اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.
وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أحبتي في الله! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع مما تحفه الملائكة بأجنحتها؛ رضاً بما نصنع فيه وتصنعون يا رب العالمين.
ولا شك أيها الإخوة! أن من أعظم المنن التي يمتن الله سبحانه وتعالى بها على عبده أن يفتح عليه فهم الوحيين والفقه فيهما، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده الخير فقهه في الدين، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث معاوية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: ومفهوم المخالفة لهذا الحديث: أن الله إذا لم يرد بعبده الخير لم يفقهه في الدين.
ولا شك أن تدبر الكتاب والسنة والاشتغال بهما دونما سواهما دليل على أن الله وفق العبد لذلك، وقد ذكر أبو بكر شمس الدين بن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: أنه ينبغي للمفتي إذا أفتى أن يفتي بلفظ الكتاب والسنة، فإن ذلك للمستمع أقرب إلى الفهم، وأقرب إلى مقصود الشارع، مع عدم الاشتغال بالألفاظ المحدثة التي كثرت عند المتأخرين.
وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أنه عندما سجن فتح الله عليه بتدبر القرآن، حتى قال: وقد كنت أندم على تضييعي كثيراً من الأوقات في غير فهم وتدبر، ووالله لو جمع لي مثل هذه القلعة ذهباً ما ساوى هذه النعمة التي أنا فيها.
وعليه فينبغي لطالب العلم ألا ينشغل عن الكتاب ولا عن السنة.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما نسي الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوار
وكثير من الفقهاء المتأخرين ومن علماء الأصول -كما ذكر ذلك ابن القيم و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله جميعاً- يشتغلون أحياناً بالتقعيد وبكلام المتأخرين، وتجد أن الحديث ثابت في البخاري أو في مسلم أو عند أهل السنن، وخفيت على بعض أهل العلم.
وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام سبب خلاف أهل العلم، وأوصله إلى بعض الأسباب: إما لعدم بلوغه هذا الحديث، وإما أنه بلغه ولكن بطريق ضعيف، وإما لأنه بلغه ولكن رأى أن ثمة أحاديث أقوى منها، وإما لأن العمل على خلافه كما هي طريقة مالك ، وإما لأن هذا الحديث حديث آحاد يخالف ظاهر القرآن كما هي طريقة بعض متأخري الحنفية، التي نسبوها إلى أبي حنيفة ، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أنها خطأ على أبي حنيفة ، وإن كان بعض المتقدمين كـأبي عمر بن عبد البر قال: ولذا عيب على أبي حنيفة أنه ترك خبر الآحاد، وكان تعنيف الأئمة له أشد من تعنيفهم بقوله في الإيمان، وغير ذلك مما سوف نذكره.
وهنا إن شاء الله في هذا الشرح نقصد بذلك بيان كلام أهل العلم في الحديث دون الولوج في أسانيده؛ لأن الموطن لا يناسب ذلك، فالمقصد في ذلك هو فقه الحديث، فإذا اخترنا قولاً في شرح هذا الحديث ذكرنا طريقة الأئمة في فهمهم أو في معارضتهم لهذا الحديث، فلا بد لطالب العلم أن يعرف سبب الخلاف، وكيف أن الأئمة اختلفوا حتى يكون على دراية واطلاع، ولا شك أن الفقيه وطالب العلم إذا كان لا يعرف الخلاف فلا يعد فقيهاً، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر في كتابه العظيم: جامع بيان العلم وفضله، وذكر عن قتادة وغيره: أن من لا يعرف الخلاف فليس بفقيه.
وذكرنا للخلاف هو الخلاف العالي كما يقولون؛ وهو أن نذكر المسألة المشهورة إذا كانت موجودة في عصرنا والخلاف فيها، وإن تطرقنا إلى بعض المعاملات المالية المعاصرة على سبيل العجل، وعلى سبيل التذكر -وأما التفصيل فهذا ليس موطنه- لكي يعرف طالب العلم أن المسألة المعاصرة مندرجة تحت الحديث الذي سوف نذكره إن شاء الله تعالى.
الأحاديث التي سوف نشرحها إن شاء الله هي كتاب البيوع.
البيوع جمع بيع، وهو لغة: من الباع؛ سمي البيع بذلك لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه إلى الآخر، ويطلق أيضاً على الصفقة، كما جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( لا صفقتان في صفقة )، يعني: لا بيعتان في بيعة.
والبيع له تعاريف، أشهرها وأحسنها هو تعريف الحنابلة، وهو: مبادلة مال -ولو في الذمة- أو منفعة مباحة على التأبيد بمثل أحدهما، غير رباً وقرض.
وأفادنا فقهاء الحنابلة بهذا التعريف: أن البيع لا بد أن يكون ثمة عوض وهو الثمن، وثمة معوض وهو المثمن، وكل ما دخلت عليه الباء فهو الثمن، تقول: أشتري منك سيارة بعشرة أثواب، إذاً الثمن هو الأثواب، وتقول: أشتري منك مائة صاع بر مؤجلة بمائة ألف، إذاً الثمن هو مائة ألف، وعلى هذا فقس.
والمال إما أن يكون عيناً بعين، وإما أن يكون عيناً بدين، وإما أن يكون عيناً بمنفعة على التأبيد، وقولهم: (بمنفعة على التأبيد) ليخرج المنفعة التي ليست على التأبيد وهي الإجارة، فالإجارة منفعة لكنها ليست على التأبيد، والعلماء رحمهم الله قرروا ذلك بناء على أن المال في السابق لا يكون إلا نقداً، أو عيناً، أو منفعة، فالمنفعة مال. والمال كل ما يتمول ويمكن الانتفاع به من غير حاجة وبذل، وعلى هذا: فهناك أشياء يمكن الانتفاع بها لكنها بحاجة، فلا يمكن أن تسمى مالاً، فالكلب ينتفع به لكنه لا يسمى مالاً.
كذلك الانتفاع لا بد أن يكون انتفاعاً مباحاً؛ لأن هناك انتفاعاً لكنه ليس بمباح، مثل: الخمر، فالخمر ينتفع به، لكن هذا الانتفاع ليس بمباح.
أما في واقعنا المعاصر الآن فهناك شيء يسمونه: الحقوق المجردة، وهذا لا بد لطالب العلم أن يعرفه، والعلماء رحمهم الله لم يذكروا هذا؛ لأن الأصل في المنفعة أن تكون متقومة عرفاً، فإذا صارت المنفعة متقومة عرفاً صار لها قيمة، الذي هو المال، فإذا لم تكن متقومة عرفاً فليست بمال، وعلى هذا فالحقوق المجردة مثل الاسم التجاري والعلامة التجارية أصبحت مالاً، وهذا كان في السابق ليس بموجود؛ لأنها ليس لها قيمة في السابق، وأنت الآن اسمك له قيمة، فاسمك أنت تستطيع أن تتقدم به إلى بعض الجهات كي تأخذ منفعة، فالإنسان يتقدم إلى شركة الاتصالات ليحصل على خط هاتف، فيحصل على خط الهاتف، وكذلك يتقدم إلى الصندوق العقاري ليحصل على قرضٍ، فإذا تنازل عن اسمه وقلنا: إن النظام وهو الصندوق يسمح، فالذي باعه هل باع الدين أم باع منفعته وهي منفعة الانتظار؟ باع منفعة الانتظار، فصارت منفعة الانتظار وصار الاسم له قيمة.
وعلى هذا فالاسم التجاري صار له قيمة؛ لأن الأصل أن كل ما يتمول ويمكن الانتفاع به صار له قيمة، وعلى هذا فلا بأس ببذله، وإذا كان ليس له قيمة فإنه لا يجوز شراؤه، فالحشرات ليس لها قيمة، فلا يجوز بذل المال فيها؛ لأنها ليس لها قيمة.
وليس هذا في كل الحشرات مطلقاً؛ بل هناك حشرات يمكن الانتفاع بها، مثل: النحل، ومثل: الجراد، ومثل: دودة القز، ومثل: الحشرات التي تباع لاصطياد السمك، فهذه صارت لها قيمة، وعلى هذا فالعلماء رحمهم الله أخذوا كل هذا التقعيد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار )، فجعل لهم بيعاً، والبيع بما تعارفوا عليه.
وليس للبيع لفظ محدد؛ بل كل ما تعارف الناس عليه جاز به البذل والأخذ، وعلى هذا فالراجح -وهو مذهب الحنابلة كما رجحه أبو محمد بن قدامة واختاره ابن تيمية وهو مذهب الإمام مالك خلافاً للشافعية- أن كل لفظ أو عمل يدل على البيع عرفاً جاز وصح.
وذكر أيضاً عليه الصلاة والسلام أن يكون مالكاً للسلعة، فإذا لم يكن مالكاً للسلعة فلا يجوز أن يتصرف بمال الغير، وهذا دليله: قوله صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن و أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لا يملك، ولا ربح ما لم يضمن ).
مدة الخيار ثلاثة أيام، فإذا تفرقا على ذلك تم البيع، ولكنه بيع غير لازم؛ لأن العقد إما أن يكون عقداً لازماً أو يكون عقداً غير لازم، فالعقد اللازم: هو الذي يتفرق المتعاقدان من غير خيار، وليس في السلعة عيب. وأما غير اللازم: فهو أن يكون في السلعة عيب، أو أن يوجد خيار الشرط، وهذا القول الأول في معنى: ( أو يخير أحدهما الآخر ).
القول الثاني: ( أو يخير أحدهما الآخر ) يعني: يقول: فلان! اختر عدم الفسخ مع وجود خيار المجلس، فيختار عدم الفسخ مع وجود خيار المجلس، فإذا قلت لـعبد الرحمن : أتبيعني سيارتك؟ قال: نعم، قلت: بكم؟ قال: بمائة ألف، قلت: قبلت، الآن عقد غير لازم؛ لأنهما لم يتفرقا، ولو خشيت التفرق أو التردد فقلت: اسمع يا عبد الرحمن الآن قل: قبلت بلا خيار، فقال: قبلت بلا خيار، فهنا أسقط حقه في خيار المجلس، فيكون العقد ثابتاً ولازماً؛ لأنه أبطل حقه.
وهذه المسألة اختلف العلماء فيها؛ فقال بعضهم: يجوز أن يسقط الإنسان حقه في الخيار؛ لأن خيار المجلس هو حق المتعاقدين في إمضاء العقد أو فسخه مع وجود المجلس، فإذا أبطلاه أو أبطله أحدهما جاز ذلك؛ لأنه حقهما والحق لا يعدوهما، ولعل هذا القول أظهر.
والقول الثاني: أنه لا يصح؛ لأن هذا إبطال لحق شرعي؛ وهو: خيار المجلس، ولا يجوز إسقاطه.
والراجح هو القول الأول؛ لأن هذا الحق أثبته الشارع للمتعاقدين، ولم يلزمه عليهما، وفرق بين إلزام وبين إثبات الحق، وعلى هذا فالراجح أنه لو خير أحدهما أن يقول: اختر بلا تفرق، فإن اختار فقد ثبت البيع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ). يعني: قال: اختر البيع بلا فسخ، فإذا قال لك فقد وجب البيع، وهذا ترجيح البخاري .
وقال بعضهم: ( أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع )، يعني: ثبت البيع ولكن لا يلزم؛ لأن فيه خيار الشرط على القول الثاني.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع ) يعني: قلت لـعبد الرحمن : تبيعني سيارتك بمائة ألف؟ قال: نعم، ثم تفرقنا بعد أن تبايعنا، ولم أترك أنا الشراء ولم يترك هو البيع، ففي هذه الحال يكون قد وجب البيع، يعني: ثبت.
عامة أهل العلم قالوا: لا يجوز؛ لما روى أهل السنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله )، وما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه في ذلك فإنه رضي الله عنه لم يبلغه الحديث، قال نافع : كان ابن عمر إذا تبايع مع الآخر خرج حتى يثبت البيع، ولعل ابن عمر لم يعلم بهذا الحديث، وعلى هذا فلا يسوغ لأحد أن يحتج بقول الصحابي؛ لأنه ربما لم يبلغه الحديث، ولأن العبرة بوجود الحديث ولو خالفه الصحابي، والله أعلم.
هذا الحديث ذكره المؤلف هنا لإثبات أمرين:
قال صلى الله عليه وسلم: ( فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما )، وهذه نظرة في الاقتصاد: وهو أن الشارع الحكيم لا يجعل كل ما أمسكته اليد حلالاً بل لا بد فيه من الصدق وعدم الغش؛ ولهذا قال: ( فإن صدقا وبينا )، فعلى هذا يجب على كل بائع أو مشترٍ ألا يخادع صاحبه، فإذا باع الشخص السيارة وهو يعلم أن بها عيباً وجب عليه أن يبينه، فإن قال: أبيعك هذه السيارة بمثل ما اشتريتها، وهو يعلم أن بها عيباً لا يجوز له ذلك؛ لأنه كتم ولا يجوز الكتم؛ لأن ( من غش فليس منا )، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعلى هذا فيجب على البائع أن يبين عيوب السلعة، ويجب على المشتري ألا يخادع البائع لأجل أن يبيع.
ومن التحايل ما يكون عند أصحاب السيارات، حيث أن الإنسان إذا رفعت السيارة للحراج يأتي أصحاب الدلالة إذا عرفوا أن هذا الشخص لا يحسن البيع فيقول له رجل منهم: أنا اشتريت السيارة منك، خذ هذه النقود، لكن بشرط أن أجربها، ثم يسأله: بكم اشتريتها، فيقول صاحب السيارة: بمائة ألف، وينزل صاحب السيارة ويركب صاحب الحراج ويسوق السيارة ويقول: هذه فيها كذا، وفيها كذا، فيوجد عيوباً وهمية، ثم يقول: لا والله أنا لا أريدها، هل تبيعها بثمانين أو تسعين؟ حينها البائع لا يستطيع أن يعرضها مرة ثانية بالحراج؛ لأنه لو عرضها لقالوا: إذاً ما عرضت مرة ثانية إلا لأن فيها عيباً، فيقبل، وهذا يسميه العلماء النجش؛ لأن النجش ليس هو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها فحسب، لا، بل هذه صورة من صوره، وأيضاً التقليل من السلعة لأجل شرائها، وهذه الصورة تقليل بالسلعة لأجل شرائها، وعلى هذا فيجب على المشتري وعلى البائع أن يبينا.
وعلى هذا فإنه يجب على الإنسان أن يبين، فإن بين بارك الله له في بيعه، وبارك له في ما ملك، والبركة الآن معدومة، والسبب في ذلك هو عدم الصدق، ولا يلزم بالصدق أن تبين ما اشتريت به، فإذا اشتريت هذا بخمسين فعرضته بمائة، فلا يلزمني أن أقول للمشتري بسعر الشراء؛ لأن هذا يسمى عند الفقهاء المساومة؛ لأن البيع إما مساومة وإما مرابحة، والمساومة أن يبيع السلعة ويحدد لها ثمناً، ولا يخبر بالسعر الذي اشتراها به، وأما المرابحة: أن يقول: أبيعك هذه السلعة برأس مالها وزيادة مائة أو زيادة عشرين أو زيادة ألف، فيقول: بكم اشتريتها؟ يقول: اشتريتها بمائة ألف، وأريد أن أبيعها عليك بمائة وخمسة عشر ألفاً، وهذا النوع يسمى مرابحة، وهو الإخبار برأس المال والزيادة عليه، كما هو معلوم والله أعلم.
نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر