريد الصلاة فهذا رفع الحدث.
الجواب: الذي يغتسل الفجر هو يغتسل حتى يصلي فيها قطعاً، لكنه لو ذهب يغتسل لأنه أنشط للعود وهو ما قصد وما استحضر، فهذا ما رفع الحدث، يقول العلماء رحمهم الله كما في الروض: ومن اغتسل وهو مجنب، أو توضأ وهو مجنب لقصد أداء عبادة لا تصلح إلا بالوضوء ولو كانت سنة؛ جاز أن يصلي بها الفرض.
الجواب: ما يلزم، لو أني أنا الآن محدث، فأردت أن أقرأ القرآن فتوضأت لأجل قراءة القرآن، يقولون: يرفع حدثي، فكل من نوى بوضوئه ما لا يجزئ إلا بالوضوء بنية هذا أجزأ، هذا قول عامة أهل العلم.
الجواب: قال ابن عباس : قال لي عمر ونحن محرمان: تعال أباقيك، يعني نغطس ومن يبق أكثر، تعال أباقيك، فهذا نوع من الغسل، واختلف المسور بن مخرمة و ابن عباس : هل يغسل المحرم رأسه أم لا؟ يقول محمد بن حنين : فقال لي ابن عباس : اذهب إلى أبي أيوب فسله، قال: فأتيته وهو يغتسل بين القرنين، والقرنان اللذان عند البئر يقول: فأتيته وقد التحف بثوب قال: فقلت السلام عليك، قال: وعليك السلام وهو يغتسل مظلل بثوب، فقلت: بعثني إليك عبد الله بن عباس يسألك: هل المحرم يغسل رأسه؟ قال: فوضع يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي منه رأسه، ثم قال لإنسان يصب: ( اصبب فصب، فجعل يحرك بيديه رأسه، فأقبل بهما وأدبر، فقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل )، عمم سائر بده فقط.
الجواب: غسل الجنابة غسلان: غسل مجزئ وغسل مسنون، الغسل المسنون: هو الذي في حديث عائشة ، وهو ( أن يتوضأ ثم يفيض على رأسه ثلاث حفنات، ثم يفيض على سائر جسده ).
وأما القسم الثاني: وهو الغسل المجزئ، وهو الذي يقصد به في الجملة الاغتسال؛ أن يفيض على سائر بدنه، وهذا معنى غسل الجنابة، الذي هو رفع الحدث الأكبر فإنه يجزئ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذ هذا فأفرغه عليك )، فالمقصود أن يعمم سائر بدنه مثلما يعممه في الجنابة.
فغسل الجنابة يوم الجمعة: أن يعمم سائر بدنه ( ثم اغتسل غسله للجنابة )، الذي هو الغسل المجزئ، وأما حديث عائشة إنما هو في الغسل من الجنابة؛ فلا فائدة أن يغسل فرجه وهو لم يفعل شيئاً.
الجواب: المسابح الموجودة الآن مفلترة، فإذا كانت تفلتر وتعاد من جديد فإنها طاهرة، وأما إذا كانت لا تعاد لكن تنظف فإنها من الماء الدائم.
فإذا أضيف إليها مواد كيماوية مثل الكلور فهذا نوع من الأخف بلا شك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر