الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وبعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الصلح
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حل حراماً أو حرم حلالاً )، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم.
فإذا صالحه عن عين بعين أخرى أو بدين جاز، وإن كان له عليه دين فصالحه عنه بعين أو بدين قبضه قبل التفرق جاز، أو صالحه على منفعة في عقاره أو غيره معلومة، أو صالحه عن دين مؤجل ببعضه حالاً، أو كان له عليه دين لا يعلمان مقداره فصالحه على شيء صح ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة على جداره)، رواه البخاري].
المؤلف يقول: (باب الصلح)، الصلح: عقد يرفع النزاع بالتراضي.
وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع العلماء، كما قال الله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )، وهذا الحديث رواه أبو داود و الترمذي ، وفي سنده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف؛ ولأجل هذا الرجل ذكر العلماء أن الترمذي رحمه الله متساهل في التصحيح بسبب أنه يصحح أحاديث أناس علم أنهم ضعاف، ولكننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الصلح بما جاء في الصحيحين عن كعب بن مالك ( أنه تقاضى ديناً له على
القسم الأول: صلح مع إقرار، وهو أن يقر المدين بالدين الذي في ذمته على دائنه، ثم يتصالحا على شيء بدل هذا الدين الذي ثبت في الذمة.
القسم الثاني: صلح مع إنكار، وهو أن يتصالح المدعي مع الآخر على مبلغ من المال؛ كي تنقطع الخصومة.
والصلح مع الإنكار اختلف العلماء فيه، فمنعه الشافعي، وجوزه جمهور الفقهاء وهو الراجح كما سوف يأتي تفصيله.
وأما الصلح مع الإقرار فلا يخلو من حالين: أن يصالحه على بعض الجنس الذي ثبت في ذمة المدين، مثل: أن يكون في ذمة المدين مائة ألف ريال، ثم يصالحه على أن يعطيه ثمانين ألفاً وتبرأ ذمة الجميع، فهذا صلح من جنس الحق، وأما إذا كان من غير جنسه فهو أن يكون ثبت في ذمته مائة ألف ريال فيقول: أعطيك بدلها سيارة، أعطيك بدل مائة ألف طعاماً.
والفرق بينهما: أنه إذا كان الصلح من جنس الدين فإنه يكون هبة أو إبراء من قبل الدائن، وهذا لا بأس به عند عامة أهل العلم؛ لأن للدائن أن يبرئ المدين من كامل دينه، وله أيضاً أن يبرئه من بعض دينه، وهو حق له لا يعدوه، فدل ذلك على أنه إن أبرأه ببعض الدين جاز له ذلك والله أعلم، وعلى هذا فيكون هبة، وإذا قلنا: هبة أو إبراء جاز أن يقبض في مجلس العقد وجاز أن يؤخر، فإذا تفرقا فإنه لا يسوغ له أن يرجع؛ لأنه عائد في هبته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه )، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وقد ثبتت الهبة؛ لأن العلماء يعتبرون هذا قبضاً.
وأما قضاءً: فإن كان المدين قد أثبت ذلك عند القاضي فله أن يطالبه، وإلا فليس له إلا ما ثبت في ذمة الأصل، وهذه من الحقوق التي يفرق بينها قضاءً وديانة، ولو وجد بحث في القضايا التي يفرق بينها قضاءً وديانة وتجمع فيه المسائل لكان فيه شيء كثير.
أما أن يصالحه على غير الجنس الذي ثبت في ذمته، كما لو ثبت في ذمته مائة ألف ريال فأعطاه بدلها سيارة، أو مائة ألف ريال فأعطاه بدلها ثمانين ألف دولار، فالعلماء رحمهم الله يقولون: هذا يكون في حكم البيع.
قالوا: وإذا كان في حكم البيع فلا بد فيه من شروط:
الشرط الأول: أنه لا يجوز لهما أن يتفرقا، فإن تفرقا صار من بيع الدين بالدين؛ لأنهم قالوا: إذا كان المدين عليه مائة ألف ثم صالحه على سيارة ثم تفرقا، صارت السيارة ديناً، والمال دين، فيصير بيع دين بدين.
الشرط الثاني: ألا يربح من هذا الدين، فإذا ثبت في ذمته مائة ألف ريال، فلا يجوز أن يعطيه سيارة قيمتها مائة وخمسون مقابل المائة ألف؛ لأنه سوف يكون قد ربح ما لم يضمن.
أصور لكم المسألة: الآن أنا دائن، وعيسى مدين، أعطيت عيسى مائة ألف ريال إلى سنة، فبعد أن حل الدين قلت لعيسى: أعطني مائة ألف ريال، قال لي: أعطيك من غير جنسها، أعطيكها ثلاثين ديناراً كويتياً، هذا صلح مع إقرار من غير جنس الحق الذي ثبت في الذمة، إذاً: يكون حكمه حكم البيع، والذي ثبت في ذمته دين، فيقول العلماء: يشترط ألا يتفرقا؛ لأنه إذا قال: بثلاثين ألف دينار ثم تفرقا صار ربا نسيئة.
الثاني: أنه لا يجوز لي أن أربح، فلو كان الذي ثبت في ذمة عيسى مائة ألف ريال، فنقول: كم قيمة مائة ألف ريال الآن في السوق بالدينار؟ فإن كان مثلاً يساوي خمسة وعشرين ألف دينار كويتي، يجب أن يعطيني خمسة وعشرين ألف دينار كويتي، ولا يعطيني ثلاثين ليربحني، لأن هذا من باب ربح ما لم يضمن وهو لا يجوز، أو كانت قيمة السيارة مائة وعشرين، فقال: خذ هذه بمائة وعشرين؛ لأجل أن أربح، الآن ربحت أنا عشرين ألفاً، وهذا لا يجوز؛ لما جاء من حديث ابن عمر عند أهل السنن، أنه قال: ( يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير )، يعني: الذي ثبت في ذمة المدين دنانير، ثم آخذ دراهم أو العكس، ثبت في ذمته دراهم ثم آخذ دنانيراً ( فما الذي يجوز لي منها، وما الذي لا يجوز؟ قال: لا بأس أن تبيعها )، أي تبيع الدراهم التي لك في ذمة الغير: ( بسعر يومها )، أي يوم التقاضي ( ما لم تفترقا وبينكما شيء )، فتنظر سعر الدنانير التي ثبتت في ذمة عيسى، تقول: كم قيمتها في السوق؟ ثم تتقاضاه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشترط ألا يربح.
فإذا كان بين العين أو الشيء الذي يباع وما ثبت في ذمة الغير مما يجري فيه الربا فلا يجوز التفرق وإلا جاز، وهذا اختيار ابن تيمية .
إذاً: الشرط الأول: ألا يربح، والثاني: إذا كان الذي ثبت في ذمة عيسى مائة ألف ريال وقلت: أعطيك بدلها سيارة، يقول: السيارة جائز أن تتفرق بينها وبين المائة ألف.
إذاً ابن تيمية يقول: الشرط الأول: ألا يربح، والثاني: إذا كان بين الذي ثبت في الذمة وبين ما يعاوض عليه مما يجري فيه الربا فيشترط عدم التفرق، وإلا جاز التفرق.
مثال: الآن في ذمة عيسى مائة ألف ريال حلت، قلت: يا عيسى! أعطني مائة ألف، قال: سأعطيك سيارتي التي في البحرين، موديل كذا وكذا، إذاً: هي عين، ثم تفرقنا على ذلك، فهذا يقول ابن تيمية : جائز بشرط ألا يربح، يعني تكون قيمة السيارة في البحرين مائة ألف، وأما التفرق فيجوز؛ لأنه لا يجري الربا بين السيارة وبين المال، وهذا القول قوي، والله تبارك وتعالى أعلم.
يقول: (أو بدين، جاز) إذا كان هذا الدين لا يجري بينهما الربا كما قال ابن تيمية رحمه الله، فإذا قلت لعيسى: الآن ثبتت في ذمتك مائة ألف ريال، قال: فأعطيك سيارة كامري موديل ألفين وتسعة بقيمة كذا؟ وهذا كله موصوف في الذمة فيكون ديناً، جاز؛ لأن العلماء يقولون: إن الذمة الحالة كالعين الحاضرة، فمائة ألف إذا حلت فكأنها حاضرة، فلا يكون بيع دين بدين، بل يكون بيع الساقط بالواجب، وهو جائز عند ابن تيمية و ابن القيم وقول عند مالك رحمه الله، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال: (أو بدين قبضه قبل التفرق) يعني: إذا قلت: أبيعك سيارة كامري مواصفاتها كذا وكذا، قلت أنت: قبلت، أقول لوكيلي: اذهب فأتني بالسيارة على نفس المواصفات، ونحن ما زلنا في مجلس العقد فإنه جائز؛ لأن هذا قبل التفرق، والله أعلم، لحديث ابن عمر.
ثم قال المؤلف: (أو صالحه على منفعة في عقاره أو غيره معلومة)، يجوز أن يعتاض على المنفعة، الآن عيسى عنده عقد العقد الذي يسمونه الآن تايم شيري له إقامة أسبوع في دار التوحيد في رمضان، كل سنة له أسبوع، وأنا أطلب عيسى مائة ألف ريال، قلت لعيسى: الآن ثبت في ذمتك مائة ألف ريال، أريد أن أقيم أسبوعاً في دار التوحيد في رمضان بأخذ المنفعة التي لك، فهذا جائز ولا بأس بذلك، والله أعلم.
صورة المسألة: عيسى اشترى مني سيارة بمائة ألف ريال إلى سنة، فلما مضت ستة أشهر احتجت إلى شيء من المال، فقلت لعيسى: أعطني بعض الدين الذي ثبت في ذمتك وأسقط جزءاً من الدين؛ لكي يسقط جزءاً من الأجل، هذه المسألة يسميها العلماء: مسألة ضع وتعجل، وقد اختلف العلماء في حكمها، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن مسألة ضع وتعجل لا تخلو من أحوال:
الحالة الأولى: أن يتفقا في العقد على أنه متى ما أتاه ببعض الثمن سقط الأجل، فإن كان هذا اتفاق من حين إبرام العقد فإنه لا يجوز عند عامة أهل العلم؛ لأنه من باب بيعتين في بيعة، فهما لم يتفرقا ولا يعلم هل باعه إلى أجل سنة أو إلى أجل ستة أشهر أو ثمانية أشهر، فإذا اشترى مني عيسى سيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم قال لي عيسى: ألتزم بالعقد على أنني متى ما أتيتك ببعض الثمن في ستة أشهر فإنه يسقط من الربح بقدره، فاتفقنا على ذلك في العقد، فهذا لا يجوز؛ لأننا إذا تفرقنا فلا ندري هل العقد على مائة ألف إلى سنة أم إلى ستة أشهر أم إلى أربعة أشهر فصار من باب بيعتين في بيعة.
الحالة الثانية: ألا يكون هناك اتفاق أثناء العقد، وإنما هو وعد أو لم يكن هناك وعد، مثل ما تفعله البنوك، تقول: إذا قام العميل بتسديد بعض الثمن قبل مدته فيحق للبنك أن يقبل بثمن يتفقان عليه في وقته، وهذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم وجد هذا الشرط أم لم يوجد.
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والمذهب عند الحنابلة إلى حرمة ذلك، وأن ذلك من باب الربا.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها ابن قدامة و أبو العباس بن تيمية و ابن القيم والمؤلف ابن سعدي رحمة الله تعالى على الجميع، على أن ذلك لا بأس به، والدليل قالوا: لأن الشارع يتشوف لإبراء الذمم، فكما أن الأجل وقع في الثمن فهذا أسقط حقه في الأجل، وهذا أسقط حقه في الثمن، ولا بأس بذلك.
وأما حديث الزبير بن العوام الوارد عند أبي داود في قصة اليهود الذين قالوا: (إن لنا ديوناً للغير قال: ضعوا وتعجلوا)، فهذا حديث ضعيف، ولكن الصحيح أن ذلك لا بأس به، والله أعلم.
قال: (فصالحه على شيء صح ذلك)؛ لأن ذلك من باب قطع الخصومة، والصلح جائز بين المسلمين.
الحديث رواه البخاري و مسلم، وهذه المسألة متعلقة بأحكام الجوار، وقد ذكرها المؤلف في باب الصلح، وذكرها العلماء أيضاً في باب الصلح؛ لأن الجار قد يعتريه مع جاره بعض الخلاف فناسب بينهما الصلح فذكرت هنا.
ومن الأحكام المتعلقة أن للجار أن يغرز خشبة في جدار صاحبه، بشرط ألا يتضرر جدار الصاحب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، كما في حديث أبي سعيد عند ابن ماجه وأحمد ، وقد تكلم فيه الحفاظ، وقواه ابن رجب، فإن كان الجدار يتضرر فلا يجوز؛ لأنه ليس مصلحة الجار بأولى من مصلحة صاحب الجدار.
واعلم أن الجار إذا كان أعلى من جاره وجب على الجار الأعلى أن يسد كل فتحة يشرف منها إلى بيت جاره، سواء كانت نوافذ -كما ذهب إلى ذلك الإمام أحمد وبعض الشافعية- أو كان الجدار قصيراً، وجب أن يغطي جداره؛ لأجل ألا يكشف بيت جاره، إذاً: المأمور هو الأعلى، وأما إذا تساويا مثل الموجود الآن فلا يلزم أحدهما أن يغطي النوافذ التي تشرف على جاره؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.
وهنا نكون قد انتهينا من باب الصلح.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر