عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً, ورهنه درعاً من حديد ) ].
صورتها: أن أبيعك هذه السيارة بمائة ألف مؤجلة، فأخشى ألا تسددني الثمن، فأطلب منك رهناً، هذا الرهن يمكن أن يكون عيناً كأرض أو سيارة، أو منزل، أو بضاعة، هذا يسمى توثقة الدين الذي في الذمة بعين، أو بنقد مثل: هذه مائة ألف في حسابك، دعها عندك أمانة، وسوف أعطيك الثمن بعد ذلك، إذاً: الرهن هو توثقة دين بعين أو نقد، والله تبارك وتعالى أعلم.
مثال آخر: أريد أن أشتري منك سلماً فأقول لك: كم تعطيني صاعاً بعد سنة؟ قلت: مائة صاع بر، قلت: هذه مائة ألف ريال، لكن أريد رهناً، فأنا أخشى ألا تعطيني المائة الصاع، فتقول: هذه خمسين ألفاً رهن عندك، فهذا الفعل يجوز، والله أعلم.
وكل ما جاز بيعه جاز رهنه، دون العكس، فكل ما جاز رهنه لا يلزم جواز بيعه، فيجوز أن أرهن الكلب، وإن كان لا يجوز أن أبيع الكلب على الراجح.
الأول: أن يكون الرهن قبل العقد، مثل أن أقول لك: خذ هذه السيارة رهناً على أن تبيعني بعد أسبوع أرضك، الراجح أنه جائز.
الثاني: أن يكون الرهن مع العقد، نحو: أبيعك سيارتي بمائة ألف على أن ترهنني هذه الأرض الآن، وهذا جائز بالإجماع.
الثالث: أن يكون الرهن بعد العقد، مثل: أبيعك سيارتي بمائة ألف ثم أقول لك: يا فلان! أعطني رهناً بعد أن انتهى العقد وتفرقنا، أعطني شيئاً يثبت، أعطني ورقة قال: خذ هذا المال رهناً عندك، فهذا لا يلزم، ولكنه يصح، والله أعلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ورهنه درعاً من حديد ).
لأن يهود خيبر كانوا يحسنون الزراعة، فاشترى منه تمراً، وقال اليهودي: أريد ما يثبت ذلك، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم درعه على أنه رهن.
والحنابلة خلافاً للجمهور استثنوا صورة واحدة: يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن بلا إذن من الراهن، وهو ما إذا كان المرهون دابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري قال: ( الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً )، يعني: أنا عندي جمل أو عندي خيل رهن، وأنا الذي أعلفه، فعلفي له يجوز لي أن أركبه، وأما إن قال لي الراهن: أنا أعطيه علفه ولا تركبه، فلا يجوز للمرتهن أن يركبه، وأما حديث: ( لا يغلق الرهن على صاحبه، له غنمه وعليه غرمه )، نقول: هذا فيما إذا لم يكن دابة، أو كان دابة واشترط الراهن أن يعطيها النفقة، فحينئذ لا ينتفع المرتهن بذلك، والله أعلم.
حديث أبي هريرة : ( مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع )، وهذا ليس من باب الرهن ولكنه من باب الحوالة، ولهذا قال المؤلف: باب الرهن وغيره.
نقول: إذا كان بكر مليئاً، وكان الدين الذي على بكر حالاً، وكان الدين بمثل الذي على المحيل، فإنه لا يجوز للمحال أن يرجع على المحيل، ويجب عليه أن يقبل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع )، والمليء: هو القادر بماله ولسانه، يعني: هو قادر بماله فيقول: لا، اسكت، لا تتكلم، أنا متى ما شئت أن أعطيك فسأعطيك، فلا تتكلم، من كان هذا منطقه فليس مليئاً بلسانه، بل هذا في لسانه فحش، وبعض الناس لا يتحمل هذا، فلا بد أن يكون مليئاً بكلامه وماله، فيكون منطقه: أبشر، المال الذي تريده سوف يحصل، وعلى الرحب والسعة، أبشر بالذي يسرك، ونحو ذلك.. فهذا مليء بلسانه، وهو المقصود عند الحنابلة كما فسره الإمام أحمد ، والله أعلم.
وقوله: ( مطل الغني ظلم )، المماطلة: هي التأخير بتسديد ما في الذمة، والمماطل إن كان موسراً فهو آثم بإجماع العلماء، وهو آكل لأموال الناس، وإن كان لا يريد إعطاءها فإنه داخل في الوعيد الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة : ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )، والعياذ بالله.
وأما إذا كان الدين الذي على المحال عليه أقل من الدين الذي للمحيل جاز للمحيل أن يحال إلى الدين الذي في ذمة المحال عليه، ويطالب المحيل بالباقي، والله أعلم.
وإذا ثبت إعسار المحال عليه بعد أن كان مليئاً لم يرجع على المحيل، مثلاً قلت للشيخ بدر: اذهب إلى عبد الرحمن أنا أطلبه مائة ألف، وهو مليء، قال: نعم، فجاء بدر لعبد الرحمن وقال: أريد أن تعطيني مالي، قال: أبشر، هل تريدها الآن أو بعد أسبوع؟ قال: دعها حتى بعد أسبوع، فأنا وإياك لا نختلف، ثم بعد أسبوع عبد الرحمن -لا قدر الله- دخل في الأسهم، وذهبت كل أمواله، وصار مفلساً، فهل يجوز لـبدر أن يرجع إليّ؟ لا، بل يلزمه أن ينتظر عبد الرحمن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع )، أما إذا ظن الشيخ بدر أن عبد الرحمن مليء فتبين أنه ليس مليئاً فيجوز لبدر أن يرجع عليّ؛ لأنه لم يكن عبد الرحمن مليئاً، والله أعلم.
هذا الحديث فيه مسألة: وهو أن الرجل إذا باع ماله لآخر، ثم أفلس المشتري، ووجد الشيء الذي بيع على حاله، وكان المشتري عليه ديون للناس، هل يكون البائع الذي وجد سيارته كحالها عند المفلس -الذي هو المشتري- أسوة الغرماء.
مثلاً: المشتري مدين لخمسة: لي، ولفلان، وفلان، وفلان، وفلان، هل أنا أدخل مع الناس أسوة الغرماء، أما أكون أحق بسيارتي من بقية الغرماء فآخذها، ويكون الباقي أسوة الغرماء؟
في هذا الحديث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس )، يعني رجل اشترى مني سيارة بالآجل، ثم قبض السيارة وأفلس، فوجدت سيارتي عنده، وأنا أطلبه قيمتها مائة ألف، وزيد يطلبه مائة ألف، وبكر يطلبه مائة ألف، إذاً: في ذمته ثلاثمائة ألف، وليس عنده شيء في الحساب، لما أفلس قال الغرماء: عنده سيارة قيمتها مائة ألف، هلموا نقتسمها بيننا، كل واحد يأخذ الثلث، قلت أنا: لا، السيارة لي وحدي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أدرك ماله بعين عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره )، أنا أحق الناس بها، أنا أحق من الغرماء كلهم.
لكن يشترط في هذا شروط:
أولاً: ألا يتغير الشيء المباع، فإن تغير فإنه لا يصح للبائع أن يرجع؛ لأن الرسول يقول: ( من أدرك ماله بعينه ).
الثاني: ألا يكون الدائن قد قبض بعض الثمن، فإن قبض بعض الثمن فلا يحق له الرجوع، كما جاء في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ولم يكن قد أخذ من ماله شيئاً )، وإن كان الصواب في الحديث أنه مرسل، لكن العمل عليه عند أهل العلم.
الثالث: ألا يكون المفلس قد تصرف بها وصارت رهناً عند آخر، مثل: أنا بعت على زيد سيارة بمائة ألف ريال إلى سنة، فلما قبض زيد السيارة ذهب بها إلى بدر وقال: أقرضني مائة ألف، وهذه السيارة رهن، أو بعتك هذه السيارة، فهنا إذا باعها أو رهنت، فلا يحق للبائع الأول أخذها؛ لأنها أصبحت مستحقة للغير، والله أعلم.
صورتها: لو أني وزيد عندنا أرض خام، يعني: لم تقطع، لي نصفها ولزيد نصفها، فجاء شريكي وهو زيد فباعها لعلي -طرف آخر- نحن اشتريناها بمليون، مني خمسمائة ومن زيد خمسمائة، فباع زيد نصيبه بسبعمائة ألف ولم يستأذني في البيع، فما هي الشفعة؟ هو حقي في انتزاع حصة شريكي الذي باع حصته للغير من غير أن يستأذن مني. إذا ثبت هذا فهنا أحكام: الأول: لا يسوغ للشريك بعد أن أبرم العقد أن يقول: أنا أبطلت البيع، وأريد أن أبقى في البيع، فليس له الحق.
الثاني: أنه يجب على الشريك الذي ابتاع نصيب شريكه أن يشتري بمثل ما باع به، فإذا باع زيد بسبعمائة وجب على عبد الله أن يشتري بسبعمائة أو يدع.
الثالث: أنه إذا علم عبد الله بالبيع فهل يجوز لعبد الله أن ينتظر فإذا رأى أن عنده ثمناً لهذا المبلغ أدعى بالشفعة أم أن الشفعة كحل العقال كما جاء عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً ولا يصح، بمعنى: هل الشفعة على الفور أم هي على التراخي؟
ذهب جمهور الفقهاء وهو اختيار ابن سعدي رحمه الله إلى أنها على الاختيار، وليست على الفور، شريطة ألا يطل الفصل عرفاً؛ لأنه إذا طال فإن فيه مضرة، والشارع لا يأمر بالضرر: ( فلا ضرر ولا ضرار )، كما عند ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري .
أما إذا صرفت الطرق، فقمنا وخططنا الأرض، واشتريت أنا عشر بلكات، واشترى الآخر عشر بلكات، فهل يجوز للآخر إذا باع بلكه أن أعترض فأقول: أنا شريك؟ الجواب: لا؛ لأن الضرر منتفي، فقد صرفت الطرق ووقعت الحدود، وهذا قول جمهور الفقهاء: أن الشفعة إنما في العقار الذي لم يقسم، ويصدق عليه العمارة إذا كانت لشركاء، فإذا أمكن قسمتها من غير ضرر جاز من غير نظر إلى الشريك، مثل الآن عندنا عماير كل واحد له شقة فلا يجوز إذا وقعت الشقة لك أن تعترض، أو يعترض الجار يقول: لا أن أريد؛ لأنها في حكم وقعت الحدود.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشفعة في العقار، وذهب بعضهم وهو رواية عند الإمام أحمد إلى أن الشفعة تكون في الجار، واستدلوا بما رواه أهل السنن و أحمد من حديث عبد الملك بن أبي سليمان وفي سند عبد الملك بن أبي سليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشفعة في الجار )، وهذا الحديث ضعيف، فإن عبد الملك بن أبي سليمان تكلموا فيه، والذي يظهر، والله أعلم، أنه إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة في الجار سواء كان طريقهما واحد أم لا، خلافاً لـأبي العباس بن تيمية و ابن القيم ، فإن جمهور الفقهاء وهو مذهب مالك و أحمد على أن لا شفعة في الجار، وأن الحديث الوارد فيه ضعيف، و ابن تيمية نظر إلى المقصد فقال: إذا كان طريقهما واحداً، تعرفون الطريق الواحد أحياناً تكون بعض المخططات سيباً، واحد لي وللجار فقط، فيكون هذا السيب وهذا الطريق الضيق مرفقاً لعبد الله وجاره، فلا يجوز للجار أن يبيع على أنه ضرر على عبد الله، وجمهور الفقهاء يخالفون فيه؛ لعدم ثبوت الحديث.
وأنتم تعلمون أن الأصل أن كل ما ملكه له التصرف فيه، فيبقى هذا الأصل إلى وجود حديث صحيح يصار إليه، أما وقد ثبت أن الحديث فيه ضعف فلا نترك هذا الأصل، وهذا الذي جعل جمهور الفقهاء يعتصمون بهذا الأصل ولا يخرجونه بدليل صحيح وهو حديث جابر ، وهذا -كما قلت لكم- سبب الخلاف، فبعض العلماء يرى أن حديث جابر هو الأصل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق )، فكل حديث يخالف هذا فلا يعول عليه، ومن ذلك حديث شفعة الجار فإن في سنده عبد الملك بن أبي سليمان ، وكذلك: ( الشفعة كحل العقال )، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد المدة، فالأصل فيها الإطلاق؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وجاء عند الطبراني : ( الشفعة في كل شيء )، يقولون: فكل شريك مع شريكه له حق الشفعة، والأقرب إنما كان ذلك في العقار، وهو مذهب جمهور الفقهاء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ومن صور الحيل: أن أبيع على أسلم هذه الأرض بأعلى من سعرها في السوق، مثل: أن تكون قيمة الأرض الذي هي ملكي بالمشاع خمسمائة ألف وسعرها في السوق خمسمائة ألف، فماذا أقول: بعت أرضي على أسلم بمليون وخمسمائة، فيقبل أسلم، والحقيقة أن البيع الحاصل تم بخمسمائة، لكن فعلت هذا لأجل أن أعجز شريكي عن أن يشتريه بهذا السعر، فهذا نوع من الحيلة لإسقاطها وهو محرم.
صورتها: أنا وشريكي زيد عندنا أرض لم تقسم، فبعت نصيبي بخمسمائة ألف على أسلم، فأراد زيد أن يشفع، فقال أسلم لزيد: أسقط شفعتك ولك مائة ألف، فهل يجوز للشريك أن يسقط حقه في الشفعة بمال؟
ذهب الحنابلة والحنفية إلى أنه لا يجوز، فإذا قبل الشريك بأن يسقط حقه في الشفعة بمال علم أنه ليس ثمة ضرر؛ لأن الشفعة إنما جازت لدفع الضرر، فإذا جاز أن يعتاض عن ذلك بثمن علم أنه لا ضرر في البيع، وعلى هذا فتسقط الشفعة.
وذهب المالكية والشافعية ورواية عند الإمام أحمد إلى أنها لا تسقط، وأن الشريك يمكن أن يرضى بالضرر إذا بذل له شيء من المال، ولعل هذا القول أقرب؛ لأن هذا حق ولو كان إنما شرع لأجل دفع الضرر، فيمكن أن يصبر الإنسان عن ضرره إذا دُفع له شيء من المال، فالرجل إذا تزوج على زوجته فإنه ضرر عليها، فإذا أعطاها شيئاً من المال كي تقبل هذا الضرر أليس هذا مقبولاً؟ الجواب: بلى، فكذلك هنا، والله أعلم.
واعلم أن الوقف قربة لله تعالى، ثبتت في السنة وإجماع العلماء، أما السنة فهو حديث عمر ، وأما الإجماع فقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم كـأبي محمد بن قدامة رحمه الله والإمام النووي و ابن المنذر وغيرهم.
وهل يثبت الوقف بالفعل؟ فيه خلاف عند أهل العلم، فذهب الجمهور خلافاً للشافعية إلى أنه لا يصح الوقف إلا بالقول؛ وذلك لأن الوقف إخراج من ملك الإنسان، والأصل أنه لا يخرج ملك الإنسان إلا بيقين، واليقين لا يكون إلا بالقول؛ لأنه جائز للمسلم أن يأذن للناس بالصلاة في أرضه ويستمر هذا الحال، ولا يلزم أن يكون قد وقفه مسجداً، وجائز للإنسان أن يعطي أرضه للفقراء ينتفعون بها ولكنه ليس نوع تمليك لهم، وليس وقفاً لله تعالى.
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى أنه يصح أن يكون الوقف بالفعل، والذي يظهر والله أعلم هو اختيار أبي العباس بن تيمية ؛ وذلك لأن الفعل أحياناً يكون أقوى من القول، ولهذا يقول العلماء: الملحوظ أقرب من الملفوظ أحياناً، فإذا وضع الإنسان في آخر مزرعته مسجداً وأحاطه، ووضع منارة مسجد، ومكيفات، وفرشه وفتح الباب على الطريق، ولم يقل: هذا وقف لله تعالى، فهل هذا مسجد أم لا؟
الجواب: نعم مسجد، فإذا مات فلا يمكن للورثة أن يقولوا: والدنا لم يتلفظ بأن هذا وقف، ولم نجد في كلامه أن هذا وقف؛ لأن الملحوظ كالملفوظ، والله أعلم.
أما إذا تنازع الناس: هل هذا في حكم الوقف من حيث الفعل أم لا؟ فالأصل عدمه؛ لأن اليقين -وهو بقاء المال في ملك الإنسان- لا يخرج إلا بيقين، والله أعلم.
ولكن العلماء رحمهم الله قالوا: يجوز بيع الوقف في حالتين:
الحال الأولى: إذا تعطلت منافع الوقف؛ مثل أن يكون لرجل بيت طين في منفوحة، وأوقفها لله تعالى للفقراء، فبدأ ناظر الوقف يؤجرها والغلة يعطيها الفقراء، فجاء المطر فهدم البيت فتعطلت المنافع، فهنا يجوز أن نبيع الأرض ونشتري بقيمتها أرضاً مثلها.
الحال الثانية: وهذا قول عامة الفقهاء: هي ألا تتعطل المنافع ولكن في بيعها ووضعها في مكان آخر غبطة للوقف، أي: أصلح وأنفع وأكثر فائدة، مثل أن يكون عندك أرض بطريق الملك فهد في الجنوب، وعلى طريق الملك فهد المتر تقريباً بعشرة آلاف أو أزيد، ولكن مجرد الطريق لا يجعل الناس يستأجرونها، فتبيع هذه الأرض وتضعها في الشمال ليكون غلتها بدل أن تكون مليوناً تكون مليونين، فلم تتعطل منافع الوقف، ولكن بيعت لأجل الغبطة، وهذه رواية عند الإمام أحمد ذهب إليها أبو العباس أو قال: هو قياس مذهب أحمد رحمهم الله تعالى، ولعل هذا القول أظهر؛ لأن الشارع ينظر إلى أن مقصد الواقف هو النفع، ولا شك أن التصرف بالرأي منوط بالمصلحة، فإذا تصرف الناظر لما هو عائد على أصل الوقف بالغبطة فهو أنفع لمقصود الشارع وهو المصلحة العامة، وأنفع لمقصود الواقف، والله تبارك وتعالى أعلم.
واعلم أن قول الفقهاء رحمهم الله: إن شرط الواقف كشرط الشارع. ليس مقصوداً فيه أن الواقف له أن يشترط في وقفه ويوزعه كيفما اتفق، فإن أوقف الواقف هذه الدار على المغنين فإن وقفه لا يثبت؛ لأنه لا يجوز أن يوقف على شيء محرم، وهذا من أعظم الشروط في الوقف.
أولاً: أن يكون الوقف على شيء يبقى غالباً، فلا يصح أن توقف الفواكها فإذا أوقفت الفواكه فإما أن تفسد وإما أن تؤكل، إذاً لا يصح، فلا بد أن يكون الوقف مما يبقى غالباً، كالدار والعقار والمنقول الذي يثبت.
وهل يجوز وقف النقود؟ اختلف العلماء في ذلك، والأقرب أن وقف النقود معناه أنه نوع من القرض، أوقف النقود لأقرضها لزيد فيستفيد منها ثم يرجع أصلها ثم أعطيها آخر، فعلى هذا فالراجح أنه لا بأس به، وهو رواية عن الإمام أحمد وعليه الفتوى عندنا من مشايخنا.
الشرط الثاني: أنه لا يجوز أن يصرف تسبيل المنفعة إلا للوجوه المباحة أو المشروعة، فإذا صرفها في طباعة كتب أهل البدع فإنه لا يجوز ولا يجوز إمضاء هذا الوقف، فيخرج الوقف من ملكه ولكن يوزع في المصالح العامة.
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعدِ
إذا ثبت هذا فاعلم أن شرط الواقف كشرط الشارع، بمعنى أنه يجب أن يمضى إذا وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا لم يوافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يمضى؛ لأن المهيمن هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما الوحيان: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ).
فإذا ثبت أن لفظ الواقف لا يخالف لفظ الشارع فلا يجوز للناظر أن يخالف، فإذا قال: أوقفت هذه الدار لجمعية تحفيظ القرآن الكريم، أو لحفاظ كتاب الله، فلا يجوز أن يجعلها لحفاظ المتون الفقهية؛ لأنه مخالف لشرط الواقف، لكن إذا لم يكن هناك حفاظ لكتاب الله فالعلماء يقولون: إذا لم يوجد أحد من أهل الموقوف عليهم صرفه لمثلهم، أو لما هو أنفع، فإذا قال رب الدار: أوقفت هذا الدار أضحيتين لي ولذريتي وسكت، فغلت هذا الدار مائة ألف، والأضحية الغالية الواحدة بثلاثة آلاف، قال بعض العلماء: يصرفه لمثل ما شرطه يعني: يجعل المائة الألف كلها أضاحي، وقال بعضهم: يصرفها في وجوه البر وهذا أقرب، فإن صرفها على ذرية الميت فلا بأس كما ذكر ذلك الإمام الموفق ابن قدامة ؛ لأن بره لأولاده من البر، وإن صرفه في المصالح العامة والفقراء فهو أنفع وأفضل، والله أعلم.
إن مسائل الوقف أخذت كلها من حديث واحد، ولهذا قيل: الفقهاء الأطباء والمحدثون الصيادلة، كما قال الأعمش للنعمان أبي حنيفة : واعلم أن الفقهاء المقصود بهم أهل الحديث: هم الذين يعتمدون على أقوالهم بالقرآن والسنة، وإن كانوا لا يهتمون بعلم الرجال، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية في القواعد النورانية قال: فأهل الحديث هم الذين يجعلون نصب أعينهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا عدول عن أقوالهم إلا للكتاب والسنة، وحينئذ فهم من أهل الحديث فـمالك من أهل الحديث، و الشافعي من أهل الحديث، و أبو محمد بن قدامة من أهل الحديث، فأهل الحديث هم الذين إذا استدلوا قالوا:
قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفانِ
يقول عمر: ( إني أصبت أرضاً بخيبر ) جاءته أرض من المغانم، يقول: ( لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه )، وهذا دليل على أن عمر لم يكن من أهل التجارة، فقال لرسول الله: ( فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها )، يعني: جعلتها وقفاً، ( فتصدق بها
واعلم أن الوقف إذا أوقف ووزع، قال: تصرف للفقراء والمساكين وكذا وكذا، فإن الأفضل كما هو مذهب الشافعية والحنابلة أن يجمع جميع ما أخبر به، هذا الأفضل، فإن شق ذلك قدم الأنفع في زمانه، فإذا قال: يعطى الفقراء والقربى والمساكين وحفاظ كتاب الله والمرضى، والمبلغ مائة ألف والقربى أغنياء فهؤلاء يسقطون، والمرضى في أحد يتبرع لهم والحمد لله، لكن حفاظ كتاب الله لم يكن أحد في هذا الزمان يعطيهم، فصرف المائة الألف كلها لحفاظ كتاب الله، فلا حرج في ذلك والله أعلم، إلا إذا قال: يعطى بينهم بالسوية فحينئذ يجب شرط الواقف، والله أعلم.
الحال الأولى: أن يأتيه بالإرث، مثل: أن تتصدق لأخيك بسيارة ثم مات أخوك، فورثته وورثت سيارتك فلا حرج؛ كما في الصحيحين: ( أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أهديت لأمي جارية، وإنها ماتت قال: وجب أجرك وردها عليك بالميراث ).
الحال الثانية: ما يعطيه الوالد لولده، فإن الوالد إذا أعطى ولده شيئاً من المال فلا بأس أن يرجعه، ويأخذه منه بشروط سوف نذكرها إن شاء الله.
وهناك حال ثالثة لكن ليست ظاهرة وهي: حال الصدقة؛ إذا تصدق عن الفقير، ثم وضع الفقير وليمة، وجاء معه فأكل من لحمه الذي أعطاه الفقير فهنا لا بأس به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة : ( هو لها صدقة ولنا منها هدية )، والله أعلم.
ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يعود الإنسان في هبته، وكان الشافعي يرى جواز ذلك مع الكراهة، قال لـأحمد : يا أبا عبد الله أما ترى لـأحمد بن حنبل ما ترى في من عادت هديته إليه بعد أن دفعها؟ قال: لا يجوز، قال: لم؟ قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)، قال: إن ذاك على سبيل الذم لا على سبيل التحريم؛ لأن الرسول شبه في الكلب خسة، فالكلب يعود في قيئه، فالإنسان إذا عاد في قيئه يجوز لكنه مكروه، قال أحمد : فما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ( ليس لنا مثل السوء )، فرجع الشافعي إلى قول أحمد والله أعلم.
الشرط الأول: ألا يكون المال الذي أعطاه ولده مستحقاً، مثل أن يعطي ولده أرضاً، فيأتي هذا الولد، فيرهن هذه الأرض، فحينئذ لا يجوز للوالد أن يعيدها؛ لأنها استحقت للغير.
الشرط الثاني: ألا يعود الوالد فيأخذ هذه الهدية من ولده ليعطيها ولداً آخر؛ لأن في ذلك شحن وإيغار في الصدور.
الشرط الثالث: ألا يكون في أخذ الوالد من مال ولده ضرر على الولد، والله أعلم.
حديث ابن عباس بلفظ: ( العائد في هبته كالعائد في قيئه )، وهناك لفظ آخر، وكلها تفيد أن العود عن الهدية بعد أن أخرجها من ملكه لا يجوز.
ثم اعلم رعاك ربي أن الهدية تثبت بالقول وتلزم بالقبض؛ قبض الموهوب له، فإذا قلت: هذه هدية لعبد الرحمن ولم يقبضها عبد الرحمن، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز لك أن ترجع إذا لم يقبضها، فإذا قبضها فإنها تكون لازمة، ولهذا جاء عند البيهقي و أحمد : ( أن
اعلم أن الفقهاء رحمهم الله إذا قالوا: باب الهدية والعطية، فإنما يقصدون بالهدية هدية الأجنبي، والعطية عطية الأولاد، والله أعلم.
وهذا الحديث حديث النعمان بن بشير في عطية الأولاد، وهو أن والد النعمان وهو بشير أعطى ولده النعمان وكان صغيراً ببعض ماله، فقالت زوجة عمرة بنت رواحة : والله! لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمرة أم النعمان وكان النعمان له إخوة من الأب، فكانت عمرة وخشيت أن يكون هذا فيه ظلم للأولاد، أين هذا من نساء الزمان، التي تطالب أحياناً زوجها بأن يعطي أولادها ولا يعطي أولاد المرأة الثانية، أما عمرة رضي الله عنها فأبت أن يعطي بشيراً ولدها ولم يعط الأولاد الآخرين، قالت: والله! لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النعمان : فانطلق أبي يحملني، هذا دليل على أن النعمان كان صغيراً فقال: ( يا رسول الله! اشهد أني نحلت
وقال أبو عمر بن عبد البر : ومما يدل على عدم الوجوب أنهم أجمعوا على أن الوالد إذا أعطى بعض ولده دون بعض ثم مات لم يجز للورثة أن يرجعوا هذه الهدية، فلو كانت محرمة لوجبت، قلنا: أما مسألة الإجماع فمخالف، فإن أحمد -في رواية- يرى وجوب الرد، وكذلك ابن حزم ، ولهذا كان الراجح هو مذهب الإمام أحمد و ابن حزم : أن إعطاء الوالد بعض أولاده دون بعض لأشخاصهم أن ذلك محرم ولا يجوز، وإن مات فإنه يستحب للمعطى أن يردها إبقاءً لعدم وقوع الذم والعقاب على الأب، وإن كان لا يجب، والله أعلم.
ومما يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( فإني لا أشهد على جور )، والجور: هو الظلم، ( والظلم ظلمات يوم القيامة )، وهذا أصح، والله أعلم.
القسم الأول: إعطاء لشخصه: يعني: يحب فلاناً، يحب عبد الله أو يحب عبد العزيز، فيعطي عبد الله؛ لأنه الصغير، أو لأنه من المرأة الثانية، فهذا لا يجوز على مذهب الحنابلة وهو الراجح.
القسم الثاني: أن يعطي بعض أولاده دون بعض لوصف، مثل أن يقول: من نجح في الدراسة سوف أعطيه كذا، من احتاج إلى الزواج فسوف أزوجه، ومن احتاج إلى العلاج فسوف أعالجه، من برني وخدمني فسوف أعطيه، هذا يسمى عطاء بالأوصاف، فلا حرج حينئذ، وحمل العلماء رحمهم الله عطية أبي بكر لـعائشة دون إخوتها؛ لأنه عطاء بالوصف والله أعلم، فكأن عائشة كانت أعلم، فأعطاها لعلمها، والله أعلم.
واعلم أن العطية شيء والنفقة شيء آخر، فالوالد يعطي أولاه الصغار ما لا يعطي الكبار، أو يعطي الذي قد احتاج إلى السيارة ما لا يعطي غيره، فإن عطاءه هذا من باب الوصف الذي هو النفقة، وباب الوصف لا باس به، والله أعلم.
ولهذا جاء عند النسائي قال: ( فلما أكثر الناس من ذلك أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون أصحاب الأراضي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة )، إذاً قلنا: إن النهي عن المزارعة نهي من العام الذي أريد به الخصوص، وليس من العام المخصوص؛ لأن العام الذي أريد به الخصوص: هو أن يكون أكثر ألفاظ العام غير داخل فيه، فيكون من العام الذي أريد به الخصوص، والله أعلم.
والعجب أن أكثر الفقهاء منعوا المزارعة على أن يزارعه هذه الأرض، فما يخرج منها فله الربع أو الثلث، وجوزها الإمام أحمد ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله وهو الراجح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يجلي يهود خيبر رأى أنه بحاجة إلى هذه الزروع، وأن الصحابة ربما لا يفقهون ولا يعلمونها، أو ربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً هو وأصحابه بالجهاد، فكان من المناسب بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام أن يبقيهم لأجل أن يزارعهم هذه الأراضي فتنتفع أمة محمد منها، فعامل أهل خيبر بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فإن كان هناك نخل بدءوا يساقونها؛ لأن الأرض صارت للمسلمين، وأنه يجب عليهم أن يجلوها فليست لهم، لأنها صارت فيئاً، فكان النبي يعاملهم على أن ما كان من نخل يسقونها بالماء، والذي يخرج نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصفه لهم، وكذلك الزرع نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصفه لهم، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أبرم العقد لأنه في حكم الناظر؛ لأنه يدير بيت المال بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم هذا العقد بالشطر، يعني: نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع.
الجمهور قالوا: إن البذر من ضمن الأرض، فيكون البذر على صاحب الأرض، والأقرب والله أعلم أن هذا على حسب ما يتراضيان به؛ لأن عمر كما روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم: إن جاء عمر بالبذر فلهم كذا، يعني: مما يخرج، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وهذا يدل على أنه لا بأس أن يأتوا بالبذر أو يأتي به عمر ، فإن أتوا به، وقالوا: لنا مما يخرج أول ما يخرج نأخذ قيمتنا والباقي نقسمه، فلا حرج في ذلك إن شاء الله، يعني: كأنه دين على صاحب الأرض، وإذا كان العامل هو الذي سوف يدفع الزرع، وإذا ثبت هذا فإن رب الأرض يزارع هذه الأرض على أن ما يخرج منها له الربع أو الخمس أو السدس أو النصف على ما يتفقان عليه.
وقلنا -نذكره على عجل- إن الشركة يجوز بثلاثة شروط: معلومية رأس المال لكل منها، ولا حرج أن يكون المال عرضاً، وكذلك معلومية ربح كل واحد منها، وكذلك عدم وجود الغرر والربا والجهالة في الشركة، والله أعلم.
حديث رافع بن خديج : ( كنا أكثر الأنصار حقلاً، وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه )، يعني: لنا هذه الحقل ولهم هذا، فهذا منهي عنه؛ لأجل أنه ربما يسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس زروع أو مزارعة إلا هذه، يقول: ( ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك )، نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل الغرر، وهو مجهول العاقبة، ولا ندري ما الذي يبقى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
( وأما الورق فلم ينهنا )، مثلاً: لو أن صاحب الأرض قال لمزارع: هذه النخل عندي أؤجرك خمس سنين بمائة ألف، فلا باس بذلك، فقد أجره الأرض وما فيها من زرع، وعلى هذا فالذين عندهم نخل يقولون: أحياناً لا نعرف كيف نواسي الأرض أو المزرعة فماذا نصنع؟ نقول: ائتوا بعمال، قال: العمال يأخذون علينا شيئاً، فهل يجوز لنا أن نقول للذي يريد الثمر: هذه أرضنا مع ما فيها من نخل نؤجرك خمس سنوات، فصاحب التمر الذي يريد التمر يبدأ يرتب الماء، ويحفر على كل نخلة، ويواسي العراجين، ويواسي الأعذاق، فهذا لا بأس به؛ لأنه آجرهم بالورق، الذي هو النقد فلا حرج، ولا عبرة حينئذ لو خسر صاحب المزرعة الذي هو المقاول العامل، فلو خسر هذه مثلها مثل البيع والشراء، البيع ربح وخسارة، ولم يكن هناك غرر أصلاً، والله أعلم، فحينئذ لا بأس به، أما أن يبيع الثمرة سنين كما جاء فهذا لا يجوز، أما إذا أجرتك الأرض وما فيها من نخل، فهذا لا بأس به، والله أعلم.
الماذيانات : الأنهار الكبار.
والجدول: النهر الصغير ].
قوله: (ولـمسلم عن حنظلة بن قيس قال: ( سألت
مسألة العمرى أو العقبى لها صور، فالعقبى: هو أن يعطي الإنسان ماله؛ لينتفع به الغير، وهي على صور:
الصورة الأولى: أن يقول: هي لك ولعقبك، فإنها حينئذ تكون للموهوب له ولذريته، ولا ترجع للواهب ولا لذريته، فالصورة الأولى: أن يقول الواهب: هذه الأرض عقبى أو عمرى لك ولعقبك، فحينئذ تكون للموهوب له ولعقبه، ولا تعود للواهب ولا لذريته، وهذا قول عامة أهل العلم وحكي الإجماع على ذلك.
الصورة الثانية: أن يقول: لك ولعقبك ما عشت أو ما عشتما، فإنه إذا انقطع عقبه فإنها ترجع أو لا ترجع؟ اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب جابر بن عبد الله إلى أنه إن قال: هي لك ولعقبك ما عشت، أو ما عشتم، أو هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها، وذهب جمهور الفقهاء إلا أنها لا ترجع، ولعل هذا أقرب وهو ظاهر قول شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله.
وخالف جابر بعض الصحابة، واستدل الصحابة خلافاً لـجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه )، لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سواء قال كذا أو كذا، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فمن قال: هي لك عمرك أو عمرى أو عقبى، فإنها لا ترجع إلى صاحبها.
الصورة الثالثة: أن يقول: هي عمرى أو عمرى لك ويسكت، فإن الراجح، والله أعلم، أنها لا تعود لصاحبها. فهذه ثلاث صور:
الأولى: أن يقول: هي عمرى أو عمرى لك ولعقبك فهي للموهوب له ولعقبه.
الثانية: أن يقول: هي لك ما عشت، أو عمرى لك ولعقبك ما عشت، فهل ترجع؟ ذهب جابر بن عبد الله إلى أنها ترجع، وذهب جمهور الصحابة وجمهور أهل العلم إلا أنها لا ترجع وهو أقرب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها).
الثالثة: أن يقول: هي عمرى لك ويسكت، فإن الراجح أيضاً أنها لا ترجع.
هذا الحديث فيه مسألة: وهي لا يجوز للإنسان أن يمنع صاحبه مما لا ضرر عليه فيه، إذا كان يضر صاحبه عدمه، فكل ما لا يتضرر الإنسان بماله مع وجود الضرر على الغير لا يجوز للإنسان أن يمنع، وعلى هذا فإن الإنسان إذا كان له جار فأراد جاره أن يغرز خشبة في جدار صاحبه، هل هذا يضر على جدار صاحبه أم لا يضر؟
أولاً: إن قلنا: إن كان لا يضر على جدار صاحبه فلا يجوز لصاحبه أن يمنع؛ لأنه لا ضرر عليه، وهذه يسميها العلماء التعسف في استعمال الحق، فلا يجوز لك أن تتعسف في استعمال حقك بما يضر الغير، وعلى هذا فالعلماء رحمهم الله قالوا: إن تصرف الغير بمال الآخر إن كان يضره فلا يجوز، مثل أن أغرز خشبة في جدار صاحبي، وهذا الجدار يضر صاحبي فهل يجوز لي؟ الجواب: لا يجوز.
ثانياً: ألا يتضرر، فحينئذ لا يجوز أن يمنع، ومثل ذلك: الاشتراك في الإنترنت، إذا كان جارك عنده إنترنت مودم الذي يسمونه وآيرلس، فتفتح أنت جهازك، ويبحث جهازك عن شبكة، فيفاجئ أن هذه الشبكة شبكة لجارك، هل يجوز لك أن تنتفع منها؟
نقول: إن كان جارك لا يتضرر بذلك، فنقول: مثل هذا، لا يمنع أحد وآيرلس جاره أن ينتفع منه؛ لأنه لم يتضرر، أما إذا كان فيه ضرر على جاره، مثل: كل ما دخل عليه انقطع، فهذا ضرر عليه فيمنعه؛ لأن جاره يمكن أن يمنع بأن يضع رقماً سرياً لا يدخله إلا هو، فأما إذا فتحه فالكلأ مباح، والناس شركاء في ثلاث، والله أعلم.
هذا الحديث هو من باب: الغصب، والمؤلف رحمه الله حينما لم يجد حديثاً صحيحاً في البخاري و مسلم في الغصب إلا هذا الحديث أورده هنا.
والغصب: هو الاستيلاء على مال الغير من غير إذن، واعلم أن الإنسان إذا اخذ مال الغير فيجب عليه أن يرده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أخذ مال أخيه فليرده جاداً أم هازلاً )، كما روى ذلك أبو داود ، وكذلك يجب أن نعلم أن الغاصب إذا أخذ مال الغير فقد أجمع العلماء على أنه يجب عليه أن يرده، وهذا الرد ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: إن كان المغصوب مما ينتفع به وله أجرة مثل، فيجب على الغاصب أن يرد المغصوب وأجرة مثله.
مثل: أن يغصب فرساً وهذا الفرس له أجرة مثل، أو يغصب جملاً وهذا الجمل له أجرة مثل، أو أن يغصب عقاراً وهذا العقار له أجرة مثل، فحينئذ يجب عليه أن يرد هذا العقار وأجرة مثلها، يعني: حبسها سنة وأجرة سنة مائة ألف، فيرد الأرض ومائة ألف، أما إذا كان مثلها ليس له أجرة مثل -مثل النقود- فإنه يردها من غير أجرة مثل، وإلا صار ربا.
القسم الثاني: أن الغاصب يجب عليه أن يردها وما نما منها، وهذا النماء سواء كان بزيادة متصلة أم زيادة منفصلة، فلو غصب ناقة ثم أطرقها الفحل ثم ولدت، فيجب عليه أن يرد الناقة وولدها، وكذلك إذا أخذ الناقة وهي سمينة، ثم بقيت عنده فهزلت فيضمن الهزال، وكذلك على الراجح أنه إن أخذ الشيء وله قيمة سعرية في ذلك الوقت ثم حبسه ونقصت قيمته في السوق، فإن الراجح وهو مذهب الحنابلة واختيار ابن سعدي و ابن تيمية أنه يضمن المغصوب وقيمته، فإذا رخص في سعره، مثل: لو أن البنك في سوق الأسهم طلب العميل أن يبيع مائة سهم، فأخذ البنك ألف سهم، خطأ من البنك، فالآن هذا في حكم المغصوب، فإذا نزل السوق بعد ذلك ولم يرجع البنك هذه الأسهم إلى العميل، وكان من عادة العميل أن يضارب، هذا إذا قلنا: المضاربة المباحة، أسهم ليس فيها ربا لا قرض ولا اقتراض، فإن البنك حينئذ يضمن الفرق السعري والله أعلم.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة : ( أنه من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أرضين )، وهذا دليل على خطورة الغصب وشناعته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته )، والله أعلم.
الجواب: حقيقة إن مما يسر الخاطر ويثلج الصدر أن نجد في زمن المدلهمات والفتن والخطوبات إخواناً لنا في بلاد فلسطين المباركة يهتمون بالعلم الشريف، ولا شك أن إخواننا في هذه البلاد أولى الناس بالعلم والتعليم؛ لأن ما يصيب الأمة من تنازع في الطوائف واختلاف في الآراء والأهواء إنما هو بسبب فقد العلم الشرعي المؤصل في الكتاب والسنة، والناس إذا خفيت عليهم السنة أخذوا المذاهب الأرضية، والدعاوى الشيطانية، وتمسكوا بالحظوظ الأرضية، ونحن مع فرحنا لإخواننا هناك، فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يربط على قلوبهم، وأن يكفيهم شر الأشرار وكيد الفجار، وأن يسلط على أعدائهم وأعدائنا من اليهود الغاصبين كل بلاء، وألا يجعل لهم في بلاد فلسطين راية، وأن يجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
وأنا أنصحكم أيها الإخوة الفضلاء! أن تتقوا الله سبحانه وتعالى فيما بينكم، وأن تعتصموا بحبل الله وكتابه، فإن أعظم وصية يوصى بها المرء هو الاعتصام بالكتاب والسنة، في زمن اختلفت فيها الآراء، وتشتت الأهواء، واختلف الناس فيها، فلأجل هذا نحن نطالب إخواننا بعصمة الدم الحرام، وألا يقتل بعضهم بعضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين كما في الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله ومن حديث ابن عمر أنه قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل إذا كان بينك وبين إخوانك، ودع تلك الرايات وتشبث بشجرة وجذع الإسلام فإنه خير لك ولأهلك وسوف تسألون.
واعلموا رعاكم ربي! أن كثرة هذه الاختلافات يؤزز الشيطان مثلها في مثل هذا، فاعلموا أنه مهما أخطأ إخواننا فيما بينهم فلا يمكن أن يكون الحل هو السيف، ولا يمكن أن يكون الحل هو الهجران الذي مآله إلى أن يتشبث بعض إخواننا بالأعداء، فلا بد أن تتحد كلمتنا، والله سبحانه بين لنا حكمة ذلك، فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، دليل على أن من لم يطع الله والرسول فإن التنازع حتماً سوف يقع، فأما من أطاع الله حق الطاعة، وأطاع الرسول حق الطاعة، فإنه سوف يتسامح في إخوانه.
واعلموا أن أهل السنة والجماعة هم أرحم الخلق بالخلق، وإذا كان أهل السنة أرحم الخلق بالخلق فإن رحمتهم لإخوانهم أولى بذلك، فليتغاضوا عن الهفوات، وليتسامحوا عن الأخطاء، ولكن ومع ذلك كله يجب علينا أن نكون حرباً واحدة على اليهود الغاصبين، وألا يفت اليهود من عضدنا، وأن نعلم أن النصر صائر ولو بعد حين، والله سبحانه وتعالى بحكمته وإرادته يجعل للنصر مقدمات، فالأمة لا يمكن أن تنتصر وهي متفرقة، ولا يمكن أن تنتصر وقد جعلت كتاب الله خلفها وأخذت بالمذاهب الأرضية، ولا يمكن للأمة أن تنتصر وهم متشتتون متفرقون، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعتصم بكتابه، وألا نختلف فيما بيننا.
واعلموا أنه لا يمكن جمع الكلمة على راية إلا راية التوحيد، وأي اجتماع على راية غير راية التوحيد فإن مع ما فيها من الاختلاف والتفرق فإنها لا تصل إلى بر الأمان، ولا أدل عل ذلك من المذاهب التي نراها يميناً وشمالاً مهما اتفقت زمناً، فإن الاختلاف حتماً سوف يكون مآلها، وانظروا إلى ما كان عليه العرب قبل مجيء البعثة، فقد كانوا متشتتين وإن كانوا أغنياء، ومع ذلك لما جاء الإسلام كانوا كقلب واحد، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعل لكم من كل هم مخرجاً، ومن كل ضيق طريقاً يا رب العالمين.
وأنصحكم أيها الإخوة! بأن تكثروا من الحلقات العلمية، وأن تكثروا من حضور الدروس، والحمد لله الآن حضور الدرس سهل، الآن إخواننا في إيران من أهل السنة والجماعة كان الواحد منهم لا يستطيع أن يحصل على كتاب، ولا يستطيع أن يسمع من أهل العلم الثقات، والآن بوجود القنوات الإسلامية وبوجود الإنترنت، استطاع الإخوة في كل مشارق الأرض ومغاربها أن يسمعوا كلمة الحق من العلماء الثقات العارفين، فإذا استمعنا إليهم وعرفنا مراد الله ومراد رسوله في كل حادثة فإننا حتماً سوف نأمن من الانزلاق في مهاوي الردى، وفي اتباع أهواء الشياطين.
الجواب: بعض العلماء يرى أن هذا من البيع في المسجد، والذي يظهر والله أعلم أن هذا لا بأس به؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه، وهذا ليس من باب الربح، ولكنه ليقيم الإنسان صلبه، فإن وجد فلا حرج، وإن كان الأفضل ألا يبرم العقد في المسجد، ولكن يبرمه خارج المسجد، ويكون خروجه حينئذ مما لا بد منه، وأما إذا قبض الثمن في المسجد فلا حرج؛ لأن العبرة بالعقد هو الإيجاب والقبول، فإذا أراد أن يتصل على صاحب المطعم وهو معتكف، فإن الأفضل أن يخرج من المسجد ليبرم العقد، وأما استلامه فلو استلمه في المسجد وأعطاه الثمن فلا حرج؛ لما جاء في حديث أبي بن كعب في قصة ابن أبي حدرد أنه تقاضى ديناً له كان على ابن أبي حدرد ، فارتفعت أصواتهما، فقال رسول الله: ( يا
الجواب: قلنا: إذا صرف مائة ريال على أن يعطيه عشرات، فإنه لا يجوز أن يتفرقا من غير قبض كل العشرات، لكن إذا لم يكن عنده فقال: اجعل هذه المائة أمانة عندي، أو اجعلها رهناً عندي، فإن هذا لا بأس؛ لأنه انقلب الآن من عقد صرف إلى عقد أمانة وعقد قرض.
الجواب: لا، لا يجوز الصرف بالمسجد؛ لأنه من باب المعاوضة، والمعاوضة في المساجد لا تجوز، وإن كان البيع صحيحاً عند عامة أهل العلم، بل حكى بعضهم الإجماع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فقولوا: لا أربح الله تجارتك )، فالنهي ليس عن الربح وليس عن أصل العقد، والله أعلم.
الجواب: لا عبرة باختلاف النوع، ولا بجودة التمر، العبرة بوجود التساوي في الكيل.
وبلال فعل هذا قال: التمر الرديء قيمة صاعين منه يساوي صاعاً واحداً من التمر الجيد، فلم يذهب ليبيع الصاعين ليأخذ الثمن ويشترى به من الجيد، وإنما باع مباشرة صاعين بصاع، فقال الرسول: ( أوه عين الربا ).
فلو كان نفس الجودة ما في إشكال، لكن الإشكال إذا كان ليس بنفس الجودة، فصار ثمن الصاع يساوي ثمن الصاعين، لا يجوز أن أبيعهما جميعاً، لا بد أن أفصل بينهما، ( بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً )، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر