يطيب لنا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد عاش كثير من العظماء، ومن رجالات التاريخ والديانات، ونقلت أخبارهم، ودونت الكتب أوصافهم، وسجلت المدونات أحوالهم، غير أنه لا يوجد أحد من هؤلاء العظماء، ولا أحد من هؤلاء الرجال من نقلت لنا أخباره، ودونت صفاته، وحفظت سيرته، كما حفظت سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أصح سيرة على وجه التاريخ، حتى قال أحد أعداء الدين من المستشرقين: إن محمداً فقط هو النبي الوحيد الذي ولد تحت ضوء الشمس، وهي إشارة من هذا المستشرق إلى دقة رواية سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام.
بل إننا نقول: إن من الظلم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإن من الظلم للحقيقة أن نقيسه بواحد من هؤلاء العظماء الذين لمعت سيرهم وأسماؤهم، وسطرت يراع المؤرخين آثارهم، فإن من العظماء، ومن القادة، ومن الساسة من كان عظيم العقل، ولكنه فقير العاطفة عقير اللسان، وإن من العظماء من كان كريم السجايا واسع العطاء، ولكنه قليل الحكمة سيئ الرأي، ومنهم من كان بليغ القلب، بليغ العقل والقول وثّاب الخيال، ولكنه بارد الشعور قليل الإرادة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده -بأبي هو وأمي- من جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من البشر رئيساً أو مرءوساً، حاكماً أو محكوماً، عظيماً أو حقيراً إلا وكانت له أمور يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، من أمور تتصل بسيرته، أو علاقته مع أهله، أو مع خلانه، أو مع أسرته، أو تدل على ضعفه أو قسوته، أما الحبيب عليه الصلاة والسلام فهو الطاهر المطهر -بأبي هو وأمي- الذي كشفت حياته للناس جميعاً، فكانت كتاباً مفتوحاً، ليس فيه صفحة مطوية، ولا ورقة منزوعة، ولا حقوق للطبع محفوظة، وهو وحده -بأبي هو وأمي- الذي أذن لأصحابه أن يكتبوا عنه كل شيء؛ لأنه لا يقول إلا الحق، سواء في ساعة السرور والصفاء، أو في أوقات الترح والشدة والعناء.
ولقد أخبرت أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بكل ما يأتي ويذر في بيته حتى في معاشرتهن، وحدثن بما يقول ويفعل، حتى عرفنا كيف يأكل، وكيف يشرب، وكيف ينام، وكيف يستيقظ، بل لقد عرفنا كيف كان يقضي حاجته، فصلاة ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وفي السر والجهار، وصلى الله وسلم وبارك عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى الله عليه في الأولين والآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولاً عن أمته، فإنه أنقذنا به من الهلكة، ووقانا بسنته من التخبط والانحراف والعجلة، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما، أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، والذائد عن الهلكة والزيغ والعناد، الهادي إلى سبيل الرشاد، القائم بالنصيحة والإرشاد، كما ذكر هذا الإمام الشافعي رحمه الله في أول مقدمته لكتابه العظيم الرسالة.
أحبتي الكرام! إن الذين وصفوا سيرته عليه الصلاة والسلام أحبوه، واقتدوا به، فاجتمع في وصفهم وتدوينهم أمانة النقل مع محبتهم للموصوف، فهو عليه الصلاة والسلام أنموذج الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة، وحامل لواء الدعوة العالمية، أعطاه ربه وأكرمه، وأعلى قدره، ورفع ذكره، ووعده بالمزيد حتى يرضى، وولاه قبلة يرضاها. من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، ومن بايعه فإنما بايع الله، لا قدر لأحد من البشر يساوي قدره، فهو صفوة الخلق وأكرم الأكرمين على الله، وإذا كان موسى كليم الله قد قال:
وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فإن الله تعالى قال لمحمد:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وإذا كان موسى عليه السلام وهو النبي الوجيه قد سأل ربه فقال:
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، فإن الله قد قال لرسوله:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ *
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:1-2].
أكرم الله به هذه الأمة فأنزل عليه أفضل الكتب، وخير الشرائع، وجعل أمته خير الأمم، فلا تكاد ترى صحابياً ولا إماماً، ولا قائداً سطر التاريخ مآثره، إلا وسببه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أبو بكر رضي الله عنه؟ ومن عمر ؟ ومن الشافعي ؟ ومن مالك ؟ ومن النعمان ؟ ومن خالد ؟ ومن صلاح الدين؟ ومن الأئمة الذين جاءوا من بعده لولا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على كل نبي أنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتبعه ويساير شريعته، ولهذا يقول القائل:
شهم تشيد به الدنيا برمتها على المنائر من عرب ومن عجم
أحيا بك الله أرواحاً قد اندثرت في تربة الوحل بين الكأس والصنم
نفضت عنها غبار الذل فاتقدت وأبدعت وروت ما قلت للأمم
ربيت جيلاً أبياً مؤمناً يقظاً حسوا شريعتك الغراء في نهم
فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم
من خالد من صلاح الدين قبلك من مالك ومن النعمان في القمم
من البخاري ومن أهل الصحاح ومن سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم
من ابن حنبل فينا و ابن تيمية بل الملايين أهل الفضل والشمم
من نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
أحبتي الكرام! تلك بعض شمائل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الذي يجب اتباعه في السراء والضراء، ولقد كان سلف هذه الأمة يتبعونه صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، واقتدى بهم أتباعهم في ذلك.
فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله كان متبعاً لرسولنا صلى الله عليه وسلم في سرائه وفي ضرائه، ويوم أن وقعت المحنة اختبأ عند أحد أصحابه ثلاث ليال، فلما أراد أن يخرج قال له: يا شيخ! لماذا تخرج وأنت في مأمن لا يعلم بك فيه أحد، قال: نعم، ولكن لا ينبغي أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء، ونترك سيرته واتباعه في الضراء، قال: وما ذاك؟ قال: اختبأ في الغار ثلاثاً ثم خرج، وأنا اختبأت ثلاثاً وسوف أخرج.
أحبتي الكرام! إن محمداً صلى الله عليه وسلم عصمه ربه، وحفظ سيرته وسنته، فما أحد من الخلق -صغر أم كبر عظم أم حقر- سب محمداً صلى الله عليه وسلم إلا وقد انتصر الله له منه، وهذه قصة ذكرها الشيخ
أحمد شاكر في كلمة حق، وهي جميلة أن تذكر وتبين، يقول الشيخ
أحمد شاكر : كان أحد خطباء مصر فصيحاً متكلماً مقتدراً، وأراد ذلك الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما كرم هذا الأمير
طه حسين وكان من الأدباء، فقال هذا الخطيب مادحاً للأمير في خطبته: جاءه الأعمى، يعني:
طه حسين ، فما عبس ولا تولى، فما كان من الشيخ
محمد شاكر والد الشيخ
أحمد شاكر إلا أن قام بعد الصلاة يخبر الناس أن صلاتهم باطلة، وأمرهم بإعادة الصلاة؛ لأن الخطيب قد كفر بسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل أكثر من واحد من أهل العلم الإجماع على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة مرتد.
يقول الشيخ أحمد شاكر : ولكن لم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، بعد أن كان عالياً منتفخاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين ويحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني -وأنا أعرفه وهو يعرفني- لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه، فالرجل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة، انتهى كلامه رحمه الله.
وقد سأل هارون الرشيد الإمام مالك بن أنس في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له أن بعض المتفقهة أفتوا بجلده فقط، فغضب مالك رحمه الله، وقال: يا أمير المؤمنين! ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه العظيم الدرر الكامنة، عن إبراهيم بن محمد الطيبي أن بعض أمراء المغول تنصر، فحضر عنده جماعة من كبار النصارى، فجعل ينتقص من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع القوم كلب صيد مربوط، فلما أكثر هذا المتنصر من سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب فخمشه، فخلصوه منه، وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد، ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل المتنصر: لا، بل هذا الكلب عزيز نفس، وظن أني أشير إليه، وأنا أسب محمداً -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- فظن أني أريده، فقام ما قام، فلما عاد وسب النبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب مرة أخرى، فقبض على سردمته، وهو موضع الابتلاع من الحلق، فقطعها فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو من أربعين ألفاً.
فهذا هو الحبيب عليه الصلاة والسلام، وهذا بعض خلقه، وبعض شمائله، ومن أراد أن تنجح دعوته، وتستقيم سيرته، فعليه أن يقتدي بالمعلم الأول، وبالقدوة العظمى،
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وأن الحي كما يقول
ابن مسعود : لا تؤمن عليه الفتنة.
والنبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم من كل خطأ، فهو -بأبي وأمي- أسوة في أخلاقه، وفي تعاملاته مع الخلق، وإن الأخوة لا تفرض بقوانين ولا بمراسيم، ولا بأحلام الحكماء، ولا بأقوال الشعراء، وإنما هي أثر من تخلص النفس من نوازع الأثرة والشح والأنانية، وحب الذات والرفاهية.
والأخلاق الحسنة لا تنبع إلا من نفوس طيبة، وطبائع كريمة تميز بين الأدب والملق، والصدق والكذب، ولقد جاءت رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنصيب وافر من الاهتمام بالأخلاق وحسن التعامل.
في رفقه ورحمته بالخلق
في تعامله مع أزواجه
في صدقه
في عبادته
في تعامله مع مخالفيه وأعدائه