أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيهلاً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي: فقه أحاديث الصيام، أرحب في مطلع هذا اللقاء بضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أهلاً بكم صاحب الفضيلة.
الشيخ: حياكم الله يا شيخ ناصر ! وحيا الله المستمعين والمستمعات.
المقدم: شيخي الجليل! الحديث عن شروط الفطر ذكرتموها سابقاً على عجل مع شيء من التمثيل، هل من إعادة لها، ثم ما حكم من أكل أو شرب ناسياً، ومن رآه أيضاً كيف يصنع؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
نحن ذكرنا شروط الفطر بشيء من التفصيل، وقلنا: إن مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن الفطر لا بد فيه من توافر ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون عالماً بأن هذا الشيء مفطر، وأيضاً عالماً بالحال، فمن أفطر ظاناً أن هذا الوقت وقت ليل فتبين له أنه وقت نهار، فإن الأقرب -والله أعلم، وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله- أنه لا يلزمه القضاء بل صومه صحيح؛ لأنه أفطر بناءً على اجتهاد وتحر، ومن بنى على غلبة الظن فإنه لا يؤمر بالإعادة والقضاء.
الشرط الثاني: أن يكون ذاكراً، وضده النسيان، فـ(من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة، خلافاً لـمالك رحمه الله تعالى، فإنه رأى أن من أكل أو شرب ولو ناسياً فإنما يلزمه الإمساك ويلزمه القضاء، قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( فليتم صومه )، قال: هذا أمر بالإمساك، وليس بالقضاء، والراجح والله أعلم أنه لم يؤمر بالقضاء؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الشرط الثالث: أن يكون مختاراً، فإذا كان مختاراً بأن أكل أو شرب وهو متعمد غير ناس ولا مكره فإنه يلزمه القضاء، هذه ثلاثة شروط.
وعلى هذا فمن رأى شخصاً يأكل أو يشرب ناسياً فهل نأمره بأن يقلع عن ذلك أم لا؟
الأقرب والله أعلم وهو مذهب جمهور أهل العلم أننا نأمره بأن يقلع عن الأكل، وهذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خلافاً لما يظنه العامة أنك لا تقل له شيئاً؛ لأن الله أطعمه وسقاه! فنحن نقول: وإن أطعمه الله وسقاه من حيث نسيانه، ولكن يجب علينا أن نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر وأن نذكره في ذلك، كما هو مذهب جمهور أهل العلم.
الشيخ: ( فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )، هذا في رواية البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة ، فكلمة ( إنما أطعمه الله وسقاه ) بمعنى أن نسيانه كرم وفضل ومنة من الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك بعدم ذكره وعدم وجود سهوه هذا رزق من الله ساقه إليه، ولعلنا نذكر قصة ذلك الرجل التي رواها عبد الرزاق من حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى أبا هريرة فقال: يا أبا هريرة ! إني كنت صائماً فذهبت من البيت إلى السوق فأكلت، فتذكرت أني صائم قال: أمسك بقية يومك، قال: بيد أني ذهبت وخرجت من السوق وذهبت إلى أهلي فوجدت شيئاً يأكلونه فأكلت، فتذكرت أني صائم، فقال: أتم صومك، قال: ثم خرجت فوجدت شيئاً يؤكل فأكلت!! فضحك أبو هريرة وقال: هذا رجل لم يعتد الصيام، فقد يأتي على الإنسان مثل هذا الأمر، ولكن يجب أن نعلم أن أكله وشربه فيه إشكال عند بعض الناس.
ونقول: لو أن شخصاً يظن أن هذا الشيء مفطر، لكنه يجهل ما عقوبة هذا التفطير فنحن نقول: من علم أن هذا الشيء مفطر فإنه يلزمه القضاء والكفارة إذا كان فيها كفارة، وعلى هذا فمن ظن أن الوطء من غير إنزال ليس بمفطر؛ لأن بعض الناس يظن ذلك كأن يكون حديث عهد بإسلام، أو في بلد يجهل أهله فيظنون أن الفطر إنما هو بالإنزال، فكان يطأ أهله ولكنه لا ينزل، وهو يظن أن صومه صحيح؛ لأنه لم ينزل، فهذا جاهل بالحال، فهذا على الراجح -وهو مذهب الشافعي وهو اختيار ابن تيمية ورواية عند الإمام أحمد- أن الجهل والنسيان في حق كل المفطرات يدخل في قاعدة: إن الله عفا عنا الخطأ والنسيان، أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يرى أن الجهل والنسيان في الوطء ليس بعذر، فلو تصور أن شخصاً وطئ أهله وهو ناسٍ فإنه لا يعول عليه عند الحنابلة، وكذلك عند الحنفية.
والراجح والله أعلم أن الجماع لا فرق بينه وبين سائر المفطرات، وعلى هذا فمن ظن أن الإنزال هو الذي يفطر وأن الوطء بلا إنزال لا يفطر، فنحن نقول: يجب عليه أن يمسك بقية يومه، ولا يلزمه القضاء؛ لأنه لم يكن متعمداً في ذلك وهذا مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
الشيخ: يجب أن نعلم أن من أفطر في نهار رمضان فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وهذا بإجماع العلماء، بل إن شدة وشناعة هذا الأمر جعلت بعض الفقهاء يقول: من أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان فإنه لا يقضي ذلك اليوم، كما نقل عن الحسن البصري و أبي العباس بن تيمية وبعض مشايخنا كالشيخ محمد بن عثيمين يقولون: إن من أفطر يوماً متعمداً فإنه لا ينفعه ذلك، وقد جاء في ذلك حديث عند الدارقطني : ( من أفطر يوماً متعمداً لم يجزه صيام الدهر ولو صامه )، وهذا الحديث ضعيف جداً، ولكن الأقرب والله أعلم: أن من أكل أو شرب متعمداً، أو جامع متعمداً فإن الراجح والله أعلم أنه يلزمه أمور:
أولاً: التوبة والاستغفار لفعله ذنباً.
ثانياً: أنه يلزمه أن يمسك بقية يومه؛ لأنه ما زال الوقت وقت حرمة، يعني: عليه حرمة الزمان.
ثالثاً: يلزمه القضاء، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم، بل نقل الخطابي الإجماع على ذلك كما في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في حلقة ماضية: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فليقض )، وقلنا لا يصح مرفوعاً، والصواب وقفه على ابن عمر كما رواه مالك في موطئه، وخلافاً لـأبي العباس بن تيمية .
رابعاً: إن كان ثمة كفارة فتلزمه، وما هي الكفارة؟ أننا نقول: من أكل أو شرب أو فعل شيئاً من المفطرات غير الجماع فإنه يلزمه الاستغفار والإمساك والقضاء ولا يلزمه أكثر من ذلك، فيقضي يوماً بدلاً من يومه الذي أفطر فيه مع التوبة والاستغفار، وإن تصدق -لأنه فعل ذنباً- فحسن، لكن لا يجب عليه.
أما لو جامع فإن الراجح -والله أعلم- أن الفطر بالجماع عمداً ليس كغيره، هذا مذهب جمهور أهل العلم خلافاً لـمالك، فذهب أبو حنيفة و أحمد و الشافعي إلى أن من أفطر متعمداً في نهار رمضان بالجماع فإنه يلزمه الكفارة المغلظة، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد رقبة؟ -أو ما تعتق رقبة؟- قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -يعني: شيء مثل الزنبيل- فقال: تصدق بهذا، فقال: فعلى أهلي؟ -أو قال:- فهل على أفقر منا؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أطعمه أهلك )، فهذا الحديث يدل على أن العلة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم عليها حكم الكفارة إنما هو لأجل أنه وقع على امرأته نهاراً.
فأما من أفطر في غير الجماع مثل الإنزال من غير وطء، أو مثلاً قبل فأمنى، أو أكل أو شرب فإن الراجح والله أعلم أنه يلزمه الاستغفار ويلزمه الإمساك ويلزمه القضاء، ولا يلزمه أكثر من ذلك خلافاً لـمالك بن أنس رحمة الله تعالى على الجميع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأمر على هذا، ولهذا قال الأصوليون: السؤال معاد في الجواب، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأجل سؤال هذا الشخص عن مسألة معينة، وهي من وقع في نهار رمضان.
وقلنا أيضاً: الراجح أنه يلزمه القضاء كما هو مذهب عامة أهل العلم؛ لأن القضاء يحكي الأداء، خلافاً لـأبي العباس بن تيمية ورواية عند الإمام أحمد .
تبقى مسألة وهي أن بعض الناس يريد أن يطأ أهله -والعياذ بالله- في نهار رمضان فيأكل أو يشرب ثم يطأ؛ فأكله وشربه إنما هو لأجل الوطء، فذهب الجمهور إلى أن أكله وشربه هنا لم يكن لقصد الأكل ذاته، أو لقصد الإفساد ذاته، وإنما كان لقصد الجماع، وعلى هذا فيلزمه الكفارة وهي الكفارة المغلظة، كما هو مذهب جمهور أهل العلم، وهو المذهب عند الحنابلة. والله أعلم.
الشيخ: العلماء رحمهم الله قالوا: الجاهل بالحكم غير الجاهل بالعقوبة، فمن كان جاهلاً بالحكم أن الجماع يفطر ففعله على اعتقاد أنه لا يفطر، فإننا نقول: أمسك بقية يومك ولا يلزمك القضاء، هذا على مذهب الشافعي وهو اختيار ابن تيمية وهو الراجح.
أما الحالة الثانية: مثل يقول: أنا أعلم أن الجماع مفطر، ولكني لا أظن ولا أعتقد ولا أعلم أن عقوبته الكفارة المغلظة، وأنا جاهل بالعقوبة، فنقول: إن الجهل بالعقوبة لا يمنعك من أن تكفرها، ولهذا قلنا: إن الصحابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هلكت هلكت! إني وقعت على امرأتي في نهار رمضان)، فهو عالم بالحكم جاهل بالعقوبة، يعني: هو يعلم أنه وقع في الفطر، لكنه لا يعلم بالكفارة، ولهذا سأل.
فعلى هذا: فمن كان جاهلاً بالكفارة فإننا نقول: يلزمك الإمساك ويلزمك القضاء، ويلزمك الكفارة، ولا عبرة بجهلك حينئذٍ، أما لو كنت جاهلاً بالحكم فإنه يلزمك الإمساك ولا يلزمك القضاء كما هو مذهب الشافعي ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
المقدم: أحسن الله إليكم، وشكر الله لكم! الحديث يطول وخاصة بعض القضايا والقواعد الهامة في هذه الشريعة، كقاعدة: الجهل بالكفارة لا يعفي عن أداء هذه الكفارة، بل لا بد من أدائها إذا علم الشخص علماً يقينياً حاضراً ثابتاً أن الجماع مثلاً من المفطرات.
أختم هذا اللقاء بالشكر والعرفان للملك العلام جل في علاه، ثم أشكر شيخنا الجليل ضيف حلقات هذا البرنامج، صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شكراً له وشكراً لكم، وإلى اللقاء إلى غد بإذن الله وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر