مشاهدينا الكرام من الإخوة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء من لقاءات برنامجكم الفقهي الإفتائي المباشر يستفتونك، وها نحن مشاهدينا الكرام! نحقق رغباتكم بحضور صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، وكنا قد وعدناكم بأن يكون ضيفاً في الأيام القريبة وها هو الوعد يتحقق. فباسمكم أرحب بفضيلته فأهلاً وسهلاً بكم يا شيخ!
الشيخ: حياكم الله يا شيخ عبد العزيز! وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
المقدم: دكتور! حفظك الله، حديثنا في هذه الحلقة سيكون عن الركن الثالث من أركان الإسلام، سنتحدث عن الزكاة، وعن حكمها وعمن أخرها إذا حال عليها الحول، ثم بعد ذلك نقف مع مقدار زكاة المال، أي: في المال الذي بلغ النصاب وحال عليه الحول.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى فرض على أمة محمد زكاة يخرجون بها شيئاً من أموالهم؛ طهرة لهم من الخبث، كما قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ومن المعلوم أن زكاة المال طهرة للإنسان لقلبه وماله، فإن الإمام أحمد رحمه الله سئل: ما زكاة القلب؟ قال: أطب مطعمك. ومن إطابة المطعم أن الإنسان يخرج زكاته، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة.
وقد قال الله تعالى في كثير من الآيات: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، وبين سبحانه وتعالى فضل الذين ينفقون، ولا شك أن إنفاق الفرض أعظم من إنفاق النفل، وإنفاق الفرض هي الزكاة، وقد قال الله تعالى كما في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( قال الله تعالى: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، فهذا يدل على أن الإنسان إذا تقرب إلى الله بالزكاة، فإن ذلك أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه كما في الصحيحين: والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ( ثم ينظر سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) دليل على أنه ليس بكافر ولو كان كافراً لكان قد ختم عليه بالنار، فإن الله سبحانه وتعالى حرم على الجنة أن يدخلها إلا أهل الإسلام كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فدل ذلك على أن من شاء الله سبحانه وتعالى أن يعذبه فيعذبه ولكن مآله إلى الجنة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة.
إذا ثبت هذا وجاز أن يؤخرها فلا يجوز أن يؤخرها إلا لمصلحة، وهذه المصلحة كما نقول: مصلحة للمال أو مصلحة للفقير.
ومعنى مصلحة للمال مثلاً: لو أن عندي أرضاً ولم أستطع بيعها أو لم أرد بيعها فلا حرج علي أن أؤخرها إلى أن أبيعها ثم أؤدي زكاة ما مضى من السنين؛ لأن هذه مصلحة للمال؛ فإن تأخيرها منفعة للفقير ومنفعة للغني.
ولهذا قال أبو العباس بن تيمية : إن الصواب أن الزكاة مواساة، فليس فيها حق للفقير مطلقاً؛ بل هي مواساة وهي حق للفقير ولا يتضرر بها الغني، ومن المؤسف أن يظن كثير من الفقراء أن الزكاة حق لهم على الإطلاق بحيث إنهم ربما تقاعسوا عن العمل، وليست الزكاة -كما يقال- سبيلاً لأن يترك الناس العمل ويتسولوا ويستدروا عطف الأغنياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام ومن حديث عبد الله بن عمر أن: ( اليد العليا خير من اليد السفلى ).
ينبغي على الإنسان أن يترفع، وأن لا يتطلب هذه الزكاة إلا إذا كان محتاجاً؛ إما لأنه غير قادر على العمل، أو لأنه عاجز ومحتاج؛ لأن الناس ربما طالبوه بدين قد ثبت في ذمته وهو حال؛ ولهذا جاء عند أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتياه يسألانه عن الصدقة قال الراوي: فصعد النظر فيهما وصوبه ثم رآهما جلدين -يعني: قويين- فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب )، فهذا يدل على أننا حينما نوجب على الأغنياء أن يخرجوا الزكاة للفقراء فليس معنى ذلك أن يبقى الفقير في بيته وينتظر رمضان أو ينتظر شهر ذي الحجة حتى يمد يده إلى الغني أو يستدر عطفه، فهذا ليس المطلوب، بل المطلوب الذي جعله الشارع أن الإنسان يعمل، وأن الإنسان يكد ويكدح.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الذي يأكل من عمله فقال: ( أفضل ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم )، كما جاء ذلك عند أبي يعلى وعند أهل السنن، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يحتطب فيبيعه ثم يتصدق به على نفسه وعلى ولده خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه ).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن سؤال الخلق في الأصل ممنوع؛ ولهذا قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: السؤال للمخلوق في الأصل أنه ممنوع، ولا يجوز إلا للحاجة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال المسألة في أحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ).
ولا ينبغي للإنسان أن يتعنت أو يتشدد في ذلك، وقد كانت له مندوحة عند أهل العلم كما نقل عن عبد الله بن عمر أنه أجزأ في ذلك.
أعرف أحد كبار التجار، من المليارديرات، وقد طلب مني أن أحدث بهذه القصة، يقول: طلب مني بعض أهل الحي أن أبني لهم مسجداً، فاتصلت على مدير مكتبي فقلت: اذهب معهم وأحضر الحديد وأغراض ومواد البناء، فأخرجت لهم أربعة ملايين ريال لبناء هذا المسجد، فأحببت أن أعجل في ذلك، يقول: فبمجرد أن خرجوا من مكتبي وإذا رجل عنده أرض، طلب مني أن أشتريها، فقلت له: كم تريد؟ قال: فكان محتاجاً إلى هذا المال فاشتريتها عاجلاً، يقول: وأنا في المكتب وبعد يوم اتصل علي أحد أقربائي من كبار التجار فقال: هل عندك شيء؟ فقلت عندي أرض فأخبرته بها، فقال: أريد أن أشتريها بكذا، فذكر لي ضعف ما اشتريته بها فأبيت، وبعد يومين اتصل علي فأبيت، وبعد أسبوع اتصل علي، ثم بعتها بربح أكثر من سبعمائة بالمائة! وهذا أمر غريب يدل على بركة مال الإنسان إذا زكى ماله بطيب من نفسه، وكان بذلك صادقاً.
ولا ينبغي للإنسان أن ينتظر العوض حينما يؤدي الزكاة، فإن الله سبحانه وتعالى قد أعطاك هذا المال، وحينما أعطاك المال طلب منك شيئاً بسيطاً وهو ربع العشر، ويقدر باثنين ونصف، وهذا شيء يسير قليل في جانب ما منَّ الله سبحانه وتعالى عليك من كثرة المال، والإنسان هلوع، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:21]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يهرم ابن آدم وتشب فيه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر )، فالإنسان مهما بلغ يقول: أتمنى أن يكون عندي مليون، فإذا حصل على المليون، قال: المليون ما تصنع شيئاً، أتمنى أن يكون عندي عشرة ملايين، فإذا حصل على العشرة، قال: أتمنى أن يكون عندي عشرون مليوناً، والإنسان ما زال يلهث في هذا المسألة، فينبغي أن يكون سعيداً وأن يكون قنوعاً، فالسعادة الحقيقية ليست بكثرة المال ولا بقلته، السعادة أن تعيش لحظتك الواقعية فتتلذذ بها التلذذ المطلوب شرعاً, والله أعلم.
الجواب: جاء عند أبي عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال وكذلك في حديث عبد الرزاق أن عثمان رضي الله عنه خطب الصحابة فقال: هذا شهر زكاتكم. يعني رمضان، فذهب بعض أهل العلم إلى استحباب أن يخرج الإنسان زكاته في رمضان، وهذا ليس فيه دلالة على ذلك؛ والأفضل إخراج الزكاة إذا حال عليها الحول في أي شهر كان؛ فلو فرضنا أن الزكاة تحل في جماد الأول أو جماد الثاني فتأخيرها إلى رمضان غير مشروع، إلا إذا كان يريد أن يؤخر بعض الشيء وبعضه يعمل، فإذا كان الإنسان لا يعلم فلا حرج أن يجعل زكاته في رمضان لكن ليس في ذلك أفضلية، وبعضهم يجعلها في العشر الأواخر من رمضان، كل هذا ليس فيه دليل على الأفضلية، بل الأفضل أن الإنسان يعجل لإبراء ذمته، وقد قال الله تعالى على لسان موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، فكلما عجل الإنسان الخير إلى الله سبحانه وتعالى، كان أفضل، كما قال الشاعر:
ركضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
فهذا يدل على أن الإنسان كلما تقرب إلى الله بأفضل وأسرع فإنه أفضل من أن يؤخرها إلى يوم ربما لا يدركه فيموت، وربما أهله لم يعلموا هل زكى أو لا، لكن إذا جعل هناك يوماً بحيث يعجل بعض السنوات ويؤخر بعضها ليوم يستطيع أن يحدد مثل رمضان فلا حرج في ذلك، والله أعلم.
الجواب: نحن نبين للإخوة أن الأفضل للإنسان أن يغير الشيب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )، فالمستحب أن الإنسان يخالف اليهود والنصارى ويغير الشيب أياً كان تغيير الشيب.
والأفضل في تغيير الشيب كما بين النبي صلى الله عليه وسلم عند الإمام أحمد وأهل السنن: ( إن أفضل ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم )، فإذا وجد حناء وكتم وخلطه ثم صبغ به لحيته أو شعره فإن ذلك أفضل، فإذا لم يكن فبأي صبغة من الصبغات المعروفة بحيث لا تكون من السواد. أما السواد فإن الذي يظهر لي والله تبارك وتعالى أعلم أنه ليس بمحرم وقد فعله الصحابة، فعله سعد بن أبي وقاص وفعله الحسن بن علي ، وروي عن أبي بكر كما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: فرأيت أبا بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته قد حناها أو قال: قد خلا بعد الكتم، ومن المعلوم أن الكتم يميل إلى السواد بشدة، ومما يدل على ذلك الحديث الوارد فيه: ( غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد )، وهذا الحديث رواه مسلم وقد اختلف الرواة في هذا الأمر؛ ولهذا ذهب الدارقطني وغيره إلى أن كلمة (وجنبوه السواد) تفرد بها رجل من أهل الحديث يقال: هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي أبو الزبير ، فروى عنه به زهير بن معاوية فقال لـأبي الزبير : هل قال ذلك رسول الله؟ فقال: لا، فدل ذلك على أن هذه مدرجة فليست بمرفوعة، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك مكروه؛ لأن في ذلك مشابهة بمن يأتي في آخر الزمان، كما جاء عند الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصر الطير لا يجدون رائحة الجنة )، فهذا دليل على الذم، ولكن الذم لا يدل على التحريم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين : ( سوف يأتي في آخر الزمان قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن )، فهل كل سمين مذموم؟ فهذا ليس بصحيح.
ولهذا نقول: الذي يظهر أن ذلك مكروه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وإن كان هناك بني قاتم فهو أفضل، ولكن ابتداء تغيير الشيب مستحب، والله أعلم.
الجواب: على كل حال إذا ذهب الإنسان يوم العيد مساءً ثم خرج من منى وكان الواجب عليه أن يبيت في منى -لمن كان عنده مبيت ومكان- فإنه إذا خرج وشق عليه الرجوع لمشقة زحام الطواف أو زحام الرجوع فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن هذا خارج عن إرادته، والقاعدة في هذا: أن الواجب يسقط مع العجز وعدم الإمكان، وهذا عاجز وليس سبب التأخير من نفسه، والله أعلم.
الجواب: أولاً: هذه المسألة ليست جديدة يا أخي زهير ! وليست حادثة، بل هذه معروفة عند الفقهاء رحمهم الله، وذكرها أكثر من واحد من أهل العلم.
العلماء رحمهم الله يقولون: ينبغي للإنسان ألا يسأل إلا من يثق بعلمه، ونحن نقول: الوثوق بعلمه يكون بأمور: إما أن يعرف هذا العالم، وإما أن يعرف أنه صاحب مرتبة عليا مثل أن يكون دكتوراً أو نحوه في تخصص معين، وإما أن يهيئ له ولي أمر المسلمين مكاناً للفتوى كمثل هذه البرامج، فربما سمع الإنسان برنامج يستفتونك، أو أحد البرامج الموجودة والمعروضة في القنوات الفضائية التي تعتمد على علماء ثقات، فوثق من هذه القناة، فوجد هذا العالم فسأله فلا حرج في ذلك؛ لأن ولي أمر المسلمين منوط به حفظ الدين، ومن حفظ الدين النظر إلى أهل الفتوى هل هم أهل لذلك أم لا.
فإذا وجد برنامجاً محوطاً أهله باختيار طلبة العلم والعلماء الثقات الأثبات الذين يعتمدون على الكتاب والسنة فهذا لا بأس به.
فإذا اختلف على المستفتي الفتوى فنحن نقول: انظر إلى من تعتقد أنه أقرب إلى العلم وأقرب إلى التقوى، فإن قال: كلهم عندي في العلم سواء وفي التقوى سواء، فقد اختلف أهل الأصول في هذه الحال على أقوال: القول الأول: أن للإنسان أن يختار الأشد، فإذا قال أحدهما: مباح، وقال الآخر: حرام؛ لأن الله يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، كما نقل ذلك الغزالي .
القول الثاني: ومن العلماء من قال: نختار في ذلك الأحوط فربما كان الأحوط الفعل، ولا يلزم بالضرورة حرمةً أو وجوباً، ومن المعلوم أن هذا القول ليس بقوي؛ لأن الاحتياط ليس بدليل.
القول الثالث: وهو الذي يظهر -والله أعلم- أن الإنسان إذا اختلف في حق عالمين من العلم والتقوى بمكان فإنه يختار الأيسر له دون قصد التشهي، بمعنى أنه لا يقول: من الذي قال بالإباحة ثم يأخذه، بل يقول: أنا الآن اختلف عندي هذان العالمان، فأنا أختار أيسرهما لي، فحينئذ لا حرج في ذلك.
وهذا له مستند شرعي فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً )، فإذا وقع في نفس الإنسان أن الأمر الذي اختاره لنفسه حرام، فنقول: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث النواس : ( الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس )، هذا من باب الورع، ليس من باب الوجوب والله أعلم. ولذلك أحياناً أنا أقول في مسألة بالحرمة، ثم بعد زمن يتبين لي أن الذي استدللت به حديث ضعيف، فأقول بالجواز ويشق علي ترك العمل به مع أني أقول: إنه جائز، فكون الإنسان يشق عليه ذلك لا يلزم أن يكون (الإثم ما حاك في نفسك)، فليس هذا على سبيل الاطراد، ولكن هذا على سبيل أن الإنسان لا يعلم الحكم الشرعي فيقع في ذهنه أو في قلبه أو خلده أن ذلك محرم، فالأولى به أن يدعه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس )، والله أعلم.
وتجد أحياناً بعض الناس يأتي ويسأل أحد المشايخ وهو يريد إجابةً توافق هواه، فإذا لم توافق هواه ذهب إلى عالم آخر، فهذا التنقل إن كان سيذهب إلى عالم مثل الذي سأله ويثق فيه فلا حرج، أما أنه يذهب إلى من قيل: إنه عالم. أو من قال: إنه جائز، أو ربما سمع، قال: سمعت في الراديو. فهذا ليس مبرراً له بأن يأخذ بالجواز؛ لأن هذا نوع من التشهي؛ ولهذا قال غير واحد من أهل العلم كما نقل ذلك أبو عمر بن عبد البر: من جعل دينه سبباً لأقوال الرجال فقد تزندق.
والمقصود من هذه الكلمة التي تتداول يوماً بعد يوم من تتبع رخص العلماء فقد تزندق، هذه الكلمة ليس المقصود بها رخص العلماء التي ليس فيها دليل شرعي فإن الإنسان ربما يأخذ بالرخصة، وليس في المسألة دليل منصوص عليه مقطوع به ليس فيها إجماع، وليس فيها دليل ظاهر من حيث الثبوت وظاهر من حيث المعنى، فإذا كان كذلك فلا يقال: من تتبع رخص العلماء فقد تزندق.
المقصود برخص العلماء: أن العالم يزل فيفتي بخلاف ما بلغه العلم الشرعي، وعامة أهل العلم على هذه المسألة، فيأتي شخص فيأخذ بقول العالم الذي أخطأ ولم يبلغه العلم، فاللوم ليس على العالم؛ لأن العالم قد أفتى بما بلغه، لكن اللوم على من يأتي بعده وهو يعلم أن هذا العالم قد أخطأ، فيقال: من تتبع رخص العلماء، أما إذا كان قد أخذ برخصة العالم ورأى أن رخصة العالم جاءت من فقيه وليس في المسألة ما يعارضها لا إجماع ولا شرع منصوص عليه فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
ومن المعلوم أن الشرع ثلاثة كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية :
الأول: شرع منصوص عليه، وهو ما أجمع عليه أهل الإسلام أو ما جاء فيه نص صريح ظاهر المعنى، ظاهر الدلالة، وهذا لا ينبغي ولا يجوز أن يكون فيه الخلاف، وما وجد فيه خلاف فإنه يطرح -يعني: يترك- هذا هو الأمر الأول.
الثاني: شرع مؤول، بمعنى أن كل عالم يأتي بدليل يؤيد قوله؛ إما دليل من الكتاب ليس ظاهراً أو دليل آخر من السنة ليس بظاهر، فهذا يسميه العلماء شرعاً مؤولاً، فيجوز لكل واحد من العلماء أن يأخذ بقول الآخر إذا كان يرى الدليل يعتضد؛ ولهذا قال عمر بن عبد العزيز العبد الصالح رضي الله عنه ورحمه: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا؛ لأنهم إذا اتفقوا رأيت أن مخالفهم قد زاغ، ولكنهم إذا اختلفوا رأيت أن مخالفهم له مندوحة، أو كما قال رضي الله عنه ورحمه، نسأل الله التوفيق والتسديد في القول والعمل.
الجواب: هذا سؤال جيد ومنه تتفرع عدة مسائل:
المسألة الأولى: طواف الوداع على من؟ الصواب أن طواف الوداع إنما هو في حق غير حاضري المسجد الحرام، وحاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة والمجاورون لها سواء كانوا من الحرم أو الأحياء المجاورة لها.
ومن المعلوم أن أهل جدة -على الذي يظهر لي والله أعلم- أنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام، ولكن حاضري المسجد الحرام هم أهل الحرم أو المباني أو القرى أو الأحياء المجاورة للحرم مثل: الشرائع أو شميسي المتصلة بالمباني لأهل مكة فإن هؤلاء من حاضري المسجد الحرام، وهؤلاء ليس عليهم طواف وداع.
أما أهل جدة فعليهم طواف وداع، إذا ثبت أن أهل جدة عليهم طواف وداع فإن الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه لا ينبغي للإنسان أن يخرج إذا لم يبق عليه إلا طواف الوداع إلا أن يطوف طواف الوداع، فإذا بقي عليه نسك غير طواف الوداع مثل: أن يكون قد بقي عليه طواف إفاضة وطواف وداع فلا حرج أن يذهب إلى جدة؛ لأنه بقي عليه نسك غير طواف الوداع، فأما إذا لم يبق عليه إلا طواف الوداع وقد طاف طواف الإفاضة في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث فإنه لا ينبغي له أن يخرج إلا أن يطوف طواف الوداع، فإن خرج نظرت فإن كان قد خرج ومعه مع طواف الوداع طواف إفاضة فإن ذلك لا بأس به، وإن لم يبق معه إلا طواف الوداع فقط فإنه أساء إساءة شديدة.
المسألة الثانية: إذا خرج ولم يبق له إلا طواف الوداع: هل يلزمه دم بمجرد الخروج اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يلزمه دم، خلافاً لـمالك فإن مالكاً لا يرى طواف الوداع واجباً، والجمهور يرون أنه واجب، ولكن ذهب الحنابلة والشافعية إلى أنه إذا خرج فإنه يلزمه دم، وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن رجع فطاف فلا يلزمه شيء، وهذا هو الراجح والله أعلم، فإذا طافت ورجعت فلا يلزمها شيء، وهو قول أبي حنيفة خلافاً للحنابلة والشافعية.
الجواب: لا ينبغي للإنسان أن يغلظ اليمين، وتغليظ اليمين مثل: أن يأخذ المصحف ويقول: أقسم بالله العظيم ويأخذ المصحف بيده فإن هذا الفعل لا ينبغي، وأول من فعله الحجاج بن يوسف حينما أمر الناس أن يفعلوا بذلك، فلا ينبغي تغليظ اليمين إلا لما دعت إليه الحاجة عند القضاء وغير ذلك، وأما في مثل ما سمعت فلا ينبغي، فيكفيه أن يحلف، ولا ينبغي للإنسان أن يحلف؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224].
فإذا حلف الإنسان بهذا الأمر فمن المعلوم أن حلفه بالقرآن أشد من غيره، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك إلا إذا كان في ذلك مصلحة، فإذا كان في ذلك مصلحة شرعية وهو أن يفعل خلاف ما حلف عليه فإنه يجب عليه وينبغي له أن يفعل ما حلف عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة :( لأن يلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة التي أمر الله ), بمعنى أن الإنسان يقول: والله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا إله إلا هو! ألا أزور عبد العزيز, فهذا الحلف لا يجوز؛ لأن فيه قطيعة رحم, فينبغي للإنسان أن يكفر عن يمينه وأن يزور أخاه عبد العزيز.
لكن بعضهم يقول: أنا حلفت يميناً ولن أكفر, نقول: ( لأن يلج أحدكم في يمينه ), يعني: يبقى في يمينه, ( آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة التي أمر الله ), فإذا كان أخوك يا زهراء ! حلف ألا يقود السيارة حتى يخدم أهله, ثم حلف ألا يخدم أهله, فنحن نقول له ينبغي لك أن تكفر عن يمينك.
وكفارة اليمين ليست هي الصيام كما يظن كثير من الناس، وهذا خطأ شائع, فلو صام الإنسان وهو قادر على أن يطعم عشرة مساكين فإن صيامه لا يجزئه, والله رتبها فقال: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89], وإطعام عشرة مساكين لا بد فيه من العدد عشرة, فلو أعطى مقدار العشرة لواحد لم يجزئ؛ لأن للشارع مقصوداً في إعطاء العشرة, فلابد من إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.
ولا بأس أن يطعمهم في أوقات متفرقة, أو يجعل طعاماً مقدار عشرة، فيجلس عليه عشرة يأكلون, أو يعطي كل واحد طعاماً لوحده, أو يعطيه لحماً وثريداً ومشروباً فإن ذلك من أوسط ما تطعمون أهليكم، مثل ما يسمى عندنا الشاورما, فإن ذلك من أوسط ما تطعمون أهليكم، وهذا من الأكل, وقد استشكل بعض طلبة العلم هذا الأمر, ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم في عرسه على إحدى نسائه بمثل هذا الأمر, فقال: ( يا
فإن قال قائل: متى ينتقل إلى الصيام؟
فالجواب: إذا عجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فهو مخير بين الثلاثة, فإذا عجز عن هذه الثلاثة قلنا له: انتقل إلى صيام ثلاثة أيام ليس على سبيل التوالي, وإن كان الأفضل التوالي، ولكن إذا صمتها متفرقة فلا حرج عليك في ذلك.
وعلى هذا فينبغي لك يا أخا الزهراء! أن تطعم عشرة مساكين فإن لم تستطع فكسوتهم, يعني: تشتري لهم ثياباً، فإن لم تستطع فتحرير رقبة, ومن المعلوم أن تحرير الرقبة غير موجود الآن, فعلى هذا فأطعم عشرة مساكين, فإذا كان الإنسان لا يجد مقدار ستين ريالاً سعودياً أو بمقدار ما يطعم عشرة فإنه حينئذ ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام، والله أعلم.
الجواب: سؤال جيد, أولاً نحن نقول للناس: من أراد أن يعفو الله عنه, وأن يعفو عن زلاته, وأن يتسامح له عن خطيئاته فليعف عن الخلق؛ ولهذا فإن عفوه عن الخلق دليل على عفو الله عنه بلا شك؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22], فهذا دليل على أن الله يعفو عنه, وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان فيمن كان قبلكم رجل يبايع الناس فينظر المعسر, أو يتجاوز عنه, فجاء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فقال: تجاوزوا عنه )؛ لأنه كان ينظر الناس المعسرين أو يتجاوز عنهم, فهذا دليل على أن تخفيف الناس فيما بينهم وبين إخوانهم والتسامح معهم دليل على العفوية وهذا أفضل؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43], فإذا لم يفعل فيجوز أن يعاقب غيره؛ ولهذا قال الله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
والأفضل للإنسان أن يدافع بالحسنى كما قال الله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96], فإذا تكلم عليك إنسان وآذاك بلسانه فينبغي لك أن تتحمل وأن تزوره وأن تحلم عنه, كما جاء ذلك في صحيح مسلم : ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني, وأحلم عنهم ويجهلون علي, قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت كما قلت فإنه لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك، وكأنما تسفهم المل ), وهذا دليل على أن الإنسان إذا حلم وتصافح وتسامح مع أقربائه فإنه يكون معه من الله ظهير.
ومن أحب أن يكون الله سبحانه وتعالى معه بمدده وكلاءته ورعايته سبحانه وتعالى فليتسامح وليعف عن الخلق, وقد لا يستطيع؛ لأنه أمر شديد فيحتاج إلى دربة ويحتاج إلى ممارسة والله يقول: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34], يعني: كأنه صديق ودود, وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].
والقلب له عضلة تحتاج إلى مران, فكما أن عضلة العضد تحتاج إلى مران حتى أستطيع أن أحمل الشيء الثقيل فكذلك عضلة القلب تحتاج إلى مران حتى أستطيع أن أتحمل الخطأ العظيم من الآخرين, وكلما كان الإنسان هشاً بشوشاً كان أعظم لأجره, فإن لم يستطع جاز له أن يدعو؛ ولهذا قال نوح عليه السلام: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10], فللإنسان إذا أحس بظلم من الآخرين أن يقول: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]؛ ولهذا كانت دعوة المظلوم مستجابة, فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : ( واتق دعوة المظلوم ), وجاء عند الطبراني : ( ولو كان كافراً ), فالكافر المظلوم إذا ظلمه الرجل -ولو كان مسلماً- فإن الله يستجيب دعوة الكافر المظلوم على المسلم الظالم؛ لأن الله حرم الظلم على نفسه, وقال: ( يا عبادي! ), وهذا خطاب للكفار والمسلمين ( إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا )؛ فلهذا جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الذين جاءوا من الحبشة: ما رأيتم عجباً؟ قالوا: يا رسول الله! رأينا امرأة تحمل ماء على رأسها, فجاء شاب أو فتى فدفعها فسقطت, فقالت: سوف تعلم يا غدر! إذا قضى الله بين العباد فيأخذ حقي منك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت صدقت، لا قدست أمة لا يعطى الضعيف حقه غير متعتع ).
وهذه دلالة أكيدة ومسألة عظيمة تحتاج منا إلى وقفة وإلى تأنٍ ألا نظلم الآخرين, فلا نغتابهم ولا ننمهم, ولا نأكل أموالهم، فاليوم مهلة ولا حساب, وغداً حساب ولا مهلة, والله سبحانه وتعالى يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42], فلا يظن الإنسان أن الله سبحانه وتعالى غير مطلع عليهم؛ بل مطلع على الظالم, يعلم ما يفعله, وإن الله ليمهل للظالم، فإذا أخذه يأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ ولهذا جاء: ( إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ), يعني: لم يستطع أن يتفلت, وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44], والله أعلم.
وهناك تساؤل في قول: حسبي الله ونعم الوكيل, فأحياناً قد تواجه ظلماً من شخص مثلاً, أو معاملة سيئة فيقول: هذا يدعو علي, فهل هذا تعد ودعاء؟
فهذا ليس دعاء عليك, ولكن حسبي الله أي: يكفيني الله سبحانه وتعالى من أذاك, فكفاية الله سبحانه وتعالى من أذى المخلوق إما أن الله سبحانه وتعالى يصرفه فلا يؤذيه, وإما أن يتوب هذا الفاعل, فكوني إذا ظلمني شخص قلت: حسبي الله ونعم الوكيل فإن ذلك أفضل لي.
وبعض العامة تتضجر من قول: حسبي الله ونعم الوكيل, فإن الله كافيني, ومن يكفيني إذا لم يكفني الله؟ أنا أتعجب عندما يظن بعض الناس حينما يقول: حسبي الله ولا يجد اطمئناناً أن الله سبحانه وتعالى كافيه وناصره ومؤيده.
لو أني أريد أن أمشي الآن وقلت لي: سأعطيك أناساً يحرسونك, أحدهم عن يمينك والآخر عن شمالك وأحدهم من أمامك وأحدهم من خلفك, هؤلاء الذين يعرفون بالأقوياء من الكمندوز وغيرهم, تجد أنك إذا مشيت تحس باطمئنان وراحة، وربما اشرأبت عنقك إلى الآخرين وتنتظر أحداً يستطيع أن يقترب منك؛ لأنك ترى أن هؤلاء يحمونك, وهؤلاء مهازيل ضعاف, والله سبحانه وتعالى بين لك -أيها المظلوم!- أنك إذا قلت دعاء فإن الله سبحانه وتعالى يحرسك, فإذا قلت ثلاث مرات, إذا أصبحت وإذا أمسيت: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ), وهو عند مسلم من غير تكرار, وقد جاء عند أبي عوانة بتكرار وإن كان بعضهم ضعفه فلا حرج فيه؛ لأن هذا من باب الأذكار.
فإذا قال الإنسان ثلاث مرات فلا يضره شيء, فهذا من الضرر وإن آذاه، لكن هذه الأذية لن تضره, كذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في اليوم كان كمن رفع له مائة درجة, وحط عنه مائة سيئة, ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجلاً قال مثل قوله أو زاد, وكان حرزاً له من الشيطان يومه ذلك ), الشيطان أي: شياطين الإنس وشياطين الجن، والله أعلم.
الجواب: كيفية المسح على الجوارب جاء ذلك عند أبي داود من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ( كنت أرى أن مسح أسفل الخف أولى من أعلاه حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف ), ولم تأت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة المسح؛ ولهذا لا بأس للإنسان أن يبلل يديه ثم يضع أصابع يديه من أول القدم ثم يخط إلى أعلاه، فسواء كان أول اليد اليسرى أو بهما جميعاً كل ذلك جائز, فليس فيه دليل، والله أعلم.
الجواب: الصلاة في المسجد واجبة كما هو رواية عند الإمام أحمد واختاره أبو العباس بن تيمية و ابن القيم كقول ابن مسعود رضي الله عنه كما عند مسلم في صحيحه: ( ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض, وإن كان الرجل ليهادى بين الرجلين حتى يقام وسط الصف، وإن رسول الله علمنا سنن الهدى, وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه, ولو تخلفتم كما يتخلف هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم, ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ... ), ثم ذكر الحديث بكامله, وهذا يدل على أن ترك الصلاة في المسجد لا يجوز إلا لعذر شرعي أو لمصلحة, ومعنى المصلحة الشرعية مثل أن يكون الإنسان مشغولاً في ماله وسيضره تركه, أو مشغولاً في رفقة يريد أن يسافر, أو مريضاً, أو وجد جماعة أخرى، وغير ذلك من الأعذار التي ذكرها العلماء رحمهم الله.
وأما الصلاة جماعة ( فإنها تفضل عن صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ), وفي رواية: ( بخمس وعشرين درجة ) وهذا دليل على أن هذه الأفضلية لوجود الجماعة, سواء وجدت الجماعة في المسجد أو في غيره, وأما في المسجد فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين من حديث زيد بن ثابت : ( وإن صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة ), فدل ذلك على أن الصلاة المكتوبة أفضل من الصلاة في البيت، والله أعلم.
الجواب: الخمر نجاسته معنوية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، والرجس لا يلزم منه النجاسة، فالرجس خبيث.
أما مسألة هل هو نجس؟ فقد ذهب الأئمة الأربعة إلى أنه نجس، وذهب أيوب السختياني ونقل عن الأوزاعي واختيار شيخنا محمد بن عثيمين أن الخمر ليس بنجس؛ لأن النجاسة شيء، والحرمة شيء آخر، فليس كل محرم نجس، وهذا هو الذي يظهر، والله أعلم.
ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءت الآية في الخمر قال: فجعل الصحابة يريقونها في زقاق المدينة، ولو كان هذا نجساً لما أراقوه في زقاق المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال: ( اتقوا اللعانين قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذي تخلى في طريق الناس أو في ظلهم )، فلو كان هذا نجساً لما أريقت في زقاق المدينة، هذا الذي يظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فالسيجارة ليست بنجسة، وكذلك الخمر، فلو مسكها الإنسان فإنه لا يلزمه أن يغسل يديه، لكن ينبغي للإنسان أن يكون طيباً، ولا يظهر منه إلا رائحة الطيب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ... ).
الجواب: الذي يظهر -والله أعلم- أن العلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال, أصحها: أن الصلاة في المكان الذي فيه صور ينظر في المقصود بالصور؟ إن كانت صوراً مهانة مثل الموجودة في الفرش أو الموجودة في الجرائد فإن شاء الله هذه الصلاة صحيحة؛ لأن هذه صور مهانة لا علاقة لها ولا حرمة, وإن كان الأولى هذا على سبيل الاستحباب ألا يصلي فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اذهبوا بهذه الأنبجانية وائتوني بأنبجانية
وأما إذا كانت مرفوعة معظمة مقدرة, إما أن تكون تماثيلاً أو صوراً معظمة وهذه الصحيح كما قلت هو اختيار أبي العباس بن تيمية أن الصلاة صحيحة مع الإثم، والله أعلم.
الجواب: ينبغي أن يكتبوا بينهم كتاباً على أن هذا التسديد المقدم نوع من رأس المال فيما بين الشركة, ويعرف أصحاب هذه الأموال, يعني: هذا من الشركة فإذا كتبوا أن هذا القرض الذي سوف يأخذه الشخص إنما هو بذمة الشركة, فلا حرج في ذلك، فهذا يسميه العلماء شركة محاصة, لكن الذي ينبغي أن يعرف رأس مال كل واحد منهما, فالصحيح أن الشركة تصح بشروط:
أولاً: معرفة رأس كل واحد من الشركاء.
الثاني: ألا يكون في المعاملة ربا أو جهالة أو غرر فاحش.
الثالث: أن يكون الربح بينهما متساوياً بالعدل والقسط الذي أمر الله سبحانه وتعالى به, وهو أن يكون الربح مشاعاً بينهم بالسوية, أو بما يتفقان عليه، وبهذه الشروط تكون الشركة جائزة، والله أعلم.
الجواب: مذهب الأئمة الأربعة على أن من أفطر ظاناً دخول الليل, مثل من أفطر في نهار رمضان يظن أن الليل قد دخل, أو النهار قد خرج فإنهم يأمرونه بالإعادة وبعض الفقهاء كما هو رواية عند الإمام أحمد وهو اختيار أبي العباس بن تيمية أنه لا يلزمه القضاء, وأما كونه قضاء فهو أحوط؛ لقول عمر رضي الله عنه: إن لم نتجانف لإثم نقضي يوماً مكانه, فإذا قضى يوماً مكانه من باب الاحتياط فهو أفضل.
ومن أفطر بسببه ليس عليه شيء, كما جاء في البخاري من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: ( أفطرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس ) ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء آخر غير القضاء, أو ليس فيه دلالة على القضاء وهذا أفضل, ولهذا قيل لـهشام : (هل أمروا بالقضاء؟ قال: لا أدري أمروا بالقضاء أم لا), فدل ذلك على أنهم إن قضوا فهو أحوط وأفضل, وإن لم يقضوا فلا حرج عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286], قال: قد فعلت، والله أعلم.
المقدم: أحسن الله إليكم! في نهاية هذه الإجابة الموفقة المسددة تنتهي هذه الحلقة, فأجزل الله الشكر وأوفاه بعد شكر الله سبحانه وتعالى لصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي, أستاذ الفقه المشارك في المعهد العالي للقضاء, شكر الله لكم.
الشيخ: حياك الله أخي العزيز, وحيا الله مشاهدينا.
المقدم: وشكراً لكم أنتم على طيب المتابعة, أستودعكم الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر