اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [فصل: والطلاق لا يتبعض، بل جزء الطلقة كهي، وإن طلق بعض زوجته طلقت كلها، وإن طلق منها جزءاً لا ينفصل كيدها، وأذنها، وأنفها طلقت، وإن طلق جزءاً ينفصل كشعرها وظفرها وسنها لم تطلق.
فصل: وإذا قال: أنت طالق، لا بل أنت طالق فواحدة، وإن قال: أنت طالق طالق طالق، فواحدة ما لم ينو أكثر، وأنت طالق أنت طالق، وقعت ثنتان، إلا أن ينوي تأكيداً متصلاً، أو إفهاماً، وأنت طالق فطالق، أو ثم طالق، فثنتان في المدخول بها، وتبين غيرها بالأولى، وأنت طالق وطالق وطالق فثلاث معاً، ولو غير مدخول بها.
فصل: ويصح الاستثناء في النصف فأقل من مطلقات وطلقات، فلو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، طلقت ثنتين، وأنت طالق أربعاً إلا ثنتين يقع ثنتان، ونسائي الأربع طوالق إلا ثنتين طلق ثنتان، وشرط في الاستثناء اتصال معتاد لفظاً أو حكماً كانقطاعه بعطاس ونحوه].
قال المؤلف رحمه الله: (والطلاق لا يتبعض بل جزء الطلقة كهي).
ذكرنا في الدرس الماضي القاعدة في هذا، وقلنا: إن كل ما لا يتبعض يأخذ حكم الكل.
فالاشتراك في الدم لا يتبعض الدم، فلو اشترك اثنان في قتل عمد، فإنهما يقتلان جميعا؛ لأن الدم لا يتبعض، وكذا لو اشتركا في قتل خطأ فعليهما جميعاً الكفارة؛ لأن الكفارة لا تتبعض ولو طلق من نصفه حر ونصفه عبد فإن عدد طلاقه ثلاث؛ لأن من كان نصفه حر فكم له طلقات؟ الحر له ثلاث، ونصفها واحدة ونصف، والعبد له طلقتان فنصفها واحدة، فجمع واحدة مع واحدة ونصف تكون اثنتين ونصف، والنصف هذه لا تتبعض، فيكون له ثلاث، كما مر معنا، وعلى هذا فلو قال الرجل لامرأته: أنت طالق نصف طلقة، فإنها تطلق واحدة كاملة؛ لأن الطلقة هذه لا يمكن أن تتبعض، فإذا ذكر بعض ما لا يتبعض فإنه يأخذ حكم الكل، وهذا مسألة إجماع، كما نقل ابن المنذر رحمه الله تعالى ذلك.
إن طلق الرجل بعض زوجته يكون له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إن طلق نصفها، أو ربعها، أو خمسها، مما لا يمكن أن ينفك إلا بموتها، فهذا يكون قد طلق الزوجة كاملاً، فلو قال: أنت طالق نصفك، فإن الطلاق يقع على الزوجة كاملا؛ ولهذا قال المؤلف: (طلقت كلها).
الحالة الثانية: إذا طلق جزءاً لا ينفصل في العادة كاليد، والرجل، وبعض أعضاء المرأة، فلو قال: أنت طالق يدك، أو أنت يدك طالق، أو رجلك طالق، فإن الحنابلة رحمهم الله يقولون أيضاً: طلقت؛ لأن الطلاق أضيف إلى جزء ثابت، وهذا الثابت جزء يراد به الكل، فأنت تقول: يا فلان البقاء في وجهك والمراد به كاملاً، البقاء في وجهك يعني: أنك تبقى كاملاً.
الحالة الثالثة: (إن طلق من المرأة جزءاً ينفصل عنها في العادة).
مثل الشعر، أو الظفر، أو السن، أو العرق، أو غير ذلك فإنها لا تطلق، فلو قال: شعرك طالق، أو سنك طالق، أو ظفرك طالق فإنها لا تطلق.
قالوا: لأن هذه أجزاء تنفصل منها حال سلامة المرأة، فلا تأخذ حكم المرأة، وهذا أمر عليه جمهور العلماء.
قد يقول قائل: لماذا هذا التكلف والتنطع؟
نقول: العلماء رحمهم الله يذكرون الحكم ولا يلزم من ورود الحكم وقوعه، أو كثرة وقوعه؛ لأن العلماء رحمهم الله في الغالب -خاصة كتب المتأخرين- يحاولون أن يضربوا بعض الأمثال التي ربما لو وقعت فإن حكمها يكون لدى الطالب.
وهذه يسميها العلماء ألفاظ الطلاق، وإذا قال: أنت طالق لا بل أنت طالق فإنها تقع واحدة؛ لأن كلمة (بل) مقصود بها الإضراب، فهو صرح بنفي الأولى، فكلمة (بل) تقصد للإضراب، فكأنه قال: أنت طالق لا بل أنت طالق الطلقة الأولى، فتقع واحدة، ما لم يقصد اثنتين، فإذا قصد اثنتين وقعت طلقتان.
فلو قال: أنت طالق لا بل طالق، فكلمة (لا) نفت الأولى، وكلمة (بل أنت طالق) أعادت المراد بالطلقة الأولى، فنقول: تقع واحدة، ما لم ينو اثنتين فتقع اثنتان.
وهذا هو ظاهر الكلام فإن أراد العدد، مع احتمال ورود اللفظ له ونيته، فإنه يقع على ما نواه.
والقاعدة في هذا: أن الألفاظ التي يمكن احتمالها معنى من المعاني مع النية يكون ما نواه إذا كان اللفظ يحتمله، كما قلنا في باب الكنايات:
أولاً: أن يكون اللفظ يحتمله.
ثانياً: أن يقارن اللفظ النية على إرادة العدد أو إرادة ما نواه.
وهنا إذا قال: أنت طالق لا بل أنت طالق، فإن نوى باللفظ الثاني طلقة ثانية، فإن العلماء يقولون: تكون اثنتين؛ لأن غالب العوام لا يستشعر بعض قواعد اللغة.
(وإن قال: أنت طالق طالق طالق)، لم يكرر بحرف العطف، فإنها تقع واحدة؛ لعدم وجود حرف يقتضي المغايرة، ما لم ينو بقول: أنت طالق طالق طالق الثلاث.
فإن قول القائل: أنت طالق طالق طالق في الغالب يقصد به التأكيد أو الإفهام، فإذا قال: أنت طالق طالق طالق، فالغالب أنه يقصد الإفهام، ما لم ينو العدد، فتقع أنت طالق طالق طالق ثلاث إذا نوى العدد، ما الدليل؟ نقول: لأن اللفظ يحتمله، وقد نوى ذلك فيكون من باب الكنايات.
يقول المؤلف: (وأنت طالق أنت طالق وقعت اثنتان) أنت طالق أنت طالق ما فيها حرف مغايرة، قالوا: تقع اثنتان؛ لأن كل واحدة جملة مستقلة، والأصل التأسيس لا التأكيد، وإعمال الكلام أولى من إهماله، هذه قواعد فقهية، التأسيس أولى من التأكيد، وإعمال الكلام أولى من إهماله.
فإذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق تقع ثلاث، وإن قال: أنت طالق أنت طالق تقع اثنتان؛ لأن إعمال الكلام أولى من إهماله، ما لم ينو مخالفة هذا الظاهر، فإن قال: أنت طالق أنت طالق، قلنا: تقع اثنتان، قال: لا، أنا قصدي إفهامها أو تأكيد هذا الطلاق، قلنا: تقع واحدة؛ لأن اللفظ يحتمله وقد نواه، أي: نوى الواحدة.
ولهذا قال المؤلف: (إلا أن ينوي تأكيداً متصلاً أو إفهاماً)، قال: تأكيداً متصلاً؛ لأن من شروط الكنايات أن يقارن اللفظ النية، فلو قال: أنت طالق أنت طالق تقع اثنتان، فإن قال: أنا قصدي إفهامها، قلنا له: هل أنت حين قولك هذا الكلام، أو ذكرك هذا الكلام تقصد فعلاً هذا الأمر أم بعدما انتهيت قلت: أقصد إفهامها؟ فإن قال: أنا بعدما انتهيت قصدت إفهامها، نقول: هذا لا يكفي، فيكون نيتك هنا ملغاة؛ لأن النية لم تقارن اللفظ، وهذا بناء على مذهب الجمهور.
وفرق بين المقارنة في النية، وبين الاتصال، كما سوف يأتي إن شاء الله في الاستثناء.
يقول المؤلف: (وأنت طالق فطالق أو ثم طالق)، أو وطالق، ولم يذكرها المؤلف (فاثنتان في المدخول بها)؛ لأن حرف العطف من الفاء، وثم، أو الواو يقتضي المغايرة؛ فتقع اثنتان.
يقول المؤلف: (في المدخول بها)، قال: في المدخول بها لأن غير المدخول بها تبين بواحدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، فتبين غير المدخول بها بواحدة، فأما المدخول بها إذا قال: أنت طالق فطالق تقع اثنتان، وإن قال: أنت طالق فطالق فطالق تقع ثلاث.
يقول المؤلف: (وتبين غيرها)، يعني: غير المدخول بها (بالأولى).
وإن قال: (وأنت طالق وطالق وطالق فثلاث معاً، ولو غير مدخول بها)، قالوا: لأن الواو تقتضي الجمع، مثلما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، وهذا من حيث النهي، وهل تقع ثلاث أم لا؟ الحكم واحد في أن طلاق الثلاث -كما مر معنا- يقع واحدة.
وكل هذا التفاصيل بناءً على رأي الحنابلة.
والراجح والله أعلم أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق، أو أنت طالق فطالق، أو أنت طالق طالق، كلها تقع واحدة إذا كان قد تلفظ بها في مجلس واحد.
يقول: (ويصح الاستثناء في النصف فأقل).
المستثنى يختلف عن المستثنى منه، فإذا كان المستثنى منه النصف من المستثنى فأقل جاز الاستثناء، فإذا كان المستثنى منه أكثر من المستثنى صار لاغياً، فلو قال لأربع نساء: أنتن طوالق إلا ثلاثاً، فهو قد استثنى أكثر من النصف، وهذا لا يصح؛ لأنه يشترط في صحة الاستثناء النصف فأقل، يعني: من نساء وطلقات، هذا هو مذهب الحنابلة، فلو قال لنسائه وعنده أربع: أنتن طوالق إلا ثلاثاً، قالوا: لا يصح، فلو قال: أنتن طوالق إلا اثنتين أو إلا واحدة جاز.
وهذه مسألة معلومة عند الأصوليين؛ لأن الاستثناء معيار العموم، فإذا كان المستثنى أكثر من المستثنى منه لم يكن عاماً؛ بل صار المستثنى أكثر عموماً من المستثنى منه.
وإن قال: ونسائي الأربع طوالق إلا اثنتين طلق اثنتان؛ لأنهما نصف الأربع.
العلماء هنا يتحدثون عن استثناء لفظه، لا وقوع حكمه، فيستثنون من اللفظ وليس من الحكم، فلم نستثن من طلاق الرجل ثلاثاً ولا غيرها، فلو قال: أنت طالق مائة طلقة إلا ثمانين، هل يقع؟ على كلام المؤلف الثمانين أكثر من النص فلا تقع بعددها، لكن نقول: الأولى أن يقع واحدة؛ لأن الشرط أو الاستثناء إذا التغى بقي الطلاق.
يجوز الفصل إذا كان لا ينفك عنه المرء، كالعطاس والسعال ونحو ذلك.
أما إذا لم يكن مضطراً إليه فلا يصح الاستثناء، فلو قال: نسائي الأربع طوالق ثم سكت، ثم قال: إلا اثنتين، هل يقع؟ قالوا: لا يقع، إلا على جميع النساء، لا يقع على اثنتين، بل يقع على الأربع جميعاً؛ لأن استثناءه هنا جاء بعد فصل الكلام، ويشترط في الاستثناء الاتصال، هذا مذهب الحنابلة.
واستدلوا على ذلك، فقالوا: لأن غير المتصل لا يقتضي رفع ما وقع بالأول.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز الفصل في الاستثناء إذا لم يطل عرفاً، فلو قال: نسائي الأربع طوالق ثم سكت، وفصل من غير عطاس أو سعال، ثم قال: إلا اثنتين صح استثناؤه؛ لأن الاستثناء يجوز الفصل ما لم يطل عرفاً، وهذا اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله وبعض محققي الأصول والفروع من أصحاب المذهب؛ لورود ذلك في الشرع، وهو ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال: سليمان عليه والسلام لأطوفن الليلة على سبعين -وفي رواية: على مائة- امرأة كلهن تلد فارساً يقاتل في سبيل الله، فقال له رجل من أصحابه: قل: إن شاء الله، قال: فلم يقل، فلم تأت إلا واحدة بنصف غلام، قال الرسول: لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته )، ومعنى (دركاً لحاجته) يعني: نفعه ذلك.
ومن المعلوم أن الذي عنده قال له: قل: إن شاء الله، قالها بعدما تم الكلام ووقع الفصل، فدل هذا على أن الفصل اليسير الذي لم يطل عرفاً يجوز الاستثناء فيه، وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم.
وهذا الكلام يطبق في اليمين، ويطبق في الاستثناء، ويطبق في التعليق، فهو ينفعه، وقد جاء عند أهل السنن و أحمد من حديث ابن عمر أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا، ثم قال: إن شاء الله فإنه ينفعه ذلك.
وهذا في طلاق الزمن وأثر الزمن والمستقبل على لفظ الطلاق، وللمعلومية فهذه الألفاظ إنما هي من دلالة الألفاظ، ودلالة الألفاظ على حسب ما تقتضيه اللغة في الظاهر، فإذا اقتضى اللفظ معنى من المعاني متداولاً فإنه ينصرف إليه ما لم ينو أكثر من ذلك، فيصح إذا كان اللفظ يحتمله.
يقول المؤلف: (وإلا) يعني: وإن لم ينو وقوعه الآن (فلا) يعني: فلا يقع الطلاق؛ لأنه أضافه إلى زمن يستحيل وقوعه فيه، وهو أنت طالق قبل أن أتزوجك، أو أنه أخبر بأمر كاذب فيه.
ولكن هل ثمة فرق بين هذه المسألة وبين مسألة سبقت معنا، وهي قول: هل طلقت زوجتك؟ فقال: نعم، قلنا: تقع واحدة ولو كان كاذباً، هل ثمة فرق بينهما؟
نعم هناك فرق، من صريح الطلاق أن يقول: أنت طالق بصيغة اسم الفاعل، أو الماضي، أو أنت الطلاق، فإذا قالوا له: هل طلقت امرأتك؟ فقال: نعم، قالوا: فهذا جواب صريح، والجواب الصريح يأخذ حكم الطلاق الصريح، بخلاف ما لو أخبر عن حالة كذب فيها، بغض النظر عن وقوع الطلاق من عدمه، فإذا قال: أنت طالق أمس، وهو لم يوقع الطلاق أمس أصلاً، فنقول: لا تقع شيئاً ما لم ينو وقوعه الآن؛ لأن هذا إخبار منه عن وقوع في الأمس، بخلاف: هل طلقت امرأتك؟ فقال: نعم؛ لأنه لو قال: لامرأته ابتداءً أنت مطلقة، أو أنت طالق، أو أنت الطلاق، وقعت واحدة.
وفرق بين الطلاق بالماضي، وبين وقوعه بالماضي، وفرق كبير بين أن أخبر عن زمان أكذب فيه، وبين أن أوقع الطلاق بلفظ الماضي، فالعلماء يفرقون بين حالة وقوع الطلاق، وبين لفظ الطلاق.
معنى كلمة (لغو) لا يقع به شيء؛ لأن هذا خلل من حيث الصياغة، ومن حيث المدلول، فلا يدل عليه اللفظ؛ فإن المعنى أن الطلاق لا يقع اليوم، بل طلاق اليوم مشروط بحصوله غداً، فهل يمكن لليوم أن يدرك الغد لا، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، فلا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق لا يقع اليوم لعدم حصول الشرط وهو إذا جاء غد؛ لأن الغد لا يمكن أن يدرك اليوم، ولا يمكن وقوعه أيضاً غداً؛ لأنه إذا جاء غد فليس فيه طلاق؛ فصار لغواً.
يعني: بعض الناس يقول: ألحت علي زوجتي بأن أطلقها، فقلت: أنت طالق، لكني لم أرد الطلاق، لكني أريد أن أسكتها وأن أبين لها خطورة هذا الأمر، فإذا بكت واستشعرت وتأملت وتروت، ضاق صدرها وكثر غمها فأرادت الرجوع أخبرتها أني لم أرد طلاقها فنقول له: كما قال ابن عباس : [ يركب أحدكم الحموقة أو الأحموقة فيقول: يا
إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق غداً، أو أنت طالق يوم السبت، أو يوم الجمعة يقع الطلاق في أول يوم الجمعة، أو في أول يوم السبت، أو أول يوم الغد؛ لأن وقوع الطلاق، أو لأن اليوم والغد ظرف لجميع الزمان، فإذا أطلق على هذا الزمان وقع بأوله، فإذا وجد ما يكون ظرفاً لهذا الزمان وقع.
قالوا: لصلاحية كل جزء من هذا اليوم أو من يوم السبت لوقوع هذا اللفظ فيبدأ الحكم من الأول، فإن قال: أنا أردت أن يقع الطلاق آخر يوم السبت، قالوا: لا يقبل قوله حكماً يعني: إذا وجدت الخصومة بينه وبين زوجته في وقوع الطلاق أم عدمه، فلا يقبل قوله حكماً، إذا قالت زوجته: لا، أنت تريد الطلاق في أول اليوم، وقال: لا، أنا قصدي في آخر اليوم لم يقبل، هل يمكن أن تقع هذه الصورة؟ نقول: نعم.
صورة المسألة: لو أن رجلاً طلق امرأته مرتين ثم راجعها، فقال في الطلقة الثالثة أنت طالق غداً، أو أنت طالق يوم السبت، لما أصبح يوم السبت ماتت بعد صلاة الفجر مباشرة فهذه آخر طلقة من الثلاث هل ترث؟ نقول: إن كان طلقها يوم السبت، فماتت بعد صلاة الفجر فقد وقع الطلاق قبل موتها، وإن قال: أنا أردت آخر اليوم لكي يرث، قلنا: لا يقبل حكماً إذا جاء أولياء المرأة، وأنكروا ذلك.
فإذا قال: أنت طالق كل يوم، فقالوا: تقع واحدة؛ لأن لفظ العموم يصلح وقوع الشيء في كل جزء من أجزائه، فكلمة (كل يوم) عام والمقصود وقوع الطلاق في أحد أفراد العام، فإذا وقع على يوم منها فيكتفا؛ لأن العام يسميها العلماء عموم شمولي.
فإذا قال: أنت طلق كل يوم، وقعت واحدة في وجود هذا اليوم؛ لأن ألفاظ العموم يصلح وقوع الطلاق في كل جزء من ألفاظ العموم، وقد وقعت واحدة فكفى لأن المقصود به وقوع الطلاق في أحد الأيام كلها، بخلاف ما لو قال: أنت طالق في كل يوم، فهنا جعل كل يوم ظرفاً لوقوع الطلاق فتقع في كل يوم طلقة؛ لأن الظرفية هنا دخلت على كل يوم.
صورة المسألة: إذا قال الرجل: لامرأته أنت طالق، فإن كان قد طلقها في أول الشهر أو قبل بدايته فتطلق بمضي هذا الشهر، فلو كان مثلاً عصر يوم ثلاثين فقال: أنت طالق إذا مضى الشهر، فمضى هذا الشهر الجديد فإنها إذا غربت شمسه -يعني: رؤي هلال ليلة تسع وعشرين- فإنها تطلق، أما لو قال: أنت طالق إذا مضى شهر، وكان وقوع ورود هذا اللفظ في وسط الشهر فإننا نحسب ثلاثين يوماً، وقد جاء في الصحيحين من حديث أم سلمة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى على نسائه أن لا يدخل عليهن شهراً، فلما مضى تسع وعشرون يوماً دخل على
يقول المؤلف: (وكذا إذا مضت سنة أو السنة)، فإن الطلاق يقع إذا مضى اثنا عشر شهراً؛ لأن السنة تكون اثنا عشر شهراً، أما لو قال وهو مثلاً في رمضان أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة، قال: إذا مضت السنة فأنت طالق، فـ (أل) في (السنة) للعهد الحضوري وهي السنة التي هم فيها، فإن مضى شهر ذي الحجة تطلق المرأة.
فصل: ويصح التعليق مع تقدم الشرط وتأخره، كإن قمت فأنت طالق، أو أنت طالق إن قمت، ويشترط لصحة التعليق أن ينويه قبل فراغ التلفظ بالطلاق، وأن يكون متصلاً لفظاً أو حكماً، فلا يضر لو عطس ونحوه، أو قطعه بكلام منتظم كأنت طالق -يا زانية- إن قمت، ويضر إن قطعه بسكوت أو كلام غير منتظم، كقوله: سبحان الله، فتطلق في الحال].
ولا يصح التعليق إلا ممن يملكه وهو الزوج؛ لما روى ابن ماجه عن المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا طلاق قبل نكاح، ولا عتاق قبل ملك )، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك )، رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
قالوا: إذا قال: إن خرجت فأنت طالق، أو إن غربت الشمس فأنت طالق، أو إن لم تستطيعي الصعود -يعني: على عدم وجوده- فأنت طالق، واستدل الحنابلة على ذلك فقالوا: لأنه تلفظ بلفظ صريح في وقوع الطلاق فيقع، كما لو لم يعلقه على شرط.
والقول الآخر وهو الذي ذهب إليه جماعة من متقدمي التابعين، وقال به بعض أصحاب المذاهب، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية و ابن القيم وعليه الفتوى عندنا، وهو رأي شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بن عثيمين والشيخ ابن سعدي عبد الرحمن رحمة الله تعالى على الجميع قالوا: إن التعليق في الطلاق ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يعلقه على أمر محض كزمن أو وقت، كأن يقول: أنت طالق إذا غربت الشمس، أو على مشيئة أجنبي: أنت طالق إذا شاء فلان، فإن الطلاق يقع عند حصول ما علق به؛ لأن التعليق يصح عند ورود الشيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن مات
القسم الثاني: إن كان قد علقه -أي: علق الطلاق- حضاً أو تخويفاً لنفسه أو لزوجه، ويكره وقوع الشرط لو وقع، قالوا: فهذا لا يقع به طلاق بل يكون في حكم اليمين، فإن قال لامرأته: إن خرجت فأنت طالق، أو إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق، أو إن جاء أهلك إلى بيتي فأنت طالق، فهذا يقصد منعها، قالوا: فهذا لا يقع طلاقاً ولكنه يقع يميناً.
ودليلهم على هذا أن تعليق الطلاق على شرط هو في حقيقته نوع من أنواع الأيمان؛ لأن قصد القائل هو الامتناع أو الحض على الفعل، لا وقوع المحلوف عليه أو المحظور، واستدلوا أيضاً فقالوا: كما أنه إذا قال: إن خرجت فعبدي حر، لا يقع عتقاً فكذلك لا يقع طلاقاً، وقد روى البيهقي وغيره من طريق بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع أنه حدثه أن مولاته، قالت: مملوكي كلهم أحرار، ومالي كله في سبيل الله وهي تقول: وهي يهودية أو نصرانية إن لم تفرق بين أبي رافع وبين امرأته، فلما سكن غضبها سألت ابن عمر و ابن عباس و عائشة وكلهم أفتوها أن تكفر كفارة يمين.
قالوا: فالعتق والطلاق في حكم واحد؛ لأنها لم تقصد العتق ولا إخراج كل المال، إنما قصدت إلزام نفسها والحض على الفعل، وهذا القول أظهر، والله أعلم.
وعلى هذا نقول: إنه إذا علق الطلاق على وجود فعل مستحيل، كإن صعدت السماء فلا يقع الطلاق، كما مر معنا؛ لأن ذلك مستحيل في العادة ولا يقع، يعني: أن الشرط مستحيل في العادة فلا يقع به طلاق، أما إن علقه على عدم وجود هذا المستحيل، كأن قال: إن لم تصعدي السماء فأنت طالق، فهل يمكن أن تصعد غداً؟ لا، ومعنى (تصعدي السماء) لا أقصد بالطائرة، بل معناه تصعدين من غير شيء، فهذا لا يمكن حصوله لا اليوم ولا غد ولا بعد سنة، فيقول العلماء: تطلق في الحال؛ لأنه علقه على عدم إمكانية وقوعه فكأن الشرط لاغ.
إذاً: لو علقه على عدم أمر مستحيل كأن قال: إن لم تصعدي السماء فأنت طالق، فهي لن تستطيع أن تصعد السماء لا اليوم ولا غد ولا بعد سنة ولا بعد عشرين سنة، فحصول هذا الأمر غير ممكن، فيعد الشرط لاغ فتكون طالقاً؛ لأنه لا يمكن أن تصعد السماء، وهو يقول: إن لم تصعدي السماء فأنت طالق، فإذا لم تصعد السماء يقع الطلاق في الحال؛ لأنه مستحيل وقوعه في العادة فيقع الآن، أما إن كان يمكن وقوعه يعني: إن علقه على غير مستحيل، فإننا ننظر إلى حين عدم إمكانيته، مثل لو قال الرجل لزوجته الأولى: إن لم أتزوج فلانة فأنت طالق، فهنا يمكن، فلا يقع الطلاق إلا إن عجز، ومتى يعجز؟ إذا ماتت المرأة الثانية حينها يقع الطلاق، ولا يقع الطلاق إن تزوجت برجل آخر، لأنه لم يقل: أتزوج فلانة قبل زواجها، فربما تتزوج بآخر، ويموت زوجها ويتزوجها هو بعده، فلا بد من حصول اليأس، واليأس يكون بموتها.
يقول: (ما لم يكن هناك نية أو قرينة تدل على الفور)، يعني: إن لم أتزوج فلانة، أو إن لم أشتر السيارة الفلانية فأنت طالق، وقصد هذا اليوم أو بعد شهر، فإذا كان هناك قرينة أو نية في هذا الزمان فبمضي هذا الزمان أو مضي هذا اليوم يقع الطلاق، وإلا فلا يقع إلا بعد اليأس.
يقول المؤلف: (ويشترط لصحة التعليق أن ينويه قبل فراغ التلفظ بالطلاق)، قد مر معنا ذلك.
(وأن يكون متصلاً لفظاً أو حكماً)، هذا على مذهب الحنابلة، والراجح أنه يجوز الفصل ما لم يطل عرفاً.
ونقف على هذا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر