الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا؛ فنضل، اللهم اجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أدخلنا مدخل صدق، وأخرجنا مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، وبعد:
أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وبركة، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعل ذلك دليلاً إلى رضوانه وجنته، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
والفوضى العلمية التي نراها في هذا الزمان من أسبابها:
أنك تجد قولاً من الأقوال لَفَّقَه قائله من أصول لمذهب مالك مثلاً، أو أصل لمذهب أبي حنيفة وأصل لمذهب أحمد ، أو أصل لطريقة الاستدلال مع أصل آخر.
فأصبح كأنه استنساخ يحدث بلا شك، وتجد من يأخذ بقول ربما يكون مهجوراً، أو ضعيفاً لا يؤبه له، وسبب ذلك: هو أن الإنسان حين اختياره لذلك القول، ربما لم يكن منطقه واستدلاله على أمر ركين يمكن أن يعتمد عليه في الفقه، ولهذا أحياناً تجد بعض الأقوال التي تستسيغ أخطاء الواقع الذي نعيشه، إذا سألت: ما مستند هذا القول؟ ربما أعطاك صاحبه كلاماً فضفاضاً وعبارةً فجة مآلها إلى رد الناس إلى قواعد ربما لا يستطيعون أن يتثبتوا فيها، من قول: الحاجة أو الضرورة، أو عموم البلوى، أو رفع الحرج.
ولا شك أن هذه القواعد يجب المصير إليها أحياناً، لكنها تحت شروط وضوابط، فلم يتركها الأئمة سبهللاً لكل واحد أن يحتج بها كما يشاء، ولو كانت هذه القواعد غير مضبوطة بضوابط الشرع؛ لأدى ذلك إلى إسقاط الشرع.
ويؤسفني حقاً حينما أجد بعض الإخوة يسوغ هوىً متبعاً، أو طريقة من الطرق باستدلاله لمذهب من المذاهب، وتجد أنه لا يعتمد على هذا المذهب في جميع أصوله؛ فيقع في الحيف والشطط.
كان أحد الإخوة يحدثني فيقول: أنا أرى جواز أن تتزوج المرأة من غير ولي، فقلت له: ما دليلك؟ قال: إن كانت بكراً؛ فلا يجوز، وإن كانت ثيباً؛ فيجوز، قلت: وما الذي فرق بين الأمرين؟ قال: لأن الله يقول: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة:230]، فخاطب المرأة في ذلك، فقلت له: وهل تعتمد أنت على أصل أبي حنيفة في هذا الدليل؟ قال: وما أصل أبي حنيفة ؟ قلت: من الخطأ -على غفلة- استدلالك بمذهب أبي حنيفة، لقد وقعت، أبو حنيفة رحمه الله يرى: أن الدليل من السنة إذا خالف ظاهر الكتاب؛ فهو زيادة على النص، ويرى أن الزيادة على النص نسخ، ويرى أن النسخ لا يتم إلا من متواتر لمتواتر، والسنة عند أبي حنيفة لا تنسخ القرآن.
فيرى أن كل حديث خالف ظاهر القرآن لا يعتمد عليه، فأنت -يا رعاك الله- هل تعتمد هذا الأصل؟ قال: والله الآن عرفت أن أبا حنيفة له هذا الأصل، قلت: وهذا هو الإشكال الكبير الذي يحصل عند بعض الفتاوى التي نسمعها غير مؤصلة بأصول الشرع.
فإما أن تعتمد على مذهب أبي حنيفة ، فكل حديث جاءك يخالف ظاهر النص لا تأخذ به، فنعارضك ونناقشك في هذا الأصل ابتداءً، أما أن تأخذ مذهب أبي حنيفة في هذا الدليل بحجة أن هذا الدليل قال به إمام، مع أن الإمام قال به بناءً على أصل عنده، فهذا لا يصح، وقل مثل ذلك في أصل أحمد و الشافعي و مالك رحمه الله.
لذا جاءت أهمية قراءة أصول الفقه، وأرى -والله تبارك وتعالى أعلم- أننا بحاجة إلى إعادة صياغة قراءة أصول الفقه بالطريقة التي كان يتعلمها الأئمة رحمهم الله، فقد كانوا يقرؤون الآية أو الحديث ويعطونك قاعدةً في معناها، وكلامهم فيه إشارات كبيرة في هذا الباب، حتى يتعلم طالب العلم أن علم أصول الفقه يستطيع أن يسير معه في حياته كلها.
ولا ينبغي أن نأخذ قواعد أصول الفقه على أنها قواعد ليس لها استثناءات، أو نستدل بها على خرم قاعدة أو أصل من أصول التشريع.
يحدثني بعض المشايخ فيقول: كان أحد الطلاب يقرأ علي أو يحفظ عندي حديث ابن مسعود ( في قصة الذين يخرجون من النار، قال: فيخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط )، وكلمة (لم يعملوا خيراً قط)، معناها عند أهل السنة: لم يعملوا خيراً عند الذين رأوهم، يعني: خفي عليهم، أو لم يعملوا من الأعمال الظاهرة شيئاً كثيراً، كما فسر ذلك ابن خزيمة فيما يكون آخر الزمان.
لكن هذا الطالب قال للشيخ: هذا الحديث دليل على أن الإنسان يدخل الجنة ولو لم يعمل خيراً قط، فهذه نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي عند الأصوليين تفيد العموم، فقال له الشيخ: قولك هذا أشد من قول جهم بن صفوان ، لأن جهماً كان يرى المعرفة، والمعرفة قول القلب.
فهذه الأخطاء سببها أمور:
أولاً: عدم فهم قواعد الأئمة فهماً صحيحاً.
الثاني: عدم الاعتماد عليها، أو الاعتماد عليها لكن بسوء فهم.
الفائدة الأولى: فهم الكتاب والسنة، فمن فهم الكتاب والسنة؛ فقد أوتي الحكمة، ومن أوتي الحكمة؛ فقد أوتي خيراً كثيراً، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، والعالم: هو الذي يعلم مراد الله ومراد رسوله، على ما أراده الله وأراده رسوله.
يقول ابن تيمية رحمه الله في المجلد السابع: وبعض الناس يحمل كلام الله وكلام رسوله على غير ما أراده الله وأراده رسوله، وربما يحمله على ما أراده هذا المجتهد الذي تربى عنده أو غير ذلك.
فلا بد من معرفة مراد الله، ومراد رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله، فهناك قواعد سطرها الأئمة رحمهم الله في كتبهم، وأخذوا بها، لكنها ليست على مراد الله ورسوله، مثل البينة، فالبنية مثلاً في كتب المتأخرين من الفقهاء هي: الإقرار أو الشهادة، لكن البينة في لسان الكتاب والسنة، أو في كلام الله وكلام رسوله مراد بها الحجة الظاهرة سواء كانت إقراراً أو شهادةً أو يميناً وشاهداً، أو اللوث كما في القسامة، أو قرينة ودلالة ربما يعتمد عليها القاضي في ذلك، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
ذكر ابن القيم رحمه الله باباً في تناقض بعض من يفهم كلام الله وكلام رسوله على ما اصطلح عليه الفقهاء بعد ذلك، فراجعها في إعلام الموقعين، وأشار إلى ذلك في الطرق الحكمية.
فأول ما يستفيد طالب العلم من دراسة أصول الفقه هو فهم مراد الله ومراد رسوله، انظر مثلاً إلى قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، فالناس هنا مراد به عامة الرجال والنساء، الذكر والأنثى، الوضيع والرفيع، أما قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، فالناس هنا قريش، وقيل: هو النضر وحزبه، وهذا عام يراد به في لغة العرب الخصوص، وفرق بين العام الذي لم يخص، والعام الذي أريد به الخصوص، والعام المخصوص، وهذه تجدها في كلام الله وكلام رسوله كثيراً، وفي الحديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة )، هذا حديث رواه البخاري و مسلم .
فبعض متأخري الفقهاء فهم من ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينه عن المزارعة إذا كان شيئاً معلوماً مضموناً، كما قال رافع : ( إنما نهى عن مزارعة كان يفعلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهم كانوا يزارعون على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع )، والماذيانات هي الماء الذي يمر على الحقول، فيشترط صاحب الأرض: أن ما ينبت على عوارض هذا الساقي؛ فهو له، أو أن الحقل الذي سوف يمر على الماء في أول أمره؛ يكون له، ( فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك ذاك، أما شيء معلوم مضمون، فلم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم )، فعلم أصول الفقه يمنعك من الشطط في فهم القرآن والسنة.
الفائدة الثانية: فهم الشريعة الغراء، وأنها لا تتناقض ولا تتعارض، وكل حكم من الأحكام له شروط، وله موانع تمنع من إقامة الحد، وهذه الشروط قد تخفى أحياناً على بعض من يقرأ؛ فيظن أن الشريعة فيها نوع من التناقض، أو يستدل لإبطال حكم شرعي بفعل للصحابة رضي الله عنهم أو أئمة الإسلام؛ مثلما نسمع بين الفينة والأخرى: من أن عمر رضي الله عنه منع من إقامة الحد عام الرمادة عام الجوع، فلم يقم حد السرقة، قالوا: و عمر إنما منعها لأجل حاجة المسلمين، فدل على أن المصلحة في المجتمع دليل.
وعلى هذا؛ أبطلوا حد الردة، وأبطلوا حكم الربا بحجة أن الربا متفش في واقع الأمة، وأبطلوا أشياء كثيرة، والسؤال: هل عمر رضي الله عنه حينما أبطل السرقة، أبطلها بحجة أن المجتمع لم يتكيف معها، أم أنه لم يبطلها أصلاً، إنما لم يثبتها؛ لأن إثبات الحكم لا بد فيه من وجود شروط وانتفاء موانع؟ الصحيح الثاني، وانتفاء الموانع عند عمر هنا هو عدم المسغبة.
فلو رأينا شخصاً يسرق من مال الغير من حرزه، هل تقطع يده؟ نقول: ينظر، هل هذا الرجل الذي سرق له في المال شائبة ملك؟ فالوالد لا تقطع يده إذا سرق من مال ولده، وكذا الولد، فهل نقول: إننا أبطلنا الحكم الشرعي؟ لا.
فمن فهم أصول الفقه؛ فقد عرف الشريعة الغراء، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن ما ثبت في السنة في عهد الصحابة؛ فإنه يثبت في عهدنا هذا وزماننا هذا، علمه من علمه، وجهله من جهله.
الفائدة الثالثة: وهو فهم كلام الأئمة رحمهم الله، فإن فهم كلام الأئمة إنما يكون بمعرفة مصطلحات أصول الفقه، فالإمام أحياناً يكون له نص في مسألة، ونص آخر في مسألة أخرى، ويكون ظاهر هذين النصين التعارض، فإذا نظر الفقيه بعقله الناضج؛ رأى أن هذا في حالة وهذا في حالة، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
يقول ابن تيمية رحمه الله: وغالب ما يكون من نسبة الأقوال إلى أهلها إنما يكون بالرواية عنهم أو بالاستنباط، فـأحمد مرة من المرات قال قولاً، فظن بعض أصحابه أنه يرى هذا القول، و أحمد لم يذكره على سبيل التقرير، إنما ذكره على سبيل البيان والإيضاح ليس إلا.
وأحياناً بعض الناس يقرأ لـابن تيمية كلاماً فيقول: ويخالف هذا في صفحة كذا، و ابن تيمية في هذه الصفحة إنما ذكرها تقريراً وليس مرجحاً، فيقول مثلاً: كما أن المتمتع يطوف طوافين ويسعى سعيين، ويذكر في صفحة أخرى: أن المتمتع ليس عليه إلا سعي واحد، فيقول: ابن تيمية له في المسألة قولان، و ابن تيمية ليس له إلا قول واحد، لكن هنا ذكر القول الآخر على سبيل الاستطراد وذكر المثال.
وطبيعة الأئمة ذكرهم للأمثلة على سبيل الاستطراد، ولا يلزم أن يأخذوا بها، ولهذا قال الأئمة: من كان شيخه كتابه؛ فخطؤه أكثر من صوابه، ففهم كلام الأئمة يعرف أحياناً بفهم قواعد أصول الفقه.
الفائدة الرابعة: فهم كلام الناس وعباراتهم، فالذي يقرأ الوصايا، أو شروط بعض الواقفين أحياناً لا يستطيع أن يجمع بين عباراتها إلا بفهم العام والخاص والمجمل والمبين، والظاهر والنص، ومعرفة دلالات العلماء في أعرافهم؛ تجعل الإنسان يضبط ذلك، والأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان، هذه قاعدة يتداولها الفقهاء رحمهم الله في كتبهم، لكن أحياناً فهمها عند بعض الناس يكون بخلاف الذي يريده الأئمة.
أحياناً لو جئت لبعض الناس تقول: يا أخي! الربا حرام، هذه بطاقات الائتمان أحياناً فيها شرط ربوي، يقول: يا أخي! هذا تعامل الناس كلهم الآن، والأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان، أعطني دليلاً من الكتاب والسنة أو كلام الصحابة أو الأئمة الأربعة في بطاقات الائتمان، فإنها ما كانت موجودة، فالأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان.
والأئمة رحمهم الله حينما ذكروا أن الأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان، إنما أرادوا الأحكام المنوطة بالأعراف، وبسد الذرائع، أما الحكم الشرعي الذي ورد النص به؛ فلا يجوز إسقاطه، ولا يجوز تركه بحجة أن الأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان، والأمثلة والفوائد في هذا كثيرة.
ومن أهم فوائد أصول الفقه أيضاً معرفة الأحكام الشرعية في النوازل الفقهية الحديثة، والناس في النوازل طرفان ووسط، فبعض الناس عند كل مسألة جديدة في واقعه يقول: الأصل في المعاملات والشروط الحل والجواز، والأصل في هذه أنها جائزة، ولم يكن عقد التوريد موجوداً في عهد الصحابة، ولم يكن عقد المقاولة موجوداً في عهد الصحابة، ولم يكن عقد الإذعان موجوداً في عهد الصحابة، ولم يكن عقد النشر والتوزيع موجوداً في عهد الصحابة، فبالتالي يكون الأصل فيها الجواز، ولو كانت ثمة شروط في العقد؛ تعود على أصل العقد بالإبطال، فهذا طرف.
وطرف آخر: لا يُجَوِّز من المسائل إلا ما كان لها أصل في كتب الفقهاء، ولذا تجد أن بعضهم حرم الشركات المساهمة ولو كانت مباحة، بحجة أن الشركات الموجودة في كتب الفقهاء خمسة: العنان، والوجوه، والأبدان، والمفاوضة، والمضاربة، وما عداها فإنها باطلة، وأنها لوثة من لوثات الغرب جاءت إلى بلاد الإسلام؛ فلا نقبلها، وهنا طرف ثان.
والطرف الثالث يقول: لا مانع من تأصيل المسائل العصرية على قواعد الأئمة، ولكن العبرة بالقواعد الشرعية التي هي مناط التكليف والمرجع في هذا، فيقول: كل معاملة ليس فيها ربا ولا غرر ولا جهالة، ورأس المال فيها معلوم والربح معلوم من غير ظلم، فالأصل فيها الجواز، فإذا دخلت في هذه القواعد؛ فنقول بحرمتها، وهذا ضبط لقواعد التشريع، ولو كانت الشريعة الإسلامية تذكر كل مسألة من المسائل الحديثة؛ لصعب على الناس حفظ ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- أعطي جوامع الكلم، فيذكر القاعدة، وربما لا يفقهها الناس في واقعهم، ويأتي واقع آخر فيلمس من عموم نص الشارع ما يخدم دليله.
الفائدة الخامسة: أن طالب العلم يستطيع أن يَعلَم ويُعلِّم ما المرجع عند اختلاف الفقهاء لدى الفقيه غير المجتهد ولدى العامي؟ فدائماً نسأل: بقول من نأخذ؟ فهذا يقول في الشركة الفلانية إنها حرام، وهذا يقول إنها مباحة، لماذا لا يجتمع المشايخ ويقولون قولاً واحداً؟
يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لم تجتمع أمته على قول واحد، فكيف تريد أن يجتمعوا في العصور المتأخرة؟ لكن يسعهم ما وسع السلف: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وهذا إنما يتأتى حصوله بقراءة كتب أصول الفقه في الاجتهاد والتقليد.
الفائدة السادسة: معرفة الإنسان ومنزلته، فالإنسان الذي عنده إلمام بأصول الفقه، وعنده حصيلة كثيرة من فروع الشريعة؛ يكون بإذن الله إماماً يقتدى به، وإماماً يشار إليه بالبنان، فإذا صلحت النية وحسنت الطوية، واشترى علمه بكسله وزال الكسل منه؛ فإنه بإذن الله سوف يكون مرجعاً في هذا الباب، فهذه هي أهم المهمات في معرفة أصول الفقه.
وحينما كثرت فتوحات المسلمين، دخل العجم، وبدءوا يطلبون العلم، فأصبح هناك لوثة وهي لوثة عدم الفصاحة والبيان في اللغة العربية، فبدأ الناس يفهمون أشياء، ويستدلون بأشياء ربما تكن غير مرادة، هذا واحد.
الثاني: أنه بسبب تفرق الصحابة رضي الله عنهم في البلدان؛ أصبح الواحد منهم تخفى عليه مسألة من المسائل؛ فيجتهد فيأتي تلميذه من التابعين فيرى أن هذا الاجتهاد وهذا القياس جيد، لكن الصحابي الآخر الذي وجد في الحجاز ربما يكون عنده سنة خفيت على هذا الصحابي، فتجد أن أتباع هذا الإمام يعتمدون عليه في القياس، ويتركون الدليل، وحاشاهم أن يتركوا دليلاً شرعياً يعلمون أنه حديث ثم يتركونه.
ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثامن عشر: وحاشا أحمد رحمه الله أو غيره من الأئمة أن يستدلوا على سنة بحديث ضعيف، يعلمون أنه ضعيف، وقال: وحاشا أبا حنيفة أو غيره من الأئمة أن يترك سنةً لأجل قياس، يقول ابن تيمية : كيف! وهو قد أخذ بقول صاحب وعارض به القياس، عندما رأى أن الضحك في الصلاة يبطل معه الوضوء، مع مخالفته للقياس لكن كان عنده أثر عن أصحاب ابن مسعود يروونه عن ابن مسعود ، وإن كان في الإسناد انقطاع.
بهذا تعرف أن الأئمة رحمهم الله إنما اختلفوا بسبب أن أبا حنيفة رحمه الله ذهب إلى الكوفة، وكثر في وقته التشيع والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فترك أبو حنيفة هذه الأحاديث؛ لأنه قد كثر الضعف، فبدأ رحمه الله يعتمد على القياس، وكان مالك رحمه الله في الحجاز، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر في هذه الجهة، وأيضاً الناس بعدهم تربوا على هذا حتى أصبح لهم مذهب، وهو مذهب أهل المدينة، فاعتمد مالك رحمه الله على هذا المذهب.
ثم جاء بعد أبي حنيفة و مالك تلاميذ، بعضهم أخذ بمذهب أهل الرأي كمذهب أبي حنيفة، وبعضهم أخذ بمذهب الأثر وهو مذهب مالك ، وبسبب ضعف البضاعة وأحياناً حظوظ النفس؛ أصبح ثمة تناحر بين طلاب هذين المذهبين، حتى ذهب عبد الرحمن بن مهدي الإمام المحدث الثقة إلى الإمام الشافعي ، فقال: يا أبا عبد الله ! أدرك الناس، لو وضعت لهم كتاباً يكون مرجعاً لهم في ذلك.
فـأبو حنيفة وأصحابه يعتمدون على الرأي، والدليل على ذلك مثلاً: أن الصحابة عندما ( قالوا: يا رسول الله ! أيأتي أحدنا أهله ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال )، فهذا أخذه العلماء وسموه قياس العكس، وغير ذلك من الأشياء.
والإمام الشافعي رحمه الله رأى أنه بحاجة إلى وضع ضوابط كانت متداولة معروفة، أخذها الأئمة بالسليقة، لكن بسبب غيابها؛ خفيت على طلاب العلم في ذلك الزمان، فألف الإمام الشافعي رحمه الله كتابه المعروف بكتاب الرسالة، ففرح بذلك عبد الرحمن بن مهدي ، وحتى قال الإمام أحمد رحمه الله، كما ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب الانتقاء: كل صاحب حديث للشافعي عليه منة. أحياناً أهل الحديث المهتمون بالرواية في السابق كانوا يكتبون، أما الآن فقد ضبط العلم، وقد كان أحمد يحارب الكتابة في زمانه، وكل زمان يصلح له ما لا يصلح لغيره.
وقد كان بعض أهل الرأي ينتقدون على مذهب مالك في اعتماد الأثر، وصار هناك خلاف طويل، وبطبيعة الحال فإنه يحصل هناك مناقشة، ويحصل اختلاف، حتى أحياناً بين الأئمة، حتى أنه ذات مرة من المرات يقول الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه العظيم جماع العلم: كنت أناظر محمد بن الحسن -وكان يحبه، وكان إذا ذهب إلى المسجد؛ جلس معه يتناقشان حتى يصلا إلى المسجد- فقال: صاحبنا أعلم من صاحبكم، يقصد بذلك أبا حنيفة ، قال الشافعي : فلما أكثر عليّ قلت: أسألك بالله! أيهما أعلم بكتاب الله: صاحبكم أم صاحبنا؟ يعني بذلك مالكاً ، قال: فسكت، ثم قال: صاحبكم، قلت: أسألك بالله! أيهما أعلم بالأثر صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قلت: أسألك بالله! أيهما أعلم بأقوال الصحابة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم، قال: ولم يبق إلا القياس بينهم، ومن علم الأثر والرواية أعلم ممن لم يحصل ذلك، وهذا من باب وجود الخلاف بين الأئمة الكبار، فبطبيعة الحال يحصل مثل هذا النقاش.
فالإمام الشافعي رحمه الله ألف هذه الطريقة، وحاول أن يعلم طلاب العلم ما هو الفرق بين العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص، والعام المحفوظ، والمطلق، والمقيد، والخاص، والعام، فكتب هذا الكتاب بأسلوبه البليغ العظيم حتى قال فيه ابن هشام اللغوي: لقد جالست الشافعي ، فوالله! ما رأيته يلحن قط، ولا رأيته قال كلمةً فقلت: لو قال غيرها لكانت أصلح. الله أكبر! فهذا كلام عادي يتكلم به الشافعي و ابن هشام قاعد يترقب الشافعي رحمه الله، وأنتم تعرفون النحوي، لا تستطع أن تتحدث عنده، أما ابن هشام فيقول: جالست الشافعي، فما قال كلمةً أحببت أن يقول غيرها أفصح منها.
يقول الإمام الشافعي : حفظت شعر هذيل كله.
ولا تظن يا أخي! أن الأئمة لم يعلموا هذا الأصول؛ لأن بعض طلاب العلم أحياناً إذا قيل له: تعلم النحو، قال: يا رجال! الأئمة ما اهتموا بالنحو، نقول: من قال لك هذا؟ فهذا الشافعي رحمه الله حفظ شعر هذيل كله، حتى ذهب إلى مالك رحمه الله وهو ابن ست عشرة سنة، فدخل عليه، وكان مالك مهيباً، فقال: ماذا تريد؟ قال: جئت لأقرأ عليك موطأك، فرآه الإمام مالك وتفرس فيه؛ فعلم أنه نجيب، فقال: اجلس يا غلام! ائته بالكتاب، فقال الشافعي : ما جئتك إلا وقد حفظته، يعني بذلك الموطأ، فقال مالك : اقرأ، فقرأ، وكان قد أعطي بياناً وفصاحة، حتى أنس مالك بقراءته، فقال: يا هذا! إني أرى أن الله قذف في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية، فالشافعي رحمه الله يعرف لغة العرب وأشعارها. وكثير من الناس يجهل أحمد وطريقته، ويظن أنه يجيد الحديث أو قياس الفقه فقط.
أحمد رحمه الله يقول عنه الشافعي كما في ترجمته في طبقات الحنابلة: ما رأيت أحمد بن حنبل يلحن قط، ويقول: لقد كتبت بيدي من اللغة وأشعار العرب أكثر مما كتب أبو عمرو بن العلاء الإمام اللغوي، وأنا لا أقول: هل كتبت بيدك أكثر من أحمد ؟ لكن أقول: هل قرأت مختار الصحاح؟ هل تصفحت لسان العرب؟ فكثير من طلاب العلم مع الأسف بضاعتهم في اللغة ضعيفة مزجاة، ولهذا أصول الفقه له اهتمام كبير بلغة العرب ودلالات اللفظ، من المطابقة واللزوم والتضمن.
فألف الإمام الشافعي كتاب الرسالة، ثم جاء الإمام أحمد فألف كتاب طاعة الرسول، ثم ألف داود الظاهري إبطال القياس والإجماع، ثم تكاثر الأئمة في هذا التأليف، والوقت الذي نضج فيه تأليف أصول الفقه هو أواخر القرن الرابع والقرن الخامس، فأصبح للأئمة طرق متعددة في التأليف، وهذا يقودنا إلى طرق الأئمة في تأليفهم لأصول الفقه.
الأولى: طريقة الحنفية، والثانية: طريقة الجمهور التي تسمى طريقة الشافعية.
ما هي طريقة الحنفية؟ الحنفية كان أئمتهم في ذلك الوقت كـأبي الحسن الكرخي و أبي زيد الدبوسي و السرخسي و أبي بكر الجصاص أرادوا أن يؤلفوا أصول الفقه على ضوء تقريرات مذهب أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف و محمد بن الحسن وكذا زفر ، فجمعوا فروع أئمة المذهب، مثلاً: ماذا قال أبو حنيفة في الوضوء من النبيذ؟ ماذا قال أبو يوسف في كذا؟ ماذا قال محمد بن الحسن في كذا؟ فجمعوا فروع المسائل، ثم كتبوا القواعد على ضوء هذه الفروع.
وقالوا: إن أبا حنيفة رحمه الله يرى مثلاً أن للمرأة أن تزوج نفسها بغير ولي، واستدل بـ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة:230]، والحديث عنده زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ والسنة عنده لا تنسخ القرآن، فأبو حنيفة بمجموع ما سمعنا عنه؛ لا يقول بالحديث المعارض لظاهر القرآن؛ فألفوا هذه القاعدة، ولهذا قال أبو الحسن الكرخي عفا الله عنه وغفر له: كل آية أو حديث تخالف قول إمامنا؛ فهي إما منسوخة وإما مؤولة، وبعض الناس فهم أن أبا الحسن الكرخي يرى أن أبا حنيفة معصوم، وليس مراد أبي الحسن هذا، فـأبو الحسن يرى أن أبا حنيفة حاشاه أن يخالف نصاً شرعياً ظاهراً، فإذا جاء حديث قال: أبو حنيفة بلغه هذا ولم يأخذ به، إنما أوله بناء على تأويل كذا، فهو نوع من التماس العذر لـأبي حنيفة ، وليس المراد منه تعظيم أبي حنيفة كما يتداول الآن في زماننا، ولهذا كان الأئمة يحاولون التبرير لكلام الأئمة، كما كان ابن تيمية رحمه الله يصنع في كثير من الكتب: فيقول: ولعله أراد، ولعله أراد، رحمه الله.
إذن هذه تسمى طريقة الحنفية، وهي أنهم ألفوا الأصول بناءً على المسائل الفرعية، فجعلوا الأصول تابعة للمسائل الفرعية، ولهذا تجدون عندهم في ترتيبهم للأبواب، وفي ترتيبهم لطرائق التأليف اختلاف عن طريقة الأئمة، ومن أوائل من كتب في هذا القسم الإمام السرخسي في أصول السرخسي ، وكذلك أبو بكر الجصاص في الفصول وغيرهما.
الطريقة الثانية: هي طريقة المتكلمين أو طريقة الشافعية أو طريقة الجمهور، وهي عدم الالتفات إلى الفروع، ويقولون: إن الفروع نتيجة وثمرة للقواعد الأصولية، وعليه فلا ينبغي أن نأخذ القواعد من الفروع الفقهية، ولهذا كان لهم تأصيل مستقل يختلف عن طريقة الحنفية، يقولون: لا ينبغي الالتفات إلى الفروع، فالفروع تتبع الأصول، لا أن تتبع الأصول المسائل الفرعية.
وكثر هذا التأليف حتى أصبحت كتب الأصول بعيدة عن الأمثلة الفقهية التي تقرر هذه القاعدة الأصولية أو هذا المثال الأصولي، فتجد أنهم أحياناً بسبب اتساع أفقهم في النظرة الأصولية، وقلة بضاعتهم رحمهم الله في الفروع، أو عدم محاولة ربط الأصول بالفروع -وأمثلة ذلك: إذا قال السيد لعبده، وإذا قال الوالد لولده- كثرت الأمثلة اللغوية عندهم، أما الأمثلة الفقهية فهي قليلة.
ولهذا صار أصول الفقه فيه نوع من الشدة والجمود، ولهذا تجد بعض تقريرات الأصوليين أحياناً فيها نظر، وإن كان بعض الأصوليين قد أجمع عليها. خذ مثالاً على ذلك: المجمل يبقى على إجماله حتى يأتي ما يفسره. هذا الكلام في الجملة جيد في نظر المجتهد والناظر وطالب العلم، لكن هذا أحياناً جعل بعض متأخري الأصوليين الذين بالغوا في علم الكلام، وخفيت عليهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجمدون، أحياناً تحتج عليهم بلفظ شرعي بدليل، فيقول: هذا لفظ مجمل، ولم يأت ما يبين هذا المجمل، وهذا الكلام خطير؛ لأن معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي -بأبي هو وأمي- ولم يبين البيان الشافي؛ فيكون كلامه مجملاً، وهذا أخذه قائله بناءً على التأصيل الذي قرأه وهو: أن المجمل يبقى على إجماله حتى يأتي ما يفسره.
ونحن نعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- مات وقد بلغ البلاغ المبين، علمه من علمه، وجهله من جهله، ( وما من طائر يطير في السماء؛ إلا وقد ذكر لنا منه علماً )، كما يقول أبو ذر ، وبالتالي لا يسوغ لنا أن نرد نصاً بحجة أنه مجمل، والمجمل لا يقبل حتى يفسر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسره بأبي هو وأمي.
نذكر مثالاً آخر حتى تتضح الصورة؛ وسوف نذكر أمثلة فقهية كثيرة، مثال لـأبي حنيفة، ومثال للشافعي ، ما الفرق في المسألة؟ حتى يكون أصول الفقه بسيطاً. قال عليه الصلاة والسلام -كما عند الإمام أحمد و أبي داود وغيرهم- في رسالته لـعمرو بن حزم عندما ذهب لليمن، قال: ( وألا يمس القرآن إلا طاهر )، وحينما جاء عمرو بن حزم هذا البيان من محمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم بلا شك أنه فهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه لم يستفصل، والرسول صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب.
لكنك أحياناً تجد بعض الذين يريدون أن يردوا على هذا النص: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر )؛ يقولون: هذه الطهارة تحتمل الطهارة الصغرى، والطهارة الكبرى، والطهارة من الشرك، ولم يبين في هذا اللفظ المراد بهذا، واللفظ المشترك لا يسوغ حمله على جميع معانيه.
وهناك قاعدة عند الأصوليين تقول: اللفظ المشترك لا يحمل على جميع معانيه، هذا قول، لكنك لو رأيت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة الأئمة لرأيتها تخالف هذه القاعدة، والأقرب أن اللفظ المشترك إذا أمكن حمله على جميع معانيه؛ جاز، ومعنى أمكن ألا يكون مضاداً، مثل القرء، فالقرء له معنيان متضادان هما: طهر وحيض، فلا يمكن جمعهما، فلا نقول: هي طاهر وحائض؛ لذلك قلنا: إذا أمكن حملهما؛ فإننا نجمع.
فعلى هذا نقول في حديث: ( لا يمس القرآن إلا طاهر )، إن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب عمرو بن حزم ، وفهم الصحابة أنه لا يمس القرآن إلا طاهر، ويسوغ أن نقول: لا يمس القرآن إلا من هو طاهر من الحدث الأصغر، ومن هو طاهر من الحدث الأكبر، ومن هو طاهر من الشرك، وهذه مهمة، وأصَّلوا هاتين الطريقتين للأئمة في تأليفهم.
ثم جاء تأليف ثالث جمع بين الطريقتين، وأحب أن أذكر أن من الكتب التي ألفت على الطريقة الثانية المستصفى للغزالي ، وتبعه على ذلك ابن قدامة في روضة الناظر، وكذلك كتاب المعتمد لـأبي الحسين المعتزلي، وأحياناً يقرأ الإنسان هذه الكتب؛ فلا يجد أمثلة، فيصعب عليه الفهم؛ ولهذا فنحن بحاجة إلى إعادة صياغة أصول الفقه؛ لتعطينا ثراء من الأحكام الشرعية وتطبيقاتها الفقهية.
ومؤلف هذا الكتاب الذي سوف نشرحه إن شاء الله، وهو الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق القطيعي هو على طريقة الشافعية، بل إن غالب كتب الحنابلة إن لم يكن كلها كالعدة لـأبي يعلى ، والواضح لـابن عقيل على طريقة الأئمة، وإن كان بعضهم يرى أن الواضح لـابن عقيل هو على طريقة الجمع بين الطريقتين، والعلم عند الله.
إذن عرفنا هنا أن للأئمة مناهج في تأليف أصول الفقه. فالطريقة الأولى ألفوها لبيان مذهب أبي حنيفة ، والطريقة الثانية ألفوها لبيان مذهب المتكلمين.
سؤال: هل هاتان الطريقتان كانتا موجودتين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ما يلزم.
وأحياناً تقرأ للغزالي في المحصول أربع صفحات، أو خمس صفحات، أو ست صفحات، ثم يقول لك: والخلاف في هذا لفظي، لا فائدة منه، نعم هو تحريك للذهن، لكن أحياناً علماء الكلام الذين اهتموا بعلم الكلام دخلوا في أصول الفقه، وهم الذين وضعوا فيه هذه البذرة وهي بذرة علم الكلام، ولهذا تجد علماء الكلام يهتمون بالأصول كثيراً، حتى دخلوا في الأصلين الكتاب والسنة، وذكروا قواعد المحدثين؛ فأفسدوها بقواعدهم المنطقية، ومعلوم أن طريقة المتقدمين من المحدثين تختلف عن طريقة علماء الأصول.
وأنا أرى أننا بحاجة إلى مثل هذه المقدمة التي تعطي طالب العلم نوعاً من اتضاح الصورة، وعلى هذا فأنا أتمنى أن يكتب أصول الفقه بأسلوب عصري، ومن الأمثلة على هذا، وإن كانت الأمثلة بحاجة إلى تطوير أكثر هناك كتاب اسمه: أصول الفقه للدكتور: مصطفى شلبي ، وهو لم يكمله، لكن أكثر مباحث أصول الفقه مذكورة هنا، وأرى أن هذا الكتاب جيد في بابه، ذكره بأسلوب بسيط، وذكر بعض الخلافات، وأرى أنه أسلوب جيد، خاصةً أن مصطفى شلبي فاهم للقواعد الأصولية، مدرك لما يكتب.
وبعض الكتابات القديمة تجد أحياناً فيها سطراً أو سطرين أو ثلاثة من كلام الرازي ، وأحياناً لا تفهم المراد، فأنا أقول: إن هذا الكتاب جيد، وهناك كتاب آخر في أصول الفقه، وإن كان على طريقة البيضاوي، وهو أصول الفقه لـزهير أبي النور لا بأس به، جيد، وهناك كتب أخرى جيدة، لكني أرى أننا بحاجة إلى ذكر بعض الأمثلة الفقهية الكثيرة التي تعرف طالب العلم لماذا أبو حنيفة ذهب إلى هذا؟ ولماذا مالك ذهب إلى هذا؟ ولماذا أحمد ذهب إلى هذا؟ وهذا تجده -وإن كان بأسلوب صعب أحياناً- في كتاب تخريج الفروع على الأصول، فأفضل من كتب في هذا الموضوع هو الإمام الزنجاني في كتابه المذكور، وكذلك الإمام التلمساني في كتابه مفتاح الوصول إلى علم الأصول، فإنه ذكر بعضاً من هذا أيضاً، وغيرها من الكتب.
ويحسن بطالب العلم قراءة كتاب: تفسير النصوص لـمحمد أديب الصالح ، فهو كتاب جيد، وإذا أراد طالب العلم أن يقرأ أصول الفقه فهناك كتب اسمها: القواعد الأصولية، يستفيد منها طالب العلم.
من أمثلة ذلك: القواعد الأصولية لـابن اللحام الحنبلي ، وهو كتاب جيد في بابه، ويعطي طالب العلم تصوراً لماذا اختلفوا في المسائل، فتجد الإمام يقول: إن هذا العام خص ببعض أفراده، والآخر يقول: لا، لم يخص؛ لأن هذا العام كذا.
فمثلاً: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، (أيما إهاب)، هذه اللفظة عند الأصوليين تدل على العموم فإذا كان هذا على سبيل العموم؛ فإنه يشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم، ولهذا كان الإمام الزهري -وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو كذلك مذهب الشافعي - يرى أنه يطهر جلد كل ميتة بالدباغ، وبعضهم نظر إلى هذا الحديث، فرأى أن هذا اللفظ عام: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، ولكنه قال: إن هذا اللفظ العام ليس على عمومه، ولكنه عام مخصوص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أكل الميتة مطلقاً، وجوز مأكول اللحم، واستدلوا على ذلك بأمور منها:
أن الحديث قد ورد بلفظ: ( ذكاة البهيمة دباغها )، وهو حديث سلمة بن المحبق، وحديث ابن مليح عن أبيه، وإن كان فيها ضعف، وقالوا أيضاً: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر )، إنما قاله ( حينما رأى شاةً تجر لـ
ولد هذا الإمام سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة، ونشأ في بيئة علمية، فأقبل على العلم، وأكب عليه قراءةً وكتابةً وتصنيفاً، وارتحل من أجله إلى الشام والحجاز ومصر.
فانظروا كيف كانوا في كتب التراجم يهتمون بالرحلة، حتى أن الإمام العظيم أحياناً يقولون فيه: ولم يرحل في طلب العلم، مع أنه قد حصل علماً عظيماً؛ لأن الرحلة في طلب العلم فيها فوائد لطالب العلم، وهي أنه حين فتواه يكون عارفاً بأعراف كل بلد، وأنه يصلح له ما لا يصلح للآخر، فيفتي لهم على حسب ذلك.
ولهذا كان للإمام الشافعي قولان: قول في العراق، وقول في مصر وكان سبب تغير قوله حينما ذهب إلى مصر، ورود بعض الأحاديث التي لم تكن بلغته، أو لتأمله بعض النصوص التي كان يذهب إلى غيرها، أو بحسب الأعراف وسد الذرائع، وإن كان الشافعي لا يهتم بسد الذرائع كثيراً، ولهذا كانوا يهتمون بالرحلة في طلب العلم.
وهذه فائدة: وهي أن طالب العلم يحسن به إذا أحس أن عنده نضجاً عقلياً، أن يقرأ لأئمة كتباً غير الكتب التي تربى عليها، يعني إن كان تربى على كتب الحنابلة؛ فيحسن به أن يقرأ في كتب المالكية وكتب الشافعية وكتب الحنابلة، حتى يعرف أصولهم، ويعرف قواعدهم في ذلك، والخطأ أحياناً يحصل حينما نقرأ للأئمة مصطلحات تخالف المصطلحات التي تربينا عليها، وهذا يحصل كثيراً.
مثال ذلك: كلمة سنة في المصطلح الحنبلي: هي التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، أما السنة عند مالك رحمه الله: فهي أقسام: منها ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ومنها ما يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، فإذا قال: السنة في الحج، فهو يرى أنها واجب وليست ركناً، وإذا قال مالك في صلاة الجماعة سنة؛ فهو يرى أنها فرض كفاية، لكن من المؤسف أنك تجد أن بعض الناس يقول: مالك يرى أن صلاة الجماعة سنة، ثم يقول: راجع مختصر خليل مع شرحه، وأحياناً يقول: انظر لزاماً مختصر خليل مع شرحه، و مالك له مصطلح غير المصطلح الذي ذكره أحمد ، وقل مثل ذلك في مصطلحات الأحناف، ومصطلحات الشافعية.
فالكراهة عند الشافعي رحمه الله وعند مالك وعند المتقدمين كراهة تحريم، فيقرأ بعضهم في كلام أهل العلم: قال أحمد : أكرهه، فيقول: الحمد لله، أحمد يكرهه فقط، إذن: ليس بحرام؛ لأنه لو كان حراماً لقال: محرم؛ لأن الأحكام التكليفية خمسة، والأئمة كانوا لا يعرفون فرقاً بين مكروه ومحرم، بل كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم تركوه، وكل ما أمر به فعلوه، رحمهم الله رحمةً واسعة.
ومن أخطاء المصطلحات هذه: أن الإمام أحمد مرةً يقول في حديث عراك بن مالك عن عائشة : عراك بن مالك عن عائشة مرسل. والمرسل عند الأئمة المتقدمين هو المنقطع، سواء أرسله التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أرسله تابعي إلى تابعي أو تابعي إلى صحابي، وبعض المتأخرين من الفقهاء قال: وأما قول أحمد مرسل، فليس هذا بالمرسل إنما هو منقطع، وهذه مشكلة، فلا يصح أن تحاكم الأئمة بمصطلحات جاءت بعدهم، وإن كانوا يقولون أحياناً في المرسل: إنه ما سقط منه الصحابي، لكن طريقتهم تختلف عن طريقة المتأخرين، وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يكون ملماً بهذه الأمور.
ذهب المؤلف إلى بغداد فسمع من المحدثين، وتفقه على جمع من العلماء، بل إنه لشدة حرصه وانكبابه على الطلب؛ بز أقرانه، وانبرى للعلم حتى فاق أقرانه، وهكذا ينبغي لطالب العلم إذا أقبل على العلم، أن يقبل عليه بحفاوة واهتمام، وجد وانكباب حقيقي، يقول يحيى بن أبي كثير : لا يستطاع العلم براحة الجسد، وقال القائل:
إذا كان يلهيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟
فالانكباب على العلم أمر مهم، كما قيل: أقبل على العلم بكلك يعطك بعضه.
صنف هذا الإمام في الفقه، وفي الحساب، وفي الجدل، وفي الفرائض، وفي الوصايا حتى استفاد منه خلق كثير، ومما كتب في ذلك كتابه هذا: قواعد الأصول ومعاقد الفصول.
الجواب: أنا أنصح بقواطع الأدلة للسمعاني ، فقد استفاد الإمام السمعاني في هذا الكتاب من كتاب المحصول للإمام الرازي ، و الرازي وإن كان إماماً في هذا الفن، لكن يقول ابن القيم وقبله شيخ الإسلام : إن الرازي و الآمدي قليلو البضاعة في الحديث، فأحياناً لا يعتمدون على الحديث بسبب عدم معرفتهم له، أو غيابهم عنه، أما الإمام الغزالي فهو شيخ الأصوليين في زمانه وبعد زمانه، وقد مات وصحيح البخاري على صدره، وتمنى أن لو استفاد منه قبل ذلك.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وآله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوار
لكن الحديث لا بد من فهمه على قواعد أئمة الإسلام، وأما الظاهرية التي ربما تكون أشد من ظاهرية ابن حزم ، فهذه التي تنتشر أحياناً بين بعض طلاب العلم، ويخشى منها كثيراً؛ لأننا نلاحظ أحياناً بعض الأقوال تنتشر بسبب الظاهرية، وقراءة الأصول على ما ذكرنا تعصم بعد عون الله وتوفيقه طالب العلم من الزلل والشطط، وقواطع الأدلة للسمعاني أنصح بعدم قراءته في الوقت الراهن الآن للمبتدئ، وأنصحه إذا قرأ هذا الكتاب، أن يقرأ كتاباً آخر أكثر شمولية، وهو أصول الفقه لـمصطفى شلبي ، وإذا قرأ كتاب أصول الفقه لـمصطفى شلبي ، فأرى أن يقرأ كتب تخريج الفروع على الأصول، ويقرأ بداية المجتهد ليخرج بثراء فقهي لكثير من القواعد الأصولية، وأن يقرأ أيضاً كتاب القواعد الأصولية لـابن اللحام .
الجواب: علم أصول الفقه علم آلة، وأنا أقول: حسن بطالب العلم وخليق به أن يقرأ المستصفى، وأن يقرأ بعض الكتب التي فيها عبارة صعبة، لكن بعد وقت متأخر، حتى ينمي قدرته العقلية، ولذلك نرى أن الأصوليين عندهم نوع من العقلية الناضجة، لكن بسبب خفاء بعض السنن؛ يحدث عدم التوازن، فقراءة أصول الفقه خاصة المستصفى مهمة لطالب العلم، فعليه أن يقرأها، ويفك عباراتها.
فإذا لم يستطع؛ فليقرأها على شيخ يفكك عباراتها، ولا يمل؛ لأن مشكلتنا أننا نريد أن نكون أصوليين وأن نكون فقهاء في سنة أو سنتين، فهذا الجويني شيخ الغزالي يقولون عنه: كان إمام الأئمة في أصول الفقه، حتى سمي إمام الحرمين، والغزالي كان شاباً يدرس عند الجويني، فألف كتابه المنخول، كأنه نخل الأصول، خاصة في علم شيخه الجويني، فطلب من الجويني أن يطلع عليه، فقرأه الجويني فنظر فيه، ثم أعطاه الغزالي وقال: يا أبا حامد ! دفنتني وأنا حي، يعني أخذت علمي ووضعته في كتاب، وهذه إن دلت على شيء فإنما تدل على مدح الغزالي حينما استطاع أن يأخذ علم الجويني كله.
الجويني كيف حصل هذا العلم؟ يقولون: إنه كان مكباً على هذا الفن، حتى إنه حفظ التقريب لـأبي بكر الباقلاني ، و أبو بكر الباقلاني له كتاب في أصول الفقه جمع فيه أصول الفقه ومسائل في الاعتقاد، وهو مطبوع بتحقيق عبد الرحمن الزنيدي في ثلاثة مجلدات، الجويني حفظه كأنما يقرأ الفاتحة، فطالب العلم إذا أراد أن يكون بهذه المكانة؛ فلا بد أن يقرأ كتب الأصول، ويحفظ كثيراً من جملها؛ حتى تكون صياغته كصياغة أئمة الفقهاء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر