إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قال الحافظ رحمه الله: [ وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( قلت: يا رسول الله! إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ وفي رواية: والحيضة؟ فقال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات )، رواه مسلم ].
والمؤلف رحمه الله إنما ذكر هذا الحديث من حيث الأصل، دون زيادة (والحيضة)، وأما زيادة (والحيضة)، فإنما رواها مسلم في صحيحه من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني عن سفيان الثوري عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة .
إذاً: مدار الحديث على أيوب بن موسى ، رواه سفيان بن عيينة وتابعه روح بن القاسم ، فروياه عن أيوب بن موسى دون زيادة (والحيضة)، ورواه الثوري عن أيوب بن موسى واختلف عليه، فرواه يزيد بن هارون المحدث الثقة، عن الثوري مثل رواية ابن عيينة ، دون زيادة (والحيضة)، ورواه عبد الرزاق عن الثوري بزيادة (والحيضة).
وكما قلت لكم: الزيادة جاءت من عبد الرزاق عن الثوري ، وهل وافق عبد الرزاق عن الثوري غيره؟ قلنا: لا، فرواها يزيد بن هارون عن الثوري دون زيادة الحيضة.
الآن من حيث دراسة الأسانيد اختلف علينا هل الأصح رواية عبد الرزاق عن الثوري أم رواية يزيد بن هارون عن الثوري ؟ ننظر إلى الطبقة التي بعدها فنقول: من تابع الثوري في هذا؟ فوجدنا ابن عيينة ووجدنا روح بن القاسم روياه عن أيوب بن موسى بهذا الإسناد: سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة دون زيادة (والحيضة)، فدل ذلك على أن زيادة الحيضة منكرة، بهذا نعرف الزيادات.
وأكثر المتأخرين حينما يدرسون الإسناد ينظرون إلى نفس الراوي الذي زادها، عبد الرزاق ثقة قالوا: ثقة إذاً هي صحيحة، ويريدون أن يبينوا صحتها يقولون: وقد رواها مسلم في صحيحه، والذي يظهر والله أعلم: أن مسلماً إنما رواها لبيان علتها، ولهذا لم يذكرها في الأصل، إنما ذكرها في المتابعة، وهي طريقة لـمسلم رحمه الله تكلم فيها أهل العلم من القديم والحديث، وفيه رسائل تبين هذا منها: عبقرية مسلم للدكتور حمزة المليباري فقد أشار إلى ذلك، ومنهج مسلم في صحيحه وهو لـمشهور حسن ، وإن كان أراد الرد على كتاب عبقرية مسلم ، إلا أنه أشار في بعض المواطن إلى مثل هذا، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا: فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه الزيادة منكرة، وليس عبد الرزاق بأول مرة يتفرد عن الثوري بالزيادات الغريبة، فإن عبد الرزاق يروي عن الثوري بعض المفردات، من ذلك: ما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم بن كليب بن ذهل عن أبيه عن وائل بن حجر في زيادة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع أصبعه بين السجدتين )، زيادة (بين السجدتين) تفرد بها عبد الرزاق عن الثوري ، وأكثر الرواة رووها عن عاصم إنما هو في التشهد والله أعلم.
روى مسلم في صحيحه من حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال: ( بلغ
ومعنى ( إني امرأة أشد شعر رأسي )، وفي رواية: ( أضفر شعري )، بمعنى أني أخالف بعض الشعر مع بعض حتى يكون على هيئة غدائر أو عكائص أو ضفائر أو زوائد، كلها بمعنى واحد، والله تبارك وتعالى أعلم، فتجمعها على رأسها ثم تغتسل، فقال: ( أفأنقضه لغسل للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات )، والمقصود بالرأس هو أصول الشعر، بدليل: ما جاء في الحديث السابق من حديث عائشة : ( حتى تبلغ به أصول شعرها )، وفي هذا فائدة سوف نذكرها إن شاء الله في المسائل الفقهية، لكن عندنا الآن مسائل:
القول الأول: وهو مذهب عائشة و عبد الله بن عمر فإنه قد روى ابن أبي شيبة عن نافع أن ابن عمر كان يأمر نساءه إذا اغتسلن أن يفرغن على رءوسهن، ولا يأمرهن أن يزلن ضفائر شعورهن، وهذا يدل على أن عبد الله بن عمر لم يخصص في ذلك شيئاً، وعلى هذا: ذهبت عائشة و ابن عمر وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الإمام أحمد : أنه لا يجب على المرأة إذا هي اغتسلت أن تنقض شعر رأسها، سواء أكان ذلك للحيضة أم للجنابة، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: حديث الباب، فإن فيه ( والحيضة والجنابة )، وقد مر معك أن هذه الرواية الصحيح أنها منكرة، وقد أعلها غير واحد من أهل العلم، فممن أعلها الحافظ ابن رجب رحمه الله، فبين أن هذه الزيادة غير محفوظة، حيث أنها قد رواها ابن عيينة و روح بن القاسم عن أيوب بن موسى دون هذه الزيادة، ورواها يزيد بن هارون عن الثوري دون هذه الزيادة، فدل ذلك على أنها لفظة غير محفوظة، وممن أعلها أيضاً الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه تهذيب السنن، ثم قال بعدما أشار إلى الخلاف فيها قال: ومن أعطى النظر حقه؛ علم أن هذه اللفظة ليست محفوظة في الحديث، ولكن قالوا: إن الجنابة كالحيضة من حيث وجوب الغسل، وقالوا: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقة غسل الحائض من الحيضة، ولا فرق في ذلك بين الجنابة والحيضة، والأصل هو أن تبلغ أصول شعرها، وهذا يكون في الحيضة ويكون في الجنابة.
والنقض ليس هو لأصول الشعر، ولكنه لغسل ما وصل من الشعر، فكان الأصل هو أصول الشعر، ولهذا قال في غسل الحيضة: ( حتى تبلغ به أصول شعرها ).
واستدلوا على ذلك أيضاً بحديث عائشة حينما قالت: ( عجباً لـ
والغالب في هذا الغسل التي أشارت إليه عائشة هو غسل الجنابة؛ والدليل أنها قالت: ( وأغتسل أنا ورسول الله )، فقطعاً يكون اغتسالها مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأجل الحيضة، ولكنها رأت ألا فرق بينهما.
والقول الثاني في المسألة: في الجنابة قالوا وهو قول عامة أهل العلم: إن المرأة لا تنقض، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن عمرو بن العاص وروي عن النخعي وهو قول لبعض الأصحاب، أشار إليها صاحب الإنصاف وقال: وهو الصحيح، فلعله وهم والله أعلم؛ لأنهم قالوا: إنه يجب على المرأة أن تغسل أصول الشعر؛ لأن بقاء شعرة لم يصبها الماء فقد جاء فيها الوعيد، ويشيرون بذلك إلى حديث علي بن أبي طالب الذي سوف نذكره إن شاء الله ( تحت كل شعرة جنابة )، حديث أبي هريرة وكذلك حديث علي بن أبي طالب حينما قال: ( فمن ثم عاديت شعري )، يعني تعاهدته، ولا شك أن هذا القول في الجنابة قول غير معروف عن السلف، والأقوال التي غير معروفة عن السلف فلا ينبغي الاكتراث إليها، ولهذا يشير دائماً أبو عمر بن عبد البر إلى مثل هذه الأقوال الشاذة يقول: ولولا وجود من يقول بها، لما ذكرنا فيها شيئاً، فهو يشير إلى مثل هذه الأقوال التي لا يعول عليها.
القول الثالث في المسألة: هو مذهب الحنابلة، وهو قول ابن حزم وهو اختيار ابن القيم رحمهم الله جميعاً: أن المرأة تنقض شعرها للحيضة ولا تنقضه للجنابة، واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن الأصل أن المرأة كالرجل يجب أن تغسل سائر شعرها، وجاء في الحديث: ( أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك ) فكان ذلك مستثنى من الأصل، قالوا: وأما زيادة الحيضة فضعيفة؛ فيبقى الأمر على الأصل.
الدليل الثاني: استدلوا بما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة في الإحرام: ( انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج )، وفي رواية: ( انقضي رأسك واغتسلي )، وهي رواية ابن ماجه حسنها ابن القيم رحمه الله وغيره، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة وكانت حائضاً أن تنقض رأسها، والجواب على هذا أن يقال: أولاً: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن تنقض رأسها ليس فيه ما يدل على المسألة؛ وذلك لأن غسل الحائض للإحرام سنة، فلو أنها لو لم تغتسل لجاز لها ذلك، فدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بنقض الرأس دليل على معنىً آخر أشار إليه صلى الله عليه وسلم: وهو أن المحرمة لا بأس أن تنقض وتمشط شعرها، بدليل قوله: ( انقضي رأسك وامتشطي )، مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد حكماً آخر، وليس هو حكم الاغتسال.
قالوا: وبدليل أنه لم يقل أحد بوجوب امتشاط الشعر، فكذلك لا يجب الغسل، وهذا يسمى دلالة الاقتران، ودلالة الاقتران قلنا: إنها على قسمين: القسم الأول: أن تعطف جملة على جملة بفعلها، جملة مع فعلها وجملة مع فعلها، فما دل على أحدهما؛ لا يلزم منه أن يدل على الآخر، كما قال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فليس الأكل واجباً، وإن كان الحصاد وإخراجه واجباً.
فيقول ابن القيم كما في البدائع وغيره: إن عطف الجمل على الجمل لا يحتج بها على دلالة الاقتران، أما عطف الكلمة مع الكلمة وفعلها واحد، فإنه ما وجب على أحدهما وجب على الآخر، وما استحب في أحدهما استحب في الآخر، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه )، يعني بذلك أنه واجب ويمسك على الطيب، فلما لم يجب مس الطيب ولا السواك؛ دل على عدم وجوب الغسل؛ لأن فعل كل هذه الكلمات واحدة، وهو الوجوب.
فعلى هذا: فالذي يظهر أن هذا الاستدلال فيه نظر، وأن دلالة الاقتران هنا من أضعف الأقوال، وهذه أعني دلالة الاقتران عطف الجمل على جمل لم يقل بها سائر أهل العلم خلافاً لما نقل عن أبي يوسف فإنه احتج بها والله أعلم.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن الراجح هو مذهب عامة أهل العلم؛ وذلك لأن نقض الشعر للجنابة لم يكن ذلك للتخفيف لأجل أن الجنابة تتكرر؛ لأن الحنابلة يقولون: ينقض في حال الحيضة ولا ينقض في حال الجنابة، قالوا: لأن الجنابة يتكرر والحيض لا يتكرر، والجواب أن يقال: إن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم بنقض شعر الجنابة ليس لأجل التخفيف من عدمه، ولكن لأجل أنه لا يجب غسل ما وصل من الشعر دون أصول الشعر، ولهذا قال: ( إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات وقال: حتى تبلغ أصول الشعر )، وعلى هذا فلا يقال هنا: إن الأصل هو وجوب الغسل، فخرج هذا بدليل القاعدة بالخروج عن الأصل: أنه يستثنى فيقال في الرخصة: هي ما خرج على خلاف الأصل لدليل، وهنا لم يخرج أصلاً عن الأصل؛ لأن الواجب في حق المرأة أن تبلغ أصول شعرها، ولو لم يكن لجنابة فقط، جنابة وحيضة، فدل ذلك على أن المقصود للحائض أو الجنابة هو أن تبلغ أصول شعرها، فكانت أم سلمة تظن أن الواجب في حقها هو غسل ما وصل من الشعر، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الواجب في حقك أن تبلغي أصول الشعر )، فدل ذلك: على أن هذا لا أثر فيه بين الجنابة ولا بين الحيضة، ولهذا ذهب عامة أهل العلم: إلى أنه لا فرق خلافاً للحنابلة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ذهب الشافعية وبعض الحنابلة: إلى أنه يجب على المرأة أن تغسل، حتى تظن أن قد روته، وإذا شكت في ذلك؛ فيجب عليها أن تحثي على ضفائرها ماء بحيث يغلب على الظن إصابة الماء.
وذهب الحنفية والمالكية: إلى عدم الوجوب؛ لأنه لما لم يأمرها أن تنقض رأسها، وأمرها أن تبلغ بالماء أصول الشعر دل على أن الضفائر لا تجب، والذي يظهر والله أعلم: هو أن يقال: أما أصول الشعر فيجب إيصال الماء له، وأما الضفائر فإنما يكفي أن تحثو المرأة على رأسها أي: على ضفائرها ثلاث حثيات.
فهذا يدل على أنه إن لم يصل الماء فلا يضر، فيكون ذلك من باب التخفيف في الوصل، وليس من باب الوجوب والرخصة في الأصل الذي في أصول الشعر، فيكون من باب التخفيف في الوصل لا من باب الرخصة عن الأصل الذي هو غسل أصل الشعر، وهذا أظهر والله أعلم.
وكون المرأة إذا كانت طويلة الشعر، فتجمعه قريباً من رقبتها، فإذا حثت على رأسها أو شعرها المجموع ثلاث مرات، أو جعلت رأسها تحت الماء الذي يصب من نفس الصنبور كل ذلك إن شاء الله رخصة لها، والله أعلم.
العلة الأولى: قالوا: إن في سنده أفلت بن خليفة ويقال: فليت بن خليفة وقالوا: إنه مجهول لا يعرف، كما أشار إلى جهالته الخطابي و ابن حزم الذي قال: غير مشهور ولا معروف في الثقة وحديثه باطل، والراجح والله أعلم في أفلت بن خليفة : أنه لا بأس به كما قال الإمام أحمد : ما أرى بحديثه بأساً، وقال أبو حاتم : شيخ، ومن هذا حاله شيخ فيكون إلى الحسن أقرب، بشرط ألا يخالف أو يأتي بما لم يعرفه الثقات، يعني: يأتي بحديث جديد، وهذا لعله منها، فإنه قد أتى بنص جديد، وإن كان معناه ظاهراً، والله أعلم.
وعلى هذا فالصحيح أن أفلت بن خليفة ليس بمجهول؛ وذلك لأنه روى عنه الثوري وغير واحد من أهل العلم، وقد قال البخاري : سمع من جسرة بنت دجاجة ، فمن قال عنه البخاري : سمع من جسرة يكون مجهولاً؟ لا، ولهذا روى عنه الثوري و عبد الواحد بن زياد ومن هذا حاله ليس بمجهول والله أعلم.
العلة الثانية: قالوا: في سنده جسرة بنت دجاجة قال عنها البخاري : عندها عجائب، وهي جسرة بن دجاجة العامرية الكوفية وثقها العجلي و ابن حبان ، وقال الدارقطني : يعتبر بحديثها، إلا أن يحدث عنها من يترك، وقد ضعف الحديث الإمام أحمد رحمه الله، و عبد الحق الإشبيلي وأشار إليه ابن رجب فقال: في سندهما مقال، يعني حديث عائشة وحديث أم سلمة جاء عنهما كما سيأتي، والذي يظهر والله أعلم: أن تضعيف أحمد ليس لأجل وجود أفلت أو جسرة فقط، ولكنه للعلة الثالثة وهي الاختلاف، فإن الاختلاف جاء من وجهين:
الوجه الأول: أن جسرة بن دجاجة مرة روته عن عائشة ومرة روته عن أم سلمة .
والوجه الثاني: أن المحفوظ عن عائشة ما رواه عروة بن الزبير و عباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سدوا الأبواب كلها إلا باب
فقال البخاري : ورواية عروة و عباد عن عائشة أصح، يعني: حديث ( سدوا الأبواب إلا باب
وعلى هذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث إلى الضعف أقرب، وأن سبب الضعف هو أن أفلت بن خليفة وإن كان حسن الحديث، فإنه أتى بما لا يعرفه الثقات، ولوجود المخالفة من جسرة بن دجاجة ، وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
القول الأول: هو حرمة دخول المسجد للحائض والجنب إلا لحاجة، واستدلوا بأدلة منها: حديث الباب، وقد قلنا في حاله: إنه ضعيف، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وهي حائض في الحج: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )، ووجه الدلالة قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن الدخول في المسجد، يقول ابن تيمية : وهل العلة في منع عائشة لأجل الطواف بالبيت أم لأجل دخول المسجد أم لأجلهما معاً؟ ثلاث علل، أقول: والذي يظهر والله أعلم: أن الحديث ليس فيه ما يدل على ذلك؛ وذلك لأن الذي يظهر: أن المنع إنما هو لأجل الطواف بالبيت، ولهذا حكم ابن حزم في مراتب الإجماع: أن الحائض ممنوعة من الطواف حال حيضها إجماعاً.
واليوم تجد بعض الطلبة يخفف في هذا، وابن تيمية حينما ذكر هذه المسألة، لم يذكر جزماً أن الحائض تطوف حال حيضها، إنما قال: وقد قال بعض المالكية، وقد يقال: كل ذلك خوف من هيبة مخالفة عامة أهل العلم أو الجمهور، وهذا من أدب العلم.
فـابن تيمية عندما ذكر المسألة في المجلد الخامس والعشرين، أشار إلى أنه قد يقال، وإن كان حديث عائشة نص في المنع لأجل الطواف، ولكنه رحمه الله لم يجزم بالمخالفة.
الدليل الثالث في المسألة: هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، الآية، كل هذه الآية فيها وجه وردود، وجه الدلالة قالوا: إن الآية نصت على عدم الاقتراب من مواضع الصلاة حال السكر وحال الجنب؛ لأن معنى الصلاة هي المصليات، بدليل رواية في حديث أم عطية : ( وأمر الحيض وذوات الخدور أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى )، وفي رواية: ( ويعتزلن الصلاة )، يعني بذلك مواضع الصلاة، فقالوا: إن الصلاة تطلق على الفعل وعلى المكان.
قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى نهى السكارى أن يقربوا من الصلاة، ومن المعلوم أن القرب من الصلاة ليست هي الصلاة، فدل على أن القرب من الصلاة هي مواضعها.
وقالوا: إن أكثر المفسرين ونسب إلى جمهور المفسرين الطبري و ابن كثير و الشوكاني وغيرهم قالوا: إن المقصود بها مواضع الصلاة، وأما قوله: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، يعني: إلا المسافر، فإن المسافر يجوز أن يجتاز إذا تيمم، وهل عابر السبيل وهو المسافر يجوز له إذا تيمم، قالوا: وهل التيمم خاص للمسافر؟ لا التيمم ليس خاصاً للمسافر.
فدل ذلك إلى أن قوله: إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، يعني: إلا المسافر لأنه لا يجد الماء في الغالب.
نقف عند هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر