إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا المجلس مجلس خير وبركة، تحفنا فيه ملائكته وتغشانا فيه الرحمة، وأن يذكرنا الله سبحانه وتعالى في من عنده.
أحبتي الكرام! حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم فيه مزايا:
المزية الأولى: أنك لا تكاد تجد صحابياً قد حوى صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما حوى جابر , وجابر رضي الله عنه امتاز على غيره من الصحابة أنه كان يسرد الأحاديث سرداً بطولها, وقل أن تجد هذا في الصحابة أمثال جابر رضي الله عنه, فلو تأملت في فضائل جابر رضي الله عنه لرأيته يسرد الأحاديث الطويلة، مثل ذكره لفضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومخاطبته للشجر, وبركته عليه الصلاة والسلام في الماء, ومثل ذلك غزوة ذات قرد, وغير ذلك من الغزوات والفضائل التي تميز جابر بسرد أحاديثها دون غيره من الصحابة, فإن الصحابة رضي الله عنهم كان الغالب أنهم لا يذكرون إلا وجه الشاهد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره.
المزية الثانية: أنه ذكر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ومن إهلاله بالميقات حتى انتهى من حجه رضي الله عنه؛ ولهذا اهتم بها الأئمة أيما اهتمام, وألفوا فيها التصانيف والأجزاء, وقد ذكر ابن المنذر أنه ألف جزءًا في حديث جابر وأخرج منه نحواً من مائة وخمسين فائدة, وبعد التأمل تصل إلى أكثر من مائتين بدلالة التضمن والالتزام.
على كل حال حديث جابر فضله لا ينسى؛ ولذا اهتم به العلماء في القديم والحديث, ويصعب علينا أحبتي الكرام أن نذكر كل مسائل حديث جابر, سواء كان في المسائل السلوكية أو المسائل الفقهية غير مسائل الحج, ولعل البعض يعذرني حين لا أذكر إلا المسائل المتعلقة بالحج, وليست كل مسائل الحج أيضاً, بل إننا سوف نكتفي بإشارات علنا أن ننهي هذا المتن بأيامه المحدودة وهي أربعة أيام.
هو من آل البيت، وفي هذا دلالة على أن آل البيت يجب في الجملة أن يكرموا خاصة إذا كانوا من الأتقياء، وهذا أمر حث عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم, وهو أن نولي آل بيته عليه الصلاة والسلام المنزلة العلية, وأن ندعو لهم، وأن نقدرهم في المجالس وفي المناسبات.
في هذا دلالة على أن محمد بن علي بن حسين لم ير في فتح الأزرار سنة, وقد ذهب بعض الصحابة إلى أن من عادتهم أنهم لا يفتحون أزرتهم كما روى ابن أبي شيبة من حديث ثابت بن عبيد قال: ما رأيت ابن عمر ولا ابن عباس فاتحي أزرارهما قط, وهذا لا يدل على الاستحباب؛ لأن هذا إنما هو على سبيل الجبلة وعادة القوم, وما جاء عند الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عروة بن عبد الله عن معاوية بن قرة أنه قال: ( أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في وسط وفد مزينة, ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الإزار, فأدخلت يدي على جيبه فرأيت خاتم النبوة ), هذا لا يدل على استحباب فتح الأزرة؛ لأمور:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام أن يفتح أزرته, إنما وقع ذلك اتفاقاً, وما جاء في الرواية عن عروة بن عبد الله قال: فما رأيت معاوية بن قرة ولا ابنه إلا وهم فاتحي أزرتهم, فهذا اجتهاد من معاوية , أما النبي فإنما فعل ذلك مرة.
الأمر الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك؛ لأنه ربما يكون حر أو قر وغير ذلك, فلا يمكن أن يستدل بمثل هذا خاصة أن أفعاله عليه الصلاة والسلام ليست على سبيل الاستحباب على الإطلاق, فإن أفعاله تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما فعله على سبيل الجبلة والخلقة, مثل النوم والأكل فهذا لا يدل على الاستحباب.
القسم الثاني: ما فعله على عادة قومه مثل لبس العمامة والإزار والرداء, فهذا أيضاً لا يدل على الاستحباب عند أكثر الفقهاء والأصوليين.
القسم الثالث: ما فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع فهذا هو الذي حث وحظ بأبي هو وأمي على الاقتداء به فيه, وفعله الصحابة رضي الله عنهم, نعم كان ابن عمر رضي الله عنه يقتدي بأفعاله التي يفعلها على سبيل الجبلة, وقد كان عمر رضي الله عنه ينكر على ابن عمر ما يصنع, وابن عمر يثاب على هذه النية, أما على اقتداء الحالة فلا, وهنا مسائل كثيرة لكن لا داعي لأن نستطرد فيها.
جابر رضي الله عنه قام في نساجة, والنساجة هي: القميص أو اللحاف, وفي رواية أنه التحف به وجعله على هيئة الأزار ولم يغط منكبيه, وفي هذا فائدة وهي أنه أراد أن يتعلم طالب العلم بالفعل؛ لأن الطالب يتأثر بالفعل أكثر مما يتأثر بالقول؛ ولهذا كان أحد القوم معهم فقال: أتصلي في ثوب واحد ورداؤك على المشجب رحمك الله؟! قال جابر كما في بعض الروايات: أردت أن يعلم أحمق مثلك أنه لا بأس به!
وهذا يدل على أن الطالب ينبغي له أن يتلطف في السؤال, ولا يوبخ العالم إلا إذا كان له سند أو كان على هدى من قوله.
وفي هذا دلالة على أنه لا بأس أن يتطوع الإنسان مع قومه جماعة إذا لم يعتادوه, أما إذا اعتادوه فهذا غير مشروع, وقد نقل أبو العباس بن تيمية في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم رواية عن أحمد أنه سئل عن جماعة يجتمعون فيصلون, قال: إذا لم يعتادوه فلا بأس, وجابر حينما دخل على أصحابه صلى بهم صلاة تطوع جماعة.
يقول: (أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا سؤاله عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة على أن الصحابة والتابعين كانوا يعلمون أن جابراً حوى في حجته ما لم يحو غيره من الصحابة, ولا بأس أن يكون طالب العلم يتميز في مسألة دون غيرها, فيرد الناس يستفيدون منه, وفي هذا أحاديث تبين أن الصحابة كانوا يتميزون في مسائل كما حصل لـأسماء بنت عميس حينما فضل النبي صلى الله عليه وسلم هجرتهم على هجرة غيرهم فقال: ( لك وأصحابك هجرتان, ولـ
قال: (فعقد بيدي تسعاً).
هذا العقد عد كان العرب يصنعونه في أزمان ثم اندثر، وليس المراد بأنه ضم أصابعه الخمسة واليد الأخرى أربعة وأطلق أنمله أو أصبعاً، ولكن هذه صفة كانوا يصنعونها في عادتهم كما جاء في بعض الروايات: وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وخمسين حينما أراد أن يرفع أصبعه في التشهد وهو أن يعقد الخنصر والبنصر ويحلق بين الإبهام والوسطى, وهذه الصفة على طريقة ثلاث وخمسين, وأما تسعاً فلهم طرق بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري, وكذا الشوكاني في نيل الأوطار, والصنعاني في سبل السلام.
قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج).
قوله: (لم يحج) يعني: بعدما هاجر إلى المدينة لم يحج, أما قبل الهجرة أو قبل البعثة فقد اختلف العلماء هل حج النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يحج؟ والأقرب الذي لا إشكال فيه والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج قبل الهجرة, لكن كم حج؟ بعض أهل العلم رأى أنه حج مرة أخرى, كما قال أبو إسحاق في صحيح مسلم : وحج في مكة حجة أخرى, وقال بعضهم: إنما حج حجتين كما جاء عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم ( حج حجتين ), وهذا الحديث ضعيف, قال الترمذي : هذا حديث غريب, والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة أكثر من حجتين؛ لأنه كان يفد ويرد على العرب حينما كانوا في سوق عكاظ وماجنة, وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد حج أكثر من مرتين بل لو قيل بأكثر من ذلك لم يكن بعيداً.
اختلف العلماء في ذلك على عدة أقوال أهمها هو قول المالكية والحنفية والحنابلة وهو أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة, ورجح هذا الإمام ابن القيم رحمه الله, واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
قالوا: إن الآية التي في سورة آل عمران التي تدل على فرضية الحج وهي قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97], قالوا: إنما نزلت في سنة تسع, أو في ورود أهل الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأهل نجران وغيرهم, وقالوا: إن هذا الوفد إنما جاءوا سنة تسع, وفرضت عليهم الجزية, والجزية إنما فرضت في غزوة تبوك أو بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة, وهذا الأقرب، والله أعلم.
والقول الثاني: قول الإمام الشافعي أن الحج إنما فرض في السنة السادسة, واستدل على ذلك بأن الله يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196], قال الإمام الشافعي : وهذه الآية إنما نزلت متعلقة بقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196], وقد نزلت بالإجماع في حق كعب بن عجرة , و كعب بن عجرة إنما آذاه هوام رأسه سنة ستٍ من الهجرة زمن الحديبية, فقال الشافعي: إن هذه دليل على أن الحج كان سنة ست للهجرة، وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه سئل عن المواقيت فقال: أحسبه قال: ومهل أهل العراق ذات عرق, فهذا إنما هو وهم من الرواة, وإلا فبعض الروايات ليس فيها وأحسبه إنما هو من قول جابر ، والله أعلم.
ذهب الإمام أحمد و الشافعي إلى أنه لا يجوز له أن يتجاوز ميقاتاً قد مر عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر في الصحيحين: ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ), فالشامي إذا جاء إلى ميقات أهل المدينة, فيصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ).
وذهب الإمام أبو حنيفة و مالك واختاره أبو العباس بن تيمية كما في الاختيارات إلى أن للشامي أن يتعدى ميقات ذي الحليفة إلى ميقات الجحفة, وقالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( هن لهن ), إنما معناه هن أي: المواقيت, لهن لأصحاب الأماكن, ( ولمن أتى عليهن ), أي: أتى عليهن ممن ليس له ميقات, قالوا: لأن قوله: ( ولمن أتى عليهن ) عام مخصوص بقوله: ( هن لهن ), فالشامي إذا جاء إلى ميقات المدينة فإنه مخاطب أن يحرم من ميقاته, فله أن يتجاوز ميقات المدينة ليحرم من ميقاته.
وأرى كما قال الإمام أحمد : الحديث واضح في ذلك, يعني: أنه يجب على الشامي إذا مر على ميقات ذي الحليفة أن يهل منه, نعم يجوز له ألا يمر على ميقات ذي الحليفة, فيأخذ طريق الساحل مثل الذين يأتون من ينبع ويأخذون طريق الساحل فيحرمون من الجحفة, كما صنع أبو قتادة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا ساحل البحر, قال: ( خذوا ساحل البحر حتى تلقوني ), قال: فأهلوا جميعاً فأما أبو قتادة فإنه لم يهل, أو قال: فإنه لم يحرم.
في هذا احتمال, نقل ابن قدامة من الحنابلة وكذلك ابن الحاجب من المالكية الإجماع على أنه لا يجوز لمن مر على ميقات غير ميقات بلده أن يتجاوزه إلى ميقات بلده.
وقال العراقي في طرح التثريب: وظاهر صنيع ابن عبد البر أن هذه المسألة عامة في الشامي وغيره, يعني بذلك: أن كل من مر على ميقات غير ميقات بلده له أن يتجاوزه إلى ميقات بلده.
إذا رجحنا للشامي فسوف نرجح الثاني مثل ترجيحه للشامي.
حقيقة لم أجد في كتب أهل العلم من الأئمة الأربعة كلاماً في هذا, إنما ذكروا هل له أن يتجاوز ميقاتاً غير ميقاته إلى ميقاته, أما أن يختار فلم أر هذا عند أحد من أهل العلم, والذين قالوا: إن جدة ميقات قالوا: يجوز له ذلك, وهذا محل تأمل ونظر؛ لأن جدة ليست ميقاتاً، بل هي داخلة من ضمن المواقيت, نعم من جاء من طريق البحر وقد قصد جدة فهو لم يحاذ يلمم ولم يحاذ الجحفة, فيحرم من جدة, وهم من جاء من أهل سواكن من السودان, وقد ذكر ابن قدامة و ابن حجر في فتح الباري أن من مر على غير ميقاته فإنه يجعل بينه وبين مكة مرحلتين, وجدة بينها وبين مكة مرحلتان كما لا يخفى.
وعلى هذا فلو أن شخصاً أهل عصر يوم الثلاثين من رمضان بالعمرة, ولم ينهها إلا بعد يومين في اليوم الثاني من شوال, ثم بقي في مكة حتى اليوم الثامن, فهل يعد هذا أحبتي متمتعاً أم مفرداً؟ يعد مفرداً؛ لأنه لم يأخذ عمرته في أشهر الحج, والعبرة بالإهلال لا بفعل الأنساك, هذا هو الأقرب والله أعلم.
وهذا هو قول الشافعي , قال ابن عباس كما روى ابن جرير الطبري : لا يصلح أن يهل بالحج في غير أشهر الحج, وقد قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197], تفسيره وقت الحج أشهر معلومات, يعني: أن أشهر الحج هي التي يفرض فيها الإهلال بالحج, ومعلوم أن ليلة العاشر يجوز أن يهل فيها بالحج, وليلة العاشر تدخل ضمناً كما لا يخفى.
أولاً: في سنده عبد الله بن يعقوب المدني قال ابن القطان: أجهدت نفسي في أن أجد أحداً عرف عبد الله فلم أجد أحداً عرفه, يعني: أنه مجهول, وكذلك عبد الرحمن بن أبي الزناد مختلف فيه، والأقرب أنه إلى الضعف أقرب.
وقال أبو العباس بن تيمية : والتنظف وأخذ بعض الأظفار ليس من خصائص الإحرام, فإن الإحرام ليس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ شيئاً من ذلك قبل إرادة الإحرام, إلا أن يكون ثمة حاجة, مثل أن يكون له رائحة أو أظفاره طويلة, أو احتاج إلى إزالة شعر من شعر الجسد فله ذلك, لا لأنه من سنة الإحرام؛ ولكن لأنه ربما احتاج إلى إزالته.
هل للإحرام سنة تسمى سنة الإحرام؟ الأئمة الأربعة يرون أنه يستحب للإنسان أن يحرم عقب فريضة, فإن لم يكن استحب له أن يصلي ركعتين وهي ركعتي الإحرام, واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة ), قالوا: فهذا يدل على استحباب صلاة ركعتين قبل الإحرام, والاستدلال بهذا الحديث فيه نظر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يصلي لأجل الإحرام؛ بل لأجل أمر آخر وهو الوادي المبارك، نعم الأفضل للإنسان أن يحرم عقب فريضة كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم, وإن تطهر فيستحب له أن يصلي سنة الوضوء أو سنة الضحى إن أدرك ذلك.
قال: (وهو يعرف تأويله).
يعني: هو يعرف عاقبته, ويعرف تفسيره, إذ أن التأويل له معنيان عند السلف: المعنى الأول: هو التفسير كما قال ابن جرير : باب تأويل قول الله تعالى.
المعنى الثاني: العاقبة, ومآل الشيء إلى غيره, كما قالت عائشة: يتأول القرآن, وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:53], يعني: عاقبته ومآله.
المعنى الثالث: وهذا عند غير السلف، وهو يعني: الذي يذكره أهل البدع وليس له أساس من الصحة.
قوله: (وما عمل به من شيء عملنا به).
في هذا فائدة, وهو أنه ينبغي لمن أراد أن يحج أو أن يعتمر أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في دقه وجله, وألا يقول: هذه سنة سوف أتركها, وإنك لتحزن حينما ترى بعض الفضلاء لا يهل بالحج يوم الثامن إلا في صبيحة يوم عرفة, أو في ليلة عرفة ولا يهل ضحى, ظاناً أن ذلك يشق عليه, وما علم أن صلاته وهو محرم الظهر والعصر والمغرب والعشاء خير من صلاته من غير إحرام.
الثاني: أنه إذا أهل ضحى يوم الثامن تشرع له عبادات لا تشرع لمن كان غير محرم؛ لأنه يلبي, وأعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى في مثل تلك الأيام هو التلبية.
متى يهل المعتمر أو الحاج, هل يهل بعد أداء الفريضة؟ كما روى أبو داود و الترمذي وغيرهما من حديث خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن سعيداً قال له: ( يا
عموماً الحنابلة يقولون: يستحب أن يحرم عقب فريضة, وفي هذا نظر.
القول الثاني: أن يحرم بعدما تستوي به ناقته أو دابته خارجاً من الميقات, وهذا أظهر الأقوال, ودليله ما جاء في الصحيحين من حديث سالم عن ابن عمر أنه قال: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد حين استوت به ناقته ), وفي رواية: ( حتى إذا استوت به ناقته أهل بالحج ).
القول الثالث: قول أنس وهو أنه إذا استوت به على البيداء, يعني: قبل أن يخرج من الميقات.
ولا شك أن قول ابن عمر هو الأظهر، والله أعلم.
وقيل: إن لبيك إجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام كما جاء ذلك عند ابن خزيمة من حديث ابن عباس (أنه قال: إن إبراهيم لما بنى البيت قال الله له: يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج, قال: يا رب! وكيف يسمعوني؟ قال: إن عليك إلا الأذان وعلينا البلاغ, قال: فاستقبل إبراهيم القبلة فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا, قال
المسألة الأولى: أن أهل العلم قالوا: يستحب للإنسان أن يتلفظ بالنسك الذي يريد أن يهل به, فيقول إن كان يريد التمتع: لبيك عمرة, وما يذكره بعض الفقهاء من قولهم: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، وهذا ليس من السنة, لكنه ليس بدعة كما يقول بعض الفضلاء, وكذلك يستحب له إذا كان مفرداً أن يقول: لبيك حجاً, وإن كان قارناً أن يقول: لبيك عمرة وحجاً.
لكن هل يستحب له أن يقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي؟
الحنابلة قالوا: ويستحب أن يتلفظ بما نواه, فيقول: اللهم إني أريد النسك, وكذلك هو مذهب الشافعية والمالكية, أما المنصوص عن أحمد رحمه الله فإنه قال: يجوز أن يقول: اللهم إني أريد كذا, و أبو العباس بن تيمية رحمه الله يقول: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه تلفظ بالنية في حج ولا غيره, وفي ما قاله نظر, أما غيرها من العبادات فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنهم كانوا إذا أرادوا أن يصلوا يقولون: اللهم إني أريد أن أصلي كذا, ولم يرد أنهم كانوا إذا أرادوا أن يطوفوا يقولوا: اللهم إني أريد أن أطوف, ولا يفعل في غيرها من الأنساك شيئاً من ذلك.
أما في ابتداء الإحرام فقد روى الإمام الشافعي في الأم بسند صحيح كالشمس قال: حدثنا سفيان يعني: ابن عيينة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت له: يا عروة ! هل استثنيت؟ قال: وما أقول؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت, وله عمدت, فإن كان الحج فاللهم, وإن حبستني فاللهم العمرة, وهذا نص عن عائشة رضي الله عنها, وهذا يدل على جوازه لا على سنيته في الحج خاصة؛ ولهذا كان من فقه أحمد أنه جوز التلفظ بالنية من غير جهر, بأن يقول: لبيك اللهم إني أريد, بينه وبين نفسه؛ ولهذا قال الإمام الخطابي : لا تكاد توجد سنة تخفى على أحمد .
وهذا يدل على السنة التقريرية, فمن الناس من يقول: ( لبيك وسعديك والخير بين يديك, لبيك والرغباء إليك والعمل ), كما روى البخاري و مسلم من حديث نافع أن ابن عمر كان يصنع ذلك, وإن قال: ( لبيك حقاً حقاً, تعبداً ورقاً )، كما رواه الدارقطني عن أنس وقد روي مرفوعاً والصواب وقفه فلا بأس, وإن قال كما روي عن أبي هريرة: (لبيك إله الحق) فلا بأس.
يقول جابر: (أما النبي صلى الله عليه وسلم فلزم تلبيته), يعني: أنه لم يقل إلا: (لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك), هذا الذي بلغه جابر, والأقرب والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قول: لبيك اللهم لبيك, ويخلطها بتهليل وتكبير, ودليل ذلك أمران:
الدليل الأول: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس قال: ( حتى إذا استوت به ناقته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بالحج والعمرة جميعاً ), وهذا يدل على أنه يخلط لأنه قد أهل بالحج والعمرة حين استوت به ناقته في المسجد.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد بسند جيد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: (كان
لعلنا نقف عند هذا ونبدأ غداً إن شاء بالأنساك.
الجواب: من نوى النسك ثم دخل المواقيت, وهو في إرادة عمل, فإنه مخير بين أمرين.
إما أن يهل بالعمرة قبل أن يمر على المواقيت, ويأخذ عمرته ثم يعمل بعمله. وإما أن يعمل عمله فإذا انتهى يرجع إلى الميقات الذي مر عليه فيحرم.
أما من قصد عملاً دون المواقيت ونيته مترددة, هل أستطيع أن آخذ عمرة أم لا؟ فنقول: اذهب إلى البلد التي هي دون المواقيت, فإذا انتهيت فوجدت فرصة وعملاً فلك أن تحرم من المكان الذي أنت فيه.
وذهب بعض الفضلاء إلى أنه إذا كان أصل السفر ومنشؤه هو العمل ودخلت نية الإحرام تبع, فإنه يحرم من المكان الذي هو فيه, إذا لم ينو الذهاب إلى جدة, ولكنه كان عنده عمل انتداب, أصل منشأ سفره لأجل العمل, قالوا: فله إذا انتهى من عمله أن يحرم من جدة, أما إذا كان منشأ السفر هو النسك والنزهة وغير ذلك, مثل الذين يذهبون في العطل يقصدون التنزه والنسك, فإنهم إذا دخلوا جدة وانتهوا من نزهتهم فيجب عليهم أن يرجعوا إلى المواقيت فيحرموا من الميقات الذي مروا عليه, فالعبرة بقصد النسك ومنشأ السفر, وهذا قوي، والله أعلم.
الجواب: يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني: ولا نعلم خلافاً عن أحد من أهل العلم ممن قال بوجوب الإحرام من الميقات أن عليه دماً, ومسألة الدم في ترك الواجب هو قول ابن عباس ؛ لما روى طاوس عن ابن عباس أنه قال: ( من ترك نسكاً أو نسيه فليهرق دماً )؛ ولهذا نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على هذه المسألة, وأرى أن من ترك واجباً من واجبات الحج فإنه يجب أن يجبره بدم؛ لأمور كثيرة منها:
الأمر الأول: أن هذا هو قول ابن عباس وقد اشتهر عن غيره من السلف, فكل مدارس الصحابة كمدرسة أهل البصرة والكوفة, ومدرسة أهل الشام ومدرسة أهل مصر، ومدرسة أهل الحجاز, كلهم على هذه الفتوى.
الثاني: أننا لا نعلم أحداً من أهل العلم قال: بأن من ترك واجباً ليس عليه شيء، إنما أول من قال ذلك الإمام الشوكاني ثم تبعه بعض طلاب العلم في هذا الزمن, أما ابن حزم فإنه يرى أن من ترك واجباً من واجبات الحج فقد فسد حجه, أما الجمهور فإنهم يقولون: يجبره بدم.
أما قول بعض طلاب العلم الآن: ليس عليك شيء, استغفر ربك وتب إليه, فهذا يحتاج إلى دليل, وإلا فهو إحداث قول في المسألة ليس عليه دليل.
الأمر الثالث: أنه إذا كان مناط الحكم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، فلا شك أننا سوف نكون أمام مسائل في الحج وردت عن الصحابة رضي الله عنهم ليس عندنا فيها نص شرعي عن النبي صلى الله عليه وسلم خذ مثالاً على ذلك على عجل:
ما رواه مالك في موطئه بسند صحيح عن هبار بن الأسود أنه أهل بالحج ولم يقف بعرفة حتى انتهى عرفة, ثم أتى عمر فقال عمر : تحلل بعمرة, وإن وجدت سعة فاهدي ثم حج من قادم، فأمره عمر رضي الله عنه بالهدي, وهذا الذي يسمى عند الفقهاء بباب الفوات, وهو أن يفوته الوقوف بعرفة.
وكذلك قد صح من طريق عمرو بن دينار عن طاوس أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن رجل أتى أهله قبل أن يفيض, فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : اذهب إلى هذا فسله, فذهب إلى ابن عمر فقال ابن عمر : يمضيان في نسكهما ويهديان هدياً ويحجان من قادم, قال: فأتيته فأخبرته, قلت: وما ترى أنت؟ قال: اذهب إلى هذا فسله, ثم ذهب إلى ابن عباس : فأجابه بنحو إجابة ابن عمر ثم رجع إلى عبد الله بن عمرو قال: وما تقول أنت؟ قال: أقول بقولهما, وهذا يدل على أن من ترك واجباً فعليه دم، والله أعلم.
الجواب: مسألة الإحرام بإزار له تكة كتكة السراويل اختلف العلماء في ذلك, فذهب بعض مشايخنا وهو شيخنا محمد بن عثيمين إلى جواز لبس الإزار إذا كان يثبت بنفسه, وهو أن يكون له تكة كتكة السراويل, ورأى شيخنا رحمه الله أن هذا يصدق عليه اسم الإزار. لكن قد قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا يحرم بإزار ورداء ونعلين ), وهذا يسمى إزاراً.
وذهب عامة الفقهاء إلى أن الإزار الذي له تكة يثبت بنفسه كتكة السراويل لا يسمى إزاراً في لغة العرب كما نقل ذلك ابن منظور في لسان العرب, و الفيروز أبادي في القاموس المحيط, وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، قالوا: إن من له تكة كتكة السراويل وليس له ساقان هذا يسمى نقبة, كما قال عمر : فألبستنا أمنا نقبتها, وقالوا في النقبة: هي سراويل في أعلاها, إزار في أسفلها, وقالوا: هي سراويل من غير ساقين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر