الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الوكالة والشركة والمساقاة والمزارعة.
كان النبي صلى الله عليه يوكل في حوائجه الخاصة وحوائج المسلمين المتعلقة به، فهي عقد جائز من الطرفين، تدخل في جميع الأشياء التي تصح النيابة فيها من حقوق الله كتفريق الزكاة والكفارة ونحوها، ومن حقوق الآدميين كالعقود والفسوخ وغيرها، وما لا تدخله النيابة من الأمور التي تتعين على الإنسان وتتعلق ببدنه خاصةً كالصلاة والطهارة والحلف والقسم بين الزوجات ونحوها لا تجوز الوكالة فيها].
قال المؤلف: (باب الوكالة)، الوكالة في اللغة: التفويض، وأما في اصطلاح الفقهاء: فهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، بمعنى: أن يستنيب الشخص الذي يملك التصرف غيره فيما تدخله النيابة.
وهي ثابتة في الكتاب والسنة وإجماع العلماء، أما الكتاب فقول الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19].
وأما السنة فقال المؤلف: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوكل في حوائجه الخاصة)، دليله ما رواه البخاري من حديث عروة البارقي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري له شاة، فذهب إلى السوق فاشترى بالدينار شاتين، ثم باع إحداهما بدينار، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، فكان لو اشترى التراب لربح فيه )، وهذا الكلام حين كان التراب ليس فيه ربح، أما الآن فالتراب أصبح غالٍ، فهذا يدل على أن المال أنواع، يمكن أن يكون في الزمن مال، ويكون في زمن آخر ليس بمال، فكأن الراوي يذكر صورة بعيدة (لو اشترى التراب لربح فيه)، والآن التراب أغلى أحياناً من قيمة الأرض.
يقول المؤلف: (وحوائج المسلمين المتعلقة به)، فقد ثبت في البخاري من حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم وكله بحفظ زكاة رمضان).
وقال صلى الله عليه وسلم: ( واغد يا
ثم قال المؤلف: (تدخل في جميع الأشياء التي تصح النيابة فيها)، والتي تصح النيابة فيها حقوقان: حقوق لله، وحقوق للآدميين، فليست كل الحقوق التي لله تدخلها النيابة، كما أنه ليست كل الحقوق التي للآدميين تدخلها النيابة، بل لا بد فيها من تفصيل.
فضابط القسم الأول -وهي حقوق الله التي تدخلها النيابة-: أنها كل حق الله يتعلق بمال أو يغلب عليه المال.
مثل: تفريق الزكاة، أو إعطاء الزكاة بدل صاحبه إذا رضي، أو إعطاء الكفارة، أو الحج؛ لأن الحج فيه شائبة مال: ( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقضوا فالله هو أحق بالوفاء )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( حج عن أبيك واعتمر )، وقال صلى الله عليه وسلم في الزكاة: ( وأما
وضابط القسم الثاني -وهي حقوق الآدميين التي تدخلها النيابة-: أنها كل حق للإنسان لا يتعلق بشخصه، كالعقود، والفسوخ، والتوكيل في الطلاق، والتوكيل في النكاح.
وأما ما تعلق بشخصه سواء كان من حقوق الله أو حقوق الآدميين فلا تدخلها النيابة، كالصلاة؛ لما جاء عند عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس و ابن عمر أنهما قالا: ( لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد ).
وكذا الطهارة فإن الإنسان إذا كان يريد أن يصلي فلا يقول لشخص: توضأ عني؛ لأن الحدث وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها.
وكذلك الحلف فلا يقول: يا فلان! احلف عني، فهذا خطأ.
ومثله القسم بين الزوجات، فلا يجوز للإنسان أن يوكل غيره في أن يستمتع بنسائه؛ لأنه متعلق بشخصه.
يقول المؤلف: (فكل هذا لا تجوز الوكالة فيها)، ولهذا قال المؤلف: (فيما تدخله النيابة)، وهذا مما لا تدخله النيابة.
إذا وكل الرجل شخصاً على شيء، فإن الأعراف لها أثر في هذا، فعلى هذا لا يجوز للوكيل أن يتصرف بما يخالف العرف، سواء كان يخالف العرف حفظاً أو مطالبة، فإذا وكله مثلاً فقال: اذهب فاقبض الثمن من فلان ولا تتأخر، وجلس حتى تأخر وتضرر الموكل، قال له: لماذا لم تذهب؟ قال: ليس لدي سيارة، قال: لماذا لم تستأجر سيارة وتحسب أجرتها علي؟ قال: لم تقل لي، من الضار هنا؟ الوكيل؛ لأنه يجب عليه أن يتصرف بالعرف، فالعرف يقتضي أن يأخذ سيارة فيتصرف بمثل ذلك.
كذلك إذا قبض الشيك فلا بد أن يقبض بإيصال، فإذا لم يفعل فيكون هذا نوع تفريط؛ لأنه مخالف للأعراف، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا قال الموكل لوكيله: لا تدخل أموالي في البحر، أو لا تسافر بها خارج الرياض، فسافر بها فإنه يعد مخالفاً لما وكل به فيكون ضامناً، وإذا خالف أيضاً ما ثبت العرف فيه فإنه يكون أيضاً ضامناً، والله أعلم.
ولهذا قال المؤلف: (ولا يتصرف الوكيل في غير ما أذن له)، سواء كان نطقاً أو كتابة، أو كان عرفاً، فإن خالف يعد ضامناً ويكون خائناً للأمانة.
يقول المؤلف: (ويجوز التوكيل بجعل أو غيره)، يعني: يجوز للوكيل أن يتوكل عن الغير بمال أو بغير مال، والمؤلف قال: (بجعل)، ولم يقل: بأجرة؛ لأجل ألا تكون الوكالة أجرة فيشترط لها ما يشترط في الإجارة، فقال: (بجعل).
والجعل: هو ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله، فهو أوسع، ولا يشترط فيه ما يشترط في الإجارة، وعلى هذا فيجوز للإنسان أن يتبرع، ويجوز أن يأخذ كالسمسار والخدمات العامة والمعقب ونحو ذلك.
والذي يأخذ بجعل أو لا يأخذ بجعل يعد أميناً.
قال المؤلف: (وهو كسائر الأمناء)، يعني: أنه أمين، لا ضمان عليه إلا بالتعدي والتفريط، سواء أخذ بجعل أو لم يأخذ، فإذا تصرف بالمال تصرف الموكل أو بالتصرف الموافق للعرف أو الموافق للشرط فإنه لا يضمن؛ لأنه أمين فلا ضمان عليه، إلا بالتعدي والتفريط.
وإذا هلك المال فإن ضرورة أن يكون أميناً جعلت قوله يقبل بيمينه، فإذا ادعى الوكيل -على كلام المؤلف- أن المال هلك بعد أن تصرف به تصرفاً شرعياً، مثل أن قال له: اذهب فاشتر لي تمراً فاشترى التمر، فوضعه في صندوق الدبسن أو الهايلوكس ثم جاء الوادي بالمطر فذهب بالسيارة حتى خرج هو من السيارة فقال: هلك المال بالسيل، يقول المؤلف: (يقبل قوله بيمينه).
وخذ قاعدة وهي: كل ما قرأت في كتب الفقهاء من قولهم: فلان القول قوله، فلا بد أن يكون ذلك مع اليمين، لكنهم أحياناً يذكرونه مع اليمين وأحياناً يختصرون ولا يقولون: مع اليمين، لكن الأصل أنه لا بد فيه من البينة مع اليمين.
والمؤلف قال: (ويقبل قوله في عدم ذلك باليمين)، والعلماء يفصلون في ذلك، فيقولون: إن ادعى الأمين الهلاك أو التلف فلا يخلو هذا التلف من حالين:
الحالة الأولى: إن ادعى سبباً للهلاك باطناً -يعني: ليس علنياً ظاهراً- كأن يقول: وضعت مالي ومالك عندي في البيت فجاء شخص فسرقه أو في سيارة فجاء شخص فسرقه، فقال العلماء: يقبل قوله بيمينه؛ لصعوبة إثبات هذه البينة، ولو طولب بالبينة لترك الناس الوكالة، فالأصل قبول قوله بيمينه.
الحالة الثانية: إن ادعى سبباً للهلاك ظاهراً، مثل أن يقول: والله الشيكات المصدقة التي أخذتها احترقت في المكتب.
إذاً: هو ادعى سبباً ظاهراً فلا بد أن يثبت الحريق، فإن كان المكتب ليس فيه حريق فلا يصح ما دعاه؛ لأنه مطالب بإثبات السبب الظاهر، وهذا هو قول أبي يعلى كما أشار إلى ذلك ابن قدامة ، ولعل هذا القول أظهر، وهو اختيار ابن سعدي رحمه الله.
قوله: (إن كان بجعل)؛ لأنه صار يتصرف لحظ نفسه؛ فلأجل هذا لا بد أن يبرئ ذمته في ذلك، وإن كان متبرعاً إنما تصرف لحق وحظ غيره فهو أمين، وعلى هذا فلا تجب البينة بل تكفي فيه اليمين، وهذا القول في الردود؛ لأن الوكيل لو ادعى الرد مع أنه تصرف فلا بد أن يثبت، وهذا كثير جداً، أحياناً يقول: أعطيتك، وهو لم يعطه، يقول: لم يكن بيننا شيء، وأنا أقول: دائماً العقود لم تجعل للاتفاق إنما جعلت للاختلاف، وعلى هذا فإذا كان يتصرف لحظ نفسه فلا بد فيه من البينة، والله أعلم، وإذا لم يتصرف لحظ نفسه بل متصدقاً أو محسناً فإنه يقبل قوله بيمينه.
بهذا نكون هنا قد انتهينا من باب الوكالة.
تبطل الوكالة بأمور:
أولاً: بموت أحدهما، إما موت الوكيل أو موت الموكل فتبطل، وعلى هذا فما يفعله بعض الإخوة في المخططات العقارية، فتجدهم إذا مات صاحب الأرض جاء أحد الورثة وهو الابن الكبير، فتصرف بهذا المال لأن الوكالة معه، فهو آثم، ولو تصرف بتصرف مصلحة يعد آثماً، إلا إذا رضي جميع الورثة فهذا شيء آخر، لأنه حقهم جميعاً.
ثانياً: الفسخ، فإن فسخ الوكيل بطلت الوكالة، أو فسخ الموكل بطلت الوكالة، وذهب الشيخ ابن سعدي رحمه الله إلى أن الوكيل إذا تصرف بالمصلحة أو بالعرف أو بالشرط، ولم يعلم بفسخ وكالته فإن تصرفه يعد صحيحاً.
إذاً: الفسخ لا بد فيه من العلم، وعلى هذا فإن تصرف الوكيل بالشرط أو بالعرف ولم يعلم بفسخ الوكالة فإن تصرفه يكون صحيحاً، هذا هو الراجح، والله أعلم؛ لأن الوكيل أحياناً يتصرف ببيع الأرض، ثم بعد يومين يقال: إن هناك مشروعاً في هذه الأرض فترتفع الأرض 50% في المائة أو 100%، ويقول الموكل بعد ما يتأسف لهذا البيع: أنا أفسخ عقد الوكالة، ثم يغير التاريخ ويقول: هذا الفسخ، هل يقبل قوله؟ لا، وعلى هذا فالراجح أن الوكيل إن تصرف بالشرط أو بالعرف ولم يعلم بفسخ الوكالة فتصرفه صحيح.
ثالثاً: الجنون، بأن يجن أحدهما أو يزول عقل أحدهما، وكذلك الحجر لسفه، والله أعلم.
وبهذا نكون قد انتهينا من باب الوكالة. والله أعلم.
الجواب: إذا كان عندك حساب جاري لدى بنك الراجحي مثلاً، وقمت بعملية سحب من بطاقة الصراف الآلي إلى بنك آخر، سمعت أن بعض الفضلاء يقول: هذا ربا لا يجوز؛ لأنه مال بمال، أرجو يا إخوان! أن تتضح صورة التعاملات المصرفية؛ لأن التعاملات المصرفية الآن أصبحت مثل القبض اليدوي بل أشد، فلو أعطيتك خمسمائة ريال فإنها يمكن أن تكون مزورة، لكن لو أدخلتها في حسابك فلا يمكن أن تكون مزورة؛ لأن القبض هنا أعظم أماناً من هذا.
والواقع أن مؤسسة النقد أوجدت شبكة سمتها الشبكة السعودية، وهو نظام يسمى: ساما، وليست سامبا، هذا النظام يجعل العميل يستطيع أن يفتح حسابه في جميع آلات الصرف، مقابل أجرة على فتح هذه النافذة، فإذا وضعت أنت بطاقة الصراف الآلي في صراف ليس هو بنكك فإن البنك يقوم بناءً على هذا النظام يقول مثلاً للبنك الأهلي: افتح حساب العميل عبد الله لدى مصرف الراجحي، فيقول: إنه يريد أجرة على الفتح، وهذه الأجرة تختلف، مرة أربع ونصف، ومرة عليها اثنين ونصف، فيفتح البنك ويقوم عبد الله بسحب ماله؛ لأن كل بنك له وعليه على البنك الآخر، وأنتم تعلمون أن النقود لا تتعين بالتعيين، فلو أعطاني الشيخ عيسى ألف ريال وقال: أعطها الفقير، فوضعتها في جيبي اليسار وعندي ألف ريال في جيبي اليمين، هل يجب أن أعطي الفقير الألف الذي في اليسار، أو أعطي الألف الذي في اليمين؟ لا يجب؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، ولو أعطاني خمسمائة ريال جديدة وأعطيت الفقير خمسمائة ريال قديمة فإنه يجوز؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين.
فهنا أنا عملت وأخذت من حسابي أنا وليس من حساب بنك الأهلي؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين وبنك الأهلي عليه للراجحي نقود، فهذا لا بأس به وليس من الربا، والله أعلم.
وإن كنت أقول: إن الأولى أن الإنسان لا يصرف إلا من بنكه؛ لأجل ألا يتضرر البنك، لأجل ألا يكون من باب القرض الذي جر نفعاً، وإن كان هذا من باب الوفاء والاستيفاء ويخفف العلماء ما كان من باب الوفاء والاستيفاء، والله أعلم.
الجواب: جاء عند الحسن البصري أنه قال: لا غيبة لمجهول، والحديث لا يصح مرفوعاً إلا أن أهل العلم جوزوا ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ ما بال كذا يقولون كذا؟ )، ( ولا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول )، هذا خبر حاصل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله من باب غيبة المجهول وهذا لا بأس به، والله أعلم.
الجواب: الإيجار المنتهي بالتمليك كعقد لا بأس به، بمعنى: أن تكون العين المؤجرة إجارتها إجارة حقيقية يترتب عليها ما يترتب على عقد الإجارة، فعلى المؤجر الضمان، وعلى المستأجر ضمان المنفعة دون ضمان العين، فإذا انتهت الإجارة صارت في ملك المؤجر إلا أن يهبه أو يبيعه بعقد جديد، إذا وجدت الإجارة بهذه الطريقة فهذا لا بأس به، وليست من باب بيعتين في بيعة؛ لأن هذه إجارة وبيع، كما أقول لك: يا عيسى! أبيعك برجي العقاري وتؤجرني، هذا جائز، أما لو قلت: أبيعك على أن تؤجرني صارت عقد في عقداً، أما أني أؤجرك وأهبك فهذا جائز.
لكن الإشكال: هو أن سائر وغالب المؤسسات التجارية التي تبرم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك تختلف من عقد لآخر، ولهذا لا نستطيع أن نعطي حكماً لكل العقود حتى نقرأ العقد الذي فيه، فبعض الشركات عقدها جائز؛ لأن ثمة شروطاً جعلت العقد لم يتغير، وهناك شركات ومؤسسات تجارية عقدها باطل؛ لأنها أوجدت شروطاً تجعل العقد إما عقداً صحيحاً والشرط فاسداً، وإما أن تجعل الشروط تفسد العقد، والله أعلم.
الجواب: نعم، ولو كان رهنه يستغرق جميع المال.
الجواب: الحنابلة رحمهم الله يقولون: إن كان الإسبال بغير خيلاء كره، وقاعدة المذهب أن الأحاديث الواردة في هذا الباب -أحاديث النهي- على عمومها، والذي يظهر -والله أعلم- أن النبي صلى عليه وسلم أعطى أحكاماً فقال: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، لم يشر عليه الصلاة والسلام إلى خيلاء أو غيره، وقال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره )، هذه رواية مسلم ، ورواية النسائي : ( المسبل إزاره خيلاء )، بدليل حديث ابن عمر : ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )، فهذا حكم آخر، ولا يمكن أن نقول: المطلق يحمل على المقيد؛ لأن العلماء اشترطوا في حمل المطلق على المقيد أن يكون حكمهما واحداً، وأما إذا اختلفا في الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد كما هو معروف عند سائر علماء الأصول، فهذا حكمه أنه: لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وهذا في النار فقط، فليس الحكم واحد.
إذاً: لا يسوغ لنا أن نحمل المطلق على المقيد، كما ذهب إليه عامة علماء الأصول والفقهاء، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فالإسبال خيلاء أشد، وغير الخيلاء حرام، ثم إني أقول: يا إخوان! هب أنه خيلاء، أصلاً لو أنك لبست برمودة خيلاء فإنه حرام، يعني: فلو لم تكن لابساً سواها، وكنت رافعاً ثوبك خيلاء فأنت آثم؛ لوجود الخيلاء، فالخيلاء: عمل قلبي وليس عملاً فعلياً حسياً، كما كان أبو هريرة يقول عندما جاء أمير البحرين: لا ينظر الله إلى من مشى خيلاء، أو غير ذلك، والله أعلم.
الجواب: هذه المسألة صار فيها حظ نفس؛ وذلك لأننا أحياناً لا ننظر للمسألة بدليلها، بل ننظر المسألة؛ لأجل أننا لا نحتاج إليها، فننظرها بعين غير العين التي ننظرها إلى أننا محتاجين إليها، أنا أريد أن أبين لكم المسألة وإن كان فيها شيء من الطول.
العلماء رحمهم الله كالحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: لا بأس أن يأخذ ما زاد عن القبضة في حج أو عمرة، كما روى ذلك مروان الأصفر عن ابن عمر أنه كان يأخذ ما زاد عن القبضة في حج أو عمرة، وثبت بإسناد صحيح كما يقول أبو عمر ابن عبد البر ورواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قال: التفث: الأخذ من اللحية وتقليم الأظفار وحلق الشعر، يقول الأثرم لـأحمد بن حنبل : سألت أبا عبد الله : هل يأخذ من لحيته؟ قال: ما زاد عن القبضة، قلت: ألم يقل صلى الله عليه وسلم: ( وفروا اللحى )، قال ابن عمر روى هذا الحديث وهو يأخذ، قال العلماء: قول الإمام أحمد أن ما زاد عن القبضة لا يخالف الحديث؛ لأنك إذا فعلت أقل الواجب أجزأ، مثلاً: إذا قلت لك: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، فلإقامة الصلاة لا يجب أن تفعل الواجب والمستحب، حتى تؤجر على ذلك، كذلك (وفرو اللحى) هناك واجب وهناك مستحب، فالواجب: هو أن تكون كثيفة، ويقدرها العلماء بالكثافة عرفاً ما زاد عن القبضة، هذا قول عامة أهل العلم.
بل إن الشافعي في الأم، يقول في الحج: وأحب له أن يأخذ شيئاً من رأسه ومن لحيته، يعني: جعله تقرباً إلى الله واستحباباً، هذا قول الأئمة الأربعة، يقول أبو عمر ابن عبد البر : وإذا جاز لـابن عمر أن يأخذ في الحج والعمرة مع أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ، دل على أنه لا فرق في الحج أو غيره، وهو ما زاد عن القبضة.
أما ابن تيمية و النووي رحمهما الله قالوا: والأولى عدم الأخذ، يعني: الأولى الترك، هذا قول النووي من الشافعية، وقول ابن تيمية ، وكلهم اتفقوا على أن ما تطاير من اللحية لا بأس بأخذه وليس له حكم، مثل شعرة طويلة، ويسميه العلماء: ما تطاير من اللحية.
الأمر الثالث: ما كان دون القبضة، مثل ما يفعله الآن بعض الإخوة.
قال ابن عابدين الحنفي: وأما الأخذ بما دون القبضة فهذا لا يحل بلا نزاع، يعني: لم يرخص فيه بلا نزاع، يعني: لا تأخذ ما دون القبضة بلا نزاع، وذهب بعض المالكية إلى المنع مطلقاً، يعني: ما دون القبضة منع، ووجد بعض المتأخرين من المالكية من رخص فيه، وبالغ ابن العربي في التشديد والتنكير على ذلك.
وأما قول بعض الإخوة: إن الأخذ من اللحية مباح، فهذا قول شاذ، ولم يقل به أحد من أهل العلم، والمقصود بأهل العلم: أي الأقوال المعتبرة عند الأئمة، وإلا لو أخذنا بالأقوال الشاذة عند بعض الفقهاء لوجدنا أقوالاً كثيرة جداً جداً، ولهذا يجب على الإنسان حين يبحث أي مسألة أن يتقي الله سبحانه وتعالى.
وأنا أقول كما هو رأي ابن تيمية و النووي: الأولى أن يتركها الإنسان، إلا ما تطاير منها، وأكون صريحاً معكم هل عبد الله السلمي قال هذا القول؛ لأن لحيته ليست كثيفة، فهو ليس بحاجة إليها، أم قال ذلك لأنه أقوى دليلاً؟ ولهذا ينبغي لـعبد الله أن يتقي الله في هذا الأمر، هل قال ذلك لأجل الدليل أم قال ذلك لأنه ليس بحاجة إليها؟ ولهذا قال عبد الله بن المبارك : العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ولم يقل أحد بأن الأخذ واجب إلا قول لبعض علماء الحنفية والشيخ الألباني بالغ في ذلك، وهذا القول كما هو لا يخفى بعيد كل البعد، والله تبارك وتعالى أعلى وأحكم وأعلم.
لعلنا نقف عند هذا.
والله أعلم
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر