وقفنا عند قول المؤلف: [وإن قال: علي الحرام إن نوى امرأته فظهار، وإلا فلغو].
الحنابلة يرون أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، فإنه يكون ظهاراً، ودليلهم في هذا: أن تحريم الرجل امرأته عليه بقوله: أنت علي كظهر أمي تشبيه لزوجته بأقربائه، فإذا لم يجز للزوج أن يأتي أقرباءه لحرمتهم فإن الزوجة تشبههم بالحرمة، فذلك مثلما لو قال لامرأته: أنت علي حرام، وهذا وجه جاء عن الحنابلة بجعل قوله لأهله: أنت علي حرام في منزلة الظهار.
والقول الآخر في المسألة، قالوا: إن الله سبحانه وتعالى قد وصف قول المظاهر بأنه منكر من القول وزور، ومن المعلوم أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، يعني: أنه حرم الحلال، ومن المعلوم أن تحريم الحلال لم يقصد به الاعتقاد إنما يقصد به الفعل، يعني: أنه لا يريد أن يأتيها، ففرق بين المظاهر وبين من قال لامرأته: أنت علي حرام.
ثم إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أكثر الصحابة وأجلهم، كـأبي بكر و عمر و عثمان و ابن مسعود و جابر و ابن عباس قد قالوا في الرجل إذا قال: علي الحرام، أو قال لامرأته: أنت علي حرام، فهو يمين يكفرها، وقد صح في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي حرام فهو يمين يكفرها، ولقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ) وقد اختلف أهل العلم في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، هل حرم النبي صلى الله عليه وسلم عليه أحد أزواجه، أم حرم عليه أحد إمائه، أم حرم عليه العسل، فأقول: وأيٍ كان من هذه الأقوال إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه، ومنع نفسه ما كان مباحاً، فإذا قال الرجل في العسل: هو علي حرام، يعني: لا أطعمه، وإذا قال لأهله: أنت علي حرام، يعني: لا أطؤك، وكلا الأمرين في المعنى سواء، لكنه لا يمكن أن يكون بمعنى: أنت علي كظهر أمي، فالأقرب والله أعلم أن الرجل إذا قال: أنت علي حرام فهو يمين يكفرها.
وهناك قول عند الحنابلة أنه إن نواه طلاقاً وقع طلاق، وهذا بعيد كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله؛ لأن الحرام لا يمكن أن يكون طلاقاً ولا يحتمله اللفظ؛ لأن الرجل لو طلق امرأته فإن الحنابلة يقولون: تقع طلقة واحدة، وبعضهم قال: ما لم ينوه أكثر، نقول: لا يمكن؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق فلا تحرم عليه؛ ولهذا روي عن علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فهو طلاق بتة، يعني: ثلاثاً، فهو إما أن يقال: طلاق ثلاثاً، وإما ألا يقال: الطلاق ألبتة؛ لأن طلاق الرجل لامرأته لا يعد تحريماً، وله أن يأتي أهله بعد الطلقة الأولى والثانية أيضاً، وتعد رجعة.
على كل حال فالأقرب والله أعلم أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فإنه لا يخلو من حالين:
الأولى: إن قصد حثها أو حضها على الفعل فإنه يكون يميناً، ولعله أظهر، مثلما لو قال: إن خرجت فأنت طالق، فهو الحلف بالطلاق أو الحلف بالحرمة.
الثانية: إن قال ابتداءً: أنت علي حرام، فالراجح، والله أعلم أيضاً أنه يكون يميناً.
يقول المؤلف: (وإلا)، يعني: إن لم ينو امرأته بقوله: أنت علي حرام (فلغو)؛ لأنه ليس يميناً، وليس فيه لفظ اليمين، ولا لفظ الجلالة ولا صفة من صفاته، فصار لغواً، وهذا القول الأول.
والقول الآخر في المسألة: أنه يكون يميناً، وقولنا: إنه يكون يميناً، يعني: أنه يجري مجرى اليمين في اللزوم والكفارة، لا أنه يمين ابتداءً، وهذا هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله.
وهذا واضح، فإنه جعل الزوجة الثانية في حكم الزوجة الأولى، والزوجة الأولى طالق فهذا لفظ صريح، فقد جعل حكم الثانية مثل حكم الأولى، مثلما لو قال: لزوجتيه أنت طالق وأنت مثلها، فهكذا لو قال: أنت شريكتها فالحكم واحد، فهذا صريح لا يحتاج إلى نية.
الآن سوف نفصل كلام الحنابلة، نحن قلنا: إن الرجل إذا قال: علي الحرام لأفعلن كذا، أو علي الطلاق لتفعلن كذا أو لأفعلن كذا، وكان عنده نساء، فهذا في حكم اليمين، أما لو قال: علي الطلاق ابتداءً، فإنه يكون طلاقاً، أما الحنابلة فجعلوا الحكم واحداً على أنه طلاق؛ ولهذا قالوا: ولو قال: علي الطلاق منجزاً أو معلقاً أو محلوفاً به وقع واحدة، وقلنا: إن الراجح خلاف ذلك، لكننا سوف نمشي على كلام المؤلف، بعدما بينا القول الراجح.
صورة المسألة: إذا كان رجل عنده ثلاث نساء أو أربع نساء، وقال: امرأتي طالق، قلنا: هل تنوي امرأة معينة؟ فإن قال: نعم، قلنا: انصرفت إلى مريم التي نويت مثلاً، وإن قال: أنا نويت واحدة لكني لم أحدد، فنقول: يضرب بين نسائك القرعة، فأيتهن وقعت عليها القرعة طلقت؛ لأن القرعة تقوم مقام الاختيار وقت التنازع، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( ولو يعلمون ما في العتمة والصبح ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليها لاستهموا ).
يقول المؤلف: [وإن لم ينو شيئاً طلق الكل].
صورة المسألة: شخص عنده ثلاث نساء أو أربع نساء، فقال: امرأتي طالق، نقول له: هل نويت امرأة معينة؟ قال: لا، قلنا له: هل نويت امرأة مبهمة لم تحددها؟ قال: لا، أنا قلت: امرأتي طالق، فنقول: إن لفظ: امرأتي طالق هو لفظ مفرد، والمفرد في لغة العرب يعم كل أفراد اللفظ. فعلى هذا فإن نساءك كلهن يطلقن؛ لأن اللفظ المفرد يصلح لتعميم جميع نسائك، وهو محل لوقوع طلاقهن.
القاعدة الفقهية في ذلك: (أن الله تجاوز لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)، فلو حدث نفسه بالطلاق ولم يطلق لا يقع الطلاق؛ لأن الله تجاوز عن ذلك، والأصل في الطلاق هو اللفظ؛ لقوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، ولا يسمى طلاقاً إلا باللفظ، وأما في النفس فإنه لا بد من تقييد ذلك؛ لقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، فلا يسمى قولاً إذا كان حديث نفس إلا بالتقييد، نحو: (يقولون في أنفسهم).
هذا مذهب الحنابلة، قالوا: إن تلفظ الزوج بالطلاق أو حرك لسانه بذلك ولو لم يسمع كلامه فإنه يقع الطلاق؛ لأنه تكلم به.
والقول الآخر في المسألة، قالوا: لا يسمى كلاماً بتحريك الشفتين إلا أن يسمع كلامه، كما قالوا في قراءة الفاتحة في حق المنفرد والمأموم، إذا قلنا: إن قراءة الفاتحة في حق المأموم ركن، فلا بد أن يسمع نفسه، فتحريك الشفتين من غير سماع النفس لا يسمى كلاماً، وهذا الحكم لا يأخذه الموسوس، فإن الموسوسين يحركون ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم ومع ذلك يشكون، وهذا مرض كما هو مذهب ابن القيم رحمه الله، أن الموسوس لا يقع عليه طلاق.
الكتابة في الطلاق تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: كتابة تظهر في الورق.
والقسم الثاني: كتابة لا تظهر ولا تبين.
فالقسم الأول: كتابة تظهر بما يبين، كالكتابة على الورق، فهذا عند الحنابلة يأخذ حكم الصريح، فإن امرأته حينئذ تطلق ولا ينظر إلى نيته.
القسم الثاني: كتابة لا تظهر ولا تبين، مثل: الكتابة على الهواء، جاءت امرأته قالت: طلقني، فكتب في الهواء: طالق، فهذه لا تقع، ولو كتب في الماء لا يقع، ولو كتب على وسادة بأصبعه لا يقع؛ لأن هذا لا يظهر ولا يبين، هذا هو مذهب الحنابلة رحمهم الله، على أن الكتابة إذا تبينت وظهرت تأخذ حكم الصريح.
وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وهو منصوص الشافعي ورواية عند الحنابلة إلى أن الكتابة كناية، فإن نواه وقع وإلا فلا يقع، فلو كتب في رسالة جوال إلى جوال امرأته: أنت مطلقة، فلما قرأت قالت: زوجي طلقني، قال: لا، أنا ما طلقت، قالت: أنت كتبت، قال: أنا ما كتبت مطلقة أنا كاتب مطلِقة، واسم الفعل لا يأخذ حكم الصريح؛ لأننا قلنا: إن الطلاق يقع بقول: أنت طالق وما تصرف منه غير أمر ومضارع واسم فاعل، وهنا قال: أنا كاتب مطلِقة فليس فيه مشكلة، ثم إن الكتابة على مذهب الجمهور تكون كناية وأنا لم أنو الطلاق ولكني أقول: مطلِقة بمعنى: أنك تاركة أمر بيتك وأولادك.
والأقرب والله أعلم جمعاً بين الأقوال أن نقول: إن الكتابة إذا كان فيها سؤال المرأة الطلاق، أو دلت قرائن الأحوال على إرادته، مثل: أن يذهب إلى القاضي وقد كتب ورقة وطلب من القاضي أن يثبت ذلك فأثبت القاضي بناءً على ورقته بعدما أشهد على توقيعه فإنه يعد طلاقاً صريحاً أو في حكم الصريح، وإلا فلا، وهذا قريب من قول الجمهور، فإذا دلت قرائن الأحوال مثل: سؤال المرأة الطلاق أو دلت بعض القرائن فإنها تطلق امرأته ولا ينظر إلى نيته، وأما إذا كتب من غير سؤال المرأة للطلاق ولا دلت عليه قرائن الأحوال فإننا ننظر إلى نيته ويدين فيما بينه وبين الله.
قال المؤلف: [فلو قال: لم أرد].
يعني: على مذهب الحنابلة كتب: أنت طالق، ثم قال: لم أرد إلا تجويد خطي، فأنا: أنظر الخط، [أو غم أهلي]، يقول المؤلف: [قبل حكما]، أما على القول بأن الكتابة تأخذ حكم الكناية فلا إشكال؛ لأننا ننظر نيته، لكن الإشكال إذا كانت الكتابة تأخذ حكم الصريح، فالأولى إذا كانت تأخذ حكم الصريح مطلقاً على مذهب الحنابلة فإننا نقول: لا يقبل حكماً ويقبل فيما بينه وبين الله، والفرق بين الأمرين أنه لو طلق فقال لامرأته: أنا لم أطلق، أنا أقصد غمك، أو أنا أقصد تجويد خطي فقبلت المرأة ذلك، فهذا يدين بينه وبين الله، أما لو لم تقبل المرأة فإنها تذهب إلى القاضي، فلا يقبل قوله حكماً، لكن إذا كانت المرأة -على كلام المؤلف- تريد الطلاق وقال: إنما أردت غم أهلي، قال المؤلف: (قبل حكماً)، ويدين فيما بينه وبين الله.
والأولى أن نقول: يدين فيما بينه وبين الله ولا يقبل حكماً، لأننا إذا قلنا: يقبل حكماً ففيه منازعة؛ ولهذا قال في الكافي: وإن قصد غم أهله فظاهر كلام أحمد أنه يقع؛ لأن ذلك لا ينافي الوقوع فيغم أهله بوقوع الطلاق بهم، وأما إذا قلنا: إن كتابة الطلاق من غير وجود قرائن الأحوال لا بد فيه من نية على مذهب الجمهور, فإنه لا بد أن يدين ويبين في ذلك، وهل يحلف؟ الحنابلة لا يرون الحلف في الطلاق فيما بينهم، وهو مذهب أبي حنيفة .
وذهب الشافعي رحمه الله و أبو يوسف إلى أنه له أن يحلف، وهذا أظهر، والله أعلم.
قلنا: إنه لو قال الناس للرجل: هل طلقت امرأتك؟ فأشار برأسه أن نعم، ولم يتلفظ بقوله: نعم، فإنه لا يقع؛ لأن هذه إشارة, والإشارة لا تقبل إلا من الأخرس.
والخفية: اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وخليتك، وأنت مخلاة، وأنت واحدة، ولست لي بامرأة، واعتدي واستبرئي واعتزلي، والحقي بأهلك، ولا حاجة لي فيك، وما بقي شيء، وأغناك الله، وإن الله قد طلقك، والله قد أراحك مني، وجرى القلم، ولا تشترط النية في حال الخصومة والغضب، وإذا سألته طلاقها فلو قال في هذه الحالة: لم أرد الطلاق، دين ولن يقبل حكماً].
الكناية: هي غير الصريح وهي الألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى، فليست صريحة في معنى متداول، وقد قسمها المؤلف إلى قسمين: ظاهرة وخفية. فالظاهرة: هي الألفاظ الموضوعة للبينونة في الطلاق، وهي خمس عشرة كلمة عند الحنابلة، وقد ذكرها المؤلف جميعاً.
والكناية سواء كانت ظاهرة أو خفية، يشترط الحنابلة في وقوع الطلاق بها:
أولاً: أن يكون اللفظ محتملاً للطلاق، كما مر معنا قول الرجل لزوجته: أنت علي حرام، لكن الحنابلة يرون أنها تقع.
ثانياً: أن ينوي الطلاق نية تقارن اللفظ، فلو تلفظ ثم انقطع الكلام ثم نواه لا يقع، ثم إن الحنابلة فرقوا في الكناية بعد احتمال اللفظ وبعد نية تقارن اللفظ بين الكناية الظاهرة والخفية، فقالوا: الكناية الظاهرة -وهي خمس عشرة كلمة- تقع ثلاثاً، فلو قال لامرأته: أنت برية أو أنت خلية أو أنت بائن أو أنت بتلة أو أنت بتة أو أنت الحرج، وغير ذلك مما ذكره، قالوا: فإنها تقع ثلاثاً بينونة، وهذا بناءً على صحة وقوع الطلاق الثلاث دفعةً واحدة.
والأقرب والله أعلم أن الألفاظ الظاهرة لا تقع بينونةً يعني: لا تقع ثلاثاً إلا أن ينوي الثلاث، وهذا هو مذهب الشافعي ؛ لأن الكنايات مع النية كالصريح، فلم يقع به عند الإطلاق أكثر من واحدة، فلو قال: أنت طالق، فهذا صريح، لكن لا يمكن أن تكون بينونة، فقالوا: إن الكنايات مع النية كالصريح، فإذا كان اللفظ الصريح لا يحتمل إلا طلقة وحدة فكذلك الكنائي مع النية، وكون الحنابلة يقولون: لأن اللفظ يحتمل البينونة نقول: احتماله لا يكفي، إلا أن ينويه.
فإذا قال: أنت طالق البتة فإنه على مذهب الشافعي إذا نواه ثلاثاً صار ثلاثاً؛ لأن الشافعي يشترط أن ينوي الطلاق وينوي الثلاث، وأما على مذهب الحنابلة فإنه يصير ثلاثاً ابتداءً، والراجح أنه لا يقع إلا واحدة، ولا يعد ثلاثاً إذا نواه.
يقول المؤلف: (والخفية يقع بها واحدة)؛ لأن اللفظ لا يحتمل أكثر من ذلك، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـابنة الجون حينما ذهب فخطبها ولما دخل بها واقترب منها قالت: ( أعوذ بالله منك، قال: قد استجرت بعظيم، الحقي بأهلك )، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( الحقي بأهلك )، كناية عدت واحدة، ولم يكن عليه الصلاة والسلام ليطلق ثلاثاً وقد نهى عن ذلك، بأبي هو وأمي.
يقول المؤلف: (ما لم ينو أكثر)، فإن نوى في الكناية الخفية أكثر من واحدة صارت على ما نواه، فالخفية والظاهرة عند الشافعي حكمهما واحد، وعند الحنابلة موافقة الشافعي في الخفية ومخالفته في الظاهرة.
(وأنت برية)، يعني: بريئة من الحقوق التي عليك في النكاح؛ لأن المرأة عليها حقوق الزوجية، فإذا قال الرجل: أنت برية وقصد الطلاق فكأنها بريئة من جميع قيود النكاح، فتقع ثلاثاً على مذهب الحنابلة.
(وأنت بائن)، والبينونة: هي المفاصلة والمباعدة.
(وأنت بتة)، ألبتة: مثلما جاء في طلاق ركانة بن عبد يزيد (أنه طلق امرأته ألبتة، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أصابه الحزن فقال: ما أردت، فقال: والله ما أردت إلا واحدة )، فجعلها النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، وهذا يخالف مذهب الحنابلة؛ لأن الحنابلة يقولون: تقع ثلاثاً، غير أن هذا الحديث في سنده ضعف، فإن داود بن الحصين الراوي عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس لا يصح حديثه عن عكرمة ، كما ذكر ذلك البخاري في التاريخ الكبير والإمام أحمد وغير واحد من أهل العلم فالحديث ضعيف.
يقول: (وأنت حرة، وأنت الحرج، وحبلك على غاربك، وتزوجي من شئت، وحللت للأزواج, ولا سبيل لي عليك أو لا سلطان لي عليك، وأعتقت، وغطي شعرك، وتقنعي)، فكل هذه الألفاظ الخمس عشرة كلمة عند الحنابلة كناية ظاهرة فتقع ثلاثاً، والراجح أنها لا تقع إلا واحدة وإن نوى الثلاث.
إذاً: الراجح أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت خلية أو أنت بائن أو أنت بتة أو بتلة أو أنت حرج ونوى الطلاق تقع واحدة سواء نوى ثلاثاً أم واحدة، ولكن لماذا أسأله هل تقصد ثلاثاً أم تقصد واحدة؟ ما هي الفائدة من هذا؟
لو رجعنا عشر صفحات إلى الوراء نجد المؤلف يقول: (فإن طلق في الحيض أو طلق ثلاثاً فحرام بدعي)، وعليه فإذا قصد الثلاث فقد وقع في المنهي, وإنما الخلاف مع الشافعي هل يحرم أو لا, فقد وقع في المنهي عنه فأنا أقول له: هل تنوي ثلاثاً؟ فإذا قال: نعم، نقول: استغفر ربك، وإن كانت تقع واحدة، ففائدة سؤالي أنه إن كان قد قصد الثلاث فينبغي أن أطلب منه التوبة لارتكاب المنهي عنه ليس إلا، وإلا فالطلاق لا يقع إلا واحدة، حتى لو نوى ثلاثاً وهذا على القول الراجح، خلافاً للشافعي وخلافاً للحنابلة.
إذاً: الحنابلة في الكناية الخفية يرون أنها تقع واحدة ما لم ينو أكثر، و الشافعي يرى أن الخفية والظاهرة حكمها واحد، وهو أنه إذا نوى الطلاق يقع واحدة ما لم ينو أكثر من واحدة فعلى ما نوى، فإن نوى اثنتين صار اثنتين وإن نوى ثلاثاً صار ثلاثاً، ونحن نقول: إن الخلاف بين الشافعي والحنابلة، والراجح عند الشافعي أن الظاهرة والخفية حكمهما واحد، لكن الراجح أنه لو نواه ثلاثاً لا يقع إلا واحدة، وفائدة الخلاف هذا هل طلاق بدعي من حيث النهي فيكون قد وقع في المحظور أم لا؟
الأولى بالمؤلف أن يقول: والنية تقوم مقام الخصومة أو الغضب وإذا سألته طلاقها، لا يقال: لا يشترط النية؛ لأن الحنابلة يقولون: دلالة الحال تقوم مقام النية، ومعناه: أن دلالة الحال تدل على النية وليس مرادهم سقوط النية وعدم اشتراطها.
إذاً المؤلف يقول: (ولا تشترط النية)، وعبارة المؤلف هنا فضفاضة، فيها تجوز واضح، فالأولى لنا أن نقول: وتقوم النية مقام الخصومة أو وقت حال الخصومة أو حال سؤال المرأة الطلاق لا أن النية لا تشترط؛ لأن دلالة الحال من الخصومة وسؤال المرأة زوجها الطلاق تدل على النية، ويقول ابن قندس الحنبلي : قولهم دلالة الحال تقوم مقام النية معناه: أن دلالة الحال تدل على النية وليس مرادهم سقوط النية بالكلية، فالمؤلف يقول: (ولا تشترط النية)، وهذا ليس صحيحاً؛ لأن النية تشترط ولكن حكمها ظهر من حال الخصومة، وظهر من سؤال المرأة الطلاق، فلو قالت في هذه الحالة: طلقني، فقال: الحقي بأهلك، أو غضب عليها غضباً شديداً وقال: الحقي بأهلك، أو حبلك على غاربك، فإن الحنابلة يرون أن دلالة الحال من سؤال المرأة، أو من الغضب يقوم مقام النية، فلا يلزم أن نقول: هل تنوي الطلاق أم لا؟ وهذا هو مذهب مالك .
وذهب الشافعي و أبو حنيفة ورواية عند الحنابلة إلى أن دلالة الحال تقوي وجود نية الطلاق لكن لا بد من سؤاله، فلو قالت المرأة لزوجها بعد مشاجرة وخصومة: طلقني طلقني، فقال: الحقي بأهلك، فعلى مذهب الحنابلة والمالكية يقع طلاقاً، فلو قال في هذه الحالة: لم أرد الطلاق دين، يعني: فيما بينه وبين أهله، لكن لو أن امرأته قالت: لا، أنت تقصد الطلاق وأنا طلبت منك الطلاق وقلت لي: الحقي بأهلك، فإنه لا يقبل حكماً، بل إن رضيت المرأة فليس بطلاق، وإلا صار طلاقاً؛ لأنهم أجروا دلالة الحال مقام النية.
وعلى مذهب الشافعي أن دلالة الحال لا تكفي فلا بد أن نسأله، فعلى مذهب الشافعي لو سألناه هل تقصد الطلاق فقال: لا، فإنه يقبل حكماً، وعلى مذهب الحنابلة لا يقبل حكماً وهذا هو الفرق بينهما.
والأولى خاصةً في ظل الأوضاع الراهنة عندنا أن كثيراً من الأزواج لمجرد وجود الخصومة بينه وبين امرأته يقول: اذهبي لأهلك، أو نامي عند أهلك، والصحابة وكبار التابعين والزمن الفاضل عندهم أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها حتى لو طلقها، أما الوقت الراهن ومع الأسف فمن الفضلاء ومن أهل الصلاح من إذا طلق امرأته أخرجها من بيته إلى أهلها وهذا لا يجوز؛ لقوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، فقوله: اذهبي لأهلك، أو خذي ثيابك واذهبي لأهلك مع أنها تسأل الطلاق وقت خصومة قول الشافعي هو الأظهر فيه والله أعلم وأنه لا بد فيه من نية، ولا يقال: لا يقبل حكماً؛ لأن بعض النساء لا تعي ما معنى الطلاق، أو أنها لا تستوعب مدارك الأمور وغور الأشياء، فإنها تنظر بادي الأمر أن أهم شيء أنك تطلقني وأذهب إلى أهلي وأرتاح, لكن حقيقة الأمر أنها بعد مضي مدة هي التي تتصل على زوجها وتقول: لأجل أولادي، فأولاده أحياناً يلحون على أمهم، نريد أن نذهب عند والدنا، فتحن المرأة وتقول: أريد أن أرجع إلى الزوج لا حباً فيه, ولكن لأجل الأولاد فهي التي طلبت الطلاق، والزوج أحياناً لم يرد الطلاق, ولكن يريد تهدئة الأوضاع فيقول: الحقي بأهلك، فإمضاء الطلاق هنا محل نظر، والله أعلم.
يملك الحر والمبعض ثلاث طلقات والعبد طلقتين، ويقع الطلاق بائناً في أربع مسائل، إذا كان على عوض أو قبل الدخول أو في نكاح فاسد أو بالثلاث، ويقع ثلاثاً إذا قال: أنت طالق بلا رجعة أو البتة أو بائنا، وإن قال: أنت الطلاق أو أنت طالق وقع واحدة، فإن نوى ثلاثاً وقع ما نواه، ويقع ثلاثاً إذا قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره أو جميعه أو عدد الحصى ونحوه، أو قال لها: يا مائة طالق، وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أغلبه أو أطوله أو ملء الدنيا أو مثل الجبل، أو على سائر المذاهب وقع واحدة ما لم ينو أكثر].
الحر يملك ثلاث طلقات بالكتاب والسنة والإجماع، وكذا المبعض؛ لأن كل ما لا يتبعض يأخذ حكم الكل، فالمبعض الذي بعضه حر وبعضه عبد يأخذ حكم الحرية؛ لأن هذه الطلقة لا تتبعض فأمضيت على أنها ثلاث.
وأما العبد فإنه ليس له إلا طلقتان، فنقول في القاعدة: كما قلنا في المبعض؛ لأن الحر له من الطلاق ثلاث، والعبد على النصف من الحر, فتكون واحدة ونصف، وهذا النصف لا يتبعض، لذا تأخذ حكم الكل فتكون طلقتين، والمبعض لو قسمت طلاقه صار اثنتين ونصف، فكان الطلقة النصف لا تتبعض فتأخذ حكم الكل.
هذه القاعدة: أن كل ما لا يتبعض فإنه يأخذ حكم الكل، وقل مثل ذلك في الكفارة، فلو أن شخصين قتلا خطأً شخصاً فعلى قاتل الخطأ كفارة، هذا منه خمسين بالمائة, وهذا منه خمسين بالمائة، هل نقول: تصوم أنت شهراً وهذا يصوم شهراً؟ نقول: لا يصوم إلا شهرين والثاني يصوم شهرين؛ لأن ما لا يتبعض فيأخذ حكم الكل، فكل واحد عليه يصوم شهرين متتابعين، ودليل ذلك في الحر قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230].
وأما العبد فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( ينكح العبد امرأتين، ويطلق طلقتين، وتعتد الأمة حيضتين )، وهذا الحديث رواه الإمام الشافعي ، ومن طريقه البيهقي وكذا الدارقطني ، وإسناده على شرط مسلم .
ومعنى البينونة: البينونة إما أن تكون بينونة كبرى أو بينونة صغرى.
والبينونة الكبرى لا تحل بها المرأة لزوجها إلا بعد أن تنكح زوجاً آخر.
وأما البينونة الصغرى فمعناها أن المرأة تملك أمرها وليس لزوجها أن يراجعها إلا بعقد جديد ومهر جديد.
يقول المؤلف: (ويقع الطلاق بائناً في أربع مسائل):
الأولى: إذا كان على عوض، وهو الخلع وقد مر معنا، فلو خالع الزوج امرأته على مائة ألف وهي ما زالت في عدة الخلع، وعدة الخلع إما أن تكون ثلاثة قروء أو حيضة على الخلاف، والراجح أنها تعتد بحيضة، فلو كانت ما زالت باستبراء الحيضة فلا يجوز للزوج أن يقول: راجعتك؛ لأن الخلع إنما شرع لإزالة ضرر المرأة، فلو كان للزوج حق الرجعة لم يكن لوجود الخلع معنى.
الثانية: قبل الدخول؛ فلو أن رجلاً طلق امرأته بعدما عقد عليها ولما يدخل بها بعد فإن المرأة تكون بائناً، ولا يجوز للزوج أن يراجعها إلا بعقد جديد ومهر جديد؛ لأن الرجعة لا تملك إلا في العدة ولا عدة للمطلقة قبل الدخول لقوله تعالى: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
الثالثة: في نكاح فاسد, فلو أن رجلاً تزوج امرأة من غير ولي، فإن جمهور الفقهاء يقولون: إن النكاح فاسد، ويفسخه الحاكم، وبعض الفقهاء يقولون: يفسخه ويأمره بالطلاق استبراء للحكم، فلو فسخها الحاكم لا يجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته وهي في عدة النكاح الفاسد؛ لأن الزوجة لا تحل له بهذا النكاح الفاسد لعدم صحته، فما ترتب على الفاسد فلا يصح التعويل عليه، والنكاح الفاسد له عدة استبراء.
والرجعة لا تثبت إلا بوجود نكاح، فإذا كان النكاح فاسداً صارت الرجعة فاسدة؛ لأنها إذا لم تحل زوجته بالنكاح الفاسد لعدم صحته فلا تثبت الرجعة في النكاح الفاسد؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل.
وهذه الأمور الثلاثة التي هي على عوض، وعلى نكاح فاسد، وقبل الدخول يجوز للزوج أن يتزوج امرأته بعقد جديد ومهر جديد.
الرابعة: وهي البينونة الكبرى، يقول: (أو بالثلاث)، فإذا طلقها ثلاثاً على الخلاف هل تقع ثلاثاً أو بعد آخر ثلاث تطليقات فإنها تكون بينونة كبرى، فلا تحل حتى تنكح زوجاً آخر.
وهناك بينونة كبرى أكبر من الطلاق الثلاث وهي اللعان، فاللعان بينونة كبرى لا تحل بعده المرأة حتى لو تزوجت رجلاً أو رجلين أو ثلاثة أو أربعة.
يقول المؤلف: (ويقع ثلاثاً إذا قال: أنت طالق بلا رجعة أو أنت طالق البتة أو بائنة).
وهذا بناءً على صحة وقوع الطلاق الثلاث، قالوا: القاعدة في هذا: إذا وصف الطلاق الصريح بما يقتضي البينونة صار ثلاثاً, نحو: أنت طالق البتة، أنت طالق البتلة، أنت طالق بائن، فإن الحنابلة يقولون: يقع ثلاثاً، وإن قال: أنت الطلاق أو أنت الطالق وقع واحدة.
المفترض بالمؤلف أن يقول: أو أنت الطالق، إذا قال: أنت الطلاق أو أنت الطالق يقول المؤلف: (وقع واحدة)؛ لأن (أل) هنا لا تستعمل في عرفهم ثلاثاً إلا أن ينويه، فإذا قال: أنت الطلاق ونوى ثلاثاً قالوا: يقع ثلاثاً؛ لأنه إذا نواه ثلاثاً صار (أل) هنا للاستغراق، فصار ثلاثاً، والحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أن كل هذه لا تقع إلا واحدة.
يقول المؤلف: (ويقع ثلاثاً إذا قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى ونحوه, أو قال لها: يا مائة طالق فإنها تقع ثلاثاً)؛ لأن اللفظ يقتضي عدداً، فيقع ثلاثاً (وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أغلظه أو أطوله) فإن المذهب يقولون: يقع واحدة ما لم ينو أكثر من ذلك.
والقواعد في هذا كالآتي:
الأولى: إذا وصف الطلاق بما يقتضي بينونة النكاح، فإنه يكون في حكم الطلاق الثلاث، مثل: أنت طالق بلا رجعة، أو أنت طالق البتة، على مذهب الحنابلة يقع ثلاثاً والراجح يقع واحدة.
الثانية: إذا أدخل (أل) في الطلاق وما تصرف منه، أنت طالق ومطلقة أو طالق، أو أنت المطلقة أو أنت الطالق أو أنت طالق أو أنت الطلاق، يقولون: فلا يقع إلا واحدة ما لم ينوه ثلاثاً، فإن نواه ثلاثاً وقع ثلاثاً؛ لأن اللفظ يحتمله.
الثالثة: إذا أدخل على لفظ الطلاق عدداً، مثل: أنت مائة طالق، أو وصفه بعدد، أو بلفظ يعم الأعداد، فيقع ثلاثاً عندهم مثل: أنت طالق عدد الحصى، أو عدد النجوم، فإن الحنابلة يرون أنها تقع ثلاثاً، واستدلوا بما جاء عن سعيد بن جبير أن رجلاً أتى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي عدد النجوم، قال: يكفيك منها ثلاثاً، وهذا إسناد جيد.
الرابعة: إذا وصف الطلقة أو الطلاق بالشدة أو الغلظة أو الكبر أو الصغر فإنه يكون واحدة ما لم ينوه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر