إسلام ويب

كتاب منهج السالكين - كتاب العدد والاستبراءللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع للمرأة الحرة العدة إذا فارقت زوجها بموت أو حياة، وتختلف العدة باختلاف حال المرأة، وشرع للأمة الاستبراء بدلاً من العدة إذا فارقت سيدها. ويلزم الإنسان بنفقة زوجته على حسب حاله، وكذلك يلزم بالنفقة على أصوله وفروعه، وللطفل الحق في الحضانة إن انفصل أبواه، وينظر فيها لمصلحة المحضون قبل الحاضن.

    1.   

    عدة الوفاة

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحبتي في الله!

    قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله تعالى: [ كتاب العدد والاستبراء

    العدة: تربص من فارقها زوجها بموت أو طلاق، فالمفارقة بالموت إذا مات عنها تعتد على كل حال، فإن كانت حاملاً فعدتها وضعها جميع ما في بطنها؛ لقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وهذا عام في المفارقة بموت أو حياة، وإن لم تكن حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، ويلزم في هذه العدة أن تحد المرأة وتترك الزينة والطيب والحلي والتحسن بحناء ونحوه, وأن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي فيه، فلا تخرج منه إلا لحاجتها نهاراً؛ لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] الآية ].

    يقول المؤلف: (كتاب العدد) والعدة: هي الأيام التي تتربص بها من فارقها زوجها، سواء كان فارقها بموت أو فارقها بطلاق, والعدة هي الأيام كما مر، فالمفارقة بموت -إذا مات عنها زوجها- تعتد على كل حال، ومعنى تعتد على كل حال, أي: إن كانت حاملاً أو حائلاً، يعني: طاهراً، فهي تعتد, إلا أن عدة الحمل تختلف عن عدة غير الحمل, فالمفارقة بموت إن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل, سواء كان الحمل طويلاً أم قصيراً، فلو أن رجلاً مات عن زوجتين كلاهما حاملتان، كأن كانت: واحدة في الشهر الأول من الحمل, والأخرى في الشهر التاسع، فلما بلغهما وفاة زوجهما التي في الشهر التاسع من شدة المصيبة وضعت الحمل، والأولى تمالكت نفسها, فنحن نقول: إن الأخرى التي عندما أخبرت بوفاة زوجها ووضعت حملها انتهت عدتها, وأما هذه فإن عدتها تستمر ثمانية أشهر أخرى، هذه التي تسمى: عدة الحمل, فلا أثر لطول العدة من قصرها إذا كان في بطنها حمل؛ لقول الله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، وهذا يفيد على أنه سواء كان الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشراً أو كان الحمل أقل من أربعة أشهر وعشراً، فالحكم بالحمل.

    أما إذا لم تكن المرأة حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشراً, وسواء كانت هذه ممن تحيض أو ممن لا تحيض, مثل البنت الصغيرة أو المرأة العجوز أو التي تحيض, فعدتها أربعة أشهر وعشراً؛ لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234].

    1.   

    ما يلزم المعتدة حال عدتها

    وإذا قلنا: إنها في العدة, سواء كانت حاملاً أو حائلاً, يعني: طاهراً، وقلنا: وجب عليها العدة, فإنها إذا كانت في العدة يلزمها أمور:

    الأمر الأول: أن تحد على زوجها، والإحداد: أن تترك الزينة، وأن تترك الطيب، وأن تترك الحلي، وأن تترك الملابس الجميلة، وأن تترك الحناء, فإن كل ذلك ممنوعة منه المرأة, فالثوب الذي يسمونه الفستان أو ثوب السهرة ممنوعة منه، إذاً ماذا تلبس؟ تلبس الثياب العادية ولو كانت ملونة إذا كان لونها معتاداً, وما يسمونه الجلابية نوعان: جلابية منزل، وجلابية عيد، فجلابية العيد هذه نوع من الزينة, فلا يجوز للمرأة أن تلبسها، وإن كان اسمها جلابية, وأما الجلابية العادية ولو كان لونها أحمر أو أصفر أو أخضر فإنه لا بأس بها؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبس ثوبا ًصبيغاً إلا ثوب عصب )، والثوب العصب: يعني الثوب العادي، أو الذي يكون لون ليس لون زينة.

    وكذلك لا يجوز لها أن تحني يديها ولا أن تحني رأسها؛ لأن الحناء طيب ،كما جاء عند النسائي و أحمد بن حنبل , ولا يجوز لها أن تلبس الحلي, فتخلع ما بأذنيها من قرامط, وتخلع ما بيدها من أساور, وتخلع ما بأصابعها من ذهب؛ لأن ذلك نوع من الزينة, والمرأة لا يجوز لها أن تتزين إذا مات عنها زوجها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق المرأة, قال: ( ولا تكتحل ولا تتطيب ولا تلبس ثوباً صبيغاً إلا ثوب عصب ولا تلبس الحلي )، والله أعلم.

    الأمر الثاني: يلزمها أن تبقى في بيت زوجها الذي جاءها فيه نعيه, فإذا كانت تسكن في الرياض ومرض زوجها وهو في عمل في جده ومات وهي عنده, فإنها تعتد في جدة, ولّا تذهب إلى الرياض في البيت الذي هو فيه؟ تذهب إلى الرياض في البيت الذي هو فيه, وإذا كان زوجها له بيتان؛ ستة أشهر يسكن في الرياض وستة أشهر يسكن في الطائف مثلاً، فنقول: تعتد في البيت الذي يكون فيه أكثر, وإلا جاز لها أن تسكن في البيت الثاني, وإذا كان له بيوت كثيرة فإنها تسكن في البيت الذي هو مستقره, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي : ( اعتدي في البيت الذي جاءك فيه نعيه ).

    الأمر الثالث: إذا بقيت المرأة في بيت زوجها فلا يجوز لها أن تخرج إلا لحاجة, ومن الحاجة أنها تزور مريضاً في النهار, إذا كانت موظفة كمدرسة مثلاً وهي مضطرة إلى العمل, فلا بأس أن تذهب نهاراً إلى العمل. وإذا كانت مريضة تذهب إلى الطبيب لا حرج في ذلك, وإذا احتاجت أن تروح عن نفسها لتزور أمها أو تزور أباها في النهار فلا حرج في ذلك, لكنها لا تبقى معهم في الليل تبيت عندهم؛ بل تبيت في البيت الذي فيها نعيه. ولا يجوز للأولياء أن يخرجوها من البيت بدعوى أن هذا مال الوارث, بل يجب أن يبقوها أربعة أشهر وعشراً.

    وإذا كان الزوج الذي مات عنده شقة, فإنها تبقى في الشقة التي فيها نعيه, فإن انتهت مدة الإيجار يقول العلماء: يطلب من صاحب الأجرة أن يمدد بمقدار ذلك, فإن أبى صاحب الأجرة بعدم التجديد فإنها تعتد في أي مكان شاءت, أما إن كان ذلك من قبل الأولياء فلا يجوز لهم ذلك, فإن رضي صاحب الأجرة أن يمدد فيجب على الأولياء إن كان الميت عنده مال أن يأخذوا من ماله ويزيدوا في الأجرة لأجل بقائها في الشقة الذي جاء فيها نعي زوجها.

    ومما يدل على أنه لا بأس أن تخرج للحاجة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن امرأةً طلقها زوجها وأرادت أن تخرج فأبى وليها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى فاخرجي فجدي نخلك، عسى أن تعملي خيراً أو تصنعي معروفاً )، ومن المعلوم أن المرأة المدرسة إذا كانت تدرس فإنها تصنع معروفاً, وإن كان ذلك نفع لها والله أعلم.

    1.   

    عدة المفارقة حال الحياة

    ثم شرع المؤلف في المفارقة في حال الحياة فقال رحمه الله تعالى: [ وأما المفارقة في حال الحياة فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا عدة له عليها؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49] ].

    يعني أن الرجل إذا تزوج المرأة وعقد عليها، لكنه لم يدخل بها ولم يخل بها, ثم صارت بينهم مكالمات, هي الآن زوجته، لكنه لم يدخل بها، ثم طلقها بعد ذلك؛ فإنها حينئذ ليس عليها عدة, فإن لها أن تتزوج من غد؛ لأنه لم يدخل بها، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].

    وإن كان قد دخل بها -والدخول: هو الوطء- أو خلا بها خلوةً يمكن معها الاستمتاع كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما عند سعيد بن منصور و البيهقي : ( إذا أرخيت الستور وجيف الباب فقد وجب المهر )، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

    وإن كان قد دخل بها أو خلا بها فإن المؤلف فصل في ذلك بين من كانت حاملاً أو لم تكن حاملاً، فقال: فإن كانت حاملاً فعدتها وضع حملها, يعني: إن تزوجها ودخل بها وحملت ثم طلقها وقت الحمل فما هي عدتها؟ هل هي ثلاثة قروء؟ لا، عدتها وضع الحمل, طالت المدة أم قصرت, وإن لم تكن حاملاً، يعني: التي نحن نسميها حائلاً, فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة كما قال تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وإن لم تكن تحيض إما لصغر أو كبر كالآيسة فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، يعني: اللائي لم يحضن من الصغيرات، والتي يئست يعني: أنه انقطع حيضها لكبر.

    عدة من رفع عنها الحيض بسبب الرضاع

    ثم بين المؤلف بعض النساء التي تختلف عدتها وعادتها فقال رحمه الله تعالى: [فإن كانت تحيض وارتفع حيضها لرضاع ونحوه انتظرت حتى يعود الحيض فتعتد به].

    يعني: من المعلوم أن المرأة إذا بدأت ترضع ولدها ارتفع حيضها, فإن ولدت وانتهى نفاسها وهي ترضع طلقها زوجها, فهل عليها عدة وهي لا تحيض؟

    لها عدة، قال العلماء: ارتفاع حيضها هنا يعلم سببه, وهو الرضاع، فإن ارتفع حيضها وتعلم سببه فإنها تنتظر حتى يعود الحيض فتعتد به, فلو كانت ترضع حولين ويرتفع حيضها حولين -كبعض النساء- فطلقها في أول الحول، فحينئذ تجلس سنتين وقت الرضاع إن كانت لا تحيض, فإن جاء الحيض تعتد بثلاثة قروء, فإن كانت تريد أن تنهي عدتها فعليها أن تنتهي من الرضاع كي يأتيها الحيض، والله أعلم.

    ومثل ذلك ممن ارتفع حيضها وتعلم السبب المرأة التي تأخذ الإبر لترفع حيضها ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة؛ فإنه إذا ضربت إبرة لستة أشهر ثم دخل بها زوجها في الشهر الأول ثم طلقها فإنها تنتظر إلى أن يأتيها الدم؛ لأنها تعلم السبب الذي رفع حيضها، والله أعلم.

    عدة من رفع عنها الحيض ولا تدري ما رفعه

    ثم قال رحمه الله: [وإن ارتفع ولا تدري ما رفعه انتظرت تسعة أشهر؛ احتياطاً للحمل, ثم اعتدت لثلاثة أشهر، وإذا ارتابت بعد انقضاء العدة؛ لظهور أمارات الحمل لم تتزوج حتى تزول الريبة].

    يقول المؤلف: (وإن ارتفع ولا تدري ما رفعه) أي: لا تدري ما هو السبب، (انتظرت تسعة أشهر؛ احتياطاً للحمل)، فيمكن أن تكون حاملاً وهي لا تدري, ثم اعتدت بثلاثة أشهر ثانية, هذا قول عامة أهل العلم، وهو أحوط, وفي المسألة قول لكن الأقرب هذا, وبعضهم حكى الإجماع.

    (وإن ارتابت بعد انقضاء العدة)، يعني: الشهر الأول جاءتها الدورة لكن الدم يتقطع، ثم الثاني والثالث، وهي شاكة تخشى أن يكون حملاً، يقول المؤلف: (وإن ارتابت بعد انقضاء العدة)، التي بعد ثلاثة قروء (لظهور أمارات الحمل) مثل نوع من التقيؤ، نوع من الوحم وغير ذلك؛ فإنها لا تتزوج حتى تزول الريبة, خوفاً أن يكون الدم الذي كان يأتيها ليس دم حيض والله أعلم.

    عدة امرأة المفقود

    ثم شرع المؤلف في مسألة امرأة المفقود فقال رحمه الله تعالى: [وامرأة المفقود تنتظر حتى يحكم بموته بحسب اجتهاد الحاكم ثم تعتد].

    هذا كلام قوي، المؤلف يقول: (امرأة المفقود تنتظر حتى يحكم بموته بحسب اجتهاد الحاكم)؛ لأنه لم يقل: أربع سنين كما في قول، بل قال: باجتهاد الحاكم، تعرفون العبارة التي قطعت ما بين ضبا إلى مصر وصار فيها غرق، بعض الناس لا يعلم، لو أخذنا بقول أربعة أشهر، فهل يمكن أن يمكث إنسان في البحر أربعة أشهر، أو أربع سنين؟ لا، فقطعاً سيموت, فيجوز للحاكم أن يقضي بأن الرجل قد مات ولو بعد أربعة أشهر، على حسب ما يراه الحاكم والقاضي والله أعلم؛ فإن حكم القاضي بأنها انتهت عدتها فإنها تعتد على ما مضى, فإن كانت تحيض فبثلاثة قروء, وإن كانت لا تحيض -مثل: الآيسة- فبثلاثة أشهر, وإن كانت قد ارتفع حيضها وتعلم فتنتظر حتى يرجع, وإن كانت لا تعلم فتعتد بثلاثة شهور وتسعة شهور كما مر. والله أعلم.

    1.   

    نفقة المعتدة

    قال رحمه الله تعالى: [ولا تجب النفقة إلا للمعتدة الرجعية، أو لمن فارقها زوجها في الحياة وهي حامل؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:6]].

    يعني أن الرجل لا تجب عليه النفقة على زوجته المطلقة، إلا إذا كانت رجعية؛ لأن الرجعية زوجة كما مر معنا, (أو لمن فارقها زوجها في الحياة وهي حامل) يعني: طلقها آخر ثلاث تطليقات، كأن قال: أنت طالق ثم طالق وكانت حاملاً فطلقها الثالثة فتعتد بوضع الحمل، فيجب عليه أن ينفق عليها لأجل الحمل الذي هو يجب عليه نفقته، كما قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ثم قال: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233].

    1.   

    معنى الاستبراء والفرق بينه وبين العدة

    قال رحمه الله تعالى: [وأما الاستبراء فهو تربص الأمة التي كان سيدها يطؤها فلا يطؤها بعده زوج أو سيد حتى تحيض حيضة واحدة، وإذا لم تكن من ذوات الحيض تستبرئ بشهر أو وضع حملها إن كانت حاملاً].

    الاستبراء هو تربص الأمة التي كان سيدها يطؤها، هذا قول جمهور الفقهاء، قالوا: إن التي تستبرئ هي الأمة، والتي تعتد هي الحرة، وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أن الاستبراء لا علاقة له بالحرة من الأمة، وأن الاستبراء هو العلم بأن رحمها ليس به حمل، قال: وهذا يصلح أن يكون في الخلع وفي الفسخ ولو كانت المرأة حرة، وهذا القول قوي، وعلى هذا فلا يجوز لها أن تتزوج بعد أن خالعها زوجها حتى تستبرئ بحيضة، وإذا فسخها زوجها إذا كانت لا ينفق عليها حتى تستبرئ بحيضة, وإن كانت لا تحيض حتى تستبرئ بشهر، أو وضع الحمل إن كانت حاملاً والله أعلم.

    1.   

    النفقات

    ثم شرع المؤلف في بيان النفقات للزوجات والأقارب والمماليك والحضانة فقال رحمه الله تعالى: [باب النفقات للزوجات والأقارب والمماليك والحضانة.

    على الإنسان نفقة زوجته وكسوتها ومسكنها بالمعروف، بحسب حال الزوج؛ لقوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]].

    على الزوجة

    سبق معنا أن الرجل يجب عليه أن ينفق على زوجته من حين إمكان الاستمتاع؛ فإن الرجل إذا تزوج المرأة وقالوا: لا تدخل بها إلا في نهاية العطلة أو بعد العطلة، هل يجب عليه أن ينفق عليها لأنها زوجته؟

    نقول: لا، حتى يمكن من الاستمتاع, فإذا قالوا: خذ زوجتك، قال: لا والله، أنا سأكمل دراستي, قلنا له: الآن خذ زوجتك، قال: لا، فيجب عليه أن ينفق على زوجته؛ لأنه مكن من الاستمتاع بها والله أعلم, هذا قول الجمهور.

    والمؤلف يقول: الإنفاق على حسب حال الزوج، وقلنا: إن الأقرب أنه على حسب حال الزوج وأيضًا حال الزوجة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق هند بنت عتبة : ( خذي وولدك ما يكفيك بالمعروف ), والله أعلم.

    ثم شرع المؤلف بما يلزم من ذلك فقال رحمه الله تعالى: [ويلزم بالواجب من ذلك إذا طلبت].

    يعني أن المرأة إن كانت تريد نفقة فيجب على الزوج أن يعطيها، والنفقة: هي النفقة بالمعروف؛ لأن بعض النساء تبالغ في النفقة فلا يلزم، فإذا كان يؤكلها كما يأكل، ويشربها كما يشرب، ويلبسها أحسن الثياب، ثم أرادت الزيادة فهذا لا يجب عليه والله أعلم، أما إذا كان يقصر في ذلك فهو آثم.

    قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث جابر الذي رواه مسلم : ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )].

    يعني: يجب على الرجل أنه يرزقها أي: أن يطعمها وأن يكسوها بالمعروف، هذا هو الذي يظهر والله أعلم.

    على والديه

    تحدثنا في باب النفقات للزوجات والأقارب والمماليك, وذكرنا أنه يجب على الرجل أن ينفق على زوجته بالمعروف, والآن نشرع فيما يجب على الرجل أن ينفق عليه من أصوله وفروعه, فقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعلى الإنسان نفقة أصوله وفروعه الفقراء إذا كان غنياً، وكذلك من يرثه بفرض أو تعصيب، وفي الحديث: ( للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ), رواه مسلم ، وإن طلب التزويج زوجه وجوباً, وعلى الإنسان أن يقيت بهائمه طعاماً وشراباً ولا يكلفها ما يضرها، وفي الحديث: ( كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ) رواه مسلم ].

    يقول المؤلف: (وعلى الإنسان نفقة أصوله)، يعني: يجب على الإنسان أن ينفق على والديه، الآباء وإن علوا، والأمهات وإن علون؛ لما جاء في الحديث: ( أنت ومالك لأبيك ), وهذا محل اتفاق بين الأئمة الأربعة رحمهم الله، وهو أن الإنسان يجب عليه أن ينفق على أصوله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك ).

    على فروع الوالدين

    وأما الفروع فإنه إذا كان الولد صغيراً فيجب على الأب أن ينفق على ولده؛ لقوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233], وقال رجل: ( يا رسول الله! عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على زوجك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك ), وأما إذا بلغ الطفل؛ فإن كان غنياً قادراً على الإنفاق فيجب عليه أن ينفق حتى يعمل الطفل أو يعمل الولد، وإن كان الولد محتاجاً إلى الزواج وكان الأب غنياً فيجب على الأب أن يزوج ابنه، وأن يعطيه سيارة إذا احتاج إلى ذلك, وأن يعلمه؛ لأن هذا من باب النفقة، لكن لا يلزم أن يبالغ في ذلك ولو كان غنياً، والله أعلم.

    على المملوك ومن يرثه فرضاً أو تعصيباً

    ثم قال المؤلف: (وفي الحديث ( للمملوك طعامه وكسوته، لا يكلف من العمل إلا ما يطيق ) )؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكسون، ولا تكلفوهم فتضيقوا عليهم، وإن كلفتموهم فأعينوهم ), ولم يذكر المؤلف نفقة الأقارب غير الآباء والأمهات وغير الفروع، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله خلافاً لمذهب الحنابلة والشافعية؛ فإن الشافعية أوجبوا نفقة الأخ، والحنابلة قالوا: إذا كان الأخ يرثه فيجب، وإن كان لا يرثه فلا يجب، فلو عندك أخ لم يتزوج، فإنك سوف ترثه إذا لم يكن له أب، فعند الحنابلة يقولون: يجب أن تنفق عليه، وإذا كنت لا ترثه فإنه لا يلزمك أن تنفق عليه.

    والقول الثالث: وهو قول مالك رحمه الله: وهو أنه لا يجب الإنفاق على الأخ ولو كان فقيراً، ولو كنت ترثه؛ لأنه لا يجب عليك ذلك، وعلى هذا فإذا كان لا يجب عليك فيجوز لك أن تعطيه من الزكاة، والله أعلم.

    ثم قال المؤلف: (وإن طلب التزويج زوجه وجوباً إذا كان قادراً)؛ لأن الزواج عفة وهو في معنى النفقة والله أعلم.

    على البهائم المملوكة

    1.   

    الحضانة

    ثم شرع المؤلف في الحضانة فقال رحمه الله تعالى: [والحضانة: هي حفظ الطفل عما يضره والقيام بمصالحه، وهي واجبة على من تجب عليه النفقة, ولكن الأم أحق بولدها ذكراً كان أو أنثى إن كان دون سبع، فإذا بلغ سبعاً فإن كان ذكراً خير بين أبويه, فكان مع من اختار, وإن كانت أنثى فعند من يقوم بمصلحتها من أمها أو أبيها, و لا يترك المحضون بيد من لا يصونه ويصلحه].

    مفهوم الحضانة وأحقية المحضون بها قبل الحاضن

    الحضانة: هي حفظ الطفل عما يضره والقيام بمصالحه. وهي واجبة على من تجب عليه النفقة, لكن هل الحضانة حق للحاضن أم حق للمحضون؟ يعني: هل الحضانة تجب على الأب أو على الأم حفاظاً لحق الطفل؟ أم هي حق للأم، أو حق للأب؟ الأقرب والله أعلم أن الحضانة حق للمحضون, يعني: حق للطفل, مع أنه حق للحاضن لكن حق المحضون متقدم, فإذا قلنا: إن أولى الحضانة بالطفل الأم, فإن كانت الأم مشغولة فإنه يسقط حقها حفاظاً على حق الطفل, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنت أحق به ما لم تنكحي ), فإذا تزوجت المرأة فتنشغل عن هذا الطفل، وربما زوجها يقول: لا تأتين إليه, اجعليه يذهب إلى أهله؛ فلأجل هذا قلنا: حق للمحضون وإن كان حق للحاضن, لكن حق المحضون متقدم.

    الأولوية في الحاضن

    ثم شرع المؤلف في بيان الأولوية في الحاضن فقال: (ولكن الأم أحق بولدها ذكراً كان أم أنثى إن كان دون سبع), فإن كان الطفل صغيراً دون سبع فالأم أحق به ما لم تنكح, والمؤلف لم يذكر هذا: ما لم تنكح, فإذا نكحت صار عند أبيه، إلا إذا رأى القاضي أن بقاء الطفل عند أمه ولو بعد الزواج أحفظ له من بقائه عند أبيه, فحينئذ يحكم القاضي لمصلحة الطفل, هذا هو الراجح والله أعلم.

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنت أحق به ما لم تنكحي ), يعني: إذا كان نكاحك يضر بالطفل, أما إذا كان لا يضر فإنه يبقى، مثلاً الآن نكاح المسيار, لو أن امرأة تزوجها رجل وعندها أولاد, ولا يأتيها إلا بالأسبوع ثلاث مرات أو أربع, فإن انتقال الأولاد إلى بيت أبيهم ربما يكون مضراً؛ فلأجل هذا ينبغي للقاضي أن يراعي هذا, وليعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ذكر ذلك بناءً على العادة الجارية عندهم, وإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نظر إلى حق الطفل والله أعلم.

    قوله: (فإذا بلغ سبعاً, فإن كان ذكراً خير بين أبويه)؛ لما جاء عند أهل السنن: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام طفلاً فقال: هذا أبوك وهذا أمك، إلى أيهما تختار, قال: فذهب إلى أمه )، والله أعلم.

    فإن كان الطفل بلغ سبع سنين لكن فيه نقص عقل فإنه يبقى عند أمه؛ لأن ذلك أحفظ له، والله أعلم.

    قوله: (وإن كانت أنثى فعند من يقوم بمصلحتها من أمها أو أبيها)، يعني: إذا بلغت البنت سبعاً ينظر: هل بقاؤها عند أبيها أفضل أم بقاؤها عند أمها أفضل؟ والذي يظهر والله أعلم أن بقاءها عند أمها أفضل، إذا كانت الأم ليست خراجة ولاجة، وليست متسيبة، إلا إذا بلغت النكاح فإنها تبقى عند أبيها؛ لأن الولي هو الأب، وهو أعلم بشئون النكاح والله أعلم.

    وعلى كل فإن الشيخ ابن سعدي قال كلمة جميلة, قال: [ولم يتحرر لي في الحضانة في تقديم بعض النساء]، التي هي الأم، أو الجدة، أو العمة، أو الخالة، يقول: [ولم يتحرر لي في الحضانة في تقديم بعض النساء على بعض ضابط تطمئن إليه النفس، إلا أنه يراعى مصلحة المحضون], هذا الأقرب، فإذا كانت الأم، فإن لم يكن فالأب، فإن لم يكن فالجدة، فإن لم يكن فالخالة أو الجد, كل هذا الترتيب إنما ينظر فيه القاضي على حسب مصلحة المحضون.

    والله تبارك وتعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767954777