الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
يقول المؤلف: [والأصل في هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس )، فاتفق العلماء رحمهم الله على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث، واختلفوا في بعضها] كما يقول ابن رشد رحمه الله.
وليس المراد بالمخيط أن يلبس شيئاً فيه خيط أو خِيط، ولكن المراد: هو أن يلبس شيئاً قد خِيط على قدر عضو من أعضاء البدن: كالطاقية خيطت على قدر الرأس، أو القميص خيط على قدر البدن، أو الجورب والخفين وغير ذلك مما هو معروف.
هذا الحكم مخصوص بالرجال دون النساء، فللمرأة أن تلبس كما قالت عائشة وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً من حديث ابن عمر : ( ولتلبس بعد ما شاءت من معصفر أو خز أو حلي )، ولكنها لا تنتقب ولا تلبس القفازين، وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرمة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فقال: ( ولا تنتقب ولا تلبس القفازين )، وثبت أيضاً عند الإمام أحمد من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتبرقع المحرمة أو أن تلبس القفازين )، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا تتبرقع المحرمة ولا تتلثم، ولتلبس بعد ما شاءت من معصفر أو خز أو حل.
وأما ما سوى ذلك فإن لها أن تلبس الدرع والسراويل والخفاف، وأن تغطي رأسها، وأن تسدل الثوب على وجهها من غير تفصيل على الوجه كاللثام والبرقع والنقاب، فإن المحرمة ممنوعة منه.
والبرقع أو النقاب: هو ما يخرج العينين، سواء صار نقاباً معروفاً، أو ما تسميه العامة من النساء: النقاب الأفغاني، فإن ذلك كله ممنوع، ولا يخرج من الحرمة وضع المرأة بعد لبسها النقاب خماراً فوق النقاب، فإنها ما زالت واقعة في المحظور؛ لأن الحكم مناط بتغطيه الوجه، سواء وضعت بعد ذلك خماراً على وجهها أو لم تضعه.
فجمهور الفقهاء يرون أنه يجب عليه أن يقطع الخفين، وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي .
وذهب أحمد رحمه الله: إلى أنه لا يجب عليه أن يقطع الخفين؛ لأن حديث ابن عمر : (ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، إنما ذكره عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة، بدليل ما جاء في بعض الروايات: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب)، وهذا إنما كان في المدينة.
وذهب أحمد : إلى أن هذا كان في أول الأمر، وأن رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقطع فقال: ( ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل )، والقاعدة الفقهية: أننا نأخذ بالأخير من أمره ونهيه عليه الصلاة والسلام.
ومن الملاحظ: أن حديث ابن عباس لم يفصل، وحديث ابن عمر فصل بالقطع، وحديث ابن عباس جاء في بعض الروايات: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفات)، فهذا يدل على أن حديث ابن عباس هو آخر الأمرين.
والغريب أن الإنسان أحياناً يصر على مخالفة السنة ظاناً أن السنة معه، فـالخطابي مثلاً وهو من علماء الحديث، ويرى قول الجمهور بقطع الخفين لمن لم يجد النعلين، ومع هذا قال: العجب من أحمد فإنه لا تكاد توجد سنة إلا يعلمها ويعملها، ومع هذا فإنه لا يرى سنة القطع! يعني: كيف أحمد لم يأخذ بهذا؟ ولكن أحمد رحمه الله إنما لم يأخذ بهذا لأنه ثبت لديه أن حديث ابن عباس خطبة بعرفة.
ومن المعلوم: أن الذين سمعوه وهو بعرفة أكثر ممن سمع وهو بالمدينة، وهذا يدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
إذا ثبت هذا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن لم يجد النعلين فليلبسها وليقطعهما أسفل من الكعبين )، وحينئذ نقول: هل يجوز لبس الخفين المقطوعين أسفل من الكعبين مع وجود النعلين أم لا يجوز؟ ولتوضيح صورة المسألة فإن الخفين اللذين قطعا أسفل من الكعبين مثلهما مثل الكنادر التي يلبسها الناس، فالكنادر أو الجزمة التي يلبسها الناس يلبسونها لأنها أسفل من الكعبين، فإذا لبسها المحرم من غير لبس الجورب، هل يجوز له ذلك؟ أم أنه لا يجوز له ذلك إلا في حالة عدم وجود النعلين؟
قولان عند أهل العلم: فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية في أحد قوليه وهو المذهب عند الحنابلة: إلى أن المحرم لا يجوز له أن يلبس الكنادر أو الخفين المقطوعين أسفل من الكعبين، إلا في حالة عدم وجود النعلين؛ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز لبس هذه الخفاف المقطوعة أسفل من الكعبين إلا في حالة عدم وجود النعلين، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( ومن لم يجد النعلين؛ فليلبس الخفين وليقطعهما ).
وذهب أبو حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : إلى أن للمحرم أن يلبس الكنادر أو الخفين المقطوعين أسفل من الكعبين، ولو في حالة وجود النعلين، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالقطع لتساوي النعلين، فإذا قطعت صار حكمها كحكم النعلين ولا محظور في ذلك.
وهنا يلاحظ أن كل واحد منهم استدل بنفس الحديث، إلا أن هذا ينظر من وجه، وهذا ينظر من وجه آخر، مما يدل على أنه لا ينبغي للمسلم أن يتشدد في بعض الأقوال المشهورة عند أهل العلم، ولا يقطع في هذه المسائل، بل يجتهد ويتحرى الصواب، ويعذر الآخرين.
والأقرب والله أعلم هو مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما )، فرتب جواز لبس الخفين المقطوعين في حالة عدم وجود النعلين، ولعل هذا أظهر، وقول الجمهور هو رأي شيخنا محمد بن عثيمين .
ورأي أبي حنيفة هو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز .
إذا قلنا: إن مذهب الجمهور لا يجوز، قالوا: لأن المنهي هو أن تلبس الرجل على قدرها فهذا في حكم المخيط، وعلى هذا: فالصنادل التي يكون لها جلدة مغطاة في العقبين منعها الجمهور؛ ولهذا منعوا التاسومة، وهي المداس، وهو أحوط وأولى، والله تبارك وتعالى أعلم.
واختلفوا في المعصفر فقال مالك : ليس به بأس فإنه ليس بطيب. وقال أبو حنيفة و الثوري : هو طيب وفيه الفدية ].
والراجح والله أعلم: أن المعصفر ليس بطيب؛ لأنه يجوز للمرأة أن تلبسه؛ لقول عائشة : ولتلبس بعد ما شاءت من معصفر أو خز أو حلي، إلا أنه لا يجوز للرجل أن يلبسه؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يلبس المعصفر )، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر ليس لأنه طيب، ولكن لأنه من لباس الكفار؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص : ( إن هذه من لباس الكفار فلا تلبسها )، وفي رواية: ( أمك أمرتك بهذا؟ )؛ لأن هذا من لباس النساء.
وأجمع أهل العلم: على أن إحرام المرأة في وجهها، وما جاء في حديث ابن عمر : ( إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه )، فقد روي مرفوعاً ولا يصح، فإن أيوب بن محمد المعروف بـالجمل أخطأ فرفعه عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، والصواب وقفه، كما رواه غير واحد من أهل العلم.
وعلى هذا: فالمرأة لا بأس أن تغطي وجهها، إلا أن الأولى إذا كانت أمام محضر النساء وليس في المكان أجانب ممن لا يجوز له النظر إلى وجه المرأة، أن تكشف وجهها.
واختلف العلماء في تخمير المحرم وجهه، بعد إجماعهم على عدم جواز تغطية الرأس، فذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة والحنفية والشافعية وهو قول عثمان بن عفان وقول زيد بن ثابت ، وقول عبد الرحمن بن عوف إلى جواز تغطية وجه المحرم.
وذهب مالك ورواية عند الإمام أحمد اختارها شيخنا عبد العزيز بن باز ، وهو قول ابن عمر . واستدلوا بما روى مالك في الموطأ أن ابن عمر رضي الله عنه قال: ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم، واستدلوا على ذلك: بما جاء عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير ، و عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته: ( لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا )، وهذه الزيادة تفرد بها مسلم وهي قوله: ( لا تخمروا وجهه )، ورواه البخاري من غير هذه اللفظة.
واختلف العلماء في هذه الزيادة، فذكر الحاكم : أن أهل العلم بالمعرفة بالحديث يضعفون هذه الزيادة، والمسألة محتملة، ولكن روي عن ابن عباس أنه لا يرى بأساً في تغطية المحرم وجهه، فإذا صحت هذه الرواية عن ابن عباس فإن هذا يدل على أن رواية ابن عباس التي رواها مسلم ضعيفة؛ لأن طريقة أهل العلم بالحديث كطريقة الإمام أحمد ، وطريقة الإمام البخاري ، وطريقة الإمام أبي داود و النسائي و الدارقطني وغيرهم من أئمة هذا الفن، وفرسان ميدان الجرح والتعديل ومعرفة العلل يضعفون أحياناً الحديث المرفوع إذا ثبت أن الصحابي خالف مرويه.
فإذا كان قد فعل خلاف ما روى فإن فعله هذا يدل على أن في الرواية ضعف، خلافاً للأصوليين الذين يقولون: إن العبرة بما روى لا بما رأى، وهذه طريقة الأصوليين، والأقرب هي طريقة أهل الحديث.
فإن ثبت عن ابن عباس أنه لا يرى بأساً في تغطية المحرم وجهه فهذا يدل على أن رواية مسلم ضعيفة، وحينئذ نقول: لا بأس للمحرم أن يغطي وجهه، وإن كان الأحوط ألا يغطي وجهه إلا لحاجة، والحاجة هنا كالأطباء الذي يضعون كمامة على أفواههم، أو إذا مشى الإنسان في مكان يخاف على نفسه من التلوث فلا حرج في ذلك، وإن وضع ربطة أو إحرامه على أنفه وأمسكه فهو أولى خروجاً من الخلاف، والخروج من عهدة الطلب مطلب، والله تبارك وتعالى أعلم.
واختلفوا في لبس القفازين للمحرمة، فـمالك منع ذلك وهو الراجح؛ لحديث ابن عمر ، وجوزه آخرون، والصواب منع ذلك.
ولو قلنا بقاعدة ابن تيمية ؛ لكان أكثر مسائل الحج فعل ولم يأمر بها فتكون على الجواز.
والراجح هو الاستحباب كمذهب الحنابلة، أما الطيب على الثياب كأن يطيب إحرامه فإن الحنابلة كرهوه ولم يحرموه؛ لكنهم قالوا: لو أحرم بثوب فيه طيب جاز، ولكن لو نزعه فلا يجوز أن يلبسه؛ لأن الاستدامة يجوز فيها ما لا يجوز في الابتداء، وصورة المسألة هي: لو أن شخصاً لبس ثوباً أو إزاراً أو رداءً مطيباً ثم قال: لبيك عمرة، جاز له أن يبقي ثيابه عليه، لكنه لو نام فنزع الإزار؛ فلا يجوز له أن يلبسه مرة ثانية؛ لأنه لبس ثوباً مطيباً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثياب المطيبة بقوله: ( ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس ).
والراجح والله تبارك وتعالى أعلم أن المحرم ممنوع أن يلبس ثوباً مطيباً، سواء كان ذلك قبل الإحرام أو كان بعد الإحرام، أما قبل الإحرام فلحديث ابن عمر ( ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس )، وأما بعد الإحرام فلحديث يعلى بن أمية : ( أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق قال: ما تراني أصنع في عمرتي؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ثم سري عنه فقال: أين السائل عن العمرة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: اغسل عنك أثر الخلوق )، وفي رواية ( اغسل عنك أثر الطيب ثلاثًا، واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )، وهذا يدل: على أن المحرم ممنوع من لبس الثوب المطيب، سواء كان حال الإحرام أو بعد الإحرام.
وعلى هذا: فإذا انتقل الطيب من مكان إلى مكان آخر فلا حرج، شريطة ألا يتقصد شمه أو انتقاله من مكان إلى مكان آخر؛ لأنه لو كان مثلاً الطيب على رأسه فشم رائحةً كريهة من جسده فأخذ شيئاً من الطيب الذي في رأسه ووضعه في المكان الكريه فإن هذا يعد محظوراً من محظورات الإحرام؛ لأنه في حكم التطيب.
إذا ثبت هذا فإن المحرم ممنوع من الطيب، سواء كان الطيب من حيث الشم وتقصد الشم، أو من حيث الفعل والاستعمال، أو من حيث الأكل والشرب، وعلى هذا: فمذهب الشافعية والحنابلة يرون أن الزعفران في الأكل إذا وجد طعمه أو طعمه ورائحته فإن ذلك ممنوع، أما إذا وجد لونه من غير طعم ولا رائحة فلا حرج، كالصفار الذي يوجد في الطعام ليس له طعم زعفران ولا رائحة فلا حرج، وكذلك يوضع في القهوة.
وذهب مالك و أبو حنيفة : إلى أن الزعفران إذا طبخ خرج عن أن يكون طيباً، والأحوط هو مذهب الجمهور.
فإذا وجد صابون برائحة العسل، أو برائحة الليمون فلا حرج؛ لأن الليمون أصلاً يجوز أكلها، أو اليوسفي أو الفراولة يجوز أكله، فإذا وضع في الصابون مما لم يقصد منه التطيب، ولكن يقصد منه إزالة رائحة الصابون نفسه فإنه لا بأس بذلك، والعامة يظنون أنه ممنوع من أن يستعمل شيئاً له رائحة، وهذا بعيد، لا يوجد شيء إلا وله رائحة كريهة أو رائحة غير كريهة، والآن يوجد صابون بزيت الزيتون وله رائحة أو صابون برائحة العسل أو برائحة الصنوبر فهذا لا بأس به.
أما الياسمين أو ماء الورد وما فيه عطر نفاذ فهذا هو الممنوع منه المحرم؛ لأنه وإن لم يكن طيباً، ولكنه قصد منه التطيب.
وإذا أراد أن يزيل النجاسة، فلا يزيلها بالصوابين المعطرة، مثلاً: شخص استجمر فيزيل النجاسة بالصوابين المعروفة، لكن لا يزيلها بالياسمين، وإنما يزيلها بالصابون المعروف.
و ابن قدامة له تفصيل في الطيب حيث قسمه إلى ثلاثة أقسام، فقال:
القسم الأول: ما هو طيب وما يستخرج منه الطيب، فهذا ممنوع منه المحرم كالبنفسج والفل وماء الورد، فهذا طيب ويستخرج منه الطيب.
القسم الثاني: ما لا يستخرج منه الطيب، وإن كان فيه رائحة الطيب، مثل: اليوسفي والفراولة والنعناع، فهذا لا يستخرج منه الطيب في العادة وإن كان فيه رائحة الطيب فهذه لا يمنع المحرم منها، ما لم يوجد طيب برائحة الفواكه، فهنا منع لأجل الطيب نفسه.
القسم الثالث: ما ليس بطيب ولا يستخرج منه الطيب، مثل: بعض الأشنان أو بعض الأدهان فلا حرج للمحرم في أن يستخدمها.
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن الأدهان لا بأس بها، ومن المعلوم: أن الدهن فيه رائحة ولكنها ليست رائحة عطرية يتطيب بها المحرم، ليس بطيب ولا يستخرج منه الطيب: مثل شجر الورد، فإنه ليس بطيب ولا يستخرج منه الطيب ...
أما إذا تحدث الرجل بحديث، ولا يخاطب بذلك المرأة، فهل يعد هذا محظوراً من محظورات الإحرام؟ وهل هذا من الرفث أم لا؟
ذهب ابن عمر : إلى أن الرجل المحرم لا يسوغ له أن يباشر المرأة، ولا أن يتحدث بحديث عن المرأة، فلو تحدث الرجل مع صاحبه وذكر ما يصنعه الرجل مع المرأة، أو ذكر بعض صفات المرأة فإن ذلك عند ابن عمر يعد محظوراً من محظورات الإحرام؛ لأنه داخل في الرفث.
وذهب ابن عباس : إلى أن المحظور ما خوطب به النساء.
وأقول: وإن كان قول ابن عباس قوي إلا أن الأولى ألا يسترسل المسلم أو يتحدث مع صاحبه في مثل هذا الحديث، الذي هو في الحقيقة نوع من خرم المروءة، ونوع مما نهى عنه الشارع، وخاصةً في أيام مزدلفة، حيث يجتمع الرجال أو تجتمع النساء ويتحدثن بأمور لا تحمد، وكذلك يتحدث الرجال ويتسامرون ويضحك هذا مع هذا، وربما أطال الحديث ودخل في مثل هذا الحديث، وينبغي للمسلم أن يكف عن ذلك.
إزالة الشعر يمنع المحرم من أن يزيل شعره، سواء كان شعر بدنه أو شعر رأسه، وهذا هو قول الأئمة الأربعة.
وذهب ابن حزم و عطاء : إلى أن المحرم ممنوع من إزالة شعر الرأس فحسب، وأما شعر البدن فلا بأس.
والراجح هو مذهب الأئمة الأربعة؛ لأن الله يقول: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وإنما ذكر هذا يوم العيد، ومن المعلوم أن قضاء التفث كما قال ابن عباس : أنه إزالة الشعر، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وهذا تفسير صحابي لا يعلم له مخالف، وعليه المعتمد.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق من لم يحج: ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئًا )،كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة ، وإنما والله تبارك وتعالى أعلم شرع للمضحي ألا يأخذ من شعره ومن بشرته ومن أظفاره شيئاً مشابهة له بالمحرم، وإذا كان المقيس ممنوعاً منه فالمقيس عليه وهو المحرم من باب أولى، والعلم عند ربي سبحانه.
وأما الاغتسال فإن مالكاً منع المحرم من أن يغتسل غير غسل الإحرام، والراجح والله أعلم جوازه، وهذا مذهب عمر و ابن عباس ، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول لـابن عباس وهما محرمان: تعال أباقيك، أي: نغوص في الماء، وأينا يبقى أكثر، وهذا يدل: على أنهما كانا يغتسلان وهما محرمان، بل قال عمر رضي الله عنه كما عند مالك في الموطأ: ما يزيده الماء إلا شعثاً، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث محمد بن حنين ، والمؤلف يقول: عبد الله بن جبير ، ولا ما أدري هل رواه مالك من هذا الطريق، إلا أن المعروف أنه من حديث محمد بن حنين عن ابن عباس قال: (اختلف
إلا أن مالكاً قال: إن هذا إنما فعله النبي حين أجنب، وهذا تخريج جيد لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صنعه لأجل الجنابة، وحيث أنه لم يرد في ذلك شيء فالأصل الإطلاق.
وعلى هذا فلا بأس للمحرم أن يغتسل، وأن يغير ثيابه، كل ذلك جائز، وما يظنه العامة من أنه إذا أحرم بثوب لا يجوز له أن يغيره فهذا فهم خاطئ.
وأما دخول الحمام البخار للمحرم فمنعه مالك وجوزه الجمهور، والصواب جواز ذلك، وقد روي عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم.
والاصطياد مجمع على أن المحرم ممنوع من الصيد؛ لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وأجمعوا على أنه لا يجوز للمحرم أن يصيد، ولا أن يأكل ما صاده.
واختلفوا ما صيد من أجله، والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم، وهو قول عثمان بن عفان : أن المحرم يحرم أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً إذا صاده أو صيد من أجله أو أعان الصائد عليه بأن أشار أو دله دلالة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي )، وكذلك إذا صيد من أجله، لأن الصعب بن جثامة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وقد صاده لأجل النبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نأكله فرده إليه، قال: فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ).
وإذا لم يصد لأجل المحرم فلا حرج أن يأكل المحرم منه، لقصة أبي قتادة (حينما قتل الحمار الوحش فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأكلوا منه وهم محرمون)؛ لأنهم لم يأمروا أبا قتادة ولم يدلوه ولم يصده أبو قتادة لأجلهم، هذا هو مذهب الشافعي والإمام أحمد .
وقد جاء نص في هذا وهو ما رواه المطلب بن وداعة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صيد البحر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم )، وهذا الحديث الصحيح كما قال البخاري : أن المطلب لم يسمع من أحد من الصحابة ولكن المعنى صحيح، والله تبارك وتعالى أعلم.
وقال أبو حنيفة : لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح؛ لأن ابن عباس روى كما في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج
والراجح هو مذهب الجمهور، وأما حديث ابن عباس فقد أخطأ فيه ابن عباس، والصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج
ولكن العلماء اختلفوا هل إذا عقد المحرم أو عقد على المحرمة عقد النكاح هل يبطل عقد النكاح أم لا؟
فذهب الجمهور: إلى أن عقد النكاح باطل ولا يصح، وكذلك روي عن عمر و علي رضي الله عنهما، والأقرب والله أعلم: أن النهي لا يقتضي الفساد، ولكنه يقتضي التحريم، وأما قول عمر : لا يصح ذلك، فإن معناه لا يجوز، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
ثم إن النهي هنا ليس لأجل ماهية العبادة، ولا على وصفها الذي لا ينفك عنها، وإنما هو لأجل حال المحرم، كما نهي عن البيع بعد النداء الثاني، فمذهب الجمهور: أن البيع صحيح مع الإثم خلافاً للحنابلة وبعض المالكية، وإن كان الأولى أن يجدد المحرم عقده، وكذا المحرمة، ولكن الأصل صحة العقد.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحني وإياكم رضاه والتقوى والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر