الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قال رحمه الله تعالى: [ باب العارية والوديعة:
وهي إباحة المنافع، وهي مستحبة في المعروف، قال صلى الله عليه وسلم: ( كل معروف صدقة )، وإن شرط ضمانها ضمنها وإن تعدى أو فرط فيها ضمنها وإلا فلا ].
ودليل العارية أن الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وقال صلى الله عليه وسلم في الإبل: ( ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلا جاءت يوم القيامة -الحديث- قالوا: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: إعارة حلبها )، أو قال: ( دلوها ).
إذاً: الإعارة حق يبذله المالك، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنفذ بعض الزاد، فقال صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، قال: حتى ذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحدنا في فضل )، يعني: فيما زاد.
العارية لها أحكام، أحكامها:
واحد للمعير، وهو صاحب العين، والمستعير: وهو الذي ينتفع.
وكذلك إذا استعار منه أرضاً على أن يزرعها، وعلم المعير بأنه سوف يزرعها ثم زرعها، فقال: أريد أرضي، قال: لكن أنا عندي زرع، قال: لا شأن لي بذلك، فهل يقبل؟
الذي يظهر والله أعلم أنه لا يقبل قوله، ولكن هل إذا طلب المعير أرضه فهل له أجرة المثل في الزرع من حين طلب الأجرة؟
مثاله: رجل استعار من آخر أرضاً، وقال له: أريد أن أزرعها، قال: نعم، فزرعها فلما ربت الزروع قال صاحب الأرض: أريدك أن ترد لي أرضي، قال المستعير: والله أنا الآن لا أقدر أن أرد عليك أرضك إلا أن أقلع الزرع، قال: لا شأن لي بذلك، فقال له: أنا لا أستطيع أن أقلعه، قال: إذاً سآخذ عليك أجرة فما الحكم الآن؟
الحنابلة رحمهم الله يقولون: إن طلب رد الأرض وكان فيها زرع فإنه له أجرة المثل من حين طلبه، والذي يظهر والله أعلم التفريق، وهو أن نقول: إن كان المعير يعلم أن المستعير سوف ينتفع بها مما يصعب رده عاجلاً فلا يستحق المعير شيئاً، وإن كان يعلم أنه يمكن رده عاجلاً فانتفع به فيما يطول فحينئذ يكون له أجرة المثل.
خذ مثالاً: شخص عنده أرض ما ينتفع بها ويعرف أن هناك رجلاً تاجراً يدخل على الصوامع دخلاً طيباً من القمح، فأراد أن يحتال عليه، فقال صاحب الأرض لهذا التاجر: خذ هذه الأرض فيها ثلاث آبار، ولا أريد منك شيئاً أبداً، وعندما زرع هذا التاجر الأرض واشتد الزرع قال صاحب الأرض: والله إني قد احتجت إلى أرضي، فهذه حيلة؟ مع أن الأرض المذكورة ليس فيها فائدة.
وعلى هذا فنقول: إن كان يعلم المعير أن المستعير سوف ينتفع بها مدة لا يصعب إرجاعها إلا بعد انتهائه فليس له أجرة. والله أعلم.
فإذا أراد أن يسافر فالأصل أن ينتفع بها، فهل يسافر فيها أم لا يسافر؟
الأصل أنه لا يسافر؛ لأن السفر عند الأجرة، والعرف عند العامة أنه لا يسافر فيها إلا بإذن صاحبها يعني: الأجرة تضر، لكن لو لم يسافر بها، لكنه لما رأى رآها أن نوع السيارة جيب، ونزل المطر، فقال: دعنا نذهب نطعس، فهل له ذلك؟ ليس له ذلك، لماذا؟ لأنه لم ينتفع بها بمثل انتفاع أمثالها، لأنه تتضرر السيارة بهذا العمل، وهذا مع الأسف الشديد ما نراه؛ فإن كثيراً من الإخوة حينما يأخذ سيارات من الناس فيرجعها أحياناً ولا يغسلها، وهذا كله من عدم المروءة والكرم، لكن هل للمعير أو المستعير أن يعيرها للغير؟
مثال ذلك: قلت لمحمد: أنا أريد سيارة، فليس معي سيارة الآن، فسيارتي في الورشة، فقال محمد: والله -يا عبد الله- ما عندي شيء، لكن أنا أعرف أن عيسى عنده سيارات ولا يعرفك، أنا سآخذها، فذهب محمد إلى عيسى وقال: أنا أريد سيارتك جزاك الله خيراً، أريد أن أنتفع بها، فقال عيسى: خذها على الرحب والسعة، فأعطاها محمداً، ومحمد قال: خذها يا عبد الله جزاك الله خيراً، فهل لمحمد أن يعيرها أم لا؟
نقول: ليس للمستعير أن يعيرها للغير إلا بإذن المعير المالك وإلا ضمن، أي: المستعير الأول، فإن كان المستعير الثاني يعلم أن المستعير الأول تصرف بغير إذن المالك ثم تلفت، فللمعير أن يطالب الاثنين: المستعير الأول والمستعير الثاني، وإن كان المستعير الثاني لا يعلم، فللمعير الأول الذي هو المالك أن يضمن المستعير الأول؛ لأنه تعدى.
المؤلف يقول: (وهي مستحبة لدخولها في الإحسان والمعروف، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري و مسلم : ( كل معروف صدقة ) ) رواه البخاري من حديث عائشة ورواه مسلم من حديث حذيفة .
هنا أفادنا المؤلف بأن الأصل في العارية أنها غير مضمونة، وهذا خلاف المذهب عند الحنابلة والشافعية، فإن الشافعية والحنابلة يقولون: العارية مضمونة؛ لحديث : ( العارية مؤداة )، كما في حديث يعلى بن أمية .
وذهب المؤلف إلى أنها ليست مضمونة ولكنها تضمن بالشرط، وهذا قول عند الحنابلة ورواية عندهم اختارها ابن تيمية ، وأما مالك بن أنس فهو يرى أن العارية لا تضمن ولا يصح الشرط، أما ابن تيمية فيصحح الشرط، والله أعلم.
وهذه المسألة لو تكلمنا فيها لأطلنا؛ لأنها واقعة في الإجارة المنتهية بالتمليك، والحنابلة والشافعية يقولون: كل شرط يعود على العقد بالإبطال فلا يصح، الآن العارية مضمونة، فإذا اشترط عدم الضمان صار الشرط يخالف أصل العقد، فيرون أن الشرط باطل، و ابن تيمية يخالف في هذا، وهذا هو الراجح والله أعلم.
لكن إن تعدى أو فرط فإنه يضمن؛ لأنه لم يتصرف فيها تصرف الملاك. والله أعلم.
وقال تعالى: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، وهذه أصرح.
وأما السنة فلقوله صلى الله عليه وسلم: ( أد الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك ).
فلو قال: يا فلان! هذه عشرة آلاف أريدك أن تحفظها فأنا أريد أن أسافر وسوف آتي بعد زمن، فهذا الشخص أخذ العشرة آلاف ووضعها في درج السيارة ثم سرقت، فهل يضمن أم لا؟ يضمن؛ لأن السيارة ليست حرزاً، أو يأخذ العشرة آلاف ثم يضعها في الدولاب تحت الثياب، هل هذا حرز؟ ليس حرزاً، وعلى هذا فيضمن لو سرقت.
يعني: لا يجوز أن ينتفع بها؛ لأنه لم يؤذن له فيه، لكن هذا فيما يتعين، وأما ما لا يتعين مثل النقود كأن يكون في حسابي عشرة آلاف، فجاءني محمد وأعطاني ألف ريال وقال: يا عبد الله! هذه أمانة وأريدك أن تعطيها عيسى، فقلت: حسناً متى يأتي عيسى؟ قال: غداً، فذهبت إلى السوق وعندي ألف ريال من مال محمد، فاشتريت بها خضروات أو بعض الأشياء، فهل يجوز لي ذلك؟ نقول: إن كان عندك في حسابك أمثالها فلا بأس، وأما إن لم يكن فلا ولو كان يغلب على ظنك أنه سوف يأتي راتبك.
يعني بعض الناس يقول: أنا سآخذ عشرة آلاف وراتبي أحد عشر ألفاً، إن شاء الله إذا جاء راتبي سأسدد، نقول: لا يجوز؛ لأنه يمكن أن تموت ويمكن أن تفصل، ويمكن ويمكن.. فلا يجوز والله أعلم.
وإن كان الأفضل مع ذلك ألا تستعملها والله أعلم؛ لأن النقود لا تتعين بالتعيين، فلا فرق بين الخمسمائة الجديدة والقديمة.
أما إن كانت ليست بنقود فلا يجوز الانتفاع بها إلا بإذن صاحبها، فإن أذن صاحبها فإنها تكون عارية، فإن كانت نقوداً فإنها تكون قرضاً، وعلى هذا فالوديعة إن كان قد أذن صاحبها بانتفاع المودَع بها، فإن كانت نقوداً صارت قرضاً، وإن كانت يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها صارت عارية والله أعلم.
وعلى هذا فالمودع أمين لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، والله أعلم.
وهل يقبل قوله بدعوى عدم التعدي والتفريط؟
الراجح أنه يقبل قوله بيمنيه بلا بينة، إلا إذا ادعى هلاكاً ظاهراً، كيف هذا؟ لو أن محمداً أعطاني عشرة آلاف فقلت: يا محمد! والله ضاعت علي العشرة آلاف، قال: لماذا؟ قلت: لأني وضعتها في صندوق الأمانات عندي، وجاء حريق فحرق الصندوق وما فيه.
الآن أنا أدعيت أمراً ظاهراً، فلا يقبل قولي إلا ببينة تثبت وجود الحريق، وأما إذا قلت: والله يا محمد! إني وضعتها في صندوق مع الأمانات فسرقت، فما أستطيع أن أثبت أن صندوق الأمانات كان مفتوحاً، أو جاء السارق ففتحه فليس له إلا يميني. والله أعلم.
الجواب: سبق أن تحدثنا وقلنا أنه إن كان يشق عليه التعريف فالأفضل ألا يأخذه، وهو قول ابن عباس و ابن عمر وإن كان قوياً في تعريفه فإنه يأخذه حفظاً لمال الغير. والله أعلم.
الجواب: الذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا كان في الحديث: ( إذا أخذت مضجعك ) فإنك تقولها في كل مضجع، وإن كان في الليل فإنك تقوله في الليل، والغالب أن جميع الأحاديث بلفظ: ( إذا أخذت مضجعك ). والله أعلم.
الجواب: لو أن شخصاً غصب أرضاً وكانت قيمتها مائة ألف، ثم نزلت إلى ثمانين ألفاً، فنقول: يضمن مائة ألف، ثانياً: يلزمه أجرة المثل فيما لو كان يصلح لمثلها أن تؤجر. والله أعلم.
الجواب: بما ينتفع بأمثالها، أما إذا كان عامة عرف الناس لا يبالي فلا حرج، فرق أنه يقول سيارتي جديدة قال: سآخذها منك للزواج، قال: حسناً، فأعطاه سيارته لكزز، أو: بي أم، بانوراما على أنه لليلة فلما أصبح الصبح ذهب إلى مكة بالسيارة، فهذا يكون مفرطاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر