أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله أينما كنتم مع الحلقة الأولى من حلقات برنامجكم: فقه أحاديث الصيام، هذا البرنامج الذي يأتيكم طيلة شهر رمضان المبارك يومياً.
أرحب باسمكم في بدء هذا اللقاء، وكل لقاء بضيف البرنامج والذي سيتولى الشرح والبيان والإيضاح لموضوعات هذه الحلقة والحلقات كلها، أرحب بصاحب الفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية, أهلاً بكم صاحب الفضيلة.
الشيخ: حياكم الله شيخ ناصر ! وحيا الله المستمعين والمستمعات.
المقدم: إذاً: حيا الله شيخنا الكريم وحياكم الله، وأوضح فكرة هذا البرنامج: فقه أحاديث الصيام، سنعمد بإذن الله في ثنايا هذه الحلقات إلى ذكر ما ورد من أحاديث نبوية في شتى أحكام الصيام، ونتعرض لها بالتوضيح والبيان والجمع فيما يظهر منه الاختلاف، وأيضاً بيان الناسخ من المنسوخ، وسوف نتعرض لفقه سلف هذه الأمة وما أثر عنهم في بعض أحكام الصيام.
صاحب الفضيلة! يبدأ الناس شهر رمضان المبارك بالحمد والشكر لله جل في علاه، ثم يثنون بتلكم التهنئات -سواء برسائل الجوال أو بغيرها- بقدوم هذا الشهر المبارك، والسؤال: هل في الشرع الحكيم ما يثبت تلكم التهنئة؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فالذي هو معروف عند أهل العلم أنه لا يصح حديث في التهنئة بقدوم شهر رمضان، وكل الأحاديث الواردة في هذا الباب فيها ضعف.
منها: حديث سلمان الفارسي الذي رواه الإمام أحمد و ابن خزيمة في صحيحه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاكم شهر رمضان وهو شهر فضيل, قد كتب الله عليكم صيامه )، وهذا الحديث في سنده ضعف، حيث إن في سنده علي بن زيد بن جدعان كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.
ومنها: حديث أبي هريرة كما رواه الإمام الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاكم شهر رمضان وفيه ليلة خير من ألف شهر )، وهذا الحديث أيضاً ضعيف، وعلى هذا فكل الأحاديث الواردة في التهنئة بقدوم شهر رمضان ضعيفة.
ولكن هل نقول: إذا لم يثبت حديث في التهنئة أنها محرمة، أو أنها بدعة، أو أنها جائزة؟
اختلف في ذلك فقهاء الإسلام، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن التهاني من باب المباحات وإدخال السرور على المسلم، وإدخال السرور مستحب في الجملة، وعلى هذا فلا بأس أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم شهر رمضان، وليس ذلك من العبادات.
وقد حقق الإمام ابن سعدي رحمه الله هذه المسألة، وكذلك الإمام السيوطي ، ولهذا كان الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم: أن التهنئة بقدوم شهر رمضان أو قدوم أي شيء لا بأس به، ولعل أصل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن مالك في قصة توبته حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليهنك توبة الله عليك يا
الشيخ: الأصل أن الإنسان لا بد أن يتمثل سير سلفه الصالح؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فكل من اقتدى بآثار من سبقه من الأئمة كان على هدى وعلى طريق مستقيم، كما قال عبد الله بن مسعود : أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث، وفيه قال: وبهم اقتدوا.
ولهذا كان الأئمة رحمهم الله يعرفون سيرة الرجل باقتدائه بمن سبقه، ولهذا كانت أعظم التفاسير التي ذكرها أئمة السلف كـابن عباس و مجاهد و قتادة و الحسن وهو قول جمهور أهل العلم من المفسرين في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، يعني: اجعلنا مقتدين للأئمة.
قال ابن القيم : وهذا من أحسن التفاسير وألطفها، وذلك أن المرء لا يبلغ أن يكون إماماً للمتقين حتى يكون مقتدياً بالأئمة، ولهذا ينبغي للإنسان أن ينتقي ألفاظه كما كان أهل العلم يفعلون.
وعلى كلٍ فالأصل في هذا الباب الجواز، فللإنسان أن يتلفظ بما شاء غير أنه لا ينبغي له المبالغة في السجع؛ لأن المبالغة في السجع أمر لا يستحبه الصحابة، كما ذكر ذلك ابن عباس عند البخاري ، والله أعلم.
الشيخ: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر للناس أن يخرجوا لرؤية الهلال، ولكن دلت أحاديث بدلالة الإيماء ودلالة التضمن ودلالة الالتزام على خروج الناس كما ثبت ذلك عند الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه )، وكون الصحابة يتراءون الهلال فلا بد أن يكون ذلك بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم: أن ترائي الهلال مستحب وليس بواجب؛ لأن هذا المستحب سوف يجعل الناس يصومون بالوقت والمكان والزمان الفضيلة.
ولهذا كان الأقرب والله أعلم هو مذهب جمهور أهل العلم، على أن ترائي الهلال من المستحبات كما هو معهود عن الصحابة رضي الله عنهم.
الشيخ: أجمع أهل العلم على أن شهر رمضان يدخل بطريقتين:
الطريقة الأولى: إتمام شهر شعبان، فإذا تم شهر شعبان ولم ير الهلال ليلة الثلاثين فيجب على الناس أن يكملوا شهر شعبان ثلاثين يوماً.
الطريقة الثانية: أن يروا الهلال, فإذا رئي الهلال ليلة الثلاثين يعني: بأن رئي القمر بعد غروب الشمس من ليلة الثلاثين فإن اليوم الذي بعد هذه الليلة هو اليوم الأول من شهر رمضان, هاتان الطريقتان هما اللتان أجمع العلماء عليهما كما ذكر ذلك ابن المنذر و ابن قدامة و النووي وغير واحد من أهل العلم.
وعلى هذا فالرؤية ثابتة بالإجماع، غير أن أهل العلم اختلفوا في هذه الرؤيا, هل يكفي برؤية شاهد واحد، أم لا بد فيه من رؤية شاهدين؟ وكذلك هل يكفي برؤية ذكر أم يجوز رؤية أنثى؟
في هذا خلاف عند أهل العلم، والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه يكفي لرؤية هلال شهر رمضان رجل واحد، والدليل: ما ثبت عند الإمام أحمد و أبي داود و ابن ماجه وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته, فصامه وأمر الناس بصيامه )، وجاء في ذلك حديث آخر من حديث ابن عباس : ( أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد أنه رأى الهلال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأذن يا
ولهذا ذهب الحنابلة والشافعية رحمهم الله في أصح أقوال أهل العلم إلى أنه يكفي لرؤية هلال رمضان شخص واحد ولو أنثى كما هو مذهب الحنابلة؛ لأن المقصود بذلك هو إخبار عن أمر ديني، ومن المعلوم أن الإخبار عن أمر ديني يجوز فيه الذكر ويجوز فيه الأنثى، فما زالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تخبر بأخبار دينية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبلها الناس جميعاً، والله أعلم.
الشيخ: السؤال عن يوم الشك، ما هو يوم الشك؟ هل هو يوم الغيم الذي يكون ليلة الثلاثين, أو يوم الشك هو يوم الثلاثين مطلقاً؟
في ذلك خلاف عند أهل العلم، ولهذا ذهب الحنفية والشافعية والمالكية خلافاً للحنابلة إلى أن يوم الشك هو يوم ليلة الثلاثين، سواء كان فيه قتر أم كانت صحواً فهو يوم الثلاثين وهو يوم الشك، والقتر السحاب.
وهذا هو ظاهر قول الصحابة فقد ثبت عند الإمام أحمد و النسائي من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) ولهذا كان الأقرب والله أعلم أن يوم الشك هو اليوم الثلاثين من شهر شعبان؛ لأن الناس لا تدري هل هذا اليوم هو يوم من رمضان، أو هو آخر يوم من شهر شعبان؟ ولا عبرة بوجود الصحو والقتر.
أما الحنابلة رحمهم الله فقالوا: إن يوم الشك هو اليوم الذي يكون فيه قتر من آخر أيام شعبان.
والأقرب والراجح والله أعلم: أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان سواء كانت السماء فيها قتر أو كانت صحواً، كل ذلك هو من يوم الشك.
وعلى هذا فقد اختلف العلماء في صيام يوم الشك الذي فيه غيم، فذهب الحنابلة إلى أنه يستحب الصيام في يوم الثلاثين إذا كان فيه قتر، واستدلوا بفعل ابن عمر رضي الله عنه كما عند أبي داود وإن كان أصله في البخاري , قال نافع عندما روى ابن عمر : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ), قال نافع : فكان ابن عمر إذا كان يوم الثلاثين من شهر شعبان يأمر رجلاً أن ينظر إلى السماء, فإن كانت صحواً أصبح مفطراً, وإن كانت فيها غيم أصبح صائماً؛ كل ذلك احتياطاً منه رضي الله عنه.
والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا اجتهاد من ابن عمر , وإن كان ابن عمر إنما فعل ذلك لأجل أنه كان يصوم أكثر أيام شعبان، وعلى هذا فمن كان مثل حال ابن عمر فلا حرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )، فـابن عمر كان مداوماً على الصيام فصامه، وهذا أحسن ما يقال في هذا الباب.
وإن كان الأظهر -والله أعلم- أنه إذا كان يوم الثلاثين فلا يجوز أن يصومه على أنه من رمضان؛ لأنه مخالف لسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
المقدم: الله المستعان! بهذه الإجابة الضافية والتوضيح والبيان لبعض أحكام صيام يوم الشك نصل إلى ختام هذه الحلقة من حلقات برنامجكم اليومي فقه أحاديث الصيام.
الشكر في ختامها بعد شكر الله جل في علاه لفضيلة ضيفنا الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شكراً له وشكراً لكم، وإلى اللقاء في حلقة الغد وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر