إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد.
وبعد:
أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ ليكون خاتم النبيين، فبعثه بشريعة غراء؛ ليقيم ويبعث أمة، وهذا المنهج وهذه الأمة هي خير الأمم كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهذه الخيرية ليست خيرية عرقية، ولا عنصرية، ولا جغرافية، وإنما هي خيرية مستمدة من تطبيقها لشريعة رب العالمين، ومتابعتها لسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
فقد جاء عند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخضع له وأحب إليه من قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولذا اختاره لرسالته، وقد اختاره الله سبحانه لأنه كان متحملاً -بأبي هو وأمي- أذى الخلق، فكان في دعوته صابراً حكيماً، وفي توجيهاته سديداً، يحب أن يقدم لهذه البشرية الدعوة غضة طرية لا عوج فيها ولا أمتاً.
وقد روى البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي إلى
وهذا الحنان، والعطف من الحبيب عليه الصلاة والسلام هو سبب حديثنا الليلة.
فقد روى البخاري و مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، و
فقد روى ابن هشام في سيرته، أنه دخل عليه الصلاة والسلام ذات ليلة على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ( فلما رأته مسروراً جذلاناً قالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة؟ قال: يا
ويطيب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي لأنه الرحمة المهداة، والنعمة المبتغاة، عرف رحمته حتى الجمادات والحيوانات فأحبوه، ورغبوا في القرب منه، وبكوا من الابتعاد عنه؛ لأنه سار في الخلق بالعدل والرحمة مبتغٍ رضا الرحيم الرحمن.
فقد روى أبو داود و النسائي وغيرهما من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً للأنصار، فإذا جمل، فلما رأى الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه -وفي رواية: فجرجر وذرفت عيناه- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً حتى وضع رأسه على جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يمسح رأسه بجسد الحبيب عليه الصلاة والسلام، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم دموعه فسكت، كأنه يصغي إلى شكواه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فقام فتى من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه )، يعني: تتعبه.
وليس هذا مقتصراً على الحيوانات، بل لقد وصل إلى الجمادات، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يقوم إلى جذع في سارية المسجد فيتكئ عليه ويمسكه ويخطب الناس، فقال لامرأة من الأنصار: انظري غلامك النجار يصنع لي أعواداً أكلم الناس عليها. فصنع هذه الثلاث الدرجات، فلما علا عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت )، وفي رواية: ( فصاحت النخلة كصياح الصبي )، وفي رواية عند النسائي : ( فاضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج )، والخلوج: التي انتزع منها ولدها، وفي رواية: ( فخار الجذع كما يخور الثور، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه، وهدهده كما يهدهد أحدكم صبيه. قال: فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إني لو لم أصنع به هكذا لحن إلى يوم القيامة )، وكان الحسن البصري إذا روى هذا الحديث جثا على ركبتيه وبكى وقال: عباد الله! جذع يحن لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا نكون نحن أحق بذلك وأولى؟
إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أصح سيرة على وجه التاريخ، حتى قال أحد أعداء الدين من المستشرقين: إن محمداً فقط هو النبي الوحيد الذي ولد تحت ضوء الشمس، وهي إشارة من هذا المستشرق إلى دقة رواية سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
بل إننا نقول: إن من الظلم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإن من الظلم للحقيقة أن نقيسه بواحد من هؤلاء العظماء الذين لمعت سيرهم وأسماؤهم، وسطرت يراع المؤرخين آثارهم، فإن من العظماء، ومن القادة، ومن الساسة من كان عظيم العقل، ولكنه فقير العاطفة عقير اللسان، وإن من العظماء من كان كريم السجايا واسع العطاء، ولكنه قليل الحكمة سيئ الرأي، ومنهم من كان بليغ القلب، بليغ العقل والقول وثّاب الخيال، ولكنه بارد الشعور قليل الإرادة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده -بأبي هو وأمي- من جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من البشر رئيساً أو مرءوساً، حاكماً أو محكوماً، عظيماً أو حقيراً إلا وكانت له أمور يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، من أمور تتصل بسيرته، أو علاقته مع أهله، أو مع خلانه، أو مع أسرته، أو تدل على ضعفه أو قسوته، أما الحبيب عليه الصلاة والسلام فهو الطاهر المطهر -بأبي هو وأمي- الذي كشفت حياته للناس جميعاً، فكانت كتاباً مفتوحاً، ليس فيه صفحة مطوية، ولا ورقة منزوعة، ولا حقوق للطبع محفوظة، وهو وحده -بأبي هو وأمي- الذي أذن لأصحابه أن يكتبوا عنه كل شيء؛ لأنه لا يقول إلا الحق، سواء في ساعة السرور والصفاء، أو في أوقات الترح والشدة والعناء.
ولقد أخبرت أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بكل ما يأتي ويذر في بيته حتى في معاشرتهن، وحدثن بما يقول ويفعل، حتى عرفنا كيف يأكل، وكيف يشرب، وكيف ينام، وكيف يستيقظ، بل لقد عرفنا كيف كان يقضي حاجته، فصلاة ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وفي السر والجهار، وصلى الله وسلم وبارك عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى الله عليه في الأولين والآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولاً عن أمته، فإنه أنقذنا به من الهلكة، ووقانا بسنته من التخبط والانحراف والعجلة، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما، أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، والذائد عن الهلكة والزيغ والعناد، الهادي إلى سبيل الرشاد، القائم بالنصيحة والإرشاد، كما ذكر هذا الإمام الشافعي رحمه الله في أول مقدمته لكتابه العظيم الرسالة.
أكرم الله به هذه الأمة فأنزل عليه أفضل الكتب، وخير الشرائع، وجعل أمته خير الأمم، فلا تكاد ترى صحابياً ولا إماماً، ولا قائداً سطر التاريخ مآثره، إلا وسببه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أبو بكر رضي الله عنه؟ ومن عمر ؟ ومن الشافعي ؟ ومن مالك ؟ ومن النعمان ؟ ومن خالد ؟ ومن صلاح الدين؟ ومن الأئمة الذين جاءوا من بعده لولا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على كل نبي أنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتبعه ويساير شريعته، ولهذا يقول القائل:
شهم تشيد به الدنيا برمتها على المنائر من عرب ومن عجم
أحيا بك الله أرواحاً قد اندثرت في تربة الوحل بين الكأس والصنم
نفضت عنها غبار الذل فاتقدت وأبدعت وروت ما قلت للأمم
ربيت جيلاً أبياً مؤمناً يقظاً حسوا شريعتك الغراء في نهم
فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم
من خالد من صلاح الدين قبلك من مالك ومن النعمان في القمم
من البخاري ومن أهل الصحاح ومن سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم
من ابن حنبل فينا و ابن تيمية بل الملايين أهل الفضل والشمم
من نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
أحبتي الكرام! تلك بعض شمائل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الذي يجب اتباعه في السراء والضراء، ولقد كان سلف هذه الأمة يتبعونه صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، واقتدى بهم أتباعهم في ذلك.
فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله كان متبعاً لرسولنا صلى الله عليه وسلم في سرائه وفي ضرائه، ويوم أن وقعت المحنة اختبأ عند أحد أصحابه ثلاث ليال، فلما أراد أن يخرج قال له: يا شيخ! لماذا تخرج وأنت في مأمن لا يعلم بك فيه أحد، قال: نعم، ولكن لا ينبغي أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء، ونترك سيرته واتباعه في الضراء، قال: وما ذاك؟ قال: اختبأ في الغار ثلاثاً ثم خرج، وأنا اختبأت ثلاثاً وسوف أخرج.
وقد نقل أكثر من واحد من أهل العلم الإجماع على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة مرتد.
يقول الشيخ أحمد شاكر : ولكن لم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، بعد أن كان عالياً منتفخاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين ويحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني -وأنا أعرفه وهو يعرفني- لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه، فالرجل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة، انتهى كلامه رحمه الله.
وقد سأل هارون الرشيد الإمام مالك بن أنس في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له أن بعض المتفقهة أفتوا بجلده فقط، فغضب مالك رحمه الله، وقال: يا أمير المؤمنين! ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه العظيم الدرر الكامنة، عن إبراهيم بن محمد الطيبي أن بعض أمراء المغول تنصر، فحضر عنده جماعة من كبار النصارى، فجعل ينتقص من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع القوم كلب صيد مربوط، فلما أكثر هذا المتنصر من سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب فخمشه، فخلصوه منه، وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد، ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل المتنصر: لا، بل هذا الكلب عزيز نفس، وظن أني أشير إليه، وأنا أسب محمداً -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- فظن أني أريده، فقام ما قام، فلما عاد وسب النبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب مرة أخرى، فقبض على سردمته، وهو موضع الابتلاع من الحلق، فقطعها فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو من أربعين ألفاً.
والنبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم من كل خطأ، فهو -بأبي وأمي- أسوة في أخلاقه، وفي تعاملاته مع الخلق، وإن الأخوة لا تفرض بقوانين ولا بمراسيم، ولا بأحلام الحكماء، ولا بأقوال الشعراء، وإنما هي أثر من تخلص النفس من نوازع الأثرة والشح والأنانية، وحب الذات والرفاهية.
والأخلاق الحسنة لا تنبع إلا من نفوس طيبة، وطبائع كريمة تميز بين الأدب والملق، والصدق والكذب، ولقد جاءت رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنصيب وافر من الاهتمام بالأخلاق وحسن التعامل.
وقد روى البخاري و مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: ( بينما كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير، وعليه بردة نجرانية غليظة الحاشية، إذ جاء رجل أعرابي من خلفه فجبذه حتى رأيت أثر جبذته في عنقه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم، فقال الأعرابي: أعطني من مال الله الذي عندك )، وفي بعض الروايات أنه قال: ( فإنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه وقال له: رضيت، قال: لا، فأعطاه، فقال: رضيت، قال: نعم ).
إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم، وإنه يجب على كل مسلم أن يقتدي بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة دعاة الإسلام، وطلبة العلم، وأهل الخير والصلاح حتى تتوفر فيهم الطبيعة الخيرة التي تجتمع عليها القلوب، وتتآلف حولها النفوس؛ لأن الناس وخاصة في هذا الزمان في حاجة إلى كنف رحيم، وبشاشة سمحة، وود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم وخطئهم.
فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم قال: ( بينما كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تبصرون إليّ، قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما سلم عليه الصلاة والسلام فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني، غير أنه قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ).
وتأمل يا رعاك الله! إلى الأدب النبوي الذي عالج الخطأ برحمة وحنان، جعلت معاوية بن الحكم لا يقتصر على هذا الأدب وهذه التربية, بل حفزه ذلك لأن يزيل الجهل عن نفسه، فقال: ( يا رسول الله! إن منا أناساً يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك، قال: وإن منا أناساً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قال: يا رسول الله! وإن لي جارية ترعى لي غنماً بين أحد والجوانية -وهي أماكن معروفة-، فجاء الذئب فأخذ شاة من غنمها، وأنا بشر من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها، -يعني: ضربتها- فعظم ذلك عليّ، فقلت: أعتقها، قال: ائتني بها، قال: فجئته بها، فقال: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أين الله؟ فأشارت إليه في السماء، فقال: أعتقها، فإنها مؤمنة ).
وبال أعرابي في المسجد كما في الصحيحين من حديث أنس ، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال عليه الصلاة والسلام: ( دعوه لا تزرموه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من الماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وسكنوا ولا تنفروا ).
ولو أن سائلاً سألك وقال لك: وقعت على امرأتي في نهار رمضان لعظمت هذا الأمر، ولربما قلت له: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين، ولا تعتق؛ لأنه لا يوجد عتق في هذا الزمان، ولو قال: لا أستطيع أن أصوم لرأيت بعضنا يقول: يجب عليك أن تصوم.
وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت )، وفي رواية: ( فعل الله بها ما فعل، قال: وما ذاك؟ قال: تجملت لي فوقعت عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة، قال: يا رسول الله! والله ما عندي ما أعتق به، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: يا رسول الله! وهل أوقعني فيما وقعت إلا الصوم -يعني: ما أستطيع أن أصبر-. قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! ما عندي ما أتصدق به، قال: فجلس، فأتي إليه بعرق فيه تمر، ثم قال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر منا؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: خذه وأطعمه أهلك ).
فالأعرابي حينما بال في المسجد لم يقطع عليه بوله؛ لأنه يخشى لو قطع بوله أن يؤثر ذلك في أماكن أخرى، وأن يؤثر أيضاً على ثيابه، فقال: لا تزرموه يعني: لا تقطعوا عليه بوله، فهذا الأعرابي حينما وجد هذا الحنان، وهذه الرأفة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً ).
ويأتي رجل اسمه عبد الله بن حمار وكان يشرب الخمر، ومع ذلك كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثيراً ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقيم عليه الحد، فرأى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال: ( لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فإنه يحب الله ورسوله ).
إن هذه الكلمة العظيمة: ( فإنه يحب الله ورسوله ) لها دلالات عظيمة، فإن الرجل مهما قصر في طاعة الله، ووقع في الذنب العظيم، فإنه يجب على الدعاة وعلى الناس أن يثيروا همته في أنه ما زال قريباً من طاعة الله، فإنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الخير الذي استقر في قلبه وهو محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب أكيد في أن يجعل هذا الرجل المذنب يترك الذنب، ويقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى.
فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدني مسرورة فجعل يحدثها )، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يعالج خطأ عائشة ولكن هذه المعالجة تحتاج إلى ترو، وإلى الوقت المناسب للمعالجة؛ غير أن بعضنا إذا رأى صاحب منكر ربما يغلظ عليه القول، ويشتد عليه، وربما رد هذا المخطئ الصاع صاعين، فقال الداعية: مشكلة فلان أنه لا يقبل الحق، والصحيح أنه ربما يقبل الحق، ولكنك أتيت بهذا الحق على غير وجهه.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يعالج الخطأ في الوقت المناسب، تقول عائشة رضي الله عنها : ( دخل عليَّ فوجدني مسرورة، فقال: يا
فإنك قد تتحدث مع صاحب لك في بعض الأمور، وربما يكون في بعضها مناقشات فقهية يحصل فيها بعض الإلزامات من الخصوم، وربما قال كلمة ظاهرها فيه من الشناعة والغلظة، وعظيم القول ما لا يخفى، فيجب عليك أن تحمل هذه الكلمة محملها حسناً، فربما كان غضبان وقالها وهو لا يعلم.
وقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت -وهذا يدل على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه وصدقه ومعالجته للخطأ، وأنه لا يحمل الخطأ أكثر من محمله الحقيقي- : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي التي هو عندي فيها، وبينما أنا وإياه في مرط -يعني: على الفراش- متغطيين في لحاف إذ دخلت
( فقالت قالت عائشة : وكنت لا أعلم في زينب نقصاً في دين ولا خلق غير أن فيها ثورة -يعني: حدة- سرعان ما ترجع فدخلت زينب بنت جحش بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع معها في مرط، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يناشدنك العدل في بنت أبي قحافة
ومن الخلق العظيم أن تسكت أحياناً؛ لأن الزمن كفيل بحل كثير من مشاكلنا قالت: ( فسكت النبي صلى الله عليه وسلم و
أيضاً ورد عن جابر رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على أزواجه كل عصر، ويقترب منهن غير أنه لا يمس، وكن يجتمعن في بيت الذي هو عندها، فإذا أراد أن يقوم أخذ بيد التي هو عندها، فإذا قامت قمن وتفرقن، فبينما هو عند
فهذه بعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والحديث في أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وبناته حديث لا ينضب، ولعله يكون هناك حديث مستقل عن علاقته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه.
فقد روى البخاري و مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ( أن
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقال لـعمرو بن العاص وهو في زمن منع المرأة حقها، حتى جاء الإسلام فأعطاهن ما أعطى وقسم لهن ما قسم، قال له لما سأله: ( من أحب الناس إليك؟! قال:
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا
فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: عائشة وأبوها، ولم يقل: أبو بكر ، بل قال: أبوها؛ لأن حب أبي بكر زاد بحب عائشة رضي الله عنها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متفانياً في خدمة الخلق، وفي بذل دعوة الإسلام غضة طرية.
وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال الصلاة والقراءة، قال: فانتظرته فأطال، حتى هممت بأمر سوء )، هذا يقوله الكنيف الذي ملئ علماً ابن مسعود الذي أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل، فليقرأه على قراءة
والباب في هذا الأمر يطول، لكني أحب أن أبين أن سلامة المنهج، وصحة العقيدة مع التعامل الأخوي الإيماني ركيزتان متلازمتان، وعينان نضاختان تسكبان خيراً لا ينضب، فيجب أن يقتدي دعاة الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الدعوة لن تؤتي ثمارها، ولن تنجح وتترعرع إلا بهذا المنهج الإيماني منهج العقيدة الصافية، ومعها نهر الخلق الذي لا ينضب، اقتداءً بمحمد صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعلنا متبعين لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مقتدين بمنهجه في السراء والضراء.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر