الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
يقول المؤلف رحمه الله: [باب الشركة:
وقال صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما ), رواه أبو داود .
فالشركة بجميع أنواعها كلها جائزة، ويكون الملك فيها والربح بحسب ما يتفقان عليه إذا كان جزءاً مشاعاً معلوماً].
قول المؤلف: (باب الشركة), الشركة في تعريف الفقهاء: هي اجتماع في استحقاق أو تصرف.
وهذا التعريف يدخل فيه شركة الأملاك, وشركة العقود. وشركة الأملاك: هي اجتماع في استحقاق, مثل أن أشترك أنا وأنت في ملكية هذه الأرض، وتكون مشاعة بيننا, لي النصف ولك النصف.
ومثل: أن يتوفى شخص فيرثه أبناء, فهؤلاء الأبناء شركاء مع بعضهم البعض في هذه الأرض, فتكون شركة أملاك.
والقسم الثاني: شركة عقود: وهي أن يجتمعا في تصرف, فيتصرف كل واحد من الشركاء أصالة عن نفسه ووكالة عن غيره, وهذه يسميها العلماء: شركة عقود, وشركة العقود في الفقه الإسلامي لها أنواع كما ذكرها المؤلف رحمه الله.
وهي ثابتة كما قال الله تعالى في كتابه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ص:24], وهذا يدل على أن الشراكة موجودة في عهد الإسلام وقبل عهد الإسلام.
وأما الدليل من السنة: فقد روى النسائي من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه قال: اشتركت أنا و عمار و سعد بن أبي وقاص في معركة بدر, فجاء سعد بعبدين, ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء, وهذا يدل على جواز الشركة في الجملة.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للسائب بن يزيد حينما جاءه فقال: ( يا رسول الله! ألا تعرفني؟ قال: بلى, ألست شريكي الذي لا تماري ولا تداري؟), رواه أبو داود وسنده لا بأس به.
والأحاديث في هذا من حيث الجملة ثابتة.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن المؤلف ذكر أصلاً في هذا وهو حديث الباب, ومن طبيعة المؤلف أنه يذكر أولاً الأصل في الباب, سواء كان آية, أو حديثاً؛ ليبين أصلها, إلا أنه رحمه الله ذكر هذا الحديث من باب أن الله سبحانه وتعالى مع الشركاء.
والحديث رواه أبو داود وغيره كـالدارقطني و البيهقي وغيرهم, ولكن في سنده بعض الضعف, إذ يرويه سعيد بن حيان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً, و سعيد بن حيان مجهول, ولهذا أشار غير واحد من أهل العلم كـابن القطان الفاسي إلى أن الحديث ضعيف, وأعله الدارقطني أيضاً بالإرسال, وقال ابن عبد الهادي: هذا منكر.
وأصح شيء في الباب كما مر معنا هو حديث: ( ألست شريكي الذي لا تماري ولا تداري؟), وكذلك حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه, كما سوف يأتي بيانه, ورواية أبي عبيدة عن أبيه مقبولة.
وأجمع العلماء على أن الشركة جائزة ولكنها لا تصح إلا من جائز التصرف، وهو المكلَّف الحر, الرشيد, والرشيد ضد السفيه، وهو من لم يحجر عليه ماله, فهذا هو أعظم شرط في الشركة بأنواعها، وهو أن تكون من جائز التصرف.
صورتها: لو أن علي ديناً بمائة ألف لـعبد الملك, فقال عبد الملك: يا عبد الله! أعطني المائة ألف الدين الذي عليك, فقلت: يا عبد الملك! الآن الدين قد حل, فهل تحب أن ندخل في شركة أنا وأنت, منك المال ومني العمل, فقال: نعم, فآخذ الدين الذي علي وأضارب به, فيكون مضاربة, أو أقول: منك مائة ألف هو دين علي, وأضع أنا فوقه مائة ألف, فيكون شركة عنان, دفع كل واحد منهم مالاً, وعمل به أحدهما, فهذا لا بأس به, وهذا قول عند المالكية اختاره ابن تيمية و ابن القيم، وهو اختيار ابن سعدي رحمه الله على الجميع.
إذاً: لا يلزم أن يكون المال من النقد, فعلى هذا يجوز أن يكون ديناً حالاً, ويجوز أن يكون عرضاً, فلو أردنا أن نضارب في العقار, وعندي أنا بلك عقار, فقلت: هذا من ضمن الشركة, فلا حرج في ذلك أيضاً, خلافاً للحنابلة؛ فإنهم قالوا: ربما لا يباع إلا بعد زمن, فيكون له نماء, فإن النماء يكون لهما جميعاً مع أن الملك ما زال لصاحبه, والراجح: أنه من حين أن يدخله في الشركة صار ملكهما جميعاً, ولا يشترط تنضيضه, ومعنى التنضيض: قلب العرض إلى نقد, فلا يلزم تنضيضه, بل ربما تكون من أصل الشركة أن يكون عرضاً. والله تبارك وتعالى أعلم, هذا الشرط الأول.
واعلم أن المشاع هنا إنما هو مشاع من جهة الربح الذي سوف يحصل, وليس من جهة رأس المال, وبعض الإخوة خاصة أصحاب الشركات العقارية, يقولون: عندهم مساهمة, وهي: أن تعطنا مالاً ولك عشرون بالمائة من رأس مالك, وما زاد فهو لنا, فإن أدخلت مائة ألف فلك عشرون بالمائة، أي: عشرون ألفاً، وإن أدخلت مائتي ألف, فلك عشرون بالمائة، وهي أربعون ألفاً، وهذا مشاع لكنه مشاع من رأس المال، فهذا لا يجوز, وهذا يوجد عند بعض الشركات, وظنوا خطأ أن هذا موافق لقول الفقهاء, فإن الفقهاء يقولون: ربح مشاع من الربح الذي سوف يأتي, وليس من رأس المال.
وعلى هذا فإذا قال: لي ربح معلوم, أو لي عشرون ألفاً, أو لي ثلاثون ألفاً, أو أربعون ألفاً زائداً على الربح الذي سوف يحصل بيننا, فهذا فيه من الغرر ما لا يخفى.
وقد أجمع أهل العلم كما نقل ابن المنذر وغيره على أنه لو قال: لي ربح السفرة المعلومة, أو الربح المعلوم أو الدراهم المعلومة فإن ذلك محرم؛ لأن ذلك من الغرر, فجائز ألا يبقى من المال إلا هذا الربح الذي قد جعل لفلان دون فلان, ولهذا من الأخطاء أيضا أن يقول الشخص: الأرض التي في الجهة الشرقية لي, أو هذا الحوض لي؛ لأنه يجوز ألا يبقى إلا هذا الحوض, وبقية الأحواض تخسر, أو العكس, فيحصل فيه من التنازع والاختلاف ما لا يخفى.
إذاً: ثلاثة شروط.
أما قول البعض: لا بد من كون المال نقداً, ليس عليه دليل صحيح, وقول بعضهم: إذا كان عمل أحدهما أكثر من الآخر, فلا بد أن يكون ربحه أكثر من الآخر, أيضاً ليس عليه دليل إذا تراضيا على ذلك.
وإذا ثبت هذا فإن المؤلف ذكر أن يكون الملك فيها والربح بحسب ما يتفقان عليه, وإذا كان جزءاً مشاعاً معلوماً, يعني: من الربح الذي سوف يأتي.
الصورة الأولى كما ذكرها المؤلف: أن يكون كل واحد منهما يبذل شيئاً من المال ويبذل شيئاً من العمل, فمنهما المال ومنهما العمل.
الصورة الثانية من شركة العنان: أن يكون المال من كل واحد منهما ويكون العمل من أحدهما, فيصدق عليه أن تكون شركة عنان, إلا أن الحنابلة رحمهم الله ذكروا في هذه الصورة شرطاً: هو أن يكون ربح صاحب العمل أكثر من ربح صاحب المال لأجل العمل, والراجح والله أعلم أنه لا بأس أن يقتسما الربح فيما بينهما مشاعاً إذا تراضيا على ذلك.
فلو دفعت مائة ألف, وعبد الملك دفع ستين ألفاً, لكن عبد الملك يعمل, فقال: العمل والمال القليل مني والمال الكثير منك فالقسمة بيننا خمسين بالمائة من الربح لي, وخمسون بالمائة من الربح لك, فهذا لا بأس به, لكن الحنابلة قالوا: لا بد أن يكون لعمل عبد الملك جزءاً من الربح, فلو قلنا: مني مائة, ومنك مائة والربح بيننا, فإن الأحناف يقولون: هو جائز, لكن الحنابلة يقولون: لا يجوز, لأنه إذا انفرد أحدهما بالعمل فلا بد أن ينال شيئاً من الربح, والراجح -والله أعلم- أنهما إذا تراضيا فلا حرج, لأن المال لا يعدوهما, وجائز أن يرضى الطرف الآخر إذ كان له في هذه الشركة مصلحة.
فلو أن عندي أرضاً وأرى أنها فرصة استثمارية, وقيمتها مليون, وليس عندي إلا خمسمائة ألف, وأنا محتاج إلى خمسمائة ألف أخرى لكي أربح، علماً بأن هذه الأرض لو اشتريتها بمليون فإن ربحها قيمتها, فأنا مستفيد بدخول عبد الملك معي, وإذا كنت سوف أعمل فيها عملاً بمزايدة وذهاب إلى كتابة العدل, وعرضها في الأسواق, فإن دخول عبد الملك معي فيه منفعة لي, ولو كان الربح بيننا والعمل قد تفردت به, فإن الراجح جواز ذلك.
سميت مضاربة من الضرب؛ وذلك أن الإنسان يأخذ مال الغير ليضرب به في الأرض, يعني: يسافر به, وقد جاءت المضاربة بهذا الاسم على لغة أهل العراق, فإنما يسمونها مضاربة, وقد جاء القرآن على لغة أهل العراق في تسميتها مضاربة, قال تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20], وأما أهل الحجاز فيسمونها: قراضاً, ومعنى القراض: هو القرض, وهو القطع, فكأن كل واحد منهما يقطع لصاحبه جزءاً: هذا يقطع جزءاً من ماله, وهذا يقطع جزءاً من عمله, والله تبارك وتعالى أعلم.
وإذا خسر بأن اشتراه بألف ريال, ثم نزل السوق فلم يستطع بيعها إلا بتسعمائة ريال, فتكون الخسارة مائة, ولا يربح عبد الملك شيئاً ونقول: عبد الملك خسر عمله, وأنا خسرت شيئاً من المال. والله تبارك وتعالى أعلم.
شركة الوجوه سميت وجوهاً؛ لأن كل واحد من الشركاء يتقبل بوجهه من الناس, فيأخذ منهم البضاعة على أن يقوم بتصريفها, فإذا حصل له شيء من المال أعاد رأس مال البضاعة إلى أصحابها, وبقي له شيء من الربح, فسميت وجوهاً بهذا الاسم.
وهي جائزة على مذهب أحمد بن حنبل ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عن الجميع, وأما مالك و الشافعي فمنعوها؛ قالوا: لأن الشركة لا تكون إلا بمال أو عمل, وليس في شركة الوجوه مال ولا عمل, والصحيح: أن شركة الوجوه فيها الأخذ وفيها الإعطاء, وفيها الذمة، وهذا كله يعد عملاً, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وعلى هذا فالراجح والله أعلم: أن شركة الوجوه لا بأس بها, ومن ذلك: أن نتفق أنا وعبد الملك وليس عندنا شيء من المال, فأقول لعبد الملك: تعال, نفتح مكتباً عقارياً, نقوم فيه بتسويق العقار على الناس -وهذا عمل- فنأخذ البضاعة من الآخرين بمائة ألف, على أن نسددها بعد شهر أو شهرين أو بعد سنة, ثم نقوم بعرضها على السوق ببيعها, وما حصل من الربح نأخذه، والباقي يعود رأس المال على أصاحبها الذين اشتريناها منهم, فهذه تسمى: شركة وجوه.
وعلى كل حال شركة الأبدان لا بأس بها, وقد رواها النسائي , من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه قال: اشتركت أنا و عمار و سعد بن أبي وقاص في معركة بدر, قال: فجاء سعد بأسيرين, ولم أجئ أنا ولا عمار بشيء, فاقتسمناه بيننا, وهذا كان في أول الإسلام, إذ أن القسمة في الغنائم كانت أن من قتل قتيلاً فله سلبه، ثم جاءت الشريعة مبينة ما يكون للناس, وما يكون لبيت المال؛ وذلك قبل نزول سورة الأنفال, وحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه الصحيح: أنه مقبول, كما قال علي بن المديني و يعقوب بن سفيان و أبو العباس بن تيمية و ابن رجب ؛ وذلك لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود وإن كان لم يسمع من أبيه فإنه إنما كان يروي عن أصحاب ابن مسعود الكبار, كـعلقمة و الأسود , ومن المعلوم أنه إذا علم واسطة الراوي التي بينه وبين الراوي الآخر فإنه يقبل حديثه, هذا هو الصحيح. والله تبارك وتعالى أعلم.
النوع الأول: أن يشتركا بما يكتسبان بأبدانهما من المباحات, مثل أن نأخذ أنا وإياك السيارة, ثم نذهب ونحتطب, وما حصل من هذا الحطب بعد أن نبيعه نقتسمه, وهذا يسميه العلماء: اشتراك بما يكتسبانه من المباحات, كالاحتطاب والحشيش, وغير ذلك مثل صيد السمك ونحوه, وما يتقبلانه من الأعمال مثل: أن يفتح شريكان محل خياطة, أو محل نجارة, أو محل حدادة وما حصل لهما من المال فإنه يكون بينهما, فهذا لا بأس به, وهو مذهب جمهور أهل العلم, إلا أن المالكية قالوا: يجب أن يكون العمل الذي يتفقان عليه متحداً, فلو اشترك أحدهما في الخياطة, والآخر في الحدادة, فإن المالكية يقولون: لا يجوز, والصحيح: الجواز, ولا يشترط اتحاد العمل الذي يعملان به, هذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
قول المؤلف: (وما يتقبلانه من الأعمال), فلو أنهما فتحا محل حدادة, فجاء شخص فتقبل عمل فلة, على أن يقوم بصناعة الأبواب لها, فيجب على الآخر أن يلتزم بما التزم به شريكه؛ لأنهما اتفقا على هذا الأمر والله تبارك وتعالى أعلم.
شركة المفاوضة: هي الاشتراك في كل شيء.
وهي قسمان:
القسم الأول: أن يدخلا في الشركة الأكساب النادرة, كما لو قال أحدهما: أنا وإياك شركاء في كل شيء, حتى لو وجدت لقطة فأنا وإياك شركاء, وحتى لو ورثت من والدك فأنا وإياك شركاء, وحتى لو أصبت بجناية ما دون النفس, فجاءت حكومة فأنا وإياك شركاء في الدية, وحتى لو قطعت يدك خطأ فأعطيت الدية فأنا وإياك, هذه يسميها العلماء: أن يشتركا ويدخلا في الشركة الأكساب النادرة, فهذا باطلة عند عامة أهل العلم؛ لما فيها من كثرة الغرر, والجهالة وليس من أحدهما عمل.
القسم الثاني: أن يفوض كل واحد منهما صاحبه في شراء أو في عمل, أو في جاه, أو في مال, فيدخل فيه شركة عنان ومضاربة ووجوه وأبدان, فهذه معنى شركة المفاوضة.
صورتها: أن أدفع مائة ألف وتدفع أنت مائة ألف, وأعمل أنا, فهذه شركة: عنان.
ويمكن أن تكون مضاربة؛ لأن منك المال, ومني عمل لمال غير مالي.
ويمكن أن ندخل في هذه الشركة على أننا نتقبل من الناس شيئاً من البضائع على أن نقوم بتصريفها, فتكون شركة وجوه, أو أن نفتح محلاً, على أن نعمل فيه, وما حصل فهو ربح بيننا, فهي شركة أبدان, وهذا يدل على جوازها. والله تبارك وتعالى أعلم، ولهذا قال المؤلف: (وكلها جائزة).
من شروط الشركة عدم الجهالة والظلم والغرر والربا, فإذا دخلها الظلم أو الغرر دل على فساد الشركة, مثل أن يقول: أنا لي ربح هذه السفرة التي سوف أسافر بها إلى شرق آسيا, وعام 1432هـ لك أنت ربحها, فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من الغرر, فجائز ألا يكون الربح في هذه السفرة ويكون في السفرة الأخرى, فيغنم أحدهما ويغرم الآخر, وكل معاملة دخل أحدهما بين الغرم المتحقق وبين الغنم المتوقع, فهي داخلة في قاعدة القمار والميسر.
وتكون الشركة فاسدة مثل أن يشترط المضارب أن يتحمل جزءاً من رأس المال, وهذا كثير مع الأسف في شركات الناس اليوم, يقول المضارب: من أجل أن أعطي الثقة والأمان لرب المال أقول: إن حصلت خسارة فأنا أتحمل خمسين بالمائة, فهذه مضاربة فاسدة؛ لأنه لا يجوز للمضارب أن يتحمل شيئاً من الخسارة؛ لأنه تحمل خسارة عمله, فلا يتحمل خسارة المال, بل يتحملها رب المال. والله أعلم.
فإذا قلنا: إن المضاربة فاسدة, فما الحكم؟
ذهب الجمهور ومنهم الحنابلة إلى أن المضاربة إذا فسدت فإن الربح كله لصاحب المال وليس للمضارب, أو الذي اتجر بالمال إلا أجرة المثل.
وأجرة المثل تقدر بما تعارف عليه الناس, يعني: مثل الذي يضارب بمليون فإن أجرة المثل تكون عشرة آلاف, مع أن ربحها صار مائة بالمائة. ولو كانت المضاربة صحيحة لربح أربعين بالمائة فيكون له أربعمائة ألف, إذاً يقول الجمهور: هناك فرق؛ لأن المضاربة إذا فسدت فسد كل توابعها, والراجح والله أعلم هو مذهب ابن تيمية رحمه الله, وهو قول عند بعض المالكية, قالوا: إن المضاربة إذا فسدت فإن لكل واحد منهما مضاربة المثل, وإذا فسدت الجعالة فإن لكل واحد منهما جعل المثل, كما أنه إذا لم يذكر المهر في النكاح فإن للمرأة مهر المثل, يقول ابن تيمية : فهذا من العدل, والله أعلم.
وعلى هذا فيسأل أهل الاختصاص, عن الرجل الذي عمل في المال كم يكون له من المضاربة في العادة؟ فإذا قالوا: له ثلاثون بالمائة صار له ثلاثون, وإذا قالوا له: أربعون بالمائة صار له أربعون, وعلى هذا فقس, وهذا الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
فالمساقاة على الشجر: بأن يدفعها للعامل، ويقوم عليها بجزء مشاع معلوم من الثمرة.
والمزارعة: بأن يدفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع معلوم من الزرع، وعلى كل منهما ما جرت العادة به، والشرط الذي لا جهالة فيه، ولو دفع دابة إلى آخر يعمل عليها، وما حصل بينهما جاز ].
وهي جائزة؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ), فإن يهود خيبر كانوا أصحاب زراعة, وهم يجيدون ذلك, فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجليهم قالوا: يا محمد! إننا أصحاب نواضح وأصحاب زرع, وربما لم يعمل أصحابك بذلك, فرأى صلى الله عليه وسلم أن من المصلحة إبقاءهم, وعاملهم -بعدله وكرمه عليه الصلاة والسلام- على أن يعملوا في هذه الأرض التي هي للمسلمين, فما كان منها من أرض قاموا بزرعها, وما كان منها من نخل قاموا بسقيها, وما يخرج من ذلك يكون لهم الشطر, يعني: النصف, ولرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لبيت المال- النصف الآخر, وهذا هو العدل.
وجوز ذلك عمر وخفي عليهم, وجوزه ابن تيمية رحمه الله, وهذا هو الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع, ولم يذكر من يبذر الزرع, مما يدل على أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال, فهذا الحديث جائز أن يدفع البذر اليهود, وجائز أن يبذله الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما لم يبين عليه الصلاة والسلام هذا, مع وجود الاحتمال المقتضي لبيانه, دل على أن اشتراط هذا البذر من أحدهما على الآخر كل ذلك جائز, والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فإذا كان النخل معلوماً, وكان العمل معلوماً, فلا حرج في ذلك, ويعمل كل واحد بما جرت به العادة, فصاحب النخل يعمل على سقيها, لكن لا يكفي السقي, فلا بد أن يزيل جميع الشوائب الموجودة في حوض النخل؛ لأن هناك بعض الإذخر وبعض الأشجار التي تنبت قريباً من النخلة, فإنها تضرها وتسحب الماء عليها, فيجب على العامل أن يعمل ما جرت به العادة, وهو أن يزيل هذا الشجر ويحفر, ويزيل السعف الزائد حتى تأتي الشمس إلى هذا المكان, وكذلك يجب عليه أن يلقح, وكل هذا مما جرت به العادة.
وإذا كانت عادة البلد أن الذي يبذل البذر هو رب الأرض, فيجب على رب الأرض أن يبذلها إذا لم يكن ثمة اتفاق؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً, والله تبارك وتعالى أعلم.
إذا ثبت هذا فإن رافع بن خديج أشار إلى أن الناس كان يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, على المذيانات, والماذيانات كلمة غير عربية, والمقصود بها جدول الماء, الذي نسميه الساقي, فيأتي صاحب الأرض فيقول: لي الزرع الذي ينبت على جوانب هذا الجدول؛ لأن الماء يكون فيه كثيراً, فيضمن صاحب الأرض أن هذا الزرع سيصله الماء, فهذا لا يجوز؛ لأنه ربما يسلم هذا ويهلك الباقي, فيكون فيه ظلم, فمثله مثل السفرة المعينة لفلان, أو لأحد الشركاء دون الآخر, فهذا من الظلم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم, وكذلك لو قال: أزارعك أرضي على أن لي الربعة الفلانية, أو المكان الفلاني, فيسلم هذا ويهلك الآخر, أو يهلك هذا ويسلم الآخر, فيكون فيه أكل لأموال الناس بالباطل.
واعلم أنه إن تراضى الشركاء فإن فوقهما سلطة قهرية, وهي سلطة الشارع, فلا بد أن تتفق إرادة المتعاقدين مع الإرادة الكبرى وهي إرادة الشارع, فلا يجوز أن يتفقا على الربا, إذا تراضيا على ذلك؛ لأنه لم يأذن الشارع في ذلك.
قول المؤلف: (فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به), والمعلوم والمضمون نوعان: إما أن يؤاجره, بأن يقول له: هذه أرضي فيها نخل, أؤجرك نخلها مدة خمس سنوات, أو عشر سنوات, فهذا لا بأس به؛ لأنه شيء معلوم, أو يؤجره الأرض على أن يقوم هو بزرعها, لمدة خمس سنوات, فإن زرعها أو لم يزرعها فإن المال ثابت؛ لأنه شيء معلوم مضمون, والله تبارك وتعالى أعلم.
وقول المؤلف: (وعلى كل منهما ما جرت العادة به), فإذا جرت العادة بأن يقوم الإنسان بالسقي صباحاً ومساءً فيجب عليه أن يصنع ذلك, أما أن يقول: لا, أنا ما عندي دوام, أو أنا لا أريد أن أعمل, فإننا نقول له: بل يجب عليك؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً, والله تبارك وتعالى أعلم.
قول المؤلف: (والشرط الذي لا جهالة فيه), يعني: يجب أن يكون الشرط معلوماً, فإذا اشترط أحدهما شرطاً مجهولاً فلا يجوز؛ لعدم إمكانية تحقيقه.
قول المؤلف: (ولو دفع دابة إلى آخر يعمل عليها, وما حصل بينهما جاز؛ لعدم ما يفسد ذلك, وقد اتفقا عليه), ومن ذلك ما يقوم به بعض الناس من أخذ سيارة أجرة, ثم يعطيها العامل على أن ما حصل من هذه الأجرة فالربح بينهما, فلا حرج في ذلك, ولو أجرها على العامل, كل ذلك لا حرج.
أما أن يقول للعامل: أنا أريد منك في اليوم مائتي ريال, فإن كانت المائتان ليس فيها ظلم, ويمكن أن يحصل عليها العامل, فهذا إيجار يومي لا حرج فيه, وأما إذا كان فيه نوع من المشقة عليه, فهو أكل لأموال الناس بالباطل, واستغلال لضعف هذا العامل, حيث أنه قد يقبل على مضض؛ بسبب أنه لا يجد عملاً إلا هذا.
ونكون بهذا قد انتهينا من باب الشركة, وإن شاء الله ندخل في باب إحياء الموات.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر