أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحباً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي فقه أحاديث الصيام، أرحب في مطلع هذا اللقاء بضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أهلاً ومرحباً بكم صاحب الفضيلة!
الشيخ: حياكم الله يا شيخ ناصر ! وحيا الله المستمعين والمستمعات.
المقدم: أحسن الله إليكم وشكر الله لكم، ذكرتم فيما مضى المنافذ إلى الجوف أنواعها وأصنافها والأمثلة عليها، وهناك ثمة أمثلة تعاطاها الناس ويسألون عن مدى تفطيرها للصائم، كمن ذرعه القيء أو تعمد التقيؤ لأمر أو لآخر ونحوها، كيف تندرج تحت أي نوع من الأنواع التي ذكرناها؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
نحن تحدثنا سابقاً عن مسألة ما هو الجوف؟ وخلاف أهل العلم، وقلنا: إن الراجح والله أعلم أن الجوف هو كل ما يصل إلى المعدة مما يتغذى منه البدن، أو يدخل عن طريق الفم مما يسمى لغة أكلاً أو شرباً، ولو لم يحصل به التغذية، فهذه لا بد من بيانها حتى ننطلق إلى المسائل التي تحدث عنها الفقهاء، وقد ذكرنا أن المنافذ التي تدخل الجسم سبعة: الفم، والأنف، والعين والأذن والقبل، والدبر، والبطن أو الجسد.
ولعلنا نتحدث عن بعض المسائل التي تحدث عنها الفقهاء وجاء فيها بعض الأحاديث، وإن كان لا يصح في الباب منها شيء:
الأول: القيء، فالقيء ذهب عامة أهل العلم بل نقل الإجماع على أن من تقيأ عمداً فإنه يفطر، وقد نقل الإجماع ابن المنذر وكذلك الخطابي وغير واحد من أهل العلم.
واستدلوا بأدلة:
أولاً: من السنة، والثاني: من الأثر، والثالث: من النظر.
أما من السنة: فاستدلوا بما رواه الإمام أحمد و أبو داود وأهل السنن، من حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فليقضِ )، وهذا الحديث تكلم فيه الأئمة الثقات الأثبات كـأحمد بن حنبل و أبي داود والإمام البخاري و الترمذي و الدارقطني وغير واحد من أهل العلم، فقالوا: إن الحديث لا يصح مرفوعاً، وإنما الصحيح أنه مرسل، بمعنى أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل، وأن عيسى بن يونس أخطأ في رفعه، وكذلك هشام بن حسان أخطأ في رفعه عن محمد بن سيرين ، وأن هشاماً أخطأ في ذلك، هذا مجمل كلام الأئمة في الحكم على الحديث.
وعلى هذا نقول: إن الحديث لا يصح مرفوعاً، ومما يدل على ضعفه: أن الثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا يرى في القيء بأساً، وهذه قاعدة أشار إليها العلماء، على أن الراوي إذا أفتى خلاف ما رواه مرفوعاً دل على أن المرفوع ضعيف، خلاف ما يقوله الأصوليون: إن العبرة بما روى لا بما رأى، والصحيح: أن الصحابي إذا جاء عنه طريقان: طريق مرفوع له حكم، وطريق موقوف له حكم، دل على أن المرفوع ضعيف؛ لأجل مخالفته للموقوف؛ لأن الراوي الصحابي لا يمكن أن يفتي بخلاف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما نعلم من إيمانهم ويقينهم وانقيادهم لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فإن الثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (الفطر مما دخل، لا مما خرج)، كما رواه البخاري في التاريخ الكبير، وضعف حديث ابن عباس المرفوع بهذا الموقوف، وكذلك غيره من أئمة السلف.
الدليل الثاني: الأثر، فقد روى مالك في موطئه بسند صحيح، من طريق نافع عن ابن عمر أنه قال: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فليقضِ )، وهذا يدل على أن ابن عمر رضي الله عنه كان يرى بالقيء أنه يفطر، وقد خالفه ابن عباس وخالفه أبو هريرة .
ومما يقوي أيضاً أن القيء يفطر ما رواه الإمام أحمد و الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال الراوي: فذهبت إلى
الدليل الثالث: النظر، فإن الذي يتقيأ عمداً فإنه يستخرج شيئاً من الطعام، وقطعاً سوف يبتلع شيئاً منه؛ لأنه سوف يبقى في حلقه، وإذا ابتلع شيئاً منه فإنما أخرجه عالماً ذاكراً مختاراً، فدل ذلك على أنه داخل في الفطر، فهو قد استدعى خروج شيء من الطعام الذي لا بد وأن يدخل منه في المعدة، وعلى هذا نقول: إن الأقرب والله أعلم أن القيء يفطر, هذا قول عامة أهل العلم، فإذا تقيأ الإنسان عالماً ذاكراً مختاراً، سواء أدخل أصبعه في حلقه أو شم شيئاً ويعلم أنه إذا شمه يتقيأ، أو نظر إلى شيء متعمداً ومثله إذا رآه يتقيأ، فإن كل هذه الأشياء داخلة في العمد الذي أشار إليه الفقهاء رحمهم الله تعالى، وعلى هذا فنقول: إن الراجح والله أعلم: أن القيء يفطر لا لأنه من باب الاستفراغ كما يقول بعض الفقهاء: إن كل ما كان من باب الاستفراغ فإنه يفطر كالإنزال وكالحجامة وكالقيء، لكننا نقول: يفطر من جهة أخرى. وكذلك الجماع أو الإنزال جاء عنه استفراغ لكنه بشهوة، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ).
الشيخ: أما مسألة الاكتحال فإننا قد ذكرنا أن العين ليس لها منفذ إلى المعدة على القول الصحيح وهو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وإن كان ربما يكون له منفذ إلى الجوف الباطني.
أو التجويف البطني، والعلماء رحمهم الله يرون أن كل ما كان جوفاً بطنياً فإنه يفطر، إلا مالكاً فإنه قال: حتى يصل إلى الحلق، أما إذا وصل إلى المعدة فإنهم كلهم يرون أنه يفطر، ولكن الراجح: أن العبرة بوصول الشيء الذي يحصل به التغذية إلى المعدة، أو يمتصه البدن كامتصاص الشيء الذي يخرج من المعدة، كما تمتص الأمعاء الدقيقة الدواء عن طريق الدبر، كما ذكرنا ذلك في حلقة سابقة.
وعلى هذا فإن اكتحال المسلم وهو صائم، أو اكتحال المرأة وهي صائمة لا يضرها، وما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود و البخاري في تاريخه من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح وقال: ليتقه الصائم )، قال بعض العلماء: هذا دليل على أن الكحل مفطر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليتقه الصائم )، ونحن نقول: إن اتقاء الصائم للشيء ليس دلالة على أنه يفطر، ومع ذلك نقول: إن الحديث أيضاً ضعيف، فإن النعمان بن معبد تكلم فيه أهل العلم، وكذلك ابنه عبد الرحمن قال فيه ابن معين : رجل ضعيف، وتكلم فيه العلماء رحمهم الله، والأصح: أن الحديث ضعيف كما ضعفه ابن معين وضعفه البخاري في تاريخه.
وعلى هذا فنحن نقول: إن الكحل ليس فيه حديث ينص على أنه مفطر أو ليس بمفطر.
وما جاء في حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير في الكحل بأساً ) فهو حديث ضعيف جداً كما قال الأئمة رحمة الله تعالى عليهم.
الشيخ: هذا السؤال يجعلنا ندلف إلى مسألة شروط الفطر حتى نتيقن هذه المسألة.
شروط الفطر على الراجح وهي اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهو مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد أن الفطر لا بد فيه من توفر ثلاثة شروط:
الشرط الأول: العلم، وذلك بأن يكون عالماً بأن هذا يفطر، فلا بد من العلم بالحال والعلم بالمفطر.
مثاله: بعض الناس يسمع فتوى أن الإبر لا تفطر، فيظن أن كل أنواع الإبر لا تفطر، فيأخذ إبرة مغذية إبرة جلكوز، هذه الإبرة مغذية، وهي تعمل مثل عمل الأكل والشرب في الجملة، وهو يظن أنها لا تفطر، فإذا صنعها الإنسان جاهلاً بالحكم نقول: صومك صحيح، لماذا؟ لأنك جاهل في أن هذا الشيء مفطر، ودليل ذلك ما رواه البخاري و مسلم من حديث عدي بن حاتم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزلت قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، قام عدي بن حاتم فأتى بعقالين أحدهما أبيض والآخر أسود فجعل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، وقد طلع الفجر وبقي الإسفار، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال كما في بعض الروايات: إن وسادك إذاً لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار )، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر عدياً بالإعادة، ولو كانت الإعادة واجبة عليه لأمره عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأحياناً يكون الإنسان جاهلاً بالحال، فالجاهل بالحال انتفى منه شرط.
مثاله: لو أن الناس ظنوا أن غروب الشمس قد غربت فأكلوا، ثم طلعت الشمس فهؤلاء ليسوا جاهلين بأن الأكل لا يفطر، ولكنهم جاهلين بالحال، فهؤلاء على الراجح أنه لا يلزمهم الفطر، وهذا مذهب أحمد رحمه الله في رواية، وهو خلاف مذهب الجمهور، وهذا الراجح، وقد رجحه ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه.
ومما يقوي ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: ( أفطرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس )، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وأما ما جاء في حديث هشام بن عروة حينما سئل قال: لا بد من القضاء، فإنما ذلك اجتهاد من عنده بدليل أنه جاء في بعض الروايات عن هشام بن عروة أنه قال: لا أدري أُمروا بالقضاء أم لا، فهذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون الإنسان ذاكراً، فمن أكل أو شرب ناسياً لصومه فإن صومه صحيح، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )، هذا مذهب عامة أهل العلم، خلافاً لـمالك بن أنس رحمة الله تعالى عليه.
الشرط الثالث: أن يكون الإنسان مختاراً، والاختيار: هو أن يتقصد الأكل، فمن فعل شيئاً من غير اختياره قهراً فإنه لا يفطر، ودليله إجماعهم على حديث أبي هريرة إن صح، وهو أيضاً عن ابن عمر من قوله: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه )؛ لأن هذا ليس باختياره.
ومثل ذلك من كان في حادث مروري مثلاً فأغمي عليه فجاء الأطباء فوضعوا له مغذياً، فهذا من غير اختياره، فإذا أفاق بعد المغرب فإن صومه صحيح؛ لأنه لم يكن ذلك عن اختيار من عنده، وعلى هذا فهذه ثلاثة شروط، ولعلنا نفصلها إن شاء الله في وقت آخر، نسأل الله التوفيق والتسديد. والله أعلم.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم هذا التفصيل، وهذا البيان لشروط الفطر، أو الفطر المعتبر الجارح للصوم.
أشكر في ختام هذا اللقاء الله جل في علاه على أن هيأ لنا مثل هذه اللقاءات وتسجيلها، ثم أشكر أيضاً ضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء على ما أجاد وأفاد، وأشكر لكم متابعتكم وإصغاءكم، لقاءنا بكم وبشيخنا الجليل يتجدد غداً وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر