الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقبل أن نشرع في شرح المتن، نبين مسألة من مسائل التلبية وهي حكم التلبية، ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن التلبية سنة.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله -وهو اختيار أبي العباس بن تيمية- إلى أنه يلزم مع النية إما التلبية أو سوق الهدي. جمهور أهل العلم يرون أن الإنسان يكتفي بمجرد نيته لدخوله في النسك أياً كان هذا النسك.
أما قول أبي حنيفة وهو اختيار ابن تيمية أنه يلزم مع النية التلبية أو سوق الهدي, واستدلوا على ذلك بأن قالوا: إن لم يحرم من حين خروجه من بيته إلى البيت الحرام فهو ناوٍ للنسك, فلا بد من أمر زائد يخرج هذه النية إلى نية زائدة أخرى.
أما جمهور أهل العلم فإنهم يقولون: نية الخروج من البيت إلى البيت الحرام هي نية إرادة فعل النسك, أما الدخول في النسك فهي نية الدخول في فعل النسك, وفرق بين الأمرين, إذا خرج الإنسان من بيته فهو يريد أن يفعل النسك, أما إذا دخل في النسك فهو يريد فعل النسك في الحال.
وأما استدلال أبي حنيفة على الوجوب بما رواه خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن جبريل أمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية ), فقوله: (أمرني) ليس دليلاً على الوجوب؛ ذلك أن الأمر في الحديث إنما هو برفع الصوت, وقد أجمع أهل العلم على أن رفع الصوت بالتلبية مستحب, فلا يسلم الاستدلال بهذا الحديث.
والأقرب -كما مر معنا- أن التلبية سنة, والمرأة تلبي كالرجل.
أما رفع الصوت فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية, وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك, واستدلوا بما رواه البيهقي من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: المرأة لا تصعد بين الصفا والمروة ولا ترفع صوتها بالتلبية, وهذا إسناد صحيح لا يخفى, وهو أقرب والله أعلم.
القول الثاني: مذهب ابن حزم وقد ذهب إلى أنه يشرع رفع الصوت بالتلبية حتى من النساء, واستدل على ذلك بما رواه ابن أبي شيبة أن معاوية خرج ليلة النفر فسمع صوت تلبية فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة اعتمرت من التنعيم فذكر ذلك لـعائشة فقالت: لو سألني لأخبرته, قالوا: فهذا يدل على أن عائشة رفعت صوتها، وهذا الحديث وإن كان إسناده جيد لكن حمله على ما ذهب إليه ابن حزم فيه نظر، وذلك لأمور:
الأمر الأول: أنه سمع صوت تلبية ولا يلزم أن تكون هذه التلبية من عائشة , فإن عبد الرحمن بن أبي بكر ذهب بـعائشة فأعمرها من التنعيم, فجائز أن يكون من الرجال ممن كان مع عائشة من رفع صوته بالتلبية, وأما قولهم: عائشة اعتمرت من التنعيم؛ ليبين هذا الأمر؛ ما سبب هذه التلبية؟ أن عائشة اعتمرت من التنعيم وناس معها يلبون.
الأمر الثاني: أن عائشة رضي الله عنها ربما تكون رفعت صوتها يسيراً وكانت قريبة من معاوية رضي الله عنها فسمع معاوية هذا الصوت واستفسر عنه, وتكون عائشة ممن لبت قريباً من جارتها ومن معها.
يقول جابر رضي الله عنه: (لسنا ننوي إلا الحج) يعني: بذلك الإفراد, وذلك أن قريشاً ترى أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه قال: ( كانت قريش ترى العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض, ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ), ومعنى ذلك أنهم يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض, ويقولون: إذا برأ الدبر, ومعنى برأ الدبر: أن الإبل كانت تحمل لأقتابها وأحمالها أحمال الحجاج فتتأثر جلودها بسبب الحمل, فيقولون: إذا برأ هذا الجرح الناتج عن الحمل، وبعد برئه يعفا الأثر, يعني: أحياناً الجرح يتأثر فيشفى فيبقى أثره, فيزول هذا الأثر أيضاً, وانسلخ صفر؛ لأن محرم يرون أنه من الأشهر التي تنسى كما لا يخفى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37], فيرون أنهم لا يعتمرون في محرم حتى يخرج وينسلخ صفر، فإذا انسلخ حلت العمرة لمن اعتمر, (فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة رابعة فأمرهم أن يحلوا من إحرامهم, فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: الحل كله)؛ ولهذا قال جابر: (لسنا ننوي إلا الحج), يعني: ليس من عادتهم أن يأخذوا عمرة في أشهر الحج, وليسوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل عن الصحابة وقريش هذا الاعتقاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتميز بعقيدته وعمله وفعله, فقال جابر : (لسنا ننوي إلا الحج), والحج هنا يريد به الإفراد, (لسنا نعرف العمرة), ومعنى (لسنا نعرف العمرة) لم يقصد أنهم لا يعرفون عمل العمرة حاشاهم, فقد اعتمروا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما في صلح الحديبية السنة السادسة والسابعة, ولكنه يقول: (لسنا نعرف أداء العمرة وقت الحج), فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهم التمتع.
العمرة في أشهر الحج وغيرها مستحبة بالإجماع في جميع السنة, وأما قول بعض الفضلاء أنها لا تشرع أيام النحر فهذا يحتاج إلى دليل ولا دليل, بل إن عمر رضي الله عنه -كما روى مالك في موطئه- حينما لم يقف هبار بن الأسود بعرفة حتى خرج وقتها أمره أن يتحلل بعمرة, وذلك ليلة العيد أو صبيحة العيد.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: هو مذهب الشافعية والحنابلة وعليه الفتوى من مشايخنا كشيخنا عبد العزيز بن باز واللجنة الدائمة قالوا بوجوب العمرة, واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة لعلي أوجزها؛ لأن المقام ليس مقام بسط.
الأول: حديث الصبي بن معبد كما رواه الترمذي و أحمد وغيرهما أنه قال: أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين! إني أسلمت وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما, فقال عمر : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم, فقوله: مكتوبان عليّ دليل على أنه رأى أن العمرة مكتوبة كالحج, فقال عمر : هديت لسنة نبيك.
الدليل الثاني: ما رواه شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة, قال: حج عن أبيك واعتمر ), وهذا الحديث إسناده صحيح, بل قال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله: لا أعلم حديثاً أجود إسناداً ولا أصح في وجوب العمرة من حديث أبي رزين , فإن شعبة جوده ولم يجوده أحد كـشعبة .
الدليل الثالث: أنه فتوى الصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم رضي الله عنهم وأرضاهم, فقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في العمرة: إنها لقرينة الحج في كتاب الله, وروي أيضاً معلقاً بصيغة الجزم، ورواه موصولاً ابن خزيمة وغيره عن ابن عمر من طريق ابن جريج حدثني نافع عن ابن عمر أنه قال: ليس أحد من خلق الله إلا وعليه عمرة في عمره, وروى ابن خزيمة وغيره بسند صحيح أيضاً عن ابن عمر أنه قال: إن الحج والعمرة فريضتان, وروى الدارقطني و ابن خزيمة عن جابر أنه قال: ليس من خلق الله أحد إلا وعليه عمرة في عمره, فهذا قول ثلاثة من الصحابة, وهذا الأقرب والله أعلم.
أما القول الثاني: وهو قول أبي حنيفة و مالك واختيار ابن تيمية رحمه الله قالوا: لا تجب العمرة في حق المسلم، وهنا قاعدة: أنه لا يصح في إثبات أن العمرة تطوع حديث, وما حديث أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ( لا, وأن تعتمر خيراً لك ), هذا حديث ضعيف, ولا يصح في تطوع العمرة حديث, وهذا الأقرب.
وهل العمرة واجبة في حق المكي؟ روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: يا أهل مكة ! ليس عليكم أن تعتمروا بالبيت, إنما عمرتكم الطواف بالبيت, وهذه رواية عن الإمام أحمد قواها أبو العباس بن تيمية , والأقرب والله أعلم أن المكي وغيره في الحكم سواء ما لم يرد نص بذلك, ولعل قول ابن عباس رضي الله عنه: يا أهل مكة ليس عليكم أن تعتمروا عمراً كثيرة؛ لأن عمرتكم الطواف بالبيت, لا أنه يثبت أنه لا تجب عليهم ابتداء العمرة, وهذا له حظ من النظر.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه إلى أن التمتع أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه كما في صحيح البخاري و مسلم من حديث جابر : ( طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالاً, قالوا: أي الحل؟ قال: الحل كله ), قال جابر : (فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب), وفي رواية مسلم : (ولم يكن بيننا وبين عرفة إلا أربعة ليال). وهذا القول أقرب من القول بالإفراد.
وأما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج أو أهل بالحج وكذا حديث عائشة فإن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا بإفراد الحج أي: عمل عمل المفرد في الحج, ولم يقصدوا أنه أهل مفرداً, ودليل ذلك أن ابن عمر الذي قال أفرد الحج هو الذي روى بإسناد صحيح كالشمس من طريق سالم عن ابن عمر أنه قال: ( تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ), ويدل على هذا أن ابن عمر صرح فقال: ( وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالحج ثم أهل بالعمرة ), فهذا يدل على أن ابن عمر إنما أراد بقوله أفرد بالحج يعني: بذلك عمل عمل المفرد, ولا شك أن القارن والمفرد عملهما في الحج سواء, ويختلفان في الهدي وفي النية, حيث إن نية القارن الحج والعمرة جميعاً ونية المفرد الحج وحده.
ثم قال الحنابلة: بعد التمتع الإفراد ثم بعد الإفراد القران لمن لم يسق الهدي.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن أفضل الأنساك هو القران مع سوق الهدي, فإن لم يسق الهدي فالأفضل التمتع, فإن لم يكن فالإفراد فإن لم يكن فالقران من غير سوق هدي, وهذا القول أظهر كما مر معنا بالأمس؛ لأن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهل بالعمرة والحج فقال: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ), وقد ساق الهدي ولم يكن ربك ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم وخليله إلا ما هو الأفضل, وهذا أظهر والله أعلم.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت الذي أمرتكم به ), فهذا من باب جبر خواطر الصحابة, فكأنه أراد أن يبين لهم أن العمرة في أشهر الحج أفضل أو خير لكم من بقائكم, وذلك لما استشكل الصحابة العمرة في أشهر الحج حتى جاء في رواية البخاري حديث علي أنهم قالوا: ( يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله, قالوا: تقطر مذاكيرنا ثم نهل بالحج؟ قال: افعلوا ما آمركم فإني لو لم أسق الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ), وهذا أظهر، والله أعلم.
صفة التمتع أن يهل بالعمرة في أشهر الحج ثم يفرغ منها في عامه ثم يهل بالحج من عامه, هذا هو التمتع, وقول الفقهاء: أنه يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فلو أنه أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وبقي في مكة حتى يوم التروية فأهل بالحج, فإنه يكون مفرداً باتفاق الفقهاء, ولو أهل بالعمرة في أشهر الحج ولم يستطع أن يفرغ منها حتى كان يوم عرفة, فإنه يدخل الحج على العمرة ليكون قارناً كما صنعت عائشة رضي الله عنها.
الصورة الأولى: أن يهل بالعمرة والحج جميعاً فيقول: لبيك عمرة وحجاً, لبيك عمرة وحجاً.
الصورة الثانية: أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج, وبعضهم يزيد قبل الطواف, فيقول: لبيك عمرة، مثلما صنعت عائشة , فإذا أدخل عليها الحج صار قارناً.
الصورة الثالثة: أن يهل بالحج فيقول: لبيك حجاً ثم يدخل العمرة عليها فيكون قارناً, فجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة واختيار ابن تيمية قالوا: لا يجوز له ذلك؛ لأنه لا يستفيد بإدخال العمرة على الحج شيئاً؛ لأن الإفراد أفضل من القران.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز أن يدخل العمرة على الحج ليكون قارناً.
طيب السؤال: لماذا جوز أبو حنيفة أن يدخل العمرة على الحج والجمهور يقولون: لا يستفيد من ذلك شيئاً؟ والجواب: لأن أبا حنيفة يرى أن القارن عليه سعيان وعليه طوافان, فلأجل هذا قال: إنه يجوز أن يدخل العمرة على الحج فيستفيد بذلك.
جابر أشار إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته, وبين الفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة, وأما مشروعية التلبية أثناء طواف القدوم في حق المفرد والقارن, فقد ذهب الشافعية في القديم وهو قول عطاء بن السائب إلى جواز أن يلبي الطائف.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المحرم إذا شرع في الطواف ومس الحجر فإنه يقطع تلبيته, واستدلوا على ذلك بما رواه الدارقطني وغيره من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال: ( لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الحجر ), وهذا الحديث ضعيف, والصواب وقفه على ابن عباس , وقد روى البيهقي بسند عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض عمره, فلم يزل يلبي حتى استلم الحجر ), هذا الحديث رواه البيهقي وقال: إسناده قوي, وهذا الأظهر والله أعلم, أن الحاج سواء كان مفرداً أو قارناً أو متمتعاً أو معتمراً أنه إذا بدأ فشرع في الطواف أو استلم الركن أو أشار إليه يقطع التلبية, ولا يشرع التلبية في الطواف, نعم المفرد والقارن إذا انتهيا من أعمال النسك الطواف والسعي يبدآن فيلبيان ولا يقطعان التلبية إلا بعد رمي جمرة العقبة, أما المعتمر أو المتمتع فإنه يبدأ بالتلبية إذا أهل بالحج ضحى يوم الثامن.
لم يذكر جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى البيت ذكر دعاء وارداً؛ ولهذا نقول: لا يصح في رؤية البيت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, والحديث الوارد في ذلك ضعيف, نعم روى الشافعي من طريق سعيد بن المسيب عن عمر أنه كان إذا رأى البيت قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام, فحينا ربنا بالسلام, وهذا إسناده جيد وهو موقوف على عمر , فلو قال مثل عمر لكان خير, لكنه يشرع أن يدخل رجله اليمنى ويقول ما ورد كما هو معلوم.
أما استلام الركن فهو على أحوال:
الحال الأولى: أن يستلمه ويقبله ويكبر, وهذا ثابت كما في حديث جابر أنه استلم الركن, وبعضهم يشكك في مسألة التكبير عند استلام الركن, والصحيح أنه يكبر, والتقبيل بأن يضع شفتيه على الحجر, وله أن يسجد عليه لما روى ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر أنه رأى ابن عباس يقبل الحجر ويسجد عليه, وهذا هو الصحيح, وأما رواية جعفر بن عبد الله عن محمد بن عباد بن جعفر أنه قبل الحجر وسجد عليه وقال: رأيت خالك يقبله ويسجد عليه, يعني: ابن عباس ويقول ابن عباس : رأيت عمر يقبله ويسجد عليه, ويقول عمر : ( رأيت رسول الله يقبله ويسجد عليه ), هذا حديث ضعيف, في سنده جعفر بن عبد الله .
فالسجود على الحجر إنما هو ثابت عن ابن عباس وروي عن عمر , وجوزه جمهور أهل العلم.
أما مالك فقال: بدعة, وقد قال ابن تيمية رحمه الله قاعدة جميلة: كل فعل فعله الصحابة فليس ببدعة, يكون جائزاً والأولى تركه, أما أن يكون بدعة فلا.
الحال الثانية: هو أن يستلمه ويقبل يده, وقد روى البيهقي ( أن
الحال الثالثة: أن يستلمه بشيء, بمحجن أو ثوب ثم يقبل المحجن أو الثوب, وقد روى الدارقطني أو ابن خزيمة أن ابن عباس كان يستلم الحجر بثوبه ثم يقبل الثوب, وروى مسلم من حديث أبي الطفيل عامر أنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر بمحجن ويقبل المحجن ).
الحال الرابعة: أن يستقبله ويشير إليه فيقول: الله أكبر! أو بسم الله والله أكبر على الخلاف الذي سوف يأتي.
قال البخاري رحمه الله: ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء وكبر ), وأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استلم الركن يقول: الله أكبر! وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء أن ابن عمر كان إذا استلم الحجر قال: باسم الله والله أكبر, وكذا رواه أبو داود في مسائله عن الإمام أحمد , يقول: باسم الله والله أكبر! وما يذكر في كتب المناسك يقول: باسم الله والله أكبر في أول مرة ثم يكبر في الأشواط الأخرى فنقول: إن رواية ابن عمر : أنه كلما أتى على الركن استلمه وقال: باسم الله والله أكبر، فتخصيص التسمية في أول شوط يحتاج إلى دليل، ولعل بعض الرواة اختصرها، وإلا فالمعروف عن ابن عمر أنه يسمي ويكبر في كل شوط.
لم يذكر جابر الاضطباع، ولأجل هذا شكك بعض المحدثين في صحة حديث الاضطباع، وقالوا: حديث الاضطباع لا يصح، وقد روي من حديث عبد الحميد بن جبير عن ابن يعلى صفوان عن يعلى بن أمية (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يطوف مضطبعاً وعليه برد)، وهذا الحديث بهذا الإسناد أصح، وقد صحح الإسناد بهذا الطريق البخاري رحمه الله، و عبد الحميد بن جعفر جيد الإسناد، و ابن يعلى هو صفوان ثقة، والحديث إسناده جيد، ومثله: رواية أهل السنن و أحمد من حديث ابن عباس : (أن المشركين قالوا: إن محمداً وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا، فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها إلى مناكبهم اليسرى)، وهذا الحديث تكلم في إسناده، وأرى أنه لا بأس به، والله أعلم.
والاضطباع هنا يشرع في أول طواف يقدمه المعتمر أو المفرد والقارن الذي يسمى طواف القدوم أو طواف العمرة، ولو قدم المفرد والقارن إلى البيت بعد عرفة، ولم يكن قد طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج قبل عرفة وهو لم يرم ولم يحلق من مزدلفة إلى البيت، فإنه له أن يضطبع.
أما الرمل فيسن أيضاً خلافاً لـمالك ، وقد ثبت من حديث جابر و ابن عمر و ابن عباس، قال جابر : (فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطاف بالبيت أول ما قدم، ثلاثاً ومشى أربعاً وقال: فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً -يقول-: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]).
هل يكبر الإنسان في آخر شوط أم لا يكبر؟ المسألة سمحة سهلة، ولكني أرى والله أعلم أنه كلما مر على الركن استلمه وكبر في أول شوط أو في آخر شوط؛ لأن الركن هنا له مزية.
ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك (بأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر)، وهذا محل نظر؛ ولهذا ذهب ابن تيمية إلى أن له أن يستقبله بكامل بدنه وهو الأفضل، أو ببعضه، يعني يشير إليه قريباً من اليمين ثم يكبر، وأرى أن من قوة قول ابن تيمية هو: أن جابراً روى كما في صحيح مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعير )، وهذا كان في طواف الإفاضة، ومن المعلوم أن الذي يطوف على بعير إذا استقبل الحجر يستقبله ببعض بدنه، هل ثبت أنه أخذ البعير بخطامه ثم استقبل بالبعير إلى الحجر ثم قال: الله أكبر، لا.
وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر أن يطوف بابنه محمد بن أبي بكر وهو صبي كما جاء في بعض الروايات, وبعض الإخوة يلزم الذي معهم صبيان بصفتين, يقول: إما أن تجعله على منكبيك وتدلي رجليه إلى صدرك بحيث يجعل البيت عن يساره, وإما أن تجعل ظهره إلى صدرك ثم تمسكه ويطوف! وهذا فيه حرج، وقد قال الله: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وهذه الصفات لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وقد حج مع النبي صبيان، كما أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال, فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يشترط اشتراطاً بحيث إذا جاءت زحمة وقد ألزموه أن يجعل البيت عن يساره ويمشي أو أن يجعل البيت خلفه ويمشي قالوا: ارجع حتى تجعل البيت عن يسارك، لا، هذا تكلف! وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، ومن المعلوم أن البعير يأخذ برقبته ذات اليمين وذات الشمال، وربما أمسكه وينحني يميناً أو ينحني شمالاً، وكل ذلك أمره ميسور، والله أعلم.
هل يستحب أن يقرأ الإنسان إذا طاف: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]؟
الجمهور استحبوا ذلك, وبعض أهل العلم قال: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين للناس أنه يتأول القرآن, يعني: ليبين أن المراد به هذا فقط, والأقرب أنه يقرأ وذلك لأمور:
أولاً: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ وقال: ( خذوا عني مناسككم ).
الثاني: أن قراءة الإنسان هذه الآية وصلاته بعد ذلك خلف مقام إبراهيم فيه نوع استشعار عظمة الانقياد لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي ويذر، وهذا أظهر.
قال: (فجعل المقام بينه وبين البيت).
يستحب للإنسان إذا أراد أن يصلي ركعتي الطواف أن يجعل المقام بينه وبين البيت, ولكن هذا إذا لم يكن ثمة مشقة وحرج على الطائفين, فإذا كان هناك مشقة وحرج على الطائفين فلا يستحب له أن يفعل السنة ليؤذي حجاج بيت الله والمعتمرين؛ ولهذا ينبغي له أن يبتعد إلى جهة المصابيح ويصلي خلف مقام إبراهيم ويصدق عليه بذلك أنه صلى, وإذا لم يستطع جاز له أن يصلي الركعتين في أي جهة شاء من البيت أو من الحرم, وقد ثبت عن عمر أنه صلى ركعتي الطواف بذي طوى, وكذا روى أهل العلم أن أم سلمة صلت ركعتي الطواف الوداع بذي طوى أو بالمحصب.
قال: (فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]), وفي رواية: ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]), يستحب للإنسان في صلاته الركعتين أن يقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1], وقد جاء من حديث أبي هريرة مثله, وإن كان في سنده بعض الكلام, وبعض أهل العلم يرى أن هذه اللفظة ضعيفة, حيث إن مسلماً رواها بالشك وتفرد بعض الرواة فيها, وأرى والله أعلم أنه لا يلزم من شك الراوي ضعف الحديث, كما كان مسعر بن كدام يشك في روايته فيقول شعبة : شك مسعر أحب إلي من يقين غيره.
يستحب للإنسان إذا صلى الركعتين أن يأتي إلى الركن فيستلمه, أما إذا صعب عليه الاستلام فإنه لا يشير إليه, وبالمناسبة يا إخوان! الإشارة بالبيت هو أن يرفع يده اليمنى ويقول: الله أكبر! أو بسم الله والله أكبر مرة واحدة, ويخطئ بعض الإخوة حينما يجعل الإشارة على هيئة الصلاة, فيقول: الله أكبر! أو يكبر أكثر من مرة فيقول: الله أكبر, أكبر, أكبر، فكل هذا لم يرد, أو يظن أن هناك دعاء عند استلام الحجر حيث تجدهم يجلسون فيدعون وكل هذا غير مشروع, فإذا ثبت لك أن هذا غير مشروع فاعلم أن في ذلك مفسدتين, مفسدة عدم الانقياد, ومفسدة الأذية.
إذا دنا الحاج إلى الصفا واقترب منها ورآها استحب له أن يقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فقط, لا يقول: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ [البقرة:158]؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل يستحب أن يقرأها؟ نقول: الخلاف هنا كالخلاف في قراءة وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
(فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت), أحياناً يصعب عليه رؤية البيت؛ لذا فالمراد حتى يرى البيت أو يستقبل القبلة.
قال: (ثم خرج من الباب إلى الصفا, فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158], أبدأ بما بدأ الله به, فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت, فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات).
جابر رحمه الله في صحيح مسلم لم يبين الصفة بالصورة الواقعة, وبينها في رواية الطبراني وقال فيها ابن تيمية : إسنادها جيد, ورواها سعيد بن منصور أيضاً, وهي فائدة عزيزة قل أن تجدها في كتب المناسك, (فقد كان عليه الصلاة والسلام يستقبل القبلة ثم يرفع يديه ويقول: الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده أنجز وعده, ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم يدعو وهو ما زال رافعاً يديه, ثم يعيد فيكبر ثلاثاً ويهلل مرتين ثم يدعو, ثم يعيد فيكبر ثلاثاً ويهلل مرتين ثم ينصرف ولا يدعو)؛ لأن الدعاء بين ذلك, (ثم دعا بين ذلك), وفعل ذلك ثلاثاً يعني: كبر تسعاً وهلل ستاً, ودعا مرتين, ثم بعد ذلك انصرف متجهاً إلى المروة.
يقول: جابر: ثم اتجه النبي صلى الله عليه وسلم من الصفا إلى المروة, ولم يذكر جابر دعاءً خاصاً خص به النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه حمد الله ووحده وكبره, وفي هذا دلالة أن كل دعاء دعا به الإنسان في مثل هذا الموطن فإنه فاضل, وإذا دعا بأدعية النبي صلى الله عليه وسلم فهي خير وأحب, وقد كان ابن مسعود يقول: اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم, إنك أنت الأعز الأكرم كما رواه البيهقي وغيره.
فإذا وصل إلى العلمين الأخضرين فإنه يستحب له أن يسعى, وهذا في حق الرجال, أما النساء فليس عليهن سعي, وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك, وقد مر معك قول ابن عمر : ليس على النساء سعي بين الصفا والمروة.
ومن المسائل أن بعض الإخوة يبالغ في سعيه, والسعي شيء والجري الشديد شيء آخر, فالذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سعى, وأما حديث حبيبة بنت أبي تجراة : ( أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم قد بدت ركبتاه, وإن رداءه ليدور على جسده ), فهذا الحديث ضعيف، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنة سعيه أو طريقة سعيه حديث.
ثم يصل إلى المروة وينبغي للحاج أو المعتمر أن يعلم مقدار وصوله إلى الصفا وكذا المروة؛ لأن بعض الإخوة الذين يأخذون بعرباتهم ربما بمجرد قربهم من الصفا أو المروة تجدهم ينحدرون إلى الجهة الأخرى, ولم يكملوا الصفا والمروة, وهذا خطأ؛ بل عده كثير من الفقهاء أنه لا يحسب شوطاً حتى يكمله.
فإذا وصل المروة فإنه يصنع في المروة مثلما صنع في الصفا, بأن يرفع يديه ويقول: الله أكبر ثلاثاً أو تسعاً, ويهلل ستاً ويدعو مرتين كما هو في التفصيل الذي مر معنا في الصفا, ولا يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]؛ لأن الرسول إنما أراد أن يبين (ابدأ بما بدأ الله به)؛ لأن الله بدأ بالصفا قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158], فلو قال: (أبدأ بما بدأ الله به) عند المروة فإنه لا يكون بدأ بما بدأ الله به، وهذا لا يشرع. نقف عند هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: لا، البيت أقصد به المسجد المخصص, وأما الحرم فهو خارج المسجد.
الجواب: إذا وجدت المرأة فرجة أو خفة فلها أن تستقبل الحجر, وقد روى البيهقي عن عطاء قال: (رأيت
الجواب: الذين يطوفون طواف الإفاضة أو الوداع أو العمرة في السطح تكون بداية الصفا والمروة عند ابتداء الطواف أو قريباً من بدايته، فإذا استطاع الإنسان أن يمر بلا مشقة ولا حرج فيجب عليه أن يمر، ولا يجوز أن يدخل الصفا والمروة؛ لأن الشافعي رحمه الله قال: إن الصفا والمروة خارج البيت؛ ولهذا أجمعوا على أن طوافه خارج البيت لا يصح, فإذا طاف بين الصفا والمروة أو مر على الصفا والمروة من ضمن طوافه يكون قد طاف خارج البيت, لكن لو أنه وجد زحاماً ومشقة بحيث يصعب عليه أن يمر خاصة من معه نساء فأتى من باب الصفا والمروة أرى والله أعلم أن ذلك لا بأس به؛ لأن اتصال الصفوف مع الزحام يأخذ حكم الدخول، والله أعلم.
الجواب: أما رواية: ( أبدأ بما بدأ الله به ), فقد رواها مسلم في صحيحه كما مر معنا, وأما رواية: ( نبدأ بما بدأ الله به ), فقد رواها النسائي وسندها لا بأس به, لكن قطعاً يكون الرسول قد قال أحدهما؛ لأنه ما أعاد, والأقرب أن رواية مسلم أصح, أما رواية: ( ابدءوا بما بدأ الله به ), فهي رواية ضعيفة ولا تصح, بل عد بعضهم أنها لم ترد بإسناد ولا ضعيف، والعلم عند الله.
الجواب: اشتراط الطهارة في الطواف بالبيت اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة, قالوا: بأن الطهارة للطواف شرط, واستدلوا على ذلك بما رواه عطاء عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ), وهذا الحديث ضعيف لا يصح مرفوعاً, فقد رواه إبراهيم بن ميسرة و عبد الله بن طاوس كلاهما عن طاوس عن ابن عباس من قول ابن عباس ؛ فلهذا لا يصح الاستدلال بهذا الحديث, وعلى هذا فالطهارة ليست شرطاً.
القول الثاني: قول أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد أن الطهارة للطواف واجبة وليست بشرط, ودليله ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ), ورواية مسلم : ( حتى تغتسلي ), والاغتسال يرفع الحدث الأصغر والأكبر, ومما يدل على هذا أن قوله: ( حتى تغتسلي ) يحتمل حتى تغتسلي من الأكبر ويحتمل حتى تغتسلي من الأصغر, ومن المعلوم عند الأصوليين أن اللفظ المشترك إذا أمكن حمله على معنييه من غير اعتراض جاز الحمل على المعنيين كليهما, وأرى والله أعلم أن هذا الحديث نص في أن الطهارة واجبة.
القول الثالث: أن الطهارة للطواف سنة, وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان , و سليمان بن طرخان التيمي عن الطواف مع الحدث فلم يريا به بأساً, وهذا قواه ابن تيمية رحمه الله, وأنت ترى أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ), فلو كان المراد هو عدم دخول البيت لقال لها وقد أعطي جوامع الكلم بأبي هو وأمي: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تدخلي في البيت؛ لأن عدم دخولها في البيت يستلزم حكمين: عدم الدخول في البيت، وعدم الطواف.
أما قول: ( غير ألا تطوفي بالبيت ) فيستلزم حكماً واحداً, ومما يدل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت كما في الصحيحين: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما يبدأ أن يتوضأ ثم يطوف بالبيت ), والأصوليون يقولون: إن الفعل إذا خرج بياناً لمجمل قول فإنه يدل على أنه مأمور, وفعله هذا دل على أنه بيان لمجمل قوله: ( خذوا عني مناسككم ).
فأرى والله أعلم أن قول أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد أقعد وأولى, فتكون الطهارة في حق الطائف واجبة, وعلى هذا فلو كان ذلك لأجل الحيض لقال: حتى ينقطع عنك الحيض, فلما علق ذلك بالاغتسال دل على أن الطهارة واجبة.
فلو طاف شخص من غير طهارة, قلنا له: أما وأنت في الحرم فيجب عليك أن تعيد طوافك, فإن ابتعد فإنه يجبره بدم؛ لأن من ترك واجباً فإنه يجبره بدم، وقد بينا الخلاف فيمن ترك واجباً, وبينا أن عليه الدم.
فمثلاً: لو أن امرأة قدمت هذه البلاد المباركة ويشق عليها أن تبقى؛ لأن طائرتها أو رفقتها سوف يذهبون, فنقول والحالة هذه: عليها أن تستثفر وتطوف وتذبح دماً في الحرم وتوزعه على فقراء الحرم، والله أعلم.
أما الطهارة بين الصفا والمروة فذهب عامة الفقهاء إلى أنها مستحبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ), ومفهوم المخالفة أن لك أن تطوفي بين الصفا والمروة, وما جاء في بعض الروايات: ( غير ألا تطوفي بالبيت ولا بالصفا والمروة ), فهي رواية ضعيفة.
وأما استدلال بعض الفضلاء أن الحائض لا تطوف بين الصفا والمروة بما جاء في الصحيحين أن عائشة قالت: (فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة, حتى إذا كان يوم عرفة طهرت), هذا ليس دليلاً على أن عائشة حينما تركت الطواف بين الصفا والمروة أنه لا يشرع في حق الحائض؛ لأن عائشة كانت في رحله عليه الصلاة والسلام, فدخل عليها بعدما انتهى من عمرته، فقال: ( ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس، والناس يذهبون إلى الحج الآن, فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم, فاغتسلي وأهلي بالحج ثم اذهبي إلى عرفة ), أو كما قال عليه الصلاة والسلام, فهذا يدل على أن الصفا والمروة يجوز للحاج أو المعتمر أن يسعى بينهما من غير طهارة, والله أعلم.
الجواب: حديث الإمام أحمد أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ( لبيك إله الحق ), الأقرب والله أعلم أنه موقوف على أبي هريرة ولا يصح مرفوعاً.
الجواب: أحسنت! لعل الشامي خصص من بين المواقيت؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر أنه سئل عن المهل فقال: قال صلى الله عليه وسلم: ( مهل أهل المدينة من ذي الحليفة, والطريق الآخر من الجحفة ), فقالوا: إن الجحفة خصصت لهذا الأمر, واستدلوا أيضاً بأن أبا قتادة رضي الله عنه كما في الصحيحين قال: ( خرجت حاجاً مع أصحابي فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني, قال: فأما أصحابي فأحرموا كلهم, أما أنا فلم أحرم, فبينما هم يسيرون إذ نفشت حمر وحش ... ) الحديث, فهذا يدل على أن أبا قتادة لم يحرم إلا من الجحفة, ولعل هذا هو السبب والله أعلم, وقد أشار ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام إلى بيان هذا ولكن هذا لا يخص الشامي, بل هو عام في الشامي وغيره، والله أعلم.
الجواب: لا أعلم شيئاً ثبت غير هذا الحديث.
الجواب: الإحرام قبل الميقات المكاني جائز عند جماهير أهل العلم, استحبه الإمام الشافعي و أبو حنيفة استدلالاً بما جاء عند الإمام أحمد من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحرم من بيت المقدس حتى جاء البيت فله كذا وكذا ), هذا حديث ضعيف ولا يصح.
وذهب الحنابلة والمالكية إلى أنه يجوز مع الكراهة, إلا إذا احتاج إلى ذلك حيث إنه إذا لم يعلم بالمواقيت أو خشي أن يتعداه الميقات كما في الذين فوق الطائرة فإن لهم في الحالة هذه أن يحرموا قبل الميقات بقليل, أما أن يتقصد الإنسان أن يحرم قبل الميقات بكثير فهذا غير مشروع, وقد سأل الإمام مالك رجل فقال: يا أبا عبد الله ! ما ترى في الإحرام قبل الميقات؟ قال: أكرهه عليك, قال: لم؟ قال: أخاف عليك الفتنة, قال: أبا عبد الله ! أي فتنة؟ إنما هي بضعة أمتار أتقرب بها إلى الله, قال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك عملت عملاً لم يعمله محمد صلى الله عليه وسلم, فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم والتقوى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر