الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:
إن من نعم الله على عبده أن يجعله مباركاً, والمبروك كما ذكر ذلك ابن جرير الطبري : هو صاحب الخير الكثير, صاحب الخير في نفسه, وصاحب الخير لغيره, وإن ممن أعطاه الله سبحانه وتعالى بركته من بين عباده هو ما نحسبه والله حسيبه شيخنا عبد الله بن جبرين رحمه الله, فهو مبارك في حياته, ومبارك بعد مماته, وما هذه الدورة التي تلقى في هذا الجامع المبارك جامع الشيخ عبد الله الراجحي إلا أحد البركات التي من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه بها على شيخنا عبد الله بن جبرين وهو في قبره, فكان ذلك من النعم التي تتنزل على قبره بسبب اسم هذه الدورة, وما هذا الحضور وهذا الجمع المبارك إلا تيمناً بما استن به شيخنا عبد الله بن جبرين من هذا الأمر, وبالأمس رأى أحد طلبة العلم رؤيا خير ولله الحمد, فأخبرني عن رؤيا طويلة, لكن الذي يفرح أنه رأى شيخنا محمد بن عثيمين وهو يطوف معه, فسأله عن حاله, وسأله عن حال شيخنا عبد الله بن جبرين ؟ فقال بلهجة شيخنا محمد : أبشرك! هو بخير, قال: الرائي: بشرني يا شيخ! هو في الجنة؟ فقال: نعم, وهذه بشرى لشيخنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفردوس الأعلى, وأن يلحقنا وإياه مع زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا قاسم والله يقسم ), فالفقيه هو الذي يقسم حقوقه ما بينه وبين أهله, وما بينه وبين زواره, وما بينه وبين عامة الناس, يقسم ما بينه وبين ربه, يقسم ما بين الناس فيما بينهم؛ ولهذا فإن معرفة أمر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه فيما يأتي الإنسان ويذر من أعظم المنن, نسأل الله أن يمن علينا وإياكم.
وهذا الكتاب فيه فائدة عظمة، وهو أولى من كتاب عمدة الفقه للإمام أبي محمد بن قدامة ؛ وذلك أن الإمام أبا محمد بن قدامة ألف هذا الكتاب لصغار الطلبة؛ وقد ترك كثيراً من المسائل؛ لأنه سوف يعوضها في كتاب آخر, وهو كتاب المقنع.
أما هذا الكتاب -أعني: كتاب التسهيل في الفقه- فإنه مع صغر حجمه إلا أنه قد حوى مسائل أكثر من مسائل عمدة الفقه, وهو وإن كان أقل من كتاب زاد المستقنع, ومن كتاب الدليل, إلا أن عبارته أسهل من عبارة صاحب الزاد, وترتيبه أيضاً قريب من ترتيب الدليل, والدليل قد يكون أحسن من حيث الترتيب والعبارة, ومن حيث سعة المسائل, فهو يصلح أن يكون الكتاب الثالث بعد الزاد والعمدة، وهذا الكتاب، وهو أجمع من كتاب: أخصر المختصرات.
والسبب في عدم اهتمام مشايخنا بهذا الكتاب: هو أن هذا الكتاب كان يذكر في ترجمة أبي محمد البعلي , ولم يوجد ويظهر إلا عام 1414هـ, وهذا هو السبب الذي جعل مشايخنا ربما لم يشرحوه في دورات سابقة, فالسبب أن استكشافه واستخراجه من المخطوطات كان متأخراً بسبب التأخير في إيجاده.
ثم تتابع الناس في تحقيقه، ولعل من أفضل من حقق متنه هو شيخنا عبد الله بن صالح الفوزان , وله شرح عليه سماه فقه الدليل في شرح التسهيل, وأنا أنصح كثيراً الإخوة الذين يريدون أن يقرءوا في الفقه أن يقرءوا هذا الشرح, ففيه فوائد كثيرة.
والقصد من هذا الشرح هو معرفة عبارة المؤلف، والثاني معرفة دليل المؤلف, وإذا كان هناك قول راجح يخالف ما اختاره المؤلف فإننا نذكره, وسوف نذكر بعض الفوائد والقواعد الفقهية والقواعد الأصولية؛ حتى يتسنى للطالب أن يفقه الدليل, فالعبرة في كل ما يأتي الإنسان هو الدليل, وليس الاهتمام بالمتون, إلا إذا كانت طريقاً وسبيلاً إلى الدليل الشرعي؛ لأننا متعبدون بذلك, فإذا وفق الله العبد لمعرفة تصوير المسألة وتصوير الأدلة وفقه الخلاف فإنه بإذن الله سوف يكون من أئمة الإسلام. نقرأ مستعينين بالله.
أما بعد: فهذا مختصر في الفقه على مذهب الإمام المبجل، والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه، جعلته على القول الصحيح مما اختاره معظم الأصحاب؛ تسهيلاً على الطلاب، وتذكرة لأولي الألباب، مع كثرة علمه، وقلة حجمه، نسأل الله النفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم بمنه وكرمه؛ إنه منان كريم ].
هذه مقدمة صاحب الكتاب وهو الشيخ محمد بن علي البعلي , سمي واشتهر بـابن أسبار سلار , وقد اختلف من ترجم في معنى هذه العبارة, فبعضهم يقول: إن الأصح أنها أسفا سلار, وهي كلمتان الأولى فارسية, والأخرى تركية, أسفا فارسية, سلار تركية, ومعناها: مقدم العسكر, أو مقدم الجيش, وهو الذي يقوده وله رأيه وتوجيهه في العسكر, ولعل أحد أجداده عرف بذلك, مثل الألقاب المشهورة عندنا كاللواء والفريق وغيرها. فهؤلاء هم الذين يكونون لهم أتباعاً, ويستشارون في هذا الأمر.
والإمام البعلي اشتهر بحسن المختصرات, فإنه اهتم بكتب أبي العباس بن تيمية رحمه الله واختصرها, وإليه المنتهى في زمانه عند أهل بلده في فقه الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل , وهو وإن لم يؤلف كثيراً في الفقه إلا أن كل من ترجم له ذكره بهذه الميزة, خاصة الإمام ابن رجب صاحب التصانيف الفقهية والحديثية, فإنه أشار إلى أنه الفقيه البارع صاحب التصانيف, وحسبك بإمام كـابن رجب يذكره بهذا.
وقد سئل عن أفضل كتاب في الحديث؟ فقال: عليك بكتاب أبي محمد مالك بن أنس , إلا أنه ليته لم يكتب ما بعد الحديث, وهو قول مالك : والأمر المجمع عليه عندنا, فكره الإمام أحمد أن يكتب مع الحديث شيء؛ وذلك لأجل التعظيم, فقد كان يعظم السنة, ويعظم القرآن, فكره أن يكتب أحد من أقواله مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فلما علم الله سبحانه وتعالى صدقه وإخلاصه قيض له من يكتب أقواله ويهتم بتخريجاته, فكان ذلك هو السبب الذي جعل بعض الفقهاء لا يذكر الإمام أحمد من ضمن الفقهاء, كـابن جرير الطبري و أبي عمر بن عبد البر , وإلا فإن الإمام أحمد رحمه الله من أفقه الناس كما قال الإمام الشافعي : خرجت من العراق ولم أجد رجلاً أعلم ولا أفقه ولا أورع ولا أزهد من أبي عبد الله بن حنبل , وقال: الإمام أحمد إمام في ثمانية: إمام في القرآن, إمام في السنة, إمام في الفقه, إمام في الورع, إمام في الزهد, إمام في الفقر, وذكر أمرين آخرين.
الشاهد من هذا هو أن الإمام أحمد رحمه الله لم يكن يحبذ من طلابه الكبار أن يكتبوا عنه, بخلاف أصحاب المذاهب الأخرى, فإن مذهب أبي حنيفة الذي كتب أقواله هم أصحابه الكبار, كـأبي يوسف و محمد بن الحسن , فإن الإمام الشافعي يقول: كتبت عن محمد بن الحسن حملي بعير, وحمل البعير يعني: يمين ويسار وهذا يدل على أنها كتب كثيرة, كذلك الإمام الشافعي نفسه كتب كتباً كثيرة, فإنه كتب عن محمد بن الحسن مسائل, فكان يذكر مسائل محمد بن الحسن ثم يستتبع ذلك بالآثار المرفوعة والموقوفة والمقطوعة من سلف هذه الأمة, وكتب ما يسمى بالإملاء, وكتب كتاب الأم.
كذلك مالك بن أنس كتب عنه أناس وخلق كثير, أما الإمام أحمد فإن أكثر ما روي عنه إنما هي مسائل، ثم جاء من جاء بعدهم فكانوا هم الطبقة الثانية الذين حرروا أقواله وتخريجاته وغير ذلك.
وكان من أئمة المذهب الذين اهتموا بالمذهب أبو محمد بن قدامة صاحب المغني، و المجد أبو البركات صاحب المحرر، والقاضي أبو يعلى ، و محفوظ الكلوذاني صاحب رءوس المسائل، وصاحب الإرشاد ابن أبي موسى الهاشمي ، و أبو العباس بن تيمية ، و ابن مفلح صاحب الفروع، و ابن رجب صاحب القواعد الفقهية، فإن هؤلاء هم الطبقة الثانية الذين حرروا مذهب الحنابلة، وقيدوا معرفة الراجح من المذهب.
معرفة المذهب عند الحنابلة على مراتب كما ذكر ذلك الإمام البعري في كتابه، وأشار إلى ذلك الإمام المرداوي في مقدمة كتاب الإنصاف حيث قال: إن مذهب أحمد هو ما مشى عليه معظم وجمهور الأصحاب، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن من عرف مسائل أحمد وقرأ مسائل كبار أصحابه لا يخفى عليه مذهب أحمد .
وطريقة المتقدمين في معرفة المذهب تختلف عن طريقة المتأخرين، وأقصد بالمتقدمين طبقة أبي العباس بن تيمية وطبقة أبي محمد بن قدامة وطبقة الإمام المرداوي وطبقة ابن رجب فإن المرداوي قسم معرفة مذهب الإمام أحمد على مراتب فقال:
الأول: ما ذهب إليه معظم الأصحاب، فإن اختلفوا فما ذكره أبو محمد بن قدامة في مغنيه و المجد أبو البركات في شرح الهداية، وما ذكره ابن مفلح في الفروع، وما ذكره أبو العباس بن تيمية و ابن رجب ، ثم قال: فإن اختلفوا فما توافق عليه الشيخان، ويقصد بالشيخين في كتب الحنابلة هم: أبو محمد بن قدامة و المجد أبو البركات ، فإذا اتفق أبو محمد بن قدامة و المجد أبو البركات على قول فهذا هو المذهب، وإن اختلفوا فما قدمه وحرره ابن مفلح في الفروع، فإنه قال: لا أعلم كتاباً أعظم في تحرير المذهب من كتاب ابن مفلح صاحب الفروع، فإنه ذكر المذهب بدليله، فإن لم يرجح صاحب الفروع فهو ما ذكره ابن رجب في القواعد، وذكر أبو العباس بن تيمية في كتبه، وأما ابن تيمية فإنه كثيراً ما يذكر ترجيح أحمد على ما يختاره أبو موسى الهاشمي في كتاب الإرشاد، وهو كتاب حققه معالي الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله التركي ، وهو كتاب جيد لمعرفة ترجيح مذهب الإمام أحمد .
أما المتأخرون في زماننا فإنهم اعتمدوا في مذهب الإمام أحمد على ما مشى عليه صاحبي المنتهى والإقناع، فإذا ذهب المنتهى والإقناع على قول جعلوه هو المذهب، فإن اختلف المنتهى عن ما في الإقناع فإن بعضهم يقول: المذهب هو ما في المنتهى، وقال بعضهم: المذهب ما اختاره مرعي الكرمي في كتاب غاية المنتهى.
والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه قد تكلم على هذا الأمر وقال: معظم ما في المنتهى والإقناع مخالف للراجح من أقوال الإمام أحمد ؛ وإنما ذكر ذلك لأجل أنه كان في زمانه من يعظم المنتهى تعظيمه للقرآن، فأراد رحمه الله أن يكسر هذه الشوكة بهذا الكلام العظيم. ومن المعلوم أن العالم إذا رأى إقبال الناس على أمر أو على عالم، أو على كتاب، أو على أمر تعظيمهم للكتاب أو السنة، فإنه يتكلم بكلام قوي حتى يخفف هذا الأمر.
على كل حال: الآن أصبح معرفة مذهب الإمام أحمد في كتاب الإنصاف ميسوراً ولله الحمد، فإنه يذكر الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، والمقصود من مذهب الإمام أحمد هو ما اختاره الإمام بدليله، أو ما فعله وداوم عليه.
الثاني: ما قيس على مسألة نص عليها، يعني: لو أن مسألة لم يذكر للإمام أحمد قول فيها فيأتي أئمة المذهب فيقولون: هذه المسألة قول الإمام أحمد فيها كذا تخريجاً على ما ذكره في مسألة كذا، والتخريج: هو إلحاق ما لم ينص عليه الإمام بمسألة نص عليها بجامع العلة، وهي القياس في السنة، فإن القياس معناه: إلحاق فرع بأصل بجامع بينهما من الكتاب والسنة، وأما التخريج فهي إلحاق فرع بأصل بجامع علة من كلام الإمام نفسه.
واعلم أن التخريج على المسألة لا ينضبط ولا يمكن نسبته للإمام إلا تقييداً تخريجاً، يقال: تخريجاً، والتخريج والوجه والاحتمال ألفاظ تذكر كثيراً في كتب الحنابلة، وهي قريبة من بعضها البعض، إلا أنهم يقولون في الوجه: هو ما جزم به في الفتوى، يعني: الوجه ما يفتي به الأصحاب، وأما الاحتمال: فما يذكره أحد أئمة المذهب تخريجاً على مسألة ذكرها الإمام أحمد ، فالوجه والاحتمال والقول ألفاظ قريبة من بعض، إلا أن الوجه أقوى؛ لأن ما يفتي به أصحاب المذهب؛ ولأن احتمال العالم لقول كذا شيء، وفتواه بناءً على مذهب أحمد شيء آخر، فهو أقوى.
هذه مقدمة أحببت أن تكون في بداية هذا الكتاب؛ حتى نعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وعلى كل فإنه مهما بلغ العالم من العلم فإنه قد تضطرب عليه الأصول، فقد قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله؛ وذلك ليكون الدين كله لله.
لا أحد يمكن أن يكون قوله كله صواباً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم, وإلا فإن من نصب إماماً من أئمة الإسلام لا يأخذ إلا منه, ولا يترك إلا ما ترك, غير محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يستتاب, كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية ؛ لأنه لا أحد معصوم إلا محمداً صلى الله عليه وسلم, وقد تواردت كلمة الأئمة أنه كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب القبر, يعني: محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه, نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتبعين لسنته في السر والعلانية.
لا تصح إلا بماء مطلق، باق على أصل خلقته، لا بمستعمل قليل في طهر ولو مسنون، ولا بمتغير بمخالط يمكن صونه عنه كزعفران، لا ملح ماء وتراب ].
والراجح: هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله وهي أن التيمم رافع للحدث, ولم يأت ما يخالف ذلك من أقوال الصحابة إلا ابن عمر رضي الله عنهما فإنه فعل ذلك على سبيل الاستحباب, وذلك بأنه كان يتيمم لكل صلاة, وكونه يتيمم لكل صلاة لا يمنع أن يكون التيمم رافعاً للحدث؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وله شاهد من حديث أبي ذر أنه قال: ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء, فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ), وفي رواية: ( وإن لم يجد الماء عشر سنين ).
إذا زالت النجاسة عن هذا الماء فلا يطهر إلا بشرط: وهو أن يبقى كثير, فإن بقي قليل وهو دون القلتين لم يطهر, والراجح: أنه إذا نزحت النجاسة ونزح الماء المتغير فلم يبق للنجاسة أثر في هذا الماء فإنه يكون طهوراً ولو كان دون القلتين.
إذاً: طهورية الماء بثلاثة عند الحنابلة:
الأول: بزوال النجاسة بنفسها، الثاني: بإضافة ماء كثير إليه والراجح أنه يصح بشرط أن تزول النجاسة -والثالث: بنزحه ولكن بشرط أن يبقى بعده كثير, والصحيح: أن الماء يطهر بنزحه ولو بقي بعده قليل, بشرط إزالة النجاسة.
أما الماء القليل فإن الحنابلة يقولون: لا يصح إلا بالإضافة؛ ولذلك قال: [والقليل بالإضافة فقط].
ولو قال المؤلف: والقليل بالإضافة فقط بشرطه لكان أفضل، والمراد بقولنا: بالإضافة بشرطه، أن يكون المضاف ماءاً طهوراً كثيراً, هذا شرطه, فأما أن يقع قليل فلا؛ لأنهم يرون أنه ينجس بمجرد الملاقاة, والله أعلم.
المؤلف رحمه الله يقول: (ولا تجوز طهارة رجل بفضل طهور امرأة قليل خلت به).
العبارة فيها تقديم وتأخير, والمقصود أن المرأة البالغ إذا توضأت بماء قليل ولم يرها أحد حين خلت به ثم خرجت، فهذا الماء الذي هو الفضل -ومعنى الفضل: الباقي, يعني: كانت تغرف- فالباقي إذا كان قليلاً وخلت به امرأة لطهارة فإنه لا يصح -على المذهب- طهارة الرجل منه.
وأفادنا بقوله: (لا يصح طهارة رجل), أنه لو خلت امرأة بماء قليل لطهارة, فإنه يصح رفع الحدث لامرأة أخرى, أما الرجل فلا. ودليل الحنابلة على هذا أنه صح عن عبد الله بن سرجس -كما ذكر ذلك الإمام أحمد - أنه امتنع من الطهور من فضل وضوء امرأة خلت به, وأفادنا المؤلف بقوله: (فضل), استدلالاً بعموم حديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ), وهذا الحديث يفيد أن مجرد فضل وضوء المرأة سواء خلت به أم لم تخلُ فلا يصح التطهر به, قال الحنابلة: ولكننا قيدناه بتقييد الصحابي, وهذه مسألة أصولية وهي: أن فعل الصحابي قد يقيد عموم النص, مثال ذلك: ما زاد عن القبضة من اللحية, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعفوا اللحى ), وهذا عام قيده فعل الصحابي عبد الله بن عمر و أبي هريرة بما زاد عن القبضة، قالوا: فهذا يدل على أن فعل الصحابي يقيد عموم النص إذا لم يخالف, فهذه قاعدة عند الأصوليين اختارها الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية.
ومن ذلك قالوا: إن الصحابي عبد الله بن سرجس قيد حديث الوضوء بفضل المرأة في ما خلت به.
والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- أن هذا الحديث لا يفيد المنع, ولكن يفيد الكراهة التنزيهية؛ وذلك لأن في الحديث أيضاً: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة، وأن تتوضأ المرأة بفضل وضوء الرجل ), فدل ذلك على أن النهي إنما هو للكراهة وليس للمنع, ومما يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل وضوء
والحديث الوارد: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة ), تكلم العلماء في إسناده, وأكثر أهل العلم على أن الحديث فيه ضعف, وقد حسن الحديث الحافظ ابن حجر وقال: لا أعلم له علة, والحديث له طرق وفي سنده سماك بن حرب , وعلى كل حال فالحديث لو صح فإنه يفيد الكراهة التنزيهية, وإلا فإن العلماء أجمعوا على صحة وضوء المرأة بفضل وضوء الرجل, وقد قال ابن عمر رضي الله عنه: كان الرجال يتوضئون مع النساء, يعني: محارمهم.
على كل حال، الراجح: أن المرأة إذا خلت بالماء وتوضأت به لرفع حدث فإن الطهارة تصح, ولكن الأولى تركه, وهو يرفع الحدث؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه توضأ بفضل وضوء
يعني: إذا اشتبه على الإنسان هل هو طاهر أم غير طاهر؟ فإنه يبني على اليقين, واليقين هو أن ينظر إلى ما هو الأصل قبل طروء هذا الشك, فإذا كان يتذكر أنه توضأ, ثم شك هل أحدث أم لا، فالأصل أنه يرجع إلى اليقين وهو الطهورية, وإذا كان قد أحدث ثم شك, هل توضأ أم لا، فالأصل أنه يرجع إلى اليقين وهو الحدث.
يعني: لو أن عندنا إناءين، نعلم أن أحدهما طهور، والآخر نجس، لكننا لا نجزم أي الإناءين هو الطهور، فإن المؤلف يقول: يجب أن يتركهما جميعاً، فلا يتوضأ بأحدهما ولو كان عنده غلبة ظن، يعني: لو كان غلبة الظن عنده سبعين بالمائة أو ستين بالمائة أن هذا هو الطهور، لا يتوضأ منهما بل يتركهما ويتيمم؛ لأن التيمم إنما هو مع عدم وجود الماء حساً أو شرعاً، حساً مثل ألا نجده، وشرعاً مثل أن وجدنا الماء لكن الشارع -بناءً على القواعد الشرعية- منعنا أن نستعمله؛ لاشتباهه بنجس، فصار وجوده كعدمه.
والحنابلة يقولون: يتيمم ولا يشترط إراقتهما حتى يجزم أنه لم يجد الماء، خلافاً للشافعية، فإن الشافعية يقولون: يريقه حتى يجزم أنه لم يجد ماء؛ لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43].
والراجح والله أعلم: أنه يصح أن يتحرى, فإذا كان عنده أمارات على أن أحدهما طهور والآخر نجس بنى على هذه الأمارات, وصلى وتصح صلاته, فإن جاءه أحد فأخبره أن الذي توضأ به هو النجس وجب عليه أن يعيد الصلاة ولو بعد سنين؛ لأننا تيقنا أنه توضأ بماء نجس.
يعني: على مذهب من يقول بتقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس, لو أن عندنا إناء ماء طهور وإناء ماء طاهر, فوقعت فيه إحدى الطاهرات ومازجته مثل ماء الورد إذ اللون واحد, فاشتبه علينا, فقال الحنابلة: يتوضأ من هذا مرة, ومن هذا مرة؛ ليعلم أنه قد توضأ بالماء الطهور قطعاً؛ وذلك لأن الماء الطاهر لو وقع في أعضائه فإنه لا ينجسه.
والراجح: أنه يتحرى إذا كان بإمكانه أن يتحرى, وأما إذا كان وصف الماء باقٍ فإنه يتوضأ من أيهما شاء على الراجح، خلافاً لمن قسم الماء إلى ثلاثة أقسام.
مثاله: لو أن عندنا مائة ثوب, تسعة وتسعين منها نجزم أنها نجسة, وواحد نجزم أنه طاهر, والإنسان عريان, ويجب عليه أن يصلي بستر العورة, فماذا يصنع؟
الحنابلة يقولون: لا يصح التحري, بل يبني على اليقين, واليقين هنا أن تصلي بعدد النجس الذي تجزم فيه بنجاسته, وعدد النجس هنا تسعة وتسعون ثوباً, وصلِ بثوب آخر مرة واحدة؛ لنجزم أنك قد صليت بطاهر, وهذا مشكل.
والراجح والله أعلم: أنه يتحرى، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتحري في أعظم شيء وهو الصلاة, فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود : ( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون, فإذا نسيت فذكروني, وإذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليتحر الصواب وليبن عليه ... ) الحديث, ففي قوله: ( فليتحر الصواب ), دلالة على أن له أن يبني على غلبة الظن, وغلبة الظن معمول بها في غالب الشريعة, وقد أجمع العلماء على أن غلبة الظن نوع من أنواع العلم, سواء كان العلم اليقيني أو العلم الظني على خلاف بينهم.
وعلى هذا فإن المطالبة بأن يصلي بعدد النجس ويزيد الصلاة بالثوب الآخر فيها من المشقة التي لم يكلفنا الله تعالى بها, وقد قال الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286], قال الله كما في صحيح مسلم : ( قد فعلت ), فدل ذلك على أن له أن يصلي بالتحري ولا يأخذ بمذهب الحنابلة.
أنا أذكر أني تركت صلاة يوم السبت, لكن لا أدري أهي الفجر أم الظهر أم العصر أم المغرب أم العشاء:
فالحنابلة يقولون: يصلي الخمس الصلوات كلها, والقول الثاني: قالوا: يصلي الفجر ثم المغرب ثم يصلي صلاة واحدة رباعية؛ لأن صلاة الفجر لا يقاس عليها شيء, وصلاة المغرب ثلاث لا يقاس عليها شيء, ثم يصلي صلاة واحدة رباعية؛ لأنها إما أن تكون الصلاة التي نسيها هي الظهر، وإما أن تكون العصر, وإما أن تكون العشاء, وإذا كان مسافراً صلى ركعتين للرباعية, إما أن تكون الظهر وإما أن تكون العصر وإما أن تكون العشاء, ويصلي الفجر ركعتين والمغرب ثلاث ركعات.
والراجح -والله أعلم-: أنه يتحرى ما يغلب على ظنه ويصلي مرة واحدة, إما الظهر وإما العصر وإما المغرب وإما العشاء.
وبهذا نكون قد انتهينا من باب الطهارة، ولعلنا نقف عند هذا, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر