أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم إلى لقاء جديد من لقاءات برنامجكم اليومي: فقه أحاديث الصيام.
أرحب في مطلع هذا اللقاء باسمكم وباسم فريق العمل بضيف البرنامج صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن، بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أهلاً بكم صاحب الفضيلة.
الشيخ: حياكم الله شيخ ناصر ! وحيا الله المستمعين والمستمعات.
المقدم: شيخي الجليل! الحديث كان فيما سبق عن مستحبات الصيام وآدابه، وعلى ماذا يفطر عليه الصائم.
صاحب الفضيلة! هل من إطلالة يسيرة على المكروهات للصائم الكثيرة المتعددة؟ أو هل من تعدادها حتى يحذرها الصائم، ويحاول أن يخفف من هذه المكروهات إن لم يكن تركها، ويدعها لله جل في علاه؟
إن أهم شيء في المكروهات التي أراها من الأهمية بمكان: هي أن يكون صوم الإنسان وفطره سواء من حيث ترك العبادات، وقلة الطاعات، وعدم الإكثار من الباقيات الصالحات، فإن بعض الناس ربما يكون صومه كله نوم، فيكثر من النوم، ولا يكثر من الطاعة، وقد كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يكثرون من الطاعات، خاصة قراءة القرآن، ومن أراد أن تتنزل عليه الرحمة الإلهية فليكثر من قراءة القرآن، فإن قراءة القرآن سبب لرحمة الله، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في سورة -كما يسميها العلماء- عروس القرآن: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:1-2].
فهذا يدل على أن تعليم القرآن وقراءة القرآن سبب لنزول الرحمة، والعبد إنما صام لأجل أن يستنزل رحمات الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولهذا كان من المكروهات للصائم ألا يكثر من الطاعة، ولقد كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يكثرون من الطاعات.
والعجيب أن بعض الناس ربما أكثر من الطاعة في النهار وترك الليل، أو العكس فتجده ينام في النهار ويقوم الليل فقط، وكان الإمام أحمد رحمه الله يحرص أثناء الصيام ويحرص أثناء الفطر؛ ولأجل هذا ينبغي للإنسان ألا يجرح صومه، ولا ليل صيامه بأنواع المباحات المبالغ فيها؛ لأن ذلك ربما يكون داخلاً في المكروهات، وربما آل به الأمر إلى أن يستصغر مثل ذلك ويقع في المحرمات.
أن يتذوق الإنسان الطعام بلا حاجة، مثل: شخص ليس هو الذي يقوم بإعداد الأكل أو الطهي، لكنه أحب أن يتذوق من باب الفضول، فهذا يكره له ذلك، ولم نقل يحرم؛ لأن الذوق إنما يكون باللسان بحيث يعرف طعمه، ويعرف حلاوته، ويعرف مرارته، ويعرف ملوحته، لكنه لا يبتلعه بعد ذلك، فلا يزدرده، ولهذا قال العلماء: في تذوق الطعام: إنما يضعه في لسانه ثم يمجه ولا يبتلعه، وهذا مكروه؛ لأنه ينبغي للإنسان ألا يجرح صومه، أما إذا كان لحاجة مثل المرأة التي تقوم بالطهي والطبخ وغير ذلك، فإن العلماء رحمهم الله جوزوا لها ذلك؛ لأنه للحاجة، وقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم أن ابن عباس رضي الله عنه سئل عن ذوق الطعام فقال: لا بأس بذلك.
وقد روى أبو بكر بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم)، والحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود وقد تكلم العلماء رحمهم الله على هذا الحديث، لكن بمجموع طرقه يدل على أن له أصلاً، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يصنع ذلك، وعلى هذا فإن الأولى بالإنسان ألا يجرح صومه.
أما السباحة فلا حرج، وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر كان يقول له: تعال أباقيك. يعني: نجلس تحت الماء من أكثر منا يبقى، وهذا يدل على أن ذلك لا بأس به، سواء كان في الصيام أو غيره.
ومن الأشياء التي تكره: هو أن يستخدم الإنسان ما له نفوذ.
مداخلة: أحسن الله إليكم! بالنسبة للمضمضة، إذا احتاج الإنسان إليها، وشق عليه الصبر، وجف ريقه تماماً حتى لا يحسن الحديث، فبله فما الحكم؟
الشيخ: إذا كان الأمر كذلك فإن هذا لا بأس به؛ لأن الحاجة تدعو إليه، فلربما كان الإنسان بحاجة إلى مثل ذلك، وهذا مثل ما يبلل الماء على وجهه، ولهذا حينما قال عمر رضي الله عنه: ( هششت يوماً فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله! صنعت اليوم شيئاً عظيماً قبلت وأنا صائم فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك قال: ففيم؟ ). يعني: فهذا مثلها، هذا الحديث رواه الأمام أحمد و أبو داود ، وإن كان العلماء قد تكلموا فيه، فإن النسائي حكم عليه بأنه حديث منكر، لكن العمل عليه عند أهل العلم، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أرأيت لو تمضمضت؟ )، فهذا يدل على أن الإنسان لو تمضمض، ولو من غير حاجة فإن ذلك جائز؛ لأن المضمضة بريد الأكل، ولم يكن قد أكل.
ومن المعلوم أن السواك الرطب فيه نوع من الحرارة، وطعم الزنجبيل، فهذا معذور عنه الإنسان، فهذا مثله مثل معجون الأسنان لقوة النفوذ، فما يتطعمه الإنسان من السواك فهذا من قوة نفوذه.
أما الشعرات اليسيرة من السواك فإنه لو مجها فهذا أفضل.
وأما ما يتبقى في فمه وهو لا يشعر فإن ابن المنذر نقل الاتفاق والإجماع من أهل العلم، على أن ما يبقى في أسنان الصائم مما يشق التحرز عنه، فإن ابتلعه بعد ذلك من غير قصد ولا اختيار فإنه لا بأس به.
والقول الثاني: قالوا: إن القبلة لا بأس بها، إذا كان يأمن على نفسه ألا يقع في المحظور، والمحظور هو الإنزال أو الوطء -والعياذ بالله- في مثل هذا الشهر الكريم؛ لأنه محرم بلا شك وكبيرة من كبائر الذنوب؛ ولأجل هذا جاءت الكفارة المغلظة عليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قبل وهو صائم، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أم سلمة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقبل وهو صائم )، وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه )، يعني: أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ليفعل شيئاً يؤدي به إلى هتك الصوم.
وعلى هذا فإن الأظهر -والله أعلم- أن الإنسان إذا كان يملك نفسه ويملك حاجته وإربه، فإننا نقول: لا بأس بذلك، وإن كان لا يأمن على نفسه فلربما تدرج في مثل ذلك، فنحن نقول له: يكره له ذلك، فإن جزم أنه لا يملك نفسه، فإن الحنابلة أشاروا إلى أن هذا محرم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما الشيء العادي، وتحريك الشهوة البسيطة، فهذا لا بد منه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة ، و عائشة امرأة شابة ولم يسأل هل كان ذلك يحرك شهوتكِ أم لا؟ فدل ذلك على أن الأصل أن تقبيل الصائم زوجته لا بأس به، والله تبارك وتعالى أعلم.
ونستفيد من هذا أن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو قاله ينبغي أن نتأسى به بأن نفعل مثل فعله، وأن نقول مثل قوله؛ ولأجل هذا الصحابة فعلوا، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم له خاصية معينة لقال: أنا أفعل وأنتم لا تفعلوا إلا إذا قلت لكم: افعلوا، وإذا لم أقل فلا تفعلوا، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أبيت)، وعلل بعلة أخرى، فإن هذا دلالة واضحة على أن الإنسان لا ينبغي له أن يواصل.
وهل الوصال محرم؟
اختلف العلماء في ذلك والأظهر والله أعلم، وهو مذهب الحنابلة في رواية عنهم: أن الوصال يكره، وهذا هو الظاهر من الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما واصل بهم يوماً ثم واصل بهم يوماً حتى رأوا الهلال كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، ولو كان الوصال محرماً لما واصل بهم يوماً أو يومين، فدل ذلك على أن هذا من باب الكراهة، وأن ذلك من باب الرحمة؛ ولأجل هذا جاء في حديث عائشة : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال؛ رحمة بهم ).
ومما يدل على أن الوصال لا ينبغي: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر )، كما ثبت ذلك عند الجماعة إلا البخاري من حديث عمرو بن العاص ، فدل ذلك على أن الإنسان لا ينبغي له أن يصوم إلى اليوم الثاني، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الصحابة لا يقوون على العبادة قال لهم كما عند مسلم من حديث أبي سعيد قال: ( لا تواصلوا فأيكم أحب أن يواصل فليواصل إلى السحر )، يعني: يواصل إلى آخر الليل، وهذا من باب الكراهة أو الجواز على الخلاف، والأظهر أن ذلك على الجواز، ولكن السنة الفطر.
لعل فيما ذكرناه من المكروهات كفاية، نسال الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه، والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
المقدم: بهذه الكلمات النيرات نصل إلى ختم هذه الحلقة، وإلى ختم هذا البرنامج اليومي الرمضاني؛ فقه أحاديث الصيام، الشكر في الختام دوماً للملك العلام جل في علاه؛ أن هيأ لنا مثل هذه اللقاءات وتسجيلها وبثها، ثم الشكر أيضاً لضيف هذا البرنامج فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المشارك في قسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، شكراً له وشكراً لكم وإلى لقاء جديد في برامج أخر، وأنتم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر