الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قال المؤلف رحمه الله: [والراكب إن لم يخلف بدلاً].
يعني: لو أن راكباً استأجر جملاً أو سيارة فهلك في الطريق أو مرض ولم يستطع دخول المستشفى، هل الراكب الآن يستطيع أن يخلف بدله؛ لكي يندفع من العين المؤجرة التي استأجرها شهراً؟
قالوا: لا يستطيع، فيما أن الراكب لم يخلف بدلاً فقد فسخ العقد، وإن خلف بدلاً فإن العقد ماض، وهذا مذهب متقدمي الحنابلة.
ودليل الحنابلة أنهم قالوا: إن قولنا في الفسخ: هو أن في ذلك الفسخ ضرراً للطرفين، ومنفعة للطرفين، لماذا؟ قالوا: لأن بقاء العقد مع عدم إمكان المكتري -الذي هو المستأجر- فيه ضرر عليه، وكذلك بقاء العين من غير انتفاع لمالكها فيه ضرر عليه، وإذا كان الضرر عليهما كان منفعة الجميع إبطال العقد، فهذا التعليل له وجه.
لكن -وانظر ما بعد لكن- لكن نقول: إنكم نظرتم إلى الضرر من زاوية واحدة، ومن حالة واحدة، فقد يكون الضرر على أحدهما في بعض الأحوال دون الآخر، مثاله: لو أن المستأجر عجز عن استئجار هذا النقل، ولم يخلف بدله مكانه، مثل: النقل البحري، لأن النقل البحري الآن عندما ارتفع النفط صارت تكلفته عالية، ولهذا ارتفعت المنتجات الصينية بسبب ارتفاع تكلفة النقل، لو قلنا: إن المستأجر لو عجز أن يخلف بدلاً وفسخ العقد في أثناء المدة قلتم: إن في ذلك ضرراً على الجميع، قلنا: ليس كذلك؛ لأن المؤجر لو فسخ العقد بعد المدة، وقد قل سعر النصف إلى أربعة وثلاثين، وقلّت تكلفة النقل البحري لصار في ذلك ضرر على المؤجر؛ لأن المؤجر يقول: أبقي العقد كما هو أنفع لي؛ لأنني لو فسخت وأبرمت عقداً آخر لكان في ذلك ضرر عليّ، فصار في ذلك ضرر على المؤجر.
وعلى هذا فالأقرب والله تبارك وتعالى أعلم -وهو المذهب عند الحنابلة كما في الإقناع والمنتهى-: أن الراكب إن مات ولم يخلف بدلاً فإن العقد صحيح لازم.
قال المؤلف رحمه الله: [انقلاع ضرس أو برئه].
انقلاع الضرس أو برئه، هذا في حالة تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، أو من قبل المستأجر نفسه، وكان الأولى بالمؤلف أن يقول: وتنفسخ بتلف العين المؤجرة وانقلاع ضرس أو برئه، ثم يقول: وبموت المرتضع؛ لأن هذه تعتبر من تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل نفسه، والثانية من قبل المستأجر.
يعني: الآن هلاك العين المؤجرة، هذا تعذر الاستيفاء المعقود عليه نفسه، وانقلاع ضرس أو برئه أيضاً تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، لكن قوله: (بموت المرتضع، والراكب إن لم يخلف بدلاً) هذا تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر، فكان الأولى أن يرتب المسائل ترتيباً يحصل لطالب العلم الفهم والإدراك.
يعني بذلك أن موت أحد المتعاقدين أو كلاهما لا يمنع من استمرارية العقد، لماذا؟
قالوا: لأن الأصل في العقد اللزوم والمضي فيه، وموت أحد المتعاقدين لا يمنع من استمرار العقد؛ لأن ورثته سوف يقومون مقامه، وهنا فرق صاحب الزاد بين موت أحد المتعاقدين الذي خلف بدلاً وبين من لم يخلف بدلاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه].
مثاله: لو استأجر شخص في الحج دراجة نارية بألف ريال على أن يسلمها في نهاية الحج، والحج مدته الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر، وفي نهاية الثاني عشر يعطيه إياها مع ألف ريال، وكانت قيمة الدراجة النارية ألفاً وستمائة في غير الحج، وهذا استأجرها بألف ريال، فلما كان يوم الثاني عشر أو الحادي عشر وجد أن نفقته قد سرقت، فبحث عن صاحب الدراجة فلم يجده إلا في اليوم الثاني عشر قال: تعال يا أخي! لقد انفسخ العقد بيننا، قال: لماذا؟ قال: لأن نفقتي قد سرقت، والقاعدة أن تعذر استيفاء المعقود عليه من قبل المستأجر يفسخ العقد، قال: لا يا أخي! أنت فهمت خطأ؛ لأن تعذر استيفاء المعقود عليه قد حصل من قبلك، وليس من قبل العين المؤجرة، ألم تركب الدراجة النارية؟ قال: بلى، قال: إذاً التعذر إنما هو من نفقتك، وليس من عدم إمكان استيفائك، وفرق بين الأمرين، وعلى هذا فضياع النفقة لا تمنع من استمرارية ولزومية العقد.
يقول المؤلف: (ونحوه)، يعني: كاحتراق الدكان، مثلاً: فلو استأجرت من شخص دكاناً ووضعت فيه البضاعة، وكانت البضاعة عبارة عن أقمشة أو خشب، فجئت بعد مدة فوجدت أن البضاعة كلها قد احترقت وخسرت، فذهبت إلى صاحب العمارة فقلت: جزاك الله خيراً، أنا عقدت معك على هذا الدكان؛ لأجل بيع هذا الخشب أو هذه الأقمشة، وقد احترقت فتعذر استيفاء المعقود عليه، فقال المؤجر وكان فقيهاً: هل المعقود عليه هي بضاعتك أم دكاني؟ فقلت: بل المعقود عليه دكانك، قال: إذاً لم يتعذر استيفاء المعقود عليه، فالعقد لازم عليك؛ لأن الأصل أن جميع الأركان قد توفرت، وهي عاقدان وعين مؤجرة، وصيغة، والمحل التي هي المنفعة المعقود عليه.
القاعدة: أن تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه يفسخ العقد، فلو اكترى داراً فهلكت بعد مدة انفسخ العقد فيما بقي وبقي عليه أجرة مثله فيما مضى، وكذلك لو استأجر أرضاً لزرع فانقطع الماء، أفادنا المؤلف على أنه لو استأجرها من غير تحديد فانقطع الماء فلا يسوغ له أن يطلب الفسخ؛ لأن العقد إنما هو لأجل الأرض؛ لأنه يمكن أن ينتفع بالأرض من غير زرع، كأن يضع فيها متاعاً أو يجعلها مستودعاً لحطبه أو لمنتجاته ونحو ذلك، فهذا يدل على أن من استئجار الأرض لشيء معين فانتزع منه هذا الشيء المعين كان تعذر استيفاء المعقود عليه نفسه، فإذا استأجر أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت، مثل أن يستأجر فلة أو عمارة في واد، ولم يعلم أن هذا واد في طريق السيل، والناس أخذوه من باب الأمان، فجاءهم وادي الرمة فأخذ بيتهم أو أغرقها، أو أخذ أرضاً ليزرعها قمحاً فجاء وادي الرمة فأهلك الزرع، فهل له أن يطالب بالفسخ مدة إيجار الباقي؟
نقول: له أن يطلب الفسخ؛ لأنه إنما استأجر هذه الأرض لزرع وغرقت هذه الأرض، فينفسخ عقد الإجارة فيما بقي وعليه أجرة المثل فيما مضى، لكنه لا يمكن أن ينتفع بها لأن المياه موجودة فيها، وإذا كان إزالة الماء يمنع من الانتفاع بها ونحن قلنا: إذا هلكت العين المعقود عليها، أو وجد فيها عيباً فللمستأجر الخيار بين الإمضاء وبين الفسخ، وهذا كثير وليس الخبر كالمعاينة، ففي مدينة الرياض عندما جاء المطر في حي من الأحياء، وكان بيت أحد المشايخ في هذا الحي، فلما أصبح الفجر وجدنا جميع المكتبة طافحة! واضطر إلى إيجاد شركات لسحب هذا الماء، تخيل معي لو أنك استأجرت هذا البيت وهلكت كتبك وثيابك، فإنك لا تعوض بثمن، ولهذا نقول: تنفسخ فيما بقي، وعليه أجرة المثل فيما مضى؛ لأن المقصود بالعقد وهو الانتفاع من العين قد فات أو قل، فإن فات جاز الفسخ، وإن قل فللمستأجر الخيار والله أعلم.
مثل آخر: لو استأجر شخصاً ليحرس البيت، أو شركة لتحرس البيت، وأبرم العقد، فتفاجأ أن لم الشركة شخصاً فسأل عنه، فقالوا: والله الشخص الذي نحن قد وضعناه لك توفيت أمه وسافر، أو مات أو هلك، أو عطب أو غير ذلك، ونحن نطلب الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهل هذا صحيح؟
نقول: لا؛ لأن المعقود عليه ليس معيناً إنما هو موصوف بالذمة، فيجب على الشركة أن تقيم شخصاً آخر، ولو زادت الأجرة فنقول للشركة: يجب عليكِ أن تبحثي عن شخص آخر؛ لأن العقد يجب المضي فيه، ولو امتنعوا جاز للمستأجر أن يطالب بأجرة المثل، وليس بأجرة العقد، وهذا بين لمن تأمله.
ومثل ذلك: لو تعاقد مع شخص على أن يخط له، فأصيب بحادث في يده، هل ينفسخ العقد أم يجب المضي فيه؟
الجواب: إن كان المقصود بالعقد هو ذاك الشخص فإن الإجارة حينئذٍ تنفسخ، وإن كان المقصود هو العمل ويمكن إقامة شخص مقامه فحينئذٍ نقول: إن العقد لم ينفسخ.
ولهذا لو ذهب إلى مستشفى وقال: أريد الطبيب الفلاني أو أريد جراحاً، فالطبيب الفلاني غير الجراح؛ لأن الطبيب الفلاني مقصود، أما الجراح غير مقصود، ولهذا يخطئ بعض أصحاب العيادات الخاصة حينما يأتي الشخص بماله لأجل ذلك الطبيب وبعد المراجعات يفاجأ المريض أن هذا الطبيب ليس هو المقصود، وإنما جاءوا بشخص آخر، ويقول: نحن نتابع حالتك، وهذا خطأ ولا يجوز؛ لأنه قد أبرم عقداً معك بذاتك، ولم يبرم العقد مع العيادة إنما جاء إلى العيادة لأجلك، فهذا لا يجوز، والله أعلم.
وعلى هذا فإن كان الاستئجار مقصود به العمل وجب على المؤجر أن يقيم مقامه شخصاً آخر، وإن كان مقصود به الشخص نفسه فإن الإجارة تنفسخ ويبقى الخيار للمستأجر إن شاء أمضى وإن شاء فسخ.
يعني بذلك: إن وجد المستأجر بالعين المعقود عليها عيباً فإنه يجوز له أن يفسخ الإجارة، فلو استأجرت برجاً فوجدت أن الكيبلات في البرج لا تتحمل لفتح كل البرج، فبمجرد فتح دور أو دورين ينطفئ النور، فهذا عيب كبير، فيجوز لك أن تفسخ العقد.
ولو حدث عيب من غير سبب من المستأجر، مثل أن يستأجر برجاً فيفاجأ أن الصرف الصحي يطفح على الدور الأول كثيراً، فهذا عيب حادث قد يكون أحياناً المسدات تمنع فهو حادث، فنقول: لو كان العيب أيضاً حادثاً فإن المستأجر يجوز له الفسخ؛ لقول المؤلف: (وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب) يعني: في المستقبل فله الفسخ، ولكن نقول: إذا جاز له الفسخ فيما بقي فللمؤجر أجرة مثله فيما مضى، لكن لو زال العذر فليس للمستأجر الفسخ، مثل: لو استأجر برجاً فوجد أن الصرف الصحي يطفح فجاءت شركة الصرف الصحي فأصلحته، فهذا عذر قد زال، فحينئذٍ ليس له الفسخ.
ولهذا يقول المؤلف: (وعليه أجرة ما مضى) لماذا؟ لأن الخراج بالضمان، وقد استوفى المستأجر شيئاً من منفعة عين المؤجر، والأصل حرمة أموال الناس إلا بالرضا أو المعاوضة، وحينئذٍ استيفاء المنفعة فيما مضى يجب على المستأجر أن يبذلها للمؤجر في أجرة المثل.
وهنا مسألة وهي: بعض كبار السن لا يعلم عن هذه المسائل الفقهية شيئاً، فربما استأجر عمارة، فلما انتهت المدة علم أنه بهذا العيب الحادث الذي منعه من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً كاملاً على ما نص عليه في العقد له حق الفسخ، ولما انتهى قال: والله إني استأجرت سنتين الفلة الفلانية وقد تضررت وبقيت، قالوا له: لك حق أن تطالب بالفسخ، قال: والله ما علمت، قالوا: أيضاً لك حق الأرش، وهذه هي المسألة: هل للمستأجر مطالبة المؤجر بأرش العيب الحادث بعد مضي المدة؟
أما قبل مضي المدة فليس له إلا البقاء على ما هو عليه أو الفسخ، لكن لو مضت المدة هل له ذلك؟
قولان عند أهل العلم، والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم أن يقال: إن كان العيب يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة انتفاعاً له وقع في الثمن، أو يتضرر المستأجر بوجوده فله الأرش، فإن لم يطالب بأرشه في المدة وهو يعلم أن له الحق في المطالبة فإن حقه حينئذٍ يكون ساقطاً، فإن لم يعلم أن له حقاً جاز ويكون يمينه فاصلة للنزاع، يعني: أنه يقول المؤجر: احلف بالله أنك ما تعلم أن لك الحق فيحلف، والله أعلم.
يعني: أن الأجير الخاص لا يضمن ما جنت يده خطأً، والأجير الخاص هو: من استؤجر مدة معلومة يستحق المستأجر نفع المؤجر في جميع المدة، مثل الموظف الذي يأتي الساعة السابعة والنصف ويخرج الثانية والنصف، هذا يكون أجيراً خاصاً؛ لأن نفعه في كل المدة حق لمالك المشروع أو للمؤجر، أو للعاقد الآخر، هذا هو الأجير الخاص، وقالوا: إن المستأجر له جميع الحق ما عدا ما وجب عليه بعينه مثل العبادات الخمس، فإنه ولو لم يشترط المستأجر أو المؤجر الخروج فإن له ذلك، يعني: لو أبرم عقداً معه على أن يكون أجيراً خاصاً ولم يضع مصلى في المشروع، فلما حضرت الصلاة ذهب ليصلي، قال صاحب مالك المشروع: لماذا تخرج تصلي ما لك حق تصلي؟ قال: أوجد لي مكاناً أصلي فيه أو يجب عليّ أن أخرج وأصلي جماعة.
إذا ثبت من هو الأجير الخاص، فيقول المؤلف: (لا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأً)، وهذه المسألة لها حالات:
الحالة الأولى: الأجير الخاص إن لم تجن يده، ولم يتعد ولم يفرط، فإنه لا يضمن بإجماع العلماء؛ لأنه نائب عن المالك وأمين فيما يتصرف فيه.
الحالة الثانية: إذا تعدى أو فرط فإنه حينئذٍ يكون ضامناً؛ لأن الأمين إذا تعدى أو فرط فإنه يضمن وكذلك الأجير الخاص.
الحالة الثالثة: إذا لم يتعد ولم يفرط، ولكن جنت يده خطأً، فإن المؤلف يقول: (لا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأً).
ومعنى (جنت يده خطأً) مثل: لو طلب منه أن يزيل الختان في حق الغلام فجنت يده وزادت وقطع الحشفة كلها. وقعت له هزة أو تقدم يد أو ارتباك فجنت يده، لكنه لم يتعد ولم يفرط، لكن يده جنت خطأً، فهو مأذون في الأصل غير مأذون في الجناية، قال المؤلف: (ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأً) لماذا؟ قال الحنابلة: لأن الأجير الخاص نائب المالك في صرف منافعه فيما أمره به فلم يضمن، فكأن الأجير قام مقام موكله، فإذا كان المالك لا يضمن ما جنت يده، فكذلك لا يضمن الأجير ما جنت يده، والمسألة فيها خلاف، والذي ذهب إليه الحنابلة هو مذهب جمهور الفقهاء، ولعل هذا القول أظهر ولا داعي لذكر الخلاف ونقل عني خلاف ذلك وهو قول بعض الشافعية.
الحجام معروف؛ لأن الحجامين في السابق كانوا مثل الأطباء الشعبيين الذين أخذوا هذا الفن بالخبرة.
والطبيب: هو الذي تخصص في الطب.
والبيطار هو طبيب الأنعام والحيوان، المؤلف بعبارة واحدة أتى لنا بثلاثة قيود قال: (ولا يضمن حجام وطبيب وبيطار لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم)، يعني بذلك: أن هؤلاء لهم أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون حاذقاً أي: الحجام أو الطبيب أو البيطار، أن يكون حاذقاً قد أعطى صنعته حقها، ولم تجن يده، فمات جراء ذلك من غير تعدٍ ولا تفريط فإن الطبيب أو الحجام الحاذق الذي لم تجن يده ولم يتعد ولم يفرط لا يضمن باتفاق الفقهاء؛ لأن الله يقول: فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193]، وهو ليس بظالم ولا معتدٍ، وقد روى الإمام أحمد و أبو داود وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن )، ومفهوم المخالفة أن من علم منه حذق الطب فإنه لا يضمن، وهذا أمر واضح جلي.
الحالة الثانية: ألا يكون الطبيب حاذقاً، بل هو جاهل مثل الأطباء الذين في بعض العيادات الأهلية تكون شهادتهم مزورة مشتراة قد اشتراها بماله، فهذا متطبب وربما لا يحسن، قد يضرب الإبرة ويدخل الماء في الوريد فتضطرب نبضات القلب، وربما أدى إلى ارتفاع الضغط أو غير ذلك فمات المريض، فإنه يضمن بالإجماع، وقد نقل الاتفاق ابن القيم رحمه الله و الخطابي وغيرهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من تطبب وهو لا يعلم منه طب فهو ضامن ).
الحالة الثالثة: أن يكون الطبيب والحجام قد أعطوا الصنعة حقها ولم يتعدوا ولم يفرطوا لكن جنت أيديهم، والمؤلف يقول: (لم تجن أيديهم إن عرف حذقهم)، لكن هؤلاء جنت أيديهم، فهل يضمنون أم لا؟
فلو ذهب شخص إلى طبيب حاذق فأراد أن يزيل ماء العين، ويتطلب في إزالتها حك وكشف لكنه اهتزت يده فغرز هذه الإبرة في عينه فتضررت، فجمهور الفقهاء يرون أنه يضمن، قالوا: لأن فعله خطأ، وقاعدة الخطأ أنه لم يقصد الفاعل فعل الخطأ: ولم يرده، ومع ذلك أوجب الشارع في قتل الخطأ الدية، فكذلك الطبيب إذا جنت يده فإنه يضمن وهذا القول قوي، والله أعلم.
الحالة الرابعة: أن يكون حاذقاً قد جنت يده، لكنه متبرع، فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك.
فذهب جمهور الفقهاء على أنه يضمن؛ لأن يده قد جنت سواء كان متبرعاً أو يعمل لمصلحة نفسه، وذهب ابن حزم و ابن القيم إلى أنه إذا كان متبرعاً فإنه لا يضمن إذا كان قد أذن له بالتطبب؛ لقوله تعالى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، وأقول: إن قول الجمهور أدعى للقول به في هذا الزمان حيث أصبحت المتاجرة بأجساد المسلمين مهنة يمارسها بعض الأطباء هداهم الله، وإن كان الأكثر ولله الحمد عنايتهم في أبدان المسلمين واضحة واهتمامهم لا يشك فيه، لكننا نقول: لا ينبغي أن تترك أخطاء الناس سدى، فالأصل -والله أعلم- هو الضمان، وكم من مريد للخير لم يصبه.
والعلماء لم يفرقوا في الطبيب والبيطار وغيرهم بين كونهم أجراء خاصين وبين كونهم أجراء مشتركين.
الراعي لا يضمن إذا لم يتعد؛ لأنه مؤتمن على الحفظ كالمودع، لكنه لو تعدى أو فرط ضمن، والتعدي والتفريط مثل أن يترك البهائم قريباً من الطريق السريع ثم يتكئ على شجرة أو حجر ثم يحصل ما يحصل، فهذا مفرط فيضمن، لكنه لو أراد سرح البهائم وجعلها تشرب سقاها نهلاً بعد علل، والنهل هو الشرب الثاني بعد الشربة الأولى؛ لأن أصحاب البهائم يحضرون بهائمهم للشربة الأولى، ثم يجعلونها ترتاح، ثم يشربونها شربة ثانية حتى لا تصاب بالغازات، وهذا معروف يقال: أشربها نهلاً بعد علل، فلو أنه سرح البهائم للشرب فارتاح فأخذت عينه النوم، فجاء كلب أو ذئب فأخذ أحد الشياه فهل يضمن؟ يقول المؤلف: (ولا راع لم يتعد)؛ لأنه لم يتعد في هذا؛ لأنه مؤتمن على الحفظ، والله أعلم، وهذا هو قول جمهور الفقهاء.
يعني: الأجير المشترك، فهناك أجير خاص وأجير مشترك والمشترك هو الذي يشاركه غير المؤجر في المنفعة، وبتعريف آخر: هو من قدر نفعه بالعمل، وتقبل أعمالاً لجماعة في وقت لا يختص نفعه لواحد منهم، فهذا هو الأجير المشترك، مثل الخياط والغسال، والإسكافي الذي يصلح الأحذية، وعلى هذا فسر، فهؤلاء يقول المؤلف أنهم يضمنون، وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا يصلح الناس إلا ذاك يعني: لا يصلحهم إلا الضمان رواه مالك في المدونة و عبد الرزاق في المصنف.
والضمان هنا إنما هو ما تلف بفعله، فإذا تلف بفعله فإنه يضمن مثل الخياط الذي بدأ يخيط، فتغيرت المكينة عليه فالتف ذات اليمين وذات الشمال فأضاع شيئاً من الثوب، أو ضيق الثوب على صاحبه، فإنه يضمن ما تلف بفعله، كتخريق الثوب وغلطه في تفصيله، روي ذلك عن علي و عمر ، ولكن إسناد الحديث عن عمر فيه ضعف، ضعفه الشافعي و الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، واستدلوا على الضمان بما جاء عند أهل السنن من حديث الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، قالوا: فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يؤديه كما أخذه وإلا ضمن، وهذا الحديث صححه جمع من المتأخرين وضعفه الإمام أحمد رحمه الله.
واستدل الذين يقولون بالضمان فقالوا: إن الأجير المشترك قد قبض العين لمنفعته، وكل من قبض مال غيره لمنفعته من غير استحقاق -يعني: من غير حق له فيه- فإنه يضمن كالمستعير، والمسألة فيها خلاف كثير، وهي من المسائل المشكلة في القضاء.
مثاله: لو أن شخصاً يحمل للناس أمتعتهم من الرياض إلى مكة، فحمل الناس في باصه ووضع أمتعتهم في مكانها المعتاد وسار بهم، وفجأة حصل التماس كهربائي في السيارة والسيارة موديلها جديد فاحترقت، وتضرر بعض الناس وتضررت أمتعتهم، فعلى مذهب الحنابلة أن الأجير الخاص والأجير المشترك يضمن.
إذاً: الأخير المشترك يضمن، والأجير الخاص لا يضمن، وصاحب الباص أجير مشترك فهو ضامن وهذا فيه ضرر، وربما تكون شركات كبيرة أدت لبعضهم أن يؤمنوا، ولهذا ذهب أكثر المالكية إلى قول فيه نوع من الاعتدال، وإعطاء كل ذي حق حقه، فقال أكثر المالكية: إن الأجير المشترك يضمن ما تلف تحت يده إذا كان مما يعاب عليه، ولم يعلم سبب إلا بقوله، ولا يضمنه إذا كان مما ثبت تلفه بالبينة من غير تضييع، يعني: أن فحوى كلام المالكية يقولون: إذا كان الأجير المشترك قد أتلف هذا الشيء من يده مما يعاب عليه يعني: كون الخياطة يعاب عليها فإنه يضمن، ولا يضمنه إذا أثبت ببينة أن هذا العيب ليس من يده، وليس من فعله.
فحينئذٍ نقول: إنه لا يضمن إذا ثبت بالبينة، وهذا القول قوي، وهو أن الأصل أنه يضمن إلا إذا أثبت بالبينة أن هذا الخلل ليس من عمل يده، مثل صاحب السيارة الذي ذكرنا إذا كان الالتماس ليس من يده، وأثبت أهل الخبرة أن هذا ليس فيه تعدٍ ولا تفريط فإنه لا يضمن؛ لأن هذا قضاء وقدر، وإلا للزم الناس في ذلك ضرر كبير.
قال المؤلف رحمه الله: (ويضمن المشترك) يعني: الأجير المشترك [ما تلف بفعله، ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله، ولا أُجرة له].
يعني: لو خاط الثوب، وقال للشخص: تعال استلمه، فهلك أو لم تتم خياطته على ما أراده المستأجر، فإنه لا يضمن ما تلف بحرزه، قالوا: لأنه أمين، وعلى مذهب المالكية يجب عليه إثبات البينة وإلا ضمن، ومثل ذلك ما لو احترق المحل، فإنه يجب عليه أن يثبت البينة، والبينة تكون واضحة، لكن لو ادعى السرقة فلا بد من وجود البينة وإلا ضمن، وكما قال علي رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذلك.
يقول المؤلف: (ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله) قالوا: لأن العين في يده أمانة، والأقرب كما قلنا في تفصيل مذهب المالكية.
يقول المؤلف: (ولا أجرة له)، يعني: لا يجمع له بين عدم الضمان وطلب الأجرة؛ لأن الخراج بالضمان فلا يجمع له العوضين، وهو عوض عدم المطالبة بالهلاك والضياع، ومطالبة العمل؛ لأن عمله حينئذٍ يكون هباءً.
هذا مذهب الحنابلة أن الأجرة تجب بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، يعني: تسليم الثمن، والتمكين من الانتفاع، فلو أن المؤجر أبرم العقد مع المستأجر فاستأجر هذه العين مدة سنة بمائة ألف، فإن الأجرة تجب بمجرد العقد، فلو قال المستأجر: لا، لا يجب علي أن أعطيك حتى تنتهي المدة؛ لأنك لم تشترط بالعقد، قلنا: الأصل أن العقد يوجب دفع الأجرة، ولكنها تستحق ويلزم كمالها بمضي مدة الانتفاع.
وصورتها أن نقول: لو أن زيداً أجر على بكر برجاً بمائة ألف، فنقول لبكر: إن الأجرة التي هي مائة ألف يجب عليك أن تدفعها لزيد لمجرد إبرام العقد، لكن هذا المبلغ لا يستحق لزيد كاملاً إلا بعد مضي كامل المدة، فلو هلكت العين المؤجرة جاز لبكر أن يطالب زيداً بفسخ العقد وإرجاع أجرة باقي المدة التي لم ينتفع فيها، ولهذا قال المؤلف: (وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة)، أو باكتمال العين المؤجرة وانتفاعها.
القاعدة كما مرت معنا: أن الحنابلة يرون أن من انتفع من مال الغير بعقد فاسد كما لو لم تكتمل الشروط فإن المستأجر لا يلزمه دفع الثمن الذي تم عليه العقد، ولكن يلزمه أجرة المثل.
والقول الثاني وهو اختيار ابن تيمية : أنه يلزمه أجرة أو قيمة أمثال العقد، يعني: العقد في رمضان ليس كالعقد في غيره، والعقد مع شركات ليس مثل العقد مع أفراد، فهذا هو الفرق بينهما، وحينئذٍ نقول: يجب تسلم المنفعة؛ لأن المنفعة قد انتفع منها ولا تبطل؛ لأن الأصل أن من انتفع بكامل المنفعة من الغير وجب عوضها، ولكنه لا يلزم ما اتفق عليه بالعقد؛ لأن الإجارة فاسدة على مذهب الحنابلة تكون إجارة مثل، وعلى الرأي الآخر تكون أجرة أمثالها من أصحاب العقود.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: قد ورد ذلك، كما عند أهل السنن و البخاري في الأدب المفرد وسنده صحيح، وهو ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنعل قائماً )، والتنعل هي الجرموق الذي يكون له ساق بحيث لربما لو لبسها لسقط، أما عامة الأحذية الخفاف التي هي أسفل من الكعبين فلا حرج في لبسها قائماً؛ لأن علة النهي إنما هي خوف السقوط أو العطب والهلاك.
الجواب: إذا صار في العين عيب قلنا للمستأجر: جاز أن تمضي على العين إذا كان يمكن أن ينتفع بها، وجاز أن تفسخ، وإذا هلكت العين ولا يمكن أن ينتفع بها جاز الفسخ، ولا يلزم رضا الطرفين ولا عقد جديد.
الجواب: تقدر أجرة المثل إذا انتهى العقد، وتقدر أجرة المثل قضاءً، يعني: لو جلس ستة أشهر ثم هلكت السلعة فيقول: عقدي معك مائة ألف، قال: خلاص سأعطيك خمسين ألفاً الباقي، قال: لا يا أخي! الأجرة التي انتفعت منها تقدر بخمسة وسبعين ألفاً؛ لأنه قال: تقدر بأجرة المثل، وهذا من باب القضاء.
الجواب: هذه المسألة وهو خروج الماء وهو المني بعد الاغتسال هل يجب أن يغتسل مرة ثانية أم لا؟
جمهور الفقهاء قالوا: لا يجب الغسل منه؛ لأن هذا الماء هو بقية الماء الذي حصل منه الغسل، وهذا القول أظهر والله أعلم، ولكنه يتوضأ منه، وإن كان الماء الذي خرج منياً فإنه طاهر، لكنه يتوضأ منه.
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجب الغسل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ).
والراجح: أن هذا بقية ماءٍ قد ثبت الغسل منه، فلا يلزمه الغسل مرة أخرى، وهو مذهب الجمهور والله أعلم.
الجواب: جاء في بعض الروايات النوم في الوديان والشعب.
الجواب: حديث النوم على البطن جاء من طرق ثلاثة: من طريق الشريد رضي الله عنه أنه قال: ( نمت في المسجد على بطني فركلني رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: أتنام جلسة المغضوب عليهم في جهنم؟ ) ومن رواية ابن عمر عند الإمام أحمد : (أتنام نومة الجهنميين؟) وهذا الحديث وإن كان مرفوعاً ففيه كلام، لكن يدل على أنه مكروه كما كان ابن عمر يصنع الإنكار ويكرهه، وهذا هو الأظهر والله أعلم على أن نوم البطن مكروه، ولكنه ليس بمحرم؛ لأن الأحاديث الواردة فيها كلام، والأقرب أنها نقلت عن ابن عمر من قوله، والله أعلم.
الجواب: مثلاً: إذا ذهبت أنت إلى طبيب تريد أن تقلع ضرسك، فوعدك الطبيب فأعطيته القيمة وهي مائة ريال وانتظرت، وأنت في الانتظار بدأت تلعب بضرسك فقلعته، انتهى العقد هنا فهل تقول: ما أريد العقد أعطوني قيمته، والفاتورة ما ترجع، يجب أن يرجعوها؛ لأن المعقود عليه الذي هو الضرس قد تم، لكن لو أنك لم تقلع ضرسك، لكنك عندما دفعت الأجرة قلت: والله أنا سأغير رأيي رحمة بكم فإنه يلزمك الأجرة؛ لأنك أبرمت العقد.
الجواب: نعم، هذا الأصل؛ فلو أنه أبرم عقداً على أن يأخذ البرج بمائة ألف، فالعقد يوجب أن يسلم المنفعة أو قيمة الأجرة بمجرد إبرام العقد، لكنه ليس معناها إذا تم التسليم استحقت القيمة للمؤجر كاملاً؛ لأنه لو حصل على العين المؤجرة عطب أو هلاك وجب على المؤجر أن يعيد جزءاً من الثمن؛ لأنها لم تستحق بعد هذا الفرق، والله أعلم.
الجواب: إذا كان حاذقاً وأذن له بالتطبيب، يعني: قال له المريض: عالجني، يقول ابن القيم و ابن حزم : إنه لا يضمن؛ لأنه ما على المحسن من سبيل، ولكن هذه قضايا أعيان، أما فتوى عامة فلا يصلح للناس إلا أن يقال: يضمنون، والله أعلم.
الجواب: قلنا إذا هلكت العين المعقود عليها بعد مضي مدة وجب عليه أجرة المثل في المدة التي مضت، فإذا عالج الطبيب المريض فقرروا له أربع عمليات، أولاً: تخييط جمجمة الرأس، ثم عملية تجميل على الوجه، ثم المأمومة يعني: ضربة في بطنه، فعالجوا هذه بثلاثين ألفاً فلما جاء البطن مات، فنقول: لهم حق العمليتين، لكن الباقي ما لهم حق؛ لأنها تلفت العين المؤجرة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر