الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فعلماء المذاهب -رحمة الله تعالى عليهم- اعتادوا بعد بيان تأليفهم لمسائل كل مذهب أن صنفوا رءوس المسائل، والمقصود برءوس المسائل: هي المسائل التي يكثر السؤال عنها، والتي تتداول عن طريق الأئمة والعامة، وألف كل صاحب مذهب رءوس المسائل ورأي المذهب فيها، فألف الإمام الزمخشري رءوس المسائل على المذهب الحنفي، وألف الإمام العكبري الحنبلي رءوس المسائل، وألف الإمام عبد الوهاب المالكي : الإشراف في مسائل الخلاف على المذهب المالكي، فالحنفية ألفوا، وكذا الشافعية وكذا المالكية وكذا الحنابلة.
ثم تتابع الناس يذكرون المسائل المهمة في كل زمان ومكان، ولعل هذا الكتاب الذي بين أيدينا -وهو كتاب منهج السالكين للإمام الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- على هذا المنوال، فقصد بهذا التأليف أن يذكر لطالب العلم أهم مسائل الباب، وهذه طريقة لو أن طالب العلم تفقه عليها وتأملها جيداً لسهل عليه الفقه والحديث.
وأنتم ترون أن بلوغ المرام ألفه الحافظ ابن حجر على أهم أصول الأحاديث التي تتداول، ولربما حفظ طالب العلم بلوغ المرام بإسناده فظن الناس أنه يحفظ الكتب الستة؛ لأن هذه عليها مدار الأسانيد، فكذلك لو أنه ضبط رءوس المسائل على أصول مذهب معين، ثم بعد ذلك قرأ أدلة أقوال المذاهب الأخرى لسهل عليه الفقه، وألان الله له الفقه كما ألان الحديد لداود عليه السلام.
وأنتم يا رعاكم ربي! هذه الدورة المقصود بها بيان دليل المؤلف لما ذهب إليه، ومقصد التشريع أو التأليف في هذا الباب، وليس مقصودنا أن نطيل، وقد جاءتني رسالة يطلب بعضهم عدم الإطالة.
وهو من سنن المرسلين، وفي الحديث: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يمينك ) متفق عليه.
وينبغي أن يتخير ذات الدين والحسب الودود الولود الحسيبة. وإذا وقع في قلبه خطبة امرأة فله أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها. ولا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه المسلم حتى يأذن أو يترك، ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة مطلقاً].
فأما الكتاب فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، ومن المعلوم أن الأتباع إنما يقتدون بالمرسلين.
ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أنس الطويل قال: ( لقد بلغني أن رجالاً يقول أحدهم: أما أنا فلا أتزوج النساء، ويقول الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنا فأتزوج النساء وآكل اللحم وأنام، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، فهذا يدل على أن الزواج من سنن المرسلين.
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد وغيره: ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب )، فمن المعلوم أن الزهد في مثل هذا إن كان عن عدم تشوف فهذا جائز، وإن كان عن دعوى الزهد والعبادة والتقشف فهذا محرم؛ لأنه رغب عن شيء يحبه النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول المؤلف: (وفي الحديث: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ) ) هذا الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث ابن مسعود ، وله قصة: حيث إن عثمان رضي الله عنه لقي ابن مسعود وهو في المسعى، فرآه شيخاً كبيراً فقال: يا أبا عبد الرحمن -يريد أن يتلطف معه- ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك، فضحك ابن مسعود وقال: أما وذاك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا ونحن شباب: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة) الباءة تطلق على معنيين: المعنى الأول: القدرة المالية، فمن كان منكم قادراً بماله فليتزوج، هذا معنى الحديث.
والمعنى الثاني: قالوا: إن الباءة القدرة على إتيان النساء، وذهب الشافعية إلى أن المعنى لهذا الحديث هو المعنى الثاني، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن معنى الحديث: هو من استطاع منكم القدرة المالية وكذا القدرة البدنية فليتزوج؛ لأنه لو كان شخصاً قادراً بماله لكنه لا يستطيع أن يعف المرأة فإنه غير مخاطب، ويجب عليه أن يبين للمرأة ذلك وإلا لصار عيباً، فدل ذلك على أن مقصود الحديث هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد الباءة بمعنييها، والقاعدة عند علماء اللغة: أن اللفظ المشترك الذي يحتمل معنيين إذا أمكن حمل المعنيين عليه فإنه يصار إليه، وهو مذهب جمهور أهل الأصول من المالكية والشافعية والحنابلة، إلا إذا كان لا يمكن حمل المعنيين جميعاً في آن واحد مثل القرء، فالقرء لا يمكن حمله على الحيض ولا على الطهر في آن واحد، أما إذا أمكن حمله على جميع معانيه فإنه يصدق، ولعل هذا الحديث منها، من كان منكم قادراً على إتيان النساء ببدنه ومن كان قادراً بماله فليتزوج، (فإن لم يستطع) بمعنى لم يستطع بأحد المعنيين، (فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
وقوله: ( فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج )، هذا دليل على أنه يمكن أن تؤدى العبادة لمعنى دنيوي إذا لم يتمحض فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لأجل عدم القدرة على إتيان النساء بالمال، فلأجل غض البصر وأن يخفف عليه أمر الشهوة أمر بالصيام، فهذا أمر دنيوي ولكنه صام لله وليعف دينه، فدل ذلك على أن من ذهب إلى أمر ديني وقصد منه أمر دنيوي فلا حرج، لما جاء في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه )، فإن وصل المرء رحمه من باب أنه ينسأ له في أجله فلا حرج، والكلام في هذا يطول.
قال المؤلف: ( وينبغي أن يتخير ذات الدين)؛ لحديث ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ).
قال: (والحسب الودود الولود الحسيبة ) لأن المرأة إذا كانت عقيماً لا ينبغي الزواج منها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في بعض رواياته كما عند أهل السنن أنه منع رجلاً أن يتزوج امرأة كانت عقيمة، فقال: ( يا رسول الله! إني خطبت امرأة وهي عقيم، فقال: دعها، ثم جاءه في اليوم الثاني فقال: دعها، ثم قال: تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم )، وهذا الحديث يرويه أبو داود , وصححه بعض المتأخرين والحديث فيه كلام، وهو إلى التحسين أقرب، فهذا يدل على أن تكثير النسل مطلب شرعي؛ ولأجل هذا صار جمهور الفقهاء يرون أن التعدد أفضل؛ لأن به إكثار أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بقوله: (وقع) هو أن يتخير أنه سوف يتزوج من فلانة، أما أنه يريد الزواج ويأخذ ألبوم الخطابات ويقلبه فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يدري هل هذه المرأة التي يريدها أم لا، فإذا وقع في قلبه أنه يريد أن يخطب بنت فلان بن فلان، وهو راغب فيها في الجملة وأراد أن ينظر إليها فلا حرج أن ينظر إليها، إما وهي عالمة بأن يذهب إلى أبيها وتأتي إليه، أو تكون غير عالمة، لما جاء في الصحيح: أن جابر رضي الله عنه قال: ( فكنت أختبأ فأنظر إليها ) فهذا يدل على أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى مخطوبته سواء كانت عالمة أو غير عالمة، ومثل ذلك: ما يفعله بعض الإخوة إذا كان بعض الآباء كبير السن وهو لا يريد أن ينظر أحد إلى ابنته، فيقول الأخ الكبير لهذا الخاطب: تعال في بيتي وأنا سوف أحضر أختي وانظر إليها وهي لا ترى ولا تعلم، فهذا أيضاً لا بأس به ويفعله بعض الناس، ومثل ذلك أيضاً: أنه يدعو أخته إلى باحة المنزل والخاطب في المجلس فينظر إليها، كل ذلك لا حرج فيه إذا كانت البنت لا تريد أن ينظر إليها الخاطب؛ لأن هذا تطبيق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم كما عند أهل السنن من حديث المغيرة : ( انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ) .
ما هو الشيء الذي ينظر إليه فيدعوه إلى نكاحها؟
الظاهر والله أعلم -وهو الذي عليه الجمهور وهو مذهب الحنابلة- أن الذي يظهر غالباً هو الرأس والرقبة والوجه واليدان إلى العضدين وأول الساقين، هذا الذي يظهر من المرأة غالباً في بيتها، فإذا أراد الرجل أن يخطب المرأة فلا حرج في ذلك، أما أن تأتي المرأة إلى الخاطب متبرجة وقد لبست لباساً فاضحاً عارياً فهذا لا يجوز؛ لأنها ما زالت أجنبية عنه، وليعلم أن المرأة إذا جاءت إلى الخاطب فإنه لا ينبغي لها أن تتجمل تجملاً يخبئ بعض عواري جسدها أو وجهها، بل تتجمل تجمل العادة كما قالت سبيعة الأسلمية : ( فلما وضعت وتجملت للخطاب دخل علي
الحال الأول: أنهم يسألون عن حاله، وهو لم يعطوه كلمة كما يقولون، فإن بعض أهل العلم قال: يجوز للخاطب الآخر أن يخطب، لأنهم لم يعطوا الأول موافقة، والذي يظهر والله أعلم: أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ) واضح، فإذا عرض الخاطب الخطبة فإنه لا يجوز للخاطب الآخر أن يتقدم إذا علم أن الخاطب الأول لم يرد أو لم يأذن، وسواء أعطوه موافقة أم ما زالوا في موطن البحث، حتى يترك الخاطب، أو يأذن للخاطب الثاني؛ لما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له ) متفق عليه واللفظ لـمسلم ، وزاد البخاري في رواية: ( حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب ) يعني حتى يترك الخاطب الخطبة ثم هو بعد ذلك يتقدم.
أما إذا كان لا يعلم -مثلما يكون الآن عندنا- ما يعلم الإنسان، فيخطبها فلان ثم يخطبها فلان ولم يعلم الثاني بخطبة الأول، فحينئذ نقول: لا بأس بذلك، كما جاء في الصحيحين: أن فاطمة بنت قيس خطبها أبو الجهم ، وخطبها معاوية ، وخطبها أسامة ، والذي يظهر والله أعلم أن هؤلاء الثلاثة حينما خطبوها لم يعلم كل واحد من الخطاب بحال أخيه المسلم، هذا الذي يظهر في توجيه هذا الحديث، وبعضهم قال: إنما خطبوها لأنهم لم يعطوا كل واحد منهم جواباً ابتداءً، ولهذا فاطمة لم تعط أحداً فاستشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يظهر، والله أعلم هو المعنى الأول.
يقول المؤلف: (ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة) المعتدة: هي التي تربصت في عدم الزواج إما لأنها ما زالت رجعية، وإما لأنها لم تنته عدتها بعد من وفاة أو طلاق بائن.
إذاً: المطلقة أو المعتدة إما أن تكون رجعية، وإما أن تكون بائناً، فالرجعية هي التي طلقها زوجها طلقة واحدة أو طلقتين وهي ما زالت في عدة الطلاق فهذه لا يجوز للخاطب أن يخطبها أو أن يصرح أو أن يعرض، كل ذلك لا يجوز؛ لأنها زوجة للزوج المطلق، فلا يجوز التعريض ولا التصريح.
يقول المؤلف: ( وصفة التعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب، أو لا تفوتيني نفسك، أو أنا أحب مثلك )، وهذه الألفاظ يسميها العلماء تعريضاً، والتصريح كأن يقول: إني أريدك، إني أريد أن أخطبك، إني أريد أن أتزوجك.
وبعضهم يقول: إن التعريض هو أن يقول: إني أريد أن أتزوج امرأة مثلك، وأما إني لمثلك لراغب فإن بعضهم يرى أنه من التصريح، والذي يظهر والله أعلم أن هذا من التعريض والتعريض أنواع، فكما يقول أبو علي النفطي : لسان الحال أخرس فصاحة المقال، أحياناً لسان الحال أقوى من فصاحة المقال.
والثلاث الآيات فسرها بعضهم: وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، والآية الأولى من سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70] ].
حديث ابن مسعود وهو الذي يسمى: خطبة الحاجة، ويستحب للإنسان أن يذكرها في خطب الجمع وخطب الأعياد وفي الكلمات وغير ذلك، ولا حرج أن يلتزم بها، وإن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد التزم بها فإن القاعدة عند علماء الأصول: أن العبرة بقوله لا بفعله، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه خطبة الحاجة، فهذا يدل على أن الاستحباب بالقول أقوى من الاستحباب بالفعل، ثم إن ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل لعله لأجل ألا يظن الظان أن ذلك واجب كما تقول عائشة في الصحيحين، (وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك العمل وهو يحب أن يعمله مخافة أن يفرض عليهم).
وعلى هذا فإنه يستحب للإنسان في حديثه وخطبه ومواعظه أن يذكر خطبة ابن مسعود التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا استحب عامة أهل العلم عند العقد أن يخطب الإنسان بخطبة ابن مسعود ، فيقول مأذون الأنكحة الذي يكتب عندما يجلس الزوج ويجلس الولي ويجلس الشاهدان: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، وزيادة (ونستهديه) لا تصح، فليس لها أصل، وإن كان يكثر بعض الوعاظ من ذكرها وليست موجودة في الأحاديث أصلاً، إنما الوارد ( إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ) الحديث.
(ثم يقرأ الثلاث الآيات) وأنتم ترون أن هذه الثلاث الآيات كلها فيها التقوى والمراقبة، وكأن مأذون الأنكحة حينما يقرأ ذلك يعظ الولي بتقوى الله حينما يختار لموليته من ليس أهلاً لذلك، وكأنه يعظ الزوج بتقوى الله في أن يتزوج هذه المرأة وهو مريد لإضرارها، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ) فكأن هذا أيضاً تذكاراً للزوج بأن يتقي الله في حقوق المرأة فيعطيها حقوقها كاملة غير منقوصة، واتقوا الله أيضاً أنتم أيها الشهود! حينما تشهدون بأن فلاناً هو ولي لفلانة وهو ليس كذلك، فكل ذلك تذكير للناس جميعاً الذين حضروا هذا العقد.
وأما إعلان النكاح عملاً بما جاء في بعض الروايات من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف ) فهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وهو حديث لا يصح؛ لأن في سنده عيسى بن ميمون الأنصاري ، ورواه ابن ماجه وفي سنده خالد بن إلياس كما قال البخاري : منكر الحديث. فما يفعله بعض الناس من أن يجعلوا عقد النكاح في المساجد أو في المسجد الحرام نقول: هذا حديث فيه ضعف ولا يصح، ومن المعلوم أن إبرام النكاح بالشهود يعتبر نوعاً من الإعلان، فإن وضعه في المساجد هو جائز لكن ليس من السنة، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال رحمه الله: (ولا يجب إلا بالإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، كقوله: زوجتك أو أنكحتك، والقبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج أو نائبه، كقوله: قبلت هذا الزواج، أو قبلت ونحوه).
الإيجاب هو الصادر من الولي أو من وكيله، بأن يقول: زوجتك ابنتي، والقبول: هو الصادر من الزوج أو نائبه، وسواء قال الزوج: قبلت، أو قال الزوج: زوجني ابنتك. فقال الولي: قبلت. فإن العلماء يقولون: قول الولي: قبلت هو في حكم الإيجاب وليس القبول، وقول الزوج: زوجني ليس إيجاباً ولكنه أيضاً قبول ضمني، والله تبارك وتعالى أعلم. وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً للحنفية.
وعلى هذا فلا بد من إيجاب وقبول، إلا أن الحنابلة والشافعية قالوا: لا بد من لفظ الزواج، فلو قال الولي: زوجتك أو أنكحتك لفظان صح العقد بهما، ولو قال: ملكتك أو خذ هذه ابنتي، فإنهم يقولون: لا يصح إلا بلفظين لا ثالث لهما، بأن يقول: زوجتك أو يقول: أنكحتك، وما عدا ذلك فلا يجوز.
والراجح والله أعلم هو مذهب جمهور أهل العلم من المالكية والحنفية ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : أنه يصح بكل لفظ يدل عليه، فلو قال الولي: أنا أعطيتك ابنتي على سنة الله ورسوله، فهذا كاف في الزواج، ولا يلزم لفظ زوجتك، والله أعلم.
ولا بد فيه من رضا الزوجين، إلا الصغيرة فيجبرها أبوها، والأمة يجبرها سيدها ].
ثم إن شروط النكاح شيء والشروط في النكاح شيء آخر، فشروط النكاح: هي الشروط التي لا بد من توفرها لأن يكون العقد صحيحاً، وأما الشروط في النكاح: فهي الشروط الجعلية التي يختارها ويجعلها ويتلفظها أحد العاقدين، وليست هي من ضمن أصل صحة العقد كما سوف يأتي بيانه، أما شروط النكاح فلا بد من توفرها، وهذا أمر يسميه العلماء من خطاب الوضع، فلا بد من وجودها؛ لكي يكون العقد صحيحاً، وخطاب الوضع: هو الأسباب والشروط والموانع، وأما خطاب التكليف: فهو المباح والواجب والمستحب والمحرم والمكروه.
قال: ( لا بد فيه من رضا الزوجين إلا الصغيرة ) أفادنا المؤلف بهذه العبارة أن غير الصغيرة وهي البكر لا يجوز للولي أن يزوجها من غير رضاها، فلا بد أن يقول لها: خطبك فلان، فإن بكت فهذا دليل على رضاها؛ لأنها سوف تفارق أهلها، وإن سكتت فهذا أيضاً دليل على رضاها، وإن امتنعت فلا يجوز للأب أن يزوجها.
وما يكون في بعض العادات حينما يحجز الأب ابنته لابن عمها أو لابن عمتها أو غير ذلك وهي لا تريد فلا يجوز للأب أن يكرهها، فإن قال: تعودنا عليه، والبنت أنا أرضيها وهي الآن غير راضية وغداً سترضى، كل ذلك لا يجوز، وقد جاء عند النسائي : ( أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع خسيسته ) يعني أنه عيب إذا لم يزوج الرجل ابن أخيه، فجعل الأمر إليها، قالت: ( يا رسول الله! قد قبلت، ولكن أردت أن يعلم الرجال أن للنساء في هذا حقاً )، وعلى هذا فالبكر لا بد من إذنها، ولا يجوز للأب أن يزوجها من غير رضاها، وهذا قول الجمهور، وأما غير الأب فلا يجوز أن يكرهها قولاً واحداً إذا كانت بكراً وبالغة، أما إذا كانت صغيرة وهي التي لم تبلغ تسع سنين فيجوز للأب أن يزوجها من غير رضاها قولاً واحداً بالإجماع، حكاه غير واحد كما ذكر ذلك البغوي في شرح السنة وغيره.
وأما إذا بلغت تسع سنين وهي دون البلوغ أو كانت بنت عشر سنين أو إحدى عشرة سنة قبل أن تبلغ، فإن الحنابلة قالوا: يجوز للأب أن يزوجها من غير رضاها، وذهب أبو العباس بن تيمية : إلى أنه إذا كانت البنت في سن التاسعة ولو لم تبلغ فإنه لا يجوز للأب أن يزوجها إلا بإذنها؛ لقول عائشة كما عند الدارمي : ( إن المرأة إذا بلغت تسعاً فهي جارية )، وإن كان قول الجمهور أقرب؛ لأن بنت تسع سنين لا تعي ولا تدري ولا تعقل، ولكن لا ينبغي للأب أن يزوج ابنته إلا بعد البلوغ؛ لأنه ربما يندم حينما لم يدخل بها إلا بعد البلوغ.
ثم إني أقول: إن الأب إذا زوج ابنته دون البلوغ، سواء كانت أقل من تسع أو بعد تسع ولم يدخل الزوج عليها حتى بلغت، مع وجود الشاهدين والولي -كامل أركان النكاح- فإن للمرأة بعد بلوغها أن ترفض، أما إن دخل بها قبل أن تبلغ فإنه ليس لها الخيار بعد ذلك، هذا هو قول أبي العباس ابن تيمية رحمه الله ورواية عند الإمام أحمد . ولهذا قال المؤلف: ( إلا الصغيرة فيجبرها أبوها ) والأولى بالمؤلف أن يقول: إلا الصغيرة فيجوز أن يجبرها أبوها، أما ( فيجبرها أبوها ) فكأن الأب يجب أن يجبرها، ولكننا نقول: يجوز للأب أن يزوج ابنته إذا كانت دون تسع سنين، وأما في سن تسع سنين فلا ينبغي، وأما بعد البلوغ فلا يجوز.
وأما الأمة فلا بأس أن يجبرها الولي أن تتزوج أي شخص من حالتها وهيئتها.
وأولى الناس بتزويج الحرة أبوها وإن علا، ثم ابنها وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها، وفي الحديث المتفق عليه: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أعلنوا النكاح ) رواه أحمد، ومن إعلانه: شهادة عدلين، وإشهاره وإظهاره، والضرب عليه بالدف ونحوه ].
المؤلف حينما ذكر الشرط الأول من شروط النكاح وهو الرضا، شرع في الشرط الثاني: وهو الولي، فلا بد فيه من وجود ولي للمرأة، هذا قول عامة أهل العلم خلافاً للحنفية، فإن الحنفية قالوا في المشهور عندهم: إن المرأة إذا كانت ثيباً فلها أن تزوج نفسها، والقول الآخر عندهم: إن المرأة لها أن تزوج نفسها -إذا كانت بالغة- من غير ولي، والإمام أحمد رحمه الله يقول: لو أن قاضياً جاءه نكاح أو عقد نكاح بامرأة لم يعقد عليها ولي، فله أن يفسخها، ولا ينظر في الخلاف؛ لأن هذا الخلاف غير معتبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند أهل السنن من حديث أبي موسى : ( لا نكاح إلا بولي ) وكذلك حديث جابر : ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل )، وقال الإمام أحمد رحمه الله: حديث أبي موسى يشد بعضه بعضاً، فهذا يدل على أن الإمام أحمد صححه وقواه، ودل ذلك أيضاً على أن الحديث يتقوى بالشواهد، وهذا هو منهج المتقدمين من أهل الحديث، خلافاً لمن زعم خلاف ذلك من المتأخرين، حيث إنه يقول: إن المتقدمين من أهل الحديث لا يصححون الحديث بشواهد، وهذا قول الإمام أحمد في حديث: ( لا نكاح إلا بالولي ) إنه يشد بعضه بعضاً، له طريقان يشد بعضه بعضاً دليل على أنه يعتبر الشواهد عند الأئمة رضوان الله تعالى عليهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة: ( أيما امرأة نكحت نفسها من غير ولي فنكاحها باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها )، وهذا يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتزوج إلا بولي.
والولي قال المؤلف فيه: (وأولى الناس بتزويج الحرة أبوها) الولي هو أبوها، (وإن علا) فإن لم يوجد الأب فالجد، فالمؤلف يقول: إن الجد أقرب من الابن؛ لأن الجد أعلم في الجملة من الابن، ولأن الشفقة فيه أقرب من الشفقة في الابن، وقال بعضهم: إن الولي الأب ثم الابن ثم الجد؛ لأن الابن أقرب من الجد، وهذا القول قوي، لكن أقول: وإن كان قوياً ولكن لو زوج الجد فإن النكاح أيضاً صحيح؛ لأن الولي الأب إذا كان موجوداً فإنه يجب أن يزوج، فإن لم يكن الأب موجوداً فكأنه يجوز بعد ذلك أن يزوجها جدها أو ابنها، مثل ما لو كان لها أخوان شقيقان فلها أن تختار أيهما شاءت، والعامة يظنون أن البنت إذا كان لها إخوة أشقاء فإنه لا بد أن يزوجها الأخ الكبير، وهذا ليس صحيحاً، فالبنت إذا كان لها إخوة أشقاء فلا يلزم أن يزوجها الكبير، خاصة إذا كان الأخ الكبير متعنتاً أو يريد إضرارها، أو الأخ لأب إذا كان هو أكبر العائلة والأخت لها أخ شقيق في أولى جامعة أو ثاني جامعة وهو كفء والمتقدم كذلك فإن له أن يزوجها، خلافاً لما يفعله بعض العامة في ذلك.
المؤلف رتب القرب في الولاية فقال: (أبوها وإن علا، ثم ابنها وإن نزل)، ومعنى (وابنها وإن نزل) يعني الابن وابن الابن، وابن ابن الابن وهكذا، (ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها) بعد الأبناء وهم الإخوة، لكن الإخوة الأشقاء قبل الإخوة لأب، والإخوة لأب قبل الأعمام، والأعمام قبل أبناء الأعمام، ولا يزوجها الخال، والله تبارك وتعالى أعلم، وكذلك لا يزوجها جدها من أمها؛ لأنه ليس من العصبات بل من ذوي الأرحام.
يقول المؤلف: ( وفي الحديث المتفق عليه: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله! كيف إذنها؟ قال: أن تسكت ) ) يعني أن تسكت هذا أقل ما يقال فيه، وإلا فلو قالت: قبلت جاز، هذا قول عامة أهل العلم خلافاً لـابن حزم فإن ابن حزم قال: لو أن المرأة قال لها أبوها: فلان بن فلان يريد أن يتزوجك فما رأيك؟ فلو قالت: قبلت يا أبي! قال: لا يصح النكاح، يعيد عليها الأب: فلان بن فلان يريد أن يتزوجك ما رأيك؟ فإن قالت: قبلت، قال: لا يصح، حتى تسكت، فإذا قال: فلان يريد أن يتزوجك فلا بد أن تسكت، فإذا سكتت صح النكاح، وإذا قالت: قبلت لا، وهذا من ظاهرية ابن حزم رحمه الله التي تكلم العلماء عليها، غفر الله لنا وله.
لفظة ( أعلنوا النكاح ) رواها الإمام أحمد من حديث ابن الزبير ، وحديث عبد الله بن الزبير : ( أعلنوا النكاح ) حسن لا بأس به، ولكن حديث: ( أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال ) أو ( واضربوا عليه بالدفوف ) ضعيف رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، وكذلك زيادة: ( واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف ) فالحديث كما قلت: رواه الترمذي وفي سنده عيسى بن ميمون ، ورواه أيضاً ابن ماجه وفي سنده خالد بن إلياس فلا يصح، وأصح شيء في الدفوف في النكاح هو ما رواه محمد بن حاطب كما رواه الدارقطني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف ) وهذا الحديث صححه الدارقطني وجعله من الإلزامات على الإمام مسلم حيث أنه لم يذكره في صحيحه، وقد ذكر مسلم أحاديث أقل حالاً من هذا الحديث على طريقة الدارقطني رحمه الله في كتاب الإلزامات والتتبع.
قال المؤلف: (ومن إعلانه)، الآن الحنابلة والشافعية وكذا الحنفية يقولون: لا بد فيه من شاهدين فجعل الجمهور الإعلان هو: وجود الشاهدين، فعلى هذا لا بد فيه من الزوج ورضاه والزوجة ورضاها والولي والشاهدين، وذهب مالك رحمه الله إلى أن وجود الشاهدين لا يلزم إذا وجد الإعلان، فلو جاء مأذون الأنكحة بالولي ورضي والزوج، ثم وضعوا عرساً في قصر من القصور وقالوا: سوف يتزوج فلان على فلانة، قالوا: هذا كاف؛ لأنه أعلن ولو لم يوجد شهود، لكن ابن تيمية رحمه الله قال: لو وجد الشهود ولم يوجد إعلان مثل ما يسمونه نكاح السر، فالزواج في هذا محل توقف، أو قال: محل نظر، وإذا وجد الإعلان فهذا كافِ؛ لأن هذا يسميها العلماء: شهادة بالاستفاضة، استفاض الأمر، فيقول: إن هذا الإعلان كافٍ، والذي يظهر والله أعلم أن وجود الشاهدين كاف، ولو لم يوجد الإعلان، خلافاً لـمالك، ولا يسمى نكاح السر إلا إذا اشترطوا عدم البيان أو لم يوجد الشاهدان، فإذا لم يوجد الشاهدان أو اشترط الزوج أو الولي عدم الإخبار، فإن هذا من نكاح السر، ونكاح السر عند بعض العلماء لا يجوز إذا اشترط ذلك، وهل نقول: لا يصح؟
المسألة محل توقف ونظر، والمالكية يمنعونه، والله أعلم، ولم يتبين لي في هذه المسألة مع أننا بحثناها، والمسألة خطيرة جداً جداً خاصة فيما يسمى بنكاح المسيار، فإنهم يتزوجون على أن المرأة لا ينبغي لها ولا يجوز أن تخبر أحداً، فلو ذهبت إلى مدرسة تحفيظ القرآن، وقالوا: من زوجك؟ فلا تخبرهم أنها متزوجة من فلان ابن فلان حتى لا ينفضح، وغير ذلك، والمسألة محل تأمل ونظر، والله تبارك وتعالى أعلم.
فإن عدم وليها أو غاب غيبة طويلة أو امتنع من تزويجها كفؤاً زوجها الحاكم].
يقول المؤلف: (وليس لولي المرأة تزويجها بغير كفء لها) الكفاءة عند العلماء أنواع:
كفاءة دين: وهذا مجمع على أنه لا يجوز للولي أن يزوج ابنته فاجراً؛ لأن الله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أو مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أو مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، وكذلك الولي لا يجوز له أن يزوج ابنته مشركاً أو ملحداً، وهذه يسميها العلماء: كفاءة الدين، وعدمها عدم صحة النكاح، فليس هو من شرط اللزوم ولكنه من شرط الصحة إذا كان زانياً أو غير مسلم، و مالك يرى أن الكفاءة هي في الدين فقط، وذهب الجمهور إلى أن الكفاءة تكون في الدين والنسب، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، ولكنهم قالوا: إن كفاءة النسب ليست شرط صحة ولكنها شرط لزوم، فلو تزوج الرجل المرأة ذات الحسب وهو ليس بحر، أو أن أجداده عتقاء، فإن العلماء يقولون: يصح النكاح ولكنه لا يلزم، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
وذهب الحنابلة إلى أنه لو وقع الزواج وقد رضي الولي والزوجة والإخوة ولكن أبناء العم لم يرضوا: فلهم الخيار، وذهب عامة أهل العلم إلى أنه إذا تم العقد فليس لأحد الخيار بعد ما علم الولي والزوج ذلك، وهذا هو الراجح.
ثم إنه ينبغي أن يعلم ويبين أن كلام الحنابلة والشافعية والمالكية هو في من علم أنه عتيق أو أن أجداده عتقاء، أما من كان مجهول النسب وهو يعلم أنه عربي، أو أنه يعلم أصوله ولكنه لا يريد أن يفصح بذلك حياء، أو أنه تزوج من مجهولة النسب فمنعت قبيلته أن يزوجوه فأصبح له وضع معين، فإن هذا بإجماع العلماء يعتبر عربياً، ولو تزوج هذا الرجل من هي قبيلية فإنه لا يجوز فسخ النكاح على قول عامة أهل العلم وليس فيه خلاف.
ويخطئ كثير من فقهاء العصر حينما يجعلون هذه المسألة من ضمن كلام الفقهاء الحنابلة والشافعية، فالذين يتزوجون مثل ما يسمونه: غير قبيلي، هو قبيلي ولكن أجداده تهربوا، فإذا ادعى أولياء المرأة بأن هذا الرجل غير قبيلي فلا بد أن يثبتوا أنه كان عبداً، ولا يلزم الزوج أن يثبت؛ لأن الأصل حرية المسلم وليس عبوديته، وهذه مهمة أن يبين؛ لأن الحنابلة قالوا: العرب أكفاء بعضهم من بعض، فعامة الناس اليوم هم عرب، والظن أن صاحب البشرة السوداء غير عربي هذا ليس صحيحاً، فالسودان قبائل شتى وهم بشرتهم سوداء، فليس العربي كما يظنه بعض العامة وبعض صغار الطلبة أنه غير الأسود، فالبشرة السوداء لا علاقة لها بالعربية من عدمها.
ويجب أن نعلم أن العرب أكفاء بعضهم من بعض بإجماع الفقهاء، والعربي هو الذي ثبت أصله أو أنه عربي ولا يعلم له رق، فإذا علم أنه رقيق فحينئذ يدخل في هذا.
ويجب كذلك أن نعلم أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إن الرقيق أو العتيق هو غير العربي؛ لأنهم يرون أن الرق لا يكون إلا في العجم، وأما العرب فلا يجوز رقهم إلا أن يسلموا أو يقتلوا، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وعلى هذا فما يذكر في بعض المنتديات لا يعتد به؛ لأن العرب أكفاء بعضهم من بعض بإجماع العلماء، ثم إن الرجل إذا قال: أنا ابن قبيلة كذا وكذا فإنه يكفي، كما قبل عمر رضي الله عنه قول صهيب الرومي : إنني ابن هزال، واكتفى، وكذلك قول الإمام أحمد : أن زيد بن حارثة ليس عبداً، إنما هو حر اشتروه من الحبشة حينما سرقوه وهو صغير. فاكتفي بخبر ولا يلزم الإثبات.
ثم إن ثبوت مسألة الأنساب هي بالاشتهار والاستفاضة، وربما اشتهر الأمر عند قوم ولم يشتهر عند آخرين، والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم.
(أو غاب غيبة طويلة) كمن ذهب ولم يعطهم رقم تلفونه للتواصل معه.
(أو امتنع من تزويجها كفؤاً) كمن جاءها الكفؤ وقال: لا أريد أن أزوجه، وهو راغب في مالها، فإن المؤلف يقول: ( زوجها الحاكم )، والأقرب والله أعلم وهو مذهب الجمهور أن الأب إذا منع موليته من تزويجها كفؤاً فإنه لا بد فيها من التفصيل:
فإن تقدم لها كفؤ فرده الولي، ثم تقدم آخر ثم تقدم آخر ثلاثة، فإن المرأة تذهب إلى القاضي ليخلع ولاية الأب أو الأخ ليجعلها فيمن دونه، فإن لم يجد من دونه فإنه يزوجها الحاكم، فالمؤلف جعل الحاكم يزوجها ابتداءً، والراجح والله أعلم أن الحاكم يخلع ولاية الممانع ويجعلها فيمن دونه، فإن لم يوجد أحد دون هذا الولي فإن ( السلطان ولي من لا ولي له )، كما جاء عند أهل السنن بخلاف النسائي].
قال المؤلف رحمه الله: [كما في الحديث: ( السلطان ولي من لا ولي له ) أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي].
ولا بد أيضاً من عدم الموانع بأحد الزوجين، وهي المذكورات في باب المحرمات في النكاح].
يقول المؤلف: (لا بد فيه من تعيين من يقع عليه العقد) فلو كان عنده ثلاث بنات فقال: زوجتك ابنتي. فلا يكفي، بل لا بد أن يقول: زوجتك ابنتي الكبيرة. فحينئذ تكون معلومة أو سوف تعلم، أو زوجتك ابنتي الطويلة، وواحدة من بناته طويلة، فهذه عرفها بالوصف، أو زوجتك ابنتي هنداً، فهذه عرفها بالتعيين بالاسم، أو زوجتك ابنتي هذه الحاضرة، وأما أن يقول: زوجتك إحدى ابنتي فلا يصح.
فإن قال قائل: ما تقولون في قصة موسى مع الرجل الصالح: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ [القصص:27]، نقول: هو مجرد عرض، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ [القصص:27] فموسى سوف يقول: أقبل فلانة أو لا أقبل أو غير ذلك، وأما قول بعض الفقهاء: إن الرجل الصالح حينما قال: إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص:27] أراد ألا يحرج إحداهما وإلا موسى يعلم من يريد، والرجل الصالح سوف يعلم، فهذا نوع من التكلف، لذا يقولون: إن البرمجة العصبية تؤثر حتى على المفسرين في تفسيرهم.
وعلى هذا فلا يصح: زوجتك بنتي وله غيرها؛ لأنه لم يعينها، فإن سماها أو وصفها بوصف منضبط صح ذلك، والله تبارك وتعالى أعلم، وهو نوع من التعيين.
ويقول المؤلف: (ولا بد أيضاً من عدم الموانع بأحد الزوجين ) والموانع من المحرمات، فإنه ربما يتزوج امرأة ومعه أختها فهذا من الموانع، وربما تزوج المرأة وهي أخته من الأب أو من الرضاع ونحو ذلك، وهي المذكورة في باب المحرمات في النكاح كما سوف يأتي بيانه، والله أعلم.
وهن قسمان:
أولاً: محرمات إلى الأبد.
ثانياً: محرمات إلى أمد ].
المؤلف ذكر باب المحرمات في النكاح، يعني أنه يحرم على الزوج أن يعقد على هذه المرأة؛ لأنها محرمة عليه إلى الأبد أو محرمة عليه إلى أمد أي وقت، متى ما زال هذا الوصف الذي فيها أو الذي فيه فإنه يجوز له بعد ذلك أن يتزوجها، هذا إذا كان إلى أمد، وأما إلى أبد فلا يجوز؛ لوجود هذا الوصف الذي كان فيه أو كان فيها، والله أعلم.
ثم شرع المؤلف في بيان المحرمات إلى أبد فقال: (سبع من النسب) (وسبع من الرضاع) (وأربع من الصهر)؛ لأن المصاهرة تكون بالنكاح.
هؤلاء هن من يحرم عليه أن ينكح إحداهن لأجل النسب، كما قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ [النساء:23] فيحرم على الإنسان أن يتزوجهن؛ لأنهن محرم له، ويجوز لهن أن يكشفن له وأن يظهرن الزينة الظاهرة، كما قال تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو أَبْنَائِهِنَّ أو أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أو نِسَائِهِنَّ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [النور:31] الآية، فهذا يدل على أنه لا يجوز، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله تعالى عليهم.
(الأمهات وإن علون) يعني: الأم وأم الأم وأم أم الأم ونحو ذلك.
( والأخوات مطلقاً ) ومعنى (مطلقاً) أي الأخوات لأب والأخوات الشقيقات.
(والبنات وإن نزلن ولو من بنات البنت) يعني البنت وبنت الابن وبنت بنت الابن أو بنت بنت البنت ونحو ذلك.
(والعمات والخالات)، والعلماء رحمهم الله يقسمون بتقسيم آخر، فيقولون: سبع من النسب وهن الأصول: الأمهات وإن علون، والفروع: البنات وإن نزلن، والحواشي وهن الأخوات مطلقاً والعمات مطلقاً والخالات مطلقاً، لكن لاحظ أنهم يجعلون الحواشي في المصاهرة غير الحواشي في العصبات، فإن الخئولة لا تدخل في العصبات والله أعلم، ولكن العمومة تدخل.
(وسبع من الرضاع) وهن مثل ما ذكرنا، ولكنها بالرضاع.
قال رحمه الله: [وأربع من الصهر، وهن: أمهات الزوجات وإن علون].
الصهر التي تحرم عليك بسبب وجود عقد النكاح وهو المصاهرة، فيحرم على الرجل أن يتزوج أم الزوجة إن كان قد عقد على الزوجة ولو لم يدخل بها، أما أن يتزوج ابنتها فلا بأس شريطة ألا يدخل على الأم، فيقول: (أمهات الزوجات وإن علون)، فيحرم على الإنسان أن يتزوج أم زوجته التي قد دخل بها، سواء كانت أم زوجته من جهة الأب أو من جهة الأم.
يقول: (وبناتهن وإن نزلن إذا كان قد دخل بأمهاتهن)، وأما إذا لم يدخل بأمهاتهن فيجوز، فلو عقد على هند ولم يدخل بها ثم طلقها وتزوج ابنتها مريم جاز ذلك، أما العكس فلا، يقولون: لأن الأم تقبل أن يتزوج الزوج بابنتها، لكن البنت لا تقبل؛ لأن شفقة الأم لابنتها أعظم من شفقة البنت لأمها، وتجدون يا إخوان! أن حنان الأم لابنتها أو لابنها أعظم من حنان الابن والبنت للأم مهما كبرا، وتجدون أن الحنان في الأم ليس متكلفاً بل هو حنان حقيقي، ولهذا الأم ترى ابنها صغيراً وإن كان كهلاً وترى ابنتها صغيرة وإن كانت عجوزة. والله أعلم.
المؤلف يقول: (من نسب أو رضاع) فالمصاهرة تحرم سواء كانت مصاهرة بالنسب أو مصاهرة بالرضاع، ومعنى مصاهرة بالنسب أي: أن الرجل لو تزوج امرأة فأمها بالنسب يحرم عليه أن يتزوجها، وكذا أمها من الرضاع، فلو تزوج هنداً، وهند لها أم وأب وجدة ولها أم وجدة أيضاً من الرضاع فيحرم على الزوج أن يتزوج أمها وجدتها من النسب وأيضاً أمها وجدتها من الرضاع، وهذا قول عامة أهل العلم من الأئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهذه من المسائل التي استنكرت على أبي العباس وقال: إن الله يقول: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، يقول ابن تيمية : والصلب يكون بالمصاهرة بالنسب ولكن لا يكون بالرضاع، فنقول: إن هذه الآية أثبتت المصاهرة بالنسب، والحديث أثبت المصاهرة بالرضاع، فقال صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) والولادة أعم، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [والأصل في هذا قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23].. إلى آخرها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب -أو- الولادة ) ].
ربما يفهم من ذكر رواية: (أو الولادة) أن الحديث بهذا اللفظ فقط، والصحيح أن الحديث له طريقان: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) وله لفظ آخر: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ).
لما انتهى المؤلف من بيان المحرمات إلى الأبد وبين أنها محرمات بالنسب، ومحرمات بالمصاهرة، ومحرمات بالرضاع، ثلاثة.
ثم شرع بعد ذلك في بيان المحرمات إلى أمد فقال: [ فمنهن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها ) متفق عليه مع قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23]
ولا يجوز للحر أن يجمع أكثر من أربع، ولا للعبد أن يجمع بين أكثر من زوجتين ].
بل إن العلماء قالوا: لو أنه تزوج هنداً ثم وطئ أخت هند بشبهة، فلو جاءت أخت هند إلى غرفة هند فوطئها ظاناً أنها زوجته، فإن العلماء يقولون: يحرم عليه أن يطأ هنداً وهي زوجته، حتى تستبرئ أختها؛ كل ذلك للحفاظ على النسب، والله أعلم.
يعني أن الحر لا يجوز له أن يتزوج أكثر من أربع، وعلى هذا فلو كان عنده أربع نساء ثم أراد أن يتزوج خامسة فطلق إحداهن، فلا يجوز أن يتزوج الخامسة حتى تنتهي عدة الرابعة، ويقولون: للرجل عدة، ويجعلون من ضمنها هذه الحالة، فإن الرجل لا يجوز أن يتزوج الخامسة إلا بعد انتهاء عدة من طلقها.
لكن بعض فقهاء التحايل يقولون للتجار إذا كان عند أحدهم أربع نساء وأراد أن يتزوج خامسة: قل لإحداهن: طلقتك ثلاثاً ألبتة، فتكون ثلاث طلقات، أخذاً بقول الجمهور: أن الطلقات ثلاثاً يقع، ثم يقولون له: إن الطلاق البائن بينونة كبرى يجوز للرجل بعده أن يتزوج بشرط أن يستبرئ بحيضة ولا يلزم ثلاثة قروء، كما هو مذهب الشافعي خلافاً للجمهور؛ فأخذوا بقول الجمهور بالطلاق الثلاث، وأخذوا بقول الشافعي بأن تستبرئ المرأة بحيضة، وهذه من الحيل والألاعيب.
والراجح: أنه لا يجوز له أن يتزوج المرأة الخامسة حتى تنتهي عدته أو عدة الرابعة بثلاثة قروء؛ لأن الله يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، و(أل) في المطلقات تفيد الاستغراق، فيعم المطلقة بينونة صغرى أو مطلقة بينونة كبرى.
ولو قال قائل: إذا كنتم تقولون بهذا، فكيف تقولون في الخلع بالقول الراجح وهو قول ابن عباس كما سوف يأتي: أنها تستبرئ بحيضة، لماذا لا تستبرئ بثلاثة قروء؟
نحن نقول: بذلك في المطلقة بينونة صغرى أو بينونة كبرى؛ لأنهن مطلقات، والخلع فسخ وليس بطلاق.
وأما ملك اليمين فللمرء أن يطأ ما شاء؛ لأن ملك اليمين ليس نكاحاً، ولكنه نوع من التسري، فلو كان للإنسان أربع نساء وعنده ألف جارية فله أن يطأ الألف الجارية؛ لأن العبرة بالنكاح، والله أعلم.
وللفائدة بعضهم يقول: ملك اليمين قد انتهى، والجواب: إنه لم ينته، ولكنه غير موجود، وهذا يسمى: غير موجود لأمد، وليس إلى الأبد؛ لأننا ما ندري ماذا سوف يحصل بعد ذلك، فلو أذن بذلك ولي أمر المسلمين فإنه قائم.
قال رحمه الله: [ وإذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار إحداهما، أو عنده أكثر من أربع زوجات اختار أربعاً، وفارق البواقي ].
هذا بإجماع العلماء على أن من أسلم وعنده أختان وجب عليه أن يفارق إحداهما، وهو بالخيار إما أن يختار من عند نفسه، وإما أن يضرب بين ذلك بالقرعة، وكذلك فيما لو أسلم وعنده أكثر من أربع، وهذا يوجد عند بعض دول أفريقيا حيث يكون للملك أو لزعيم القبيلة عشر نساء أو عشرون أو خمسون، فإذا أسلم قيل له: يجب عليك أن تبقي أربعاً وتفارق الآخرين، فأحياناً يسلم وأحياناً لا يسلم، فنقول: يجب عليك أن تسلم ويجب عليك أن تفارق، وإن أبقيت فهذا زنا، ولكن زنا مع إسلام خير من زنا مع كفر، وليس معنى ذلك أن نقبل له فعله، أو أن نرتضي له عمله، بل يجب علينا أن ننكر عليه وأن نبين له وأن ننصحه بين الفينة والأخرى.
وقد جاء في ذلك حديث وهو (أن
يعني أن المرأة التي دخلت في عقد نسك الحج أو العمرة يحرم على وليها أن يزوجها؛ لأنها محرمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) وجاء في بعض الروايات: ( ولا يخطب )، وبعضهم يضعف هذه الرواية، وبعضهم يصححها، ولكن النكاح ثابت وهو قول عامة أهل العلم.
ولكنهم اختلفوا: هل لو عقد الرجل على المرأة المحرمة يصح النكاح أم لا؟
والذي يظهر والله أعلم: أنه يفرق بين من علمت أنها محرمة وبين من كانت تظن أنها ليست بمحرمة، مثلاً امرأة ذهبت إلى الحج وأهلت بالحج ثم جاء الحيض فظنت أنه يجوز لها أن ترجع فتزوج بعد ذلك، فنقول: الأصل والله أعلم صحة النكاح، ثم إن النهي هنا إنما هو من باب الحظر وليس من باب الأمر، وما جاء في بعض الروايات كما عند ابن أبي شيبة عن عمر أنه قال: لا يصلح، فمعنى (لا يصلح) يعني: أنه حرام، ولكن ليس معناه أنه لا يثبت ولا يصح، هذا هو الذي يظهر، والله أعلم وأعلى وأحكم.
لكننا نقول: إذا وجد هذا فإبراء للذمة أنه يعقد عليها مرة ثانية، ولو كان عندها أولاد وأولادها لها ولزوجها، ولكن من باب تصحيح العقود وينسبون هؤلاء الأولاد إلى أبيهم، وهذا قول واحد عند أهل العلم ليس فيه خلاف.
لا يجوز للمعتدة من الغير سواء كانت معتدة بطلاق بائن أو رجعي أن تتزوج من الغير؛ لأنها ما زالت زوجته، ولهذا يخطئ الناس وبعض مأذوني الأنكحة حينما يأخذون بقول الشافعية، والمسألة خطيرة جداً، حيث إن الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها بعد ذلك، فتعتد بحيضة واحدة، إذا كان قد دخل بها أو طلقها ثلاثاً فتعتد بحيضة واحدة ثم يتزوجها على مذهب الشافعي ، والراجح: أنه لا يجوز حتى تعتد ثلاثة قروء. والله أعلم.
ذهب الحنابلة رحمهم الله إلى أنه لا يجوز أن يتزوج الزاني بالعفيفة، ولا يجوز أن يتزوج العفيف بالزانية إلا أن تتوب؛ لأن الله يقول: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أو مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أو مُشْرِكٌ [النور:3] هذا قول الحنابلة، والعجب أن جمهور الفقهاء قالوا بصحة نكاح الزانية بالعفيف، فلو أن عفيفاً تزوج زانية صح عند الجمهور، وأنا ذكرت ذلك؛ لأنه يوجد عند بعض الإخوة الذين يذهبون للدراسة فيتزوجون نصرانيات بحجة أنه يجوز الزواج من النصرانيات، لكن النصرانية ليست عفيفة، فربما كانت تذهب إلى البارات وترقص مع هذا وذاك، فيتزوجها وهذا لا يجوز.
ويجب أن نبين لإخواننا المبتعثين الذين يظنون أن مجرد إجماع العلماء على جواز زواج المسلم من الكتابية يجوّز ذلك، ونقول لهم يجوز لكن باشتراط العلماء بإجماعهم في الزواج من الكتابية: أن تكون عفيفة، فإذا كانت غير عفيفة فلا يجوز له أن يتزوجها حتى تكون عفيفة، بمعنى أنها لا تتبرج تبرجاً فاضحاً، ولا تذهب مع الرجال وإلا فإن النكاح باطل، وهذا هو مذهب الحنابلة واختيار أبي العباس بن تيمية ، وقالوا: إن قول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] في آية النساء عام مخصوص بقوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أو مُشْرِكَةً [النور:3].
وذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] عام، وأما قوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أو مُشْرِكَةً [النور:3] يعني أن الزاني لا يطاوعه على زناه وعلى الوطء إلا زانية أو مشركة، وليس داخلاً في العقد، ولكن الصحيح أن لفظ النكاح الأصل أنه يطلق على حقيقة العقد وليس على الوطء إلا في آية واحدة. والله أعلم.
المطلقة ثلاثاً يحرم عليها أن ترجع إلى زوجها حتى يتزوجها زوج آخر زواجاً عن اختيار ورضا، وليس مقصوداً به التحليل، فلو تزوج الثاني الزوجة ليحللها من زوجها فإن هذا يسمى: التيس المستعار كما في حديث عقبة بن عامر ، ولا يصح النكاح كما هو مذهب الجمهور واختيار ابن تيمية.
لكن لو أن امرأة عندها زوج ولها منه أولاد فطلقها آخر ثلاث تطليقات، ثم اتصلت على واحد وقالت: أريد أن تزوجني أي واحد من الناس، فجاء مأذون الأنكحة وأتى لها بزوج فتزوجت هذا الزوج، فلما وطئها قالت: أنا لا أريدك، أنا لا أحبك، أنا أريد أن أرجع إلى زوجي، فهي قصدت بالزواج الثاني أن تحل لزوجها الأول، فالنكاح صحيح، وليست داخلة في حديث ( لعن الله المحلل والمحلل له )؛ لذا قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد: وذهب عامة فقهاء الأمصار إلى أن التحليل إذا كان من جهتها فإن النكاح صحيح وهي آثمة؛ لأن النكاح ليس بيدها؛ لما رواه الدارقطني : ( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق )، ولما جاء في قصة رفاعة قالت: ( يا رسول الله! إني تزوجت
وعلى هذا فيحرم كما سوف يأتي إن شاء الله بيانه أكثر، أو يستبرئها بحيضة ثم يأتي الأخرى وهكذا، والله تبارك وتعالى أعلم.
يعني يجوز للرجل أن يشتري هنداً وأن يشتري أختها مريم ويجمعهما، لكنه لا يجوز أن يستمتع بهما جميعاً، فلو استمتع بإحداهما فلا يجوز أن يستمتع بالأخرى حتى يخرجها من ملكه، فلو وطئ هنداً مثلاً، فإذا أراد أن يطأ أختها فلا بد أن يستبرئ هنداً ثم يزوجها أو يبيعها، أما أن يبقيها عنده ثم يطأ أختها ثم يبقيها عنده حتى تستبرئ .. وهكذا فهذا لا يجوز، بل لا بد أن تخرج من ملكه، إما بأن يبيعها وإما أن يزوجها، والله أعلم.
وأما أن يبقيهما جميعاً عنده بأن يطأ الأولى حتى إذا أراد أن يطأ الثانية استبرأ بالأولى ثم أتى الثانية فهذا لا يجوز بإجماع العلماء.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم وهو قول ابن عباس وروي عن أبي هريرة وهو قول جمهور أهل العلم: أن الرضاعة ما كان زمن الحولين؛ لحديث ابن عباس أنه قال: لا رضاع إلا ما كان في الحولين، وهذا الحديث رواه الدارقطني و البيهقي وقواه.
وهناك قول أن الرضاع ما كان في الحولين، إلا أن يكون قد فطم أثناء الحولين، فلو فطم بعد سنة، ثم ارتضع من المرضعة بعد السنة وبعد الفطام فلا ينشر الحرمة، ولو لم يفطم إلا بعد ثلاث سنين فإن الحرمة لا تنتشر إلا في الحولين، وهذا قول قوي، وأشار إليه بعض فقهاء الشافعية، أما ما كان في الحولين فلقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وهذا يدل على أن الحولين ينشران الحرمة وهو قول ابن عباس .
وأما قولنا: الفطام فلحديث فاطمة بنت المنذر أنها روت عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام ) وهذا الحديث ضعفه أكثر أهل العلم؛ لأن فاطمة بنت المنذر لم تسمع من أم سلمة ، ولكنه روي موقوف على أم سلمة ، وهذا يجعل المسألة فيها قوة، ومما يدل على ذلك ما جاء في بعض الروايات: ( لا رضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم )، ومن المعلوم أن الرضاع الذي ينشز العظم وينبت اللحم هو ما كان قبل الفطام، وأما إذا كان بعد الفطام فالذي ينشز العظم وينبت اللحم هو الطعام، وهذا لعله جمع بين الأقوال، والله تبارك وتعالى أعلى وأحكم.
والعلماء اختلفوا في هذا هل هو خصوصية أشخاص، أم خصوصية أوصاف؟ فإن قلنا: خصوصية أشخاص وهو قول عامة أهل العلم قلنا: هو لـسالم خاصة ولا يجوز القياس عليه، وإن قلنا: خصوصية أوصاف، قلنا: لكل امرأة يشق عليها أن تترك من كانت اعتادت على أن يدخل عليها وفي تركه لعدم الدخول مشقة وهو يخدمها، مثل الذي تتبناه وهو صغير في دار الملاحظة، أو في دار الرعاية وغيره، فيقول ابن تيمية : ترضعه إذا كان يدخل عليها وهو صغير وقد ربته، فتحرم عليه ويذهب الذي في نفس زوجها، وهو قول عائشة رضي الله عنها.
ولكن الصحيح كما قالت أم سلمة : أبت سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن أحد بتلك الرضعة، وقلن لـعائشة : إنما ذلك لـسالم خاصة.
وبعض الناس ظن -كما هو قول لبعض أهل الظاهر- أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت أن يدخل عليها السائق والطباخ أن ترضعه ويدخل عليها، كما وجدنا ذلك في وسائل الإعلام، وهذه من شواذ المسائل، ومن الأغلوطات والتي لا يجوز، و عائشة رضي الله عنها لم تجعل هذا في كل الناس، إنما ذكرت ذلك وأخطأت رضي الله عنها، ومن الذي لا يخطئ.
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ثم إن العلماء اختلفوا: ما هي الرضعة؟ هل المقصود بالرضعة أن يضع الصبي فمه في ثدي أمه فيمص ثم ينزع، أم العبرة بأن يمص حتى يترك من عند نفسه ولو جلس نصف ساعة؟
الذي يظهر والله أعلم هو قول الجمهور خلافاً لـابن القيم : أن العبرة بالمصة التي يتركها من عند نفسه، فلو مص مصة ثم تركها عدت واحدة، ولو مص واحدة واستمر حتى انقطع نفسه ثم ترك تعتبر ثانية.. وهكذا، وليست العبرة -كما يقول ابن القيم - بخمس رضعات، يعني: خمس جلسات؛ لأن هذا خلاف الظاهر والله أعلم، وإن كان ابن القيم قد أراد أن يقوي ذلك بقول بعض علماء اللغة، والصحيح هو قول الجمهور والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان )، فهذا دليل على أنه لا يحرم إلا الخمس، والله تبارك وتعالى أعلم.
الآن عندنا صاحب اللبن الذي هو الزوج، وعندنا المرضعة وعندنا المرتضع، فبالنسبة للمرتضع يحرم عليه أصول صاحب اللبن، وفروع صاحب اللبن وحواشي صاحب اللبن، فأصول صاحب اللبن للمرتضع: الأمهات وإن علون، وفروع صاحب اللبن: البنات وإن نزلت، وحواشي صاحب اللبن: العمات والخالات وإن علون.
وقل مثل ذلك في حق المرتضع للمرضعة، فيحرم على المرتضع أن يتزوج أصول المرضعة، وفروع المرضعة وحواشي المرضعة.
أما صاحب اللبن مع المرتضع، والمرضعة مع المرتضع فيحرم عليه الفروع فقط وهن البنات وإن نزلن، وعلى هذا لو أن المرتضع اسمه زيد، وصاحب اللبن اسمه علي، والمرضعة اسمها هند، وللمرضع الذي هو زيد أم اسمها مريم، مات عنها زوجها، هل يجوز لصاحب اللبن الذي هو علي أن يتزوج مريم؟ نقول: نعم يجوز، وإن قال: أبي تزوج أمي، وعلى هذا فإذا ضبطت هذا سهل عليك باب الرضاع كله، فاضبط النزول والعلو تعرف ذلك كله.
وأما الزوجة فهم يجعلونها في حكم الفروع وليست في حكم الحواشي.
إذاً زوجة المرتضع تحرم على صاحب اللبن؛ لأن صاحب اللبن يقول: أنت زوجة ابني، فتحرم على قول الأئمة الأربعة ويكون محرماً لها خلافاً لـابن تيمية كما قلنا.
وهي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر، وهي قسمان:
صحيح كاشتراط ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها أو بلدها، أو زيادة مهر أو نفقة ونحو ذلك ].
الآن عندنا شروط النكاح، وعندنا الشروط في النكاح، وقلنا: إن شروط النكاح هي الشروط الصحيحة التي لا بد من توفرها، وأما الشروط في النكاح فهي الشروط التي يجعلها أحد العاقدين زائدة على شروط النكاح.
النوع الأول: شرط من مقتضى العقد، أو من مقصود العقد، فهذا شرط صحيح بإجماع العلماء؛ لأن وجوده تأكيد له، وهو كعدمه؛ لأنه ثابت، مثل ما لو قال: أتزوجك وتكونين عندي؛ لأن الأصل أن الزوجة تذهب إلى الزوج، أو أتزوجك وأستمتع بك؛ لأن الأصل في عقد النكاح الاستمتاع، فهذا يصح بالإجماع؛ لأن وجوده تأكيد له، ووجوده كعدمه؛ لأنه ثابت بأصل العقد.
النوع الثاني: شرط من مصلحة العقد ويلائم العقد، ومثل ذلك: فيما لو اشترط الولي أن يتم الزواج على ألا يدخل بها إلا بعد انتهاء الدراسة في العطلة، أو يتزوج بها على ألا يدخل بها إلا بعد أن تتخرج من الجامعة، ونحو ذلك، أو يتزوج بها على أن يكون المهر مؤجلاً ونحو ذلك، فهذه يسميها العلماء من مصلحة العقد وملاءمته، وهذا أيضاً شرط صحيح عند الأئمة الأربعة.
النوع الثالث: وهو الشرط الذي يكون فيه منفعة لأحد المتعاقدين أو كليهما وليس هو من مقتضى العقد ولا من مصلحته، مثل ما ذكر المؤلف: (كاشتراط ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها أو من بلدها، أو ألا يسافر بها، أو زيادة المهر ونحو ذلك) فهذه شروط يقول العلماء: فيها منفعة لأحد المتعاقدين، فالمؤلف جعلها صحيحة، وهذا هو قول الحنابلة رحمهم الله، إلا أنهم قالوا: لا يزيد على شرط واحد، والصحيح أن له أن يزيد ولو أربعة شروط، وهو اختيار ابن تيمية ، وهو ما اختاره ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه، خلافاً للجمهور: حيث إن الجمهور قالوا: العقد صحيح والشرط باطل، والصحيح: أن الشرط صحيح أيضاً، وقد روى ابن أبي شيبة : أن امرأة تزوجت رجلاً من الأعراب على ألا يسافر بها، فتزوجها ثم أرادها أن تسافر معه فأبت، فذهب إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إني تزوجت امرأة على ألا أسافر بها، وإني تزوجتها فأردت أن تسافر معي، قال عمر : لها شرطها، أي ليس لك حق في أن تسافر بها، الرجل أتى لـعمر يريد الفزعة فقال: الله أكبر غلبنا عليه النساء، يعني يريد الحمية، فقال عمر : مقاطع الحقوق عند الشروط.
وقد روى البخاري و مسلم من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحق الشروط أن يوفى ما استحللتم به الفروج )، وفي رواية: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) فإذا وجب أن يوفي المتعاقدان بشروط عقد البيع فإن شروط النكاح من باب أحق وأخلق وأولى.
وعلى هذا فلو تزوج الرجل المرأة واشترطت عليه ألا يتزوج عليها، فالشرط صحيح. ولو تزوجها على أن يطلق زوجته الأولى فالشرط باطل؛ لأن هذا الشرط محرم، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( ولا يتزوج الرجل المرأة على أن تطلق أختها -ضرتها-؛ لتملأ به صحفتها ) فهذا الشرط باطل لا يصح، ولكن لها الخيار إذا لم يدخل بها؛ لأنه شرط محرم، أما ألا يتزوج فلها ذلك، فإن تزوج بعد ذلك فهو آثم في فعله ولها الخيار.
ومعنى لها الخيار: أن تذهب إلى أهلها ولو لم يطلقها، ثم تذهب إلى القاضي فتقول: نقض شرطي معه وأنا أريد أن أفسخ العقد، فيكون الأمر بيد القاضي وليس بيده، ولكنها لو صبرت فالعقد صحيح.
أما إذا ماتت فقد انتهى الأمر، وله أن يتزوج غيرها.
يقول المؤلف: [ فهذا ونحوه كله داخل في قوله: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) متفق عليه ].
إلا أننا نقول: إن الرجل إذا أذن لزوجته أن تعمل بالشرط يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من مالها، فإن أخذ فهو آثم في ذلك، فإذا علم أنه لا يجوز للزوجة أن تأخذ شيئاً من ماله إلا برضاه، فكذلك الزوج لا يجوز أن يأخذ من مال زوجته إلا برضاها، ولو أنه طلب منها أن تعطيه راتبه فأعطته رغبة ورهبة، فبدأ بجمع هذا الراتب ثم تزوج عليها، فيجوز لها -وهو مذهب الحنابلة- أن تذهب إلى القاضي فتقول: أنا أعطيه راتباً كل شهر ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف لمدة ثلاثين سنة، أنا أريد أن يرجعها لي الآن؛ لأنني ما أعطيته إلا لأجل ألا يتزوج علي، ولكنه تزوج، فإن ادعى أنها هبة برضاها واختيارها، فلها أن تقول: إن هذه هبة الثواب على مذهب الحنابلة، وهذا هو الراجح، وروي ذلك عن بعض السلف: أنها لها أن ترجع في عطيتها، ولها أن تطالب زوجها؛ لأنها ما أعطته -خاصة المدرسة التي تعطي زوجها بعض الراتب- إلا لأجل خوفها من الزواج عليها.
وهنا أمر: لو اشترطت عليه في العقد أن تكمل دراستها فقال: لا بأس بشرط، أن تعطيني خمسة بالمائة أو عشرة بالمائة من الراتب، أو ألفاً من الراتب فرضيت، فهذا يصح و(المؤمنون على شروطهم)، وهذا هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز ، ومنع ذلك مجمع الفقه الإسلامي، وقالوا: إن هذا شرط تعسفي، والراجح: صحة ذلك؛ لأن هذا حق للرجل، فله أن يتنازل عنه بعوض وبغير عوض.
ورخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة أولاً ثم حرمها، و( لعن المحلل والمحلل له )، و( نهى عن نكاح الشغار ) وهو أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما، وكلها أحاديث صحيحة].
فلو قال: أتزوجك ما دمت في انتداب لمدة سنة وسوف أطلقك، فرضيت بذلك فهذا من نكاح المتعة، وسواء كتب في العقد أو اتفقا عليه قبل العقد؛ لأن الراجح والله أعلم أن الشرط الذي قبل العقد كالمقارن للعقد، على قاعدة: الشرط السابق عن العقد كالشرط المقارن له.
ونكاح المتعة محرم كما روى مسلم من حديث الربيع الجهني عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وإني حرمت ذلك إلى يوم القيامة )، وقد جلد عمر عمرو بن حريث حينما رآه يستمتع وكان جاهلاً فأقام عليه حد الزنا، ونهي عن ذلك كما في حديث علي رضي الله عنه، وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة في فتح مكة ثم نهى عنها، ( كان يستمتع أحدنا بالقبضة من التمر والدقيق الأجل المسمى )، وقد كان ذلك خفي على بعض الصحابة، كما خفي على عمرو بن حريث ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه حتى مات، ثم جاء أبو بكر ومات أبو بكر ثم جاء عمر فأقام عليه الحد، بل قال جابر كما في صحيح مسلم : ( كنا نستمتع بالقبضة من التمر الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و
وهل يدخل في حكم المتعة الزواج بنية الطلاق؟
الزواج بنية الطلاق معناه: أن يتزوج الرجل المرأة وفي نيته أن يطلقها، فالأئمة الثلاثة وعامة فقهاء الأمصار الثلاثة: مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد أن النكاح صحيح، وقال أبو عمر بن عبد البر وكذا ابن قدامة: إنه قول جمهور الفقهاء ولم يخالف في ذلك إلا الأوزاعي ، والإمام أحمد في إحدى روايتيه، والرواية الأخرى قال: هي أخية المتعة، و ابن تيمية يرى أن الزواج بنية الطلاق نكاح صحيح.
وأنا ذكرت هذا لأبين أن خلاف العلماء في الزواج بنية الطلاق شيء، والممارسة المشينة التي يفعلها بعض الناس شيء آخر، فالعلماء حينما قالوا: الزواج بنية الطلاق جائز لم يذكروا صوراً قبيحة، بحيث إن الرجل يذهب إلى بلد معين فلا يسأل عن المرأة ولا تسأل عنه بل إنه يقول: أنا زيد بن عبيد فترضاه المرأة ويتزوجها، ولم يعلم هل انتهت من عدتها من زوجها الأول أم لا، وربما ذهب إلى جهات معينة أو خطابات معينات أو خطابين معينين وتزوج، فهذه ممارسات مشينة لا تسوغ، ولا يجوز لنا أن نطبق كلام الفقهاء على هذا الواقع المرير.
والواقع الذي ذكره العلماء وفعله بعض الصحابة هو أن يتزوج الرجل المرأة على أنه متى ما رغب فيها أبقاها وإلا طلقها، مثل ما يفعله الحسن بن علي و المغيرة بن شعبة وبعض التجار في ذلك الزمان، أما ممارسات الشباب الذين يذهبون إلى هنا وهناك ويمارسون ممارسات مشينة حتى إن أحدهم يؤتى إليه بعشر من النساء ثم يختار إحداهن، ثم يتزوجها، فإن لم يرغبها طلقها ثم أخذ الثانية، وهكذا دواليك، في استجرار مشين يجعل أهل الرفض يستقبحون فعلنا ويقولون: هذه أخية المتعة، وأنكم تبيحون ما تريدون وتحرمون ما تريدون.
وأما الزواج بنية الطلاق فالذين قالوا بالإباحة قالوا: هو نية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ) فهو نية، والنية لا أثر لها في العقد، ويمكن أن يستمر ويمكن ألا يستمر، لكن كما قلت: هذا شيء، والممارسة المشينة شيء آخر، والذين حرموا ذلك قالوا: إن هذا غش بالمرأة، فلو علمت المرأة أنه سوف يتزوج ويطلقها لما أذنت في ذلك، والجمهور يقولون: إنها لا ترضى بناء على أنها لا تحب الطلاق، كما أن المرأة لو علمت أن زوجها سوف يتزوج عليها لما أذنت، مع أن الطلاق مباح والزواج الثاني مباح آخر.
ونكاح الشغار أن يزوج الولي موليته لآخر على أن يزوجه الآخر موليته، سواء كان بينهما صداق أو لم يكن بينهما صداق، هذا هو الراجح والله أعلم، فأما إذا لم يكن بينهما صداق فهذا واضح في حرمته؛ لأنه جعل البضع مقابل البضع بلا مهر وهذا محرم، وأما إذا كان بمهر مع وجود الشرط فهو أيضاً لا يصح؛ لأن الولي لم يكن ناصحاً في تزويجه للولية؛ لأن القاعدة تقول: التصرف بالرعية منوط بالمصلحة، وهو لم يزوج موليته إلا لأجل انتفاعه بذلك، ولهذا زوجه لأجل أن يتزوج الآخر، أما لو تزوجها أو زوجها الولي ثم دخل بها ثم بعد ذلك طلب الولي أخت الزوج جاز ذلك إذا لم يكن ثمة شرط، والله تبارك وتعالى أعلم.
يقول المؤلف: (وكلها أحاديث صحيحة) يعني حديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار )، فهو متفق عليه من حديث ابن عمر ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المتعة في الصحيح من حديث علي ومن حديث ربيعة بن سبرة الجهني عن أبيه وغير ذلك من الأحاديث، وحديث: ( لعن الله المحلل والمحلل له ) رواه الإمام أحمد و النسائي و الترمذي من حديث ابن مسعود وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيباً لم يعلم به قبل العقد -كالجنون والجذام والبرص ونحوها- فله فسخ النكاح.
وإذا وجدته عنيناً: أجل إلى سنة، فإن مضت وهو على حاله فلها الفسخ، وإن عتقت كلها وزوجها رقيق خيرت بين المقام معه وفراقه، لحديث عائشة الطويل في قصة عتق بريرة : ( خيرت
وإذا وقع الفسخ قبل الدخول فلا مهر، وبعده يستقر ويرجع الزوج على من غره ].
فأحياناً هناك عيوب في المرأة تمنع الرجل من الوطء، وعيوب في الرجل تمنعه من وطء زوجته مثل المجبوب الذي ليس له ذكر، أو العنين الذي لا يستطيع أن يأتي النساء، فهذا عيب، وقول عامة أهل العلم أن المرأة لها بالخيار، وكذلك الرجل إذا عجز عن المرأة لعيب فيها فإن له الخيار، وهذا العيب ليس له حد فبعض العلماء جعله أربعة، وبعضهم جعله سبعة، وبعضهم جعله ثمانية، وبعضهم جعله أحد عشر عيباً، والراجح: أنه ليس للعيب حد، بل ضابطه: أن كل ما يمنع من الاستمتاع أو ينقص من لذته فإنه يحق لأحد الزوجين الفسخ به.
قوله: (ويرجع الزوج على من غره)، يعني المرأة إذا أتاها الزوج ثبت مهرها، فإن كان الذي غره الزوجة رجع المهر إليه، وإن كان الذي غره الولي رجع على الولي، وإن كان الذي غره غير ذلك رجع على الذي غره، وسواء كان هذا العيب قبل العقد أو بعده في حق المرأة، يعني أن المرأة لو وجدت زوجها فيه عيب وقت العقد ولم يعلمها بذلك صار لها الخيار، وأيضاً لو جاءه بعد العقد عيب يمنع الاستمتاع فإن لها أن تطلب الفسخ، فلو أنه مرض أو جاءه حادث وشل ولا يستطيع أن يأتي النساء فلها أن تطلب الفسخ إذا امتنع من الطلاق.
أما الزوج فلو كان العيب بالمرأة وقت العقد فله طلب الفسخ؛ لأنه سوف يرجع على من غره بالمهر، أما لو تعيبت المرأة عيباً يمنع من الاستمتاع أو ينقصه بعد العقد فليس للزوج الفسخ إنما له الطلاق؛ لأنه يملك المفارقة بالطلاق، أما الزوجة فلا تملك المفارقة إلا بالفسخ.
وجمع الروايات تفيد مسائل كثيرة؛ لأن جمع الروايات وتتبعها يعطي الفقيه تصوراً للواقعة أكثر من حديث واحد، ولهذا قولها: ( إني أكره الكفر بعد الإسلام )، معناه إني أكره كفران العشير وعدم إعطائه حقه، وعلى هذا فإذا كانت المرأة لا تستطيع ذلك فلها باب الخلع كما سوف يأتي بيانه، أما إن كانت حرة وزوجها ما زال رقيقاً فلها ذلك، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بريرة فقال: ( يا
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر