ضيوفنا الأكارم نرحب بكم في هذا المساء المبارك، ونرحب بمحاضرنا ومدير هذا اللقاء؛ وهما أصحاب الفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، وكذلك أيضاً الدكتور: خالد بن محمد أبا الحسن ، وهما ضيفانِ كريمان على هذا المنتدى، أرحب بهما باسم الضيوف وباسم منتدى العمري، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمهما، وسأترك التعريف بمحاضرنا لمقدم هذا اللقاء الذي له حق كبير علينا، وكنت بصحبته في رحلة علمية إلى الأحساء بالأمس، وكانت أول مرة نتعرف فيها على بعضنا البعض، فآنست منه حسن الخُلق والعلم الجم، وتواصل الأفكار فيما بيننا، فجزاه الله خيراً، وقد قبل مشكوراً هذه الدعوة لإدارة هذا اللقاء خصوصاً حينما علم أن فضيلة الدكتور عبد الله هو محاضر هذا اليوم، وشعرت بمحبته له فكان فأل خير حسن.
مدير هذا اللقاء هو الدكتور: خالد بن محمد بن إبراهيم أبو الحسن حاصل على الماجستير من جامعة متشجن الحكومية، ومعها أيضاً ماجستير في اللغة الانجليزية للناطقين بغيرها، ومعها من جامعة دوكن أيضاً ماجستير في علوم الحاسبات، وحاصل على الدكتوراه من جامعة أنديانا في مجال اللغة الإنجليزية، عمل مستشاراً لدى معالي نائب وزير التعليم العالي، وعمل في عدة مجالات علمية وعملية يصعب حصرها، فهو عضو في العديد من الجمعيات والروابط المهنية المتخصصة في الترجمة، والترجمة الفورية في المؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام، وهو عضو في لجنة المعادلات بوزارة التعليم العالي، ومستشاراً متفرغاً لمعالي نائب وزير التعليم العالي حيث يعمل حالياً، وهو مستشار دولي في المجلس الاستشاري الدولي الـ msu ، ومثَّل وزارة التعليم العالي في العديد من المناسبات لدى اليونسكو، والإليسكو، والإيسسكو، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كان إماماً وخطيباً لعدد من المساجد في الولايات المتحدة في متشجن وأنديانا وبوتسبرد من انسلفاريا، له إسهامات عديدة في البحث والتأليف، ولعل من أشهرها كتاب صدر له باللغة العربية والإنجليزية عن التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، وقد أثار حقيقة الكثير من الاهتمام لدى الجامعات العالمية والسفارات الأجنبية في المملكة والجهات العلمية في مختلف أنحاء العالم، وهو مؤسس لمركز النشر والترجمة بوزارة التعليم العالي، ومدير عام للدراسات والمعلومات سابقاً في وزارة التعليم العالي في الشئون التعليمية، وله اهتمامات كثيرة وهو ممن يهتمون بتعليم اللغة عن طريق الحاسب، وبعلم اللغة الاجتماعي، وبالتصميم للبرامج التعليمية عبر الحاسب.
قبل أن نبدأ اللقاء كما تعودنا ينقل هذا اللقاء عبر البث الإسلامي على الهواء عبر الإنترنت، وسيتاح المجال إن شاء الله للأسئلة المكتوبة أو المداخلات المباشرة التي نتمنى أن تكون في صميم هذا الموضوع.
أكرر الترحيب بضيفينا الكريمين. ولشيخنا الدكتور: عبد الله حسنة فهو أولاً صديق قديم ووالده حفظه الله صديق أيضاً للوالد، وجار لنا ونصلي معاً في مسجد واحد، وأحدث تغييراً في هذا المسجد حيث أننا في صلاة الفجر من فضل الله نشهد ما يزيد على الصفين في هذا المسجد؛ بسبب درسه الذي يلقيه بعد صلاة الفجر في بعض الأيام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعهم وينفعنا بعلمه، وقبل أن أبدأ هذا اللقاء أترك المجال للابن إبراهيم بن عبد العزيز العمري ليتلو علينا بعض الآيات الكريمات.
القارئ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ * إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:1-12].
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أحييكم إخوتي الأحبة حضور هذا اللقاء، ونشكر مُضيفنا الدكتور: عبد العزيز على حفاوته بنا وبكم، ونرحب بكم أيضاً يا من تتابعوننا على أثير الإنترنت، ومن ستشاهدون هذا اللقاء مسجلاً في وقت لاحق.
لقاؤنا اليوم يطوف بنا فيه فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي -عميد المعهد العالي للقضاء سابقاً- حول قضية أصيلة ومسألة مهمة هي أساس كل علم؛ وهي قضية: التأصيل العلمي.
الدكتور من مواليد عام 1391 للهجرة، ولد في مدينة بُريدة، يحمل شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم إبان تبعيتها لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك في عام 1414هـ، وحصل عليها بتقدير امتياز، كما يحمل درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء في قسم الفقه المقارن، وحصل عليها عام 1417هـ، نال شهادة الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف من قسم الفقه المقارن من المعهد العالي للقضاء في عام 1422هـ.
فضيلة الشيخ صدرت له عدة مؤلفات أذكر منها: أحكام الخطأ في المعاوضات المالية، وأصله رسالة الماجستير، وكذلك: الغش وأثره في العقود، وهو أساس رسالته أطروحة الدكتوراه، وله أيضاً كتاب المماطلة أسبابها وأنواعها ومظاهرها والسُبل الواقية لتفاديها، وهو كتاب تحت الطبع، كما صدر له كتاب أحكام دخول المسجد، وهو كذلك تحت الطبع.
فضيلة الشيخ يعمل باحثاً في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وعمل معيداً في المعهد العالي للقضاء في قسم الفقه المقارن وبدأ ذلك في عام 1420هـ، وهو الآن أستاذ مساعد في قسم الفقه المقارن منذ 1422هـ، عمل عضواً في هيئة التدريس في قسم الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، وخبيراً في مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، كما أنه مستشار غير متفرغ في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، شارك في حضور دورات لمجمع الفقه الإسلامي كان آخرها في الدورة السادسة عشرة والتي عُقدت في دولة الإمارات، كما أنه حضر الملتقى الثاني والرابع للهيئة الشرعية في شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، وكما يشارك حفظه الله في إجابة الفتاوى الشرعية المتعلقة بالقضايا الفقهية المالية في موقع الإسلام اليوم، وموقع المسلم وغيرها من المواقع المشابهة، كما أنه يعمل مستشاراً في مجلس أوقاف الشيخ عبد الله الراجحي .
فضيلة الشيخ سيتناول مسألةً مهمَّة كما ذكرت في المجال العلمي إذ أن المبنى الذي نجلس فيه على سبيل المثال نجلس فيه آمنين مطمئنين؛ لأن هذا المبنى يقوم على أساسات سليمة، وكل شأن من شئونك تطمئن فيه حين تعلم أن أساسه أصيل سليم لا خلل فيه ولا ظن بأنه سينهار عليك يوماً ما، وحين نرى خطأً جسيماً يقع فيه أحد طلبة العلم فقد يكون أساس ذلك الخطأ نابعاً من كونه لم يؤصل لما يعلم تأصيلاً سليماً، وفي كل علم يكون للتأصيل طريقة ومنهج وأساليب يجب أن تُتبع، والتأصيل في العملية الأكاديمية متشابهة في كل علم وفي كل تخصص، إنما حديثنا اليوم سيكون لتأصيل العلم الشرعي، ونتناوله إنموذجاً لكل تخصص، وهذا التأصيل يهم كل طالب علم بأن يضعه نصب عينيه حين يدخل هذا المجال.
فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عرف التأصيل حين سُئل: ما معنى التأصيل في طلب العلم؟ وما الطريقة التي تنصحون بها طالب العلم في بداية الطلب؟ والكتب التي يجب أن يتناولها من كتب الأولين؟
أجاب رحمه الله بأن التأصيل في طلب العلم: هو أن يحرص الإنسان على الأصول والقواعد؛ لأن هذا هو العلم، أما العلم بالمسائل فقط فيعد ناقصاً ولا شك، لكن إذا كان لدى الإنسان أصول وقواعد يبني عليها المسائل الجزئية كان هذا هو العالم حقيقة والراسخ في العلم، هذا مدخل نستمع بعده لفضيلة شيخنا ليتناول هذه المسألة، وآمل أن نستمتع بحديثٍ لا تزعجونا فيه بالهواتف الجوالة؛ لأن ذلك سيشوش على من يرغب في الاستماع والإنصات، شكر الله لكم وأترك الميكرفون لفضيلة الشيخ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.
وبعد: فلا أجدني مضطراً إلى الحديث عن مقدمة عن العلاقة الحميمية التي بيني وبين أستاذي الدكتور: عبد العزيز العمري، ولا عن العلاقة التي بيني وبين الدكتور خالد فقد جمعتنا به مجالس عدة وعلاقة وطيدة، أتركها لموضوع التأصيل العلمي؛ لأن من التأصيل العلمي ألا يدخل الإنسان في الحديث الجانبي.
أيها الإخوة في الله! ليس غريباً أن ترى الطبيب البارع وهو يشتاط غضباً حينما يرى تزايد الكثيرين من أصحاب العطارة وغيرهم وهم يدعون الطب؛ لأنه يعلم بخبرته ودرايته أن كل ذلك ناتج عن جهل، وإن وافقته الحظوظ في معالجة مريض قد تخطئه وأخطأته في مرضى كُثر، وليس غريباً أيضاً أن ترى الشاعر المسطع والنحوي البارع حينما تنفر آذانهما من سماع هراء يُسمى شعراً أو أدباً وهو بعيد كل البعد عن أوزان الشعر العربي، وأيضاً قد تجد أصحاب التخصصات الشرعية وغيرها يأنفون ويغضبون من الذين يتقحمون على هذا التخصص بمنهج غريب واستنباطات عجيبة.
نعم ليس في الإسلام رجال دين وكهنوت لا يؤخذ العلم إلا منهم، لكن في الإسلام عقائد وقواعد وأصول ومبادئ لا يمكن فهم الشرع وسنة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم إلا بالأخذ بها والسير على منوالها، ومن هنا لابد من إجابة شافية للسؤال الذي يُطرح دوماً: لماذا التأصيل العلمي فالقرآن موجود، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم موجودة، فنأخذ مثلما أخذوا، وهم رجال ونحن رجال؟
والأئمة حينما يطلقون على أمر من الأمور أن القاعدة فيه كذا، إنما عرفوها باستقراء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمعون النصوص ويقعدون القواعد التي تنص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد ذلك على سبيل العموم أو على سبيل الإطلاق أو قيد ذلك بخصوص معين، أو أنه أطلق بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أما أن يأتي منهج جديد ويقول: أنا فهم كذا واللغة تؤيده لا، اللغة العربية تؤيد ذلك إذا جاء لفظ عام من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من القرآن ولم يأتنا ما يخالفه من سنة سيد الأنام، ولهذا وجد في الشريعة ما يسمى بالحقائق الثلاث: الحقيقة العُرفية، والحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، لكننا نجد أن بعض الناس يقول: ما دام أن هذا اللفظ أو أن هذا المعنى يمكن أن يُفسر بلغة من لغات العرب فلا مانع أن يكون هذا هو فهم القرآن والسنة، وهذا الذي لا ينبغي؛ لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرر حقيقة شرعية فلا يعول على الحقيقة اللغوية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بشريعة قائمة إلى قيام الساعة صالحة لكل زمان ومكان، ومعنى ذلك أنه لا يمكن أن نأتي بفهم يخالف ما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان من جميل ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: لا يكاد يوجد حكم شرعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه مما فهمه من القرآن، وهذا يدل على فهم دقيق من الإمام الشافعي رحمه الله.
وعلى هذا أيها الإخوة! لا عتب أن تختلف مناهج الأئمة؛ هذا منهج أبي حنيفة رحمه الله، وهذا منهج الشافعي ، وهذه أصول أحمد ، وهذه أصول مالك ، وهذه أصول الأوزاعي ، وهذه أصول الثوري ، لكن كل هؤلاء إنما بنوا أصولهم بما فهموه من مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقول: أنا أعلم أن الرسول أراد كذا، لكن لغة العرب تفهم من هذه العبارة معنى آخر فلي أن آخذ بها، قلنا: هذا هو الإشكال، هذا هو التأصيل الذي سوف يهدم الأصل الشرعي، الذي قال عليه الصلاة والسلام عنه: ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، بيننا وبينكم القرآن، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، كما رواه الإمام أحمد و أبو داود بسند صحيح، وقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، لأن الله حينما ذكر في القرآن وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]؛ بين أن اللسان هذا يحتمل معاني كثيرة، فلا يمكن أن نعول على هذه المعاني ولنا حقيقة شرعية قد قررها الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ليس بيننا وبين أحد مهما علا كعبه إلا أن نوقفه على الأصول المعتمدة في هذا الأمر، فكما أن الطب حينما تأصل على ما يسمى الطب الكيميائي -وله قواعد وأصول يعرفها أهله- لم تقبل الحكومات الطب الصيني -وهو ما يسمى بالطب البديل في الغرب- إلا على سبيل الاستشفاء؛ لأنهم بنوا طبهم على أصول لا يمكن لهذه الأصول أن تتزعزع، ولو كان الطب البديل له وجه وله حظ وله آثار، لكن هذا دليل على أن الأصول لابد أن تثبت وإلا لتزعزع الكيان وضاعت أصول العلوم.
و أبو حنيفة رحمه الله قال عنه مالك : أبو حنيفة لو أراد أن يجعل هذه الاسطوانة -يعني العمود- ذهباً لاستطاع من قوة حجته.
حتى إن إبراهيم الحربي يقول: جالست الإمام أحمد رحمه الله فرأيت عنده مسائل دقاق، يعني: مسائل دقيقة وتفصيلات، فقلت: أبا عبد الله مم ذاك؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن ، التي أخذها من الإمام أبي حنيفة ، لكن مع ذلك ومع إثبات أن أبا حنيفة من الأئمة في الفقه إلا أنهم رحمهم الله عابوا على أبي حنيفة حينما أخذ بأصل لم يكن عليه من سبقه؛ وهو الأخذ بظاهر النص وترك الحديث الآحاد، يعني: لو جاءه حديث في البخاري أو في مسلم لم ينتشر انتشاراً كبيراً يسميه العلماء: خبر آحاد، يقول أبو حنيفة : إذا خالف خبر الآحاد ظاهر القرآن أو الأصل الذي تقرر في أصول أخرى فإني آخذ بهذا الأصل وأدع الحديث الصحيح، فأنكر الأئمة على أبي حنيفة أشد الإنكار، حتى قال الإمام أبو عمر بن عبد البر : وعيب على أبي حنيفة أخذه بالأصل وتركه الأحاديث الثابتة في الأخبار الصحيحة، وكان عتب أهل الحديث ومن معهم من أهل الفقه على أبي حنيفة أشد من عتبهم عليه في مسألة الإرجاء وهي مسألة عقدية؛ لأن الإرجاء منسوب إلى غيره، أما خبر الآحاد إنما كان من منشأ أبي حنيفة .
إذاً: العلماء ومنهم أبو حنيفة إنما صارت مناهجهم على أصول، لكن حينما جاء أبو حنيفة بأصل جديد أنكر عليه العلماء.
واسمحوا لي أيها الإخوة! أن أنقل لكم ما قاله بعضهم. عندما قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قال بعضهم: المقصود بالجيوب ليس مثل ما فهمه الصحابة؛ لأن القرآن حمال وجوه، فالجيوب هي كل ما له طبقات، ومعنى ذلك أن المرأة ممنوعة أن تُظهر كل ما له طبقات: كالإبطين والإليتين والثديين، وما عدا ذلك فيجوز للمرأة أن تخرجه؛ لأن هذا ظاهر القرآن، والله يقول: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، وما عدا ذلك فلها أن تخرجه، وهذا مع الأسف الشديد يوجد في بعض الكتابات الموجودة في المجلات الإلكترونية، وعبر الكتابات الموجودة في كل ما يضخ لنا عن طريق معارض الكتاب.
أيها الإخوة! إذا ثبت هذا فإن التأصيل العلمي سار على ما سار على قواعد ثابتة، مثل الحديث، ولهذا أقر المستشرقون أن علم الحديث مبني على دقة متناهية في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة حديثه؛ كيف عرف الأئمة ذلك؟
نظروا إلى الراوي، الراوي إذا حدث بالحديث وعنده طلاب، مثلاً: أنا اليوم لو الآن حدثت بحديث فكلكم ثقات، فجاء هذا الراوي فقال: تحدث عن يوم الجمعة، وكلكم حدثتم أن عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي، فجاء رجل وهو ثقة فقال: عبد الله تحدث عن التأصيل العلمي وتحدث عن فضل يوم الجمعة، فأنتم لم تقولوا: إن عبد الله تحدث عن يوم الجمعة ولم تنكروا ذلك، والأئمة رأوا أن تفرد هذا الشخص ولو كان ثقة بذكر يوم الجمعة دليل مع إقرار هؤلاء كلهم الذين لم يذكروا ذلك لا سلباً ولا إيجاباً دليل على أن عبد الله قطعاً لم يقل ذلك، ويقولون: إن هذا الرجل خالف الثقات، هو هل خالفهم؟ يعتبرون سكوت هؤلاء وذكر هذا دليل على المخالفة، من أين عرفوا؟ عرفوا من تقريرات عبد الله ومن ملازمة أصحابه ورؤيته، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم.
فالصحابة رضي الله عنهم عاينوا التنزيل وأدركوا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فكان فهمهم معتبراً، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: كل فهم يُخالف فهم الصحابة فلا يعول عليه؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والعرب عندما نزل القرآن فهموا مراده، وعلى هذا فإذا كان هناك فهم لم يفهمه السلف أو فهموا خلافه لا يعول عليه، لكن إذا جاءنا فهم لا يخالف منهج السلف ويعتمد على اللغة نقول: الحمد لله نقبل، ولهذا قال علي : إلا فهماً يؤتيه الله أحد خلقه في القرآن.
أمثلة على هذا الواقع: كنت قبل أن أبني بيتي مع المهندس فقال لي: أنا أرى أن للمرأة أن تزوج نفسها -يقصد المرأة الثيب، أما المرأة البكر فلا- قلت له: طيب ما هو الدليل؟ قال: دليلي أن الله يقول: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، قال الله: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، إذاً خاطبها، قلت له: إذاً أنت على أصول مذهب أبي حنيفة ، قال: وما هي أصول مذهب أبي حنيفة ؟ قلت له: أصول مذهب أبي حنيفة يرى أن خبر الآحاد إذا جاء -ولو صح- يُخالف ظاهر القرآن فإننا نأخذ بظاهر القرآن وندع النص، ويلزمك على هذا أن تأخذ بهذا الأصل في كل شيء، وإلا أصبحت عند العلماء مُلفقاً بين الأقوال، أو أنك مضطرب، قال: والله ما أدري ما مذهب وأصول أبي حنيفة . وهذه هي المشكلة عندنا، الآن أبو حنيفة حينما جاءه حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت نفسها من غير ولي فنكاحها باطل باطل باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها )، حينما جاء هذا الحديث الصحيح الثابت أبو حنيفة لم يعول عليه؛ لأنه يرى أنه مخالف لظاهر القرآن، طيب! لو نفترض أنه مخالف لظاهر القرآن؟ قال أبو حنيفة : مخالفته لظاهر القرآن يستلزم نسخ المتواتر بالآحاد وأنا لا أقبل ذلك، إذاً أبو حنيفة له أصل أنكره الأئمة عليه.
إذاً الذي يأتي بعد أبي حنيفة ويرى برأي أبي حنيفة يلزمه أن يطبق ذلك في جميع المسائل وإلا لعُد مضطرباً.
مثال على ذلك: نسمع بين الفينة والأخرى من بعض الباحثين حتى من بعض الطلاب الذين يتخرجون من الشريعة وخفي عليهم أصول الأئمة يقول: لا يُشرع صيام ست من شوال، عندما أكثر الناس من هذا الأمر بحثوا بحثوا فوجدوا أبا شامة -إمام معروف صاحب الحوادث والبدع- يذكر أن مالكاً رحمه الله يكره صيام الست من شوال؛ قال مالك : لأني لم أر أهل المدينة يصومونه، إذاً مالك عنده قاعدة وهي أن عمل أهل المدينة أصل، وإذا جاء الحديث ولم يعمل به أهل المدينة، فيقول مالك: إن ترك أهل المدينة لهذا الحديث دليل على أن فيه نكارة، عرفته أو لم أعرفه، هذا أصل مالك، فيأتي بعض طلاب العلم فتجدهم يأخذون بهذا الأصل؛ لأن الناس تعارفوا على هذا الأمر، طيب! لماذا أخذت به؟ قال: أتغضب حينما أقلد مالكاً ؟ قلت: لا يا أخي! أنا ما أغضب أن تقلد مالكاً، لكن أغضب أن تأخذ بأصل مالك ولا تعتمد على أصل مالك في كل شيء، وهذا نوع من الاضطراب، والخلل الحاصل في كثير من بُحوثنا وكثير من أقوالنا الموجودة.
خذ مثالاً آخر على ذلك: حينما انتشرت الأقليات المسلمة في بلاد الغرب أصبح المسلمون يعيشون في اضطراب بين العقلية الغربية وأيدلوجيتها والعقلية الإسلامية وأيدلوجيتها، ومن المعلوم أنه لا ينبغي لنا أن نضيق على الناس، إذا لم يكن في المسألة دليل شرعي فلا يسوغ لنا أن نقول: هذا حرام، لنفتري على الله الكذب، ولهذا (ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما)، هذا ما لم يكن إثماً، يعني: ما لم يكن مخالفاً لنص شرعي، فالآن مس المرأة الأجنبية من المعلوم أن المتقرر عند الأئمة الأربعة أن المرأة الأجنبية -خاصة الشابة- لا يجوز للمسلم أن يصافحها؛ لأنه ثبت بالسنة كما في الصحيحين من حديث عائشة أنها قالت: (ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه كان يُبايعهن كلاماً )، قال العلماء: هذا أمر بلفظ الخبر. جاء الآن بعض الباحثين -حينما جاءه إشكالات- قال: لا بأس بمس يد المرأة الأجنبية، وهذا الإشكال الذي هو بسبب عدم جمع النصوص، تقول له: ما الدليل؟ يقول لك: الدليل هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين، من حديث أنس أنه قال: ( إن كانت المرأة الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيده حتى تذهب به خارج المدينة ما شاءت )، قال: فهذا يدل على أن الأمة تمس يد الرسول صلى الله عليه وسلم وتخرجه خارج المدينة، وهذا ليس هو المراد من الحديث وإنما المقصود بالحديث أن ذلك دلالة على رقة النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه عليه الصلاة والسلام، حتى مع الإماء، فليس الحديث مقصوداً به مس اليد، إنما المراد به إظهاراً لتواضعه عليه الصلاة والسلام، فتجد أننا أخذنا بهذا المتشابه وتركنا المُحكم من الأدلة العامة الشرعية، وهذا نوع من الخلل في واقعنا المعاصر.
خذ مثالاً آخر على ذلك: مسألة المحرمية، السفر بالمحرم غايته الوجوب، فتجد أن بعض الناس يشتط ما بين يمين أو يسار فبعضهم قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أوجب ذلك إنما كان ذلك في زمانه، أما اليوم فاختلفت الأمور فهناك طائرات وغيرها، ظناً منهم أن وجود المحرمية نوع إلزام على المرأة وهذا ليس صحيحاً، ليس المقصود ذلك، المقصود أن المرأة تسافر وهي مطمئنة، وهذا يسميه العلماء علة مستنبطة، تسافر باطمئنان ولا يتأتى هذا الاطمئنان إلا بوجود محرم لها، يقول الحافظ ابن حجر : أجمع العلماء على أن المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، ما عدا وجوب الفرض في الحج والعمرة أو أن المرأة تخرج من الحرب، أو تخرج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وبعض الناس عندما يسمع هذا الحديث يقول: نحن نلتزم أن المرأة لا يجوز لها، لكن هي مضطرة إلى ذلك، ربما يكون زوجها خارج المملكة وهي مضطرة إلى أن تسافر لوالدها، نقول: هذا واجب، لكن غاية الواجبات تسقط مع العجز وعدم الإمكان، فالمرأة إذا أرادت أن تسافر واضطرت إلى السفر فلم تجد محرماً فلها أن تسافر بدون محرم؛ هذا لأن الواجب يسقط مع العجز وعدم الإمكان، ولهذا عائشة رضي الله عنها فهمت هذا الأمر، ولهذا لما أراد ابن عمر ألا يسافر نساءه في الحج إلا مع ذي محرم، فأُخبرت عائشة بذلك قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن ليس كل النساء تجد محرماً.
في المقابل بعضهم -حتى لو كانت المرأة ليست بحاجة إلى سفر- يقول: لا بأس للمرأة أن تسافر بدون محرم؛ لأن السفر الآن مطمئن، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر لعدم الاطمئنان.
وأنا أقول: إن سفر المرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر اطمئناناً من زماننا اليوم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لتسافرن المرأة الضعينة من العراق إلى صنعاء أو من حضرموت إلى صنعاء لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها )، هذا دلالة على الإخبار بالطمأنينة وليس دلالة على تجويز هذا الأمر، هذا نوع من الفهم الذي أحياناً يقع فيه كثير من الباحثين.
وهذه والله قاعدة مظلومة؛ لأن المقصود من ذلك إذا جاءك نص يجب أن تفهمه على مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الخطأ أن يفهم بعض المجتهدين أو بعض الناس فهماً يخالف الكتاب والسنة، ولهذا يقول ابن تيمية : لا ينبغي لأحد أن يفهم مراد أحد إلا على ما أراده في عامة التقريرات، فكما أنه لا يجوز لأحد أن يفهم مراد الله إلا على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد، فكذلك لا ينبغي أن نحمل كلام أحد إلا على ما أراده لا على ما يحتمله اللفظ، وهذا كثير جداً، ولهذا تبرز أحياناً احتمالات عقلية وتصورات ذهنية تخالف تماماً مراد الله ومراد رسوله في أمر ما، لذا وجب علينا الالتزام بمراد الله ومراد رسوله دائماً في كل شئون حياتنا.
كذلك بعض الإخوة يأتي بأقوال غريبة، مثلاً: في مسائل الحج أو غيره تجده أحياناً يقول في قول عليه الأئمة: ليس هناك، رغم أن الأئمة أخذوا بهذا الأمر!
مثال بسيط: في الحج من ترك واجباً فليهرق دماً، أخذ الأئمة هذه القاعدة مسلمة، أخذ بها عمر رضي الله عنه في الفوات في الحج، أخذ بها ابن عباس رضي الله عنه، أخذ بها ابن عمر كما روى عبد الرزاق ، أخذ بها أبو حنيفة و مالك ، ومدارس أهل الإسلام: مدرسة العراق، ومدرسة الحجاز، ومدرسة الشام، ومدرسة مكة كلهم أخذوا بهذا الأصل، فتجد اليوم بعض طلاب العلم يقول لك: ليس هناك دليل، تقول له: الآن أنت أتيت بقول غريب! ابن حزم يقول: من ترك واجباً فسد حجه، والأئمة يقولون: من ترك واجباً صح حجه وعليه أن يجبره بدم، واليوم نسمع من عهد الشوكاني إلى يومنا من يقول: من ترك واجباً صح حجه ولا يجبره بشيء، إذاً هذا قول مُحدث لم يقله الأئمة، وهذا يُسمى تناقضاً رهيباً؛ لأنك أخذت بأصل ابن حزم بعدم القياس ثم إنك تقرر أن من أدلة الشرع: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والله يا إخوان! إن هذه الآية عظيمة، صحيح أنه صلى الله عليه وسلم بُعث بالحنيفية السمحة: ( ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما )، وكان عليه الصلاة والسلام سمحاً سهلاً رحيماً لكن هذا لا يمنعه من تحقيق الأصول.
ومن أمثلة ذلك: أيضاً حينما جاءه هلال بن أمية من الصحابة الثقات الأتباع الذين شُهد لهم بالجنة حينما قال: ( يا رسول الله! وجدت مع امرأتي رجلاً، قال عليه الصلاة والسلام: البينة أو حد في ظهرك، قال: يا رسول الله! والله إني لصادق، قال: البينة أو حد في ظهرك )، وكان ذلك قبل أن تنزل آية اللعان، يقول: ( والله إني لصادق، والله إني لصادق، وهو يقول: البينة أو حد في ظهرك، حتى جاءه الوحي فأنزل الله آية اللعان، فقال: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآناً )، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد على الأصول.
ولهذا تجد أحياناً من الإشكالات القائمة هنا أن نأتي بقول مُحدث لم يكن عليه أهل العلم.
خُذ مثالاً على ذلك: تعلمون أحياناً في الغرب يعاشر الإنسان المرأة أحياناً بطريقة غربية يعني: مثل ما يقولون: girl friend، والعياذ بالله فتحمل منه وهو مسلم، ثم يقول: هل لي أن أتزوجها؟ هذه المسألة فيها خلاف، الأئمة الثلاثة يمنعون و مالك في قول عنده، و ابن تيمية يجوز ذلك وينسب له قبل الوضع، عندما أُثيرت هذه القضية وهذه ليس فيها إشكال، لكن صار أن بعضهم يقول: خلاص المرأة ولو أنجبت وتزوجها الرجل بعد ذلك فهؤلاء الأولاد يكونون منه؛ لأنه بنى على مسألة معينة واستطرد في مثل هذا الأمر.
ومن ذلك البطاقات الائتمانية، فقد كان التصور أن البطاقات الائتمانية من الغرب، وأول ما جاءت البطاقات الائتمانية كان الذين ترجموا هذا الأمر كانت ترجمتهم ترجمة ضعيفة لم تعط التصور الصحيح، فجاء بعض العلماء فحكم على أن البطاقات الائتمانية محرمة وأنها ربا، حينما تأنت المجامع الفقهية وطلبت بعض المتخصصين في هذا الأمر وجلسوا معهم وأخذوا التصور الصحيح لهذه المسألة، حكموا بعد ذلك حكماً يناسب ما فهموه وما تصوروه.
اليوم وللأسف في مسألة بسيطة تجد فلاناً يرد على فلان، وفلاناً يرد على فلان، ولو نظرت في سير الأئمة لوجدت أنهم لم يكونوا يهتمون للمسائل الفرعية إلا حال ورودها، يعني: يشرح الكتاب فتأتي مثلاً مسألة وضع اليدين على الصدر، أو مسألة من المسائل المستحبة، فيقررها في وقته، لكن أن يؤلف كتاباً على مسألة دقيقة بسيطة ثم يأتي آخر فيرد، لم يكن هذا من هدي الأئمة والعلماء الكبار.
أما الآن فسوف يرد على هذه المسألة، تجده يجمع كل النصوص التي تؤيد قوله، والتي لا تؤيد قوله ويكون عقله منصباً على هذه المسألة، فلو أراد أن يمشي إلى المسجد قال في نفسه: هذا الدليل لعله يكون هذا، وبدأ يجمع ويجمع، ويقع في الخلل، ولهذا أصبحنا نجد بعض المسائل التي بعضها تكون أساسها من حديث المجالس، فيُعنف على هذا القائل فيذهب فيرد فيأتي بأقوال، مثل ما سمعنا مسائل غريبة جداً في واقعنا وهناك أمثلة كثيرة، مثل مسألة صيام العشر من ذي الحجة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصنعها، مثل بعض القضايا كوضع المال فيقول: لا يوجد بنوك إسلامية؛ لأن الاقتصاد كله اقتصاد رأسمالي، أمثلة بسيطة جداً جداً وهي واقعة وتمس حاجة الناس لكن سببها هو قصور في الفهم.
لعل في هذا كفاية، ولعلنا نكمل ذلك في المداخلات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين، وأسأل الله أن أكون قد وفقت، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: أنا أخبرته أن هذا القول بناء على أصل أبي حنيفة رحمه الله وليس بصحيح، ولهذا قال الأئمة: لو أن قاضياً أتاه شخص بهذا الأمر وجب عليه أن يفسخ النكاح، ويسميه العلماء: الوطء بشبهة ولا يجوز، فهذا من الإشكالات وهو مخالف لقول عامة أهل العلم، بل قال بعضهم: إن أبا حنيفة رجع عن قوله، وليس هذا أمراً يجوز الأخذ به؛ لأنه مخالف لنص شرعي ثابت.
وليس معنى أنه بمجرد وجود الخلاف يجوز للإنسان الأخذ به، ولهذا أشار الإمام أبو الوليد الباجي إلى هذه المسألة على أنه لا يلزم وجود الخلاف أن يسوغ للمفتي أن يفتي بكل قول؛ لأن هذا من التلاعب بالدين، ذكر ذلك عامة أهل العلم، ذكره الإمام أبو الوليد الباجي ، وذكره الشاطبي ، وذكره السدي ، وذكره أبو العباس بن تيمية ، وذكره ابن القيم ، وبعضهم لما عرف أني بالفقه المقارن، قال: السلام عليكم، ما رأيك يا شيخ! في المسألة الفلانية، أقول له: المسألة كذا والدليل كذا، يقول: طيب ألا يوجد قول آخر؟ يعني: بمجرد أن هناك قولاً آخر قال: الحمد لله.
ومرة كنا جالسين في مجلس طلاب علم، فطرحنا حديثاً وذكرنا الأدلة، فقال أحدهم: غريب والله ما يوجد إلا قول واحد؟ قال آخر: إلا، وجدت قولاً ذكره ابن قندوس في حاشيته على الفروع، قال: الحمد الله الذي جعل في الأمر سعة، طيب! وماذا علينا من ابن قندوس يمكن ما عرفنا ابن قندوس إلا في حواشيه.
إذاً: ليس مجرد وجود الخلاف سائغ لأن يأخذه الإنسان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث النواس : ( الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )، أنا لا حرج عليّ إذا كنت مقلداً أو أنا مبتدئاً ووجد عالم كـابن باز أو عالم من العلماء يقول بالتحريم، وعالم آخر يقول: بالجواز وكل العلماء لدي أنهم ثقات لا حرج أن أختار أحدهم، هذا الذي ما خُير الرسول بين أمرين إلا اختار أيسرهما، لكن أن أرى أن هذين الإمامين ثقات عندي فأعلم أنهما قالا بالتحريم، وأقول: دعونا نسأل، وندى علماء غيرهم، ما في علماء إلا الذي في السعودية، إذاً هو بحث عن من يقول بالجواز فإذا وجد قال بذلك.
ثم يجب علينا أن نعرف أن المسائل الاجتهادية لا ينكر فيها على المخالف، يعني: لو أنني أخذت بقول معتبر لا يسوغ لأحد أن ينكر عليّ، ويقصد بها: المسائل التي لها في كل قول حظ من النظر فلا يسوغ لأحد أن ينكر فيها؛ لأنه لا يُعلم أي القولين أصوب، ولهذا يقول الشافعي: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، لكن ليس معنى ذلك أنه بمجرد وقوع خلاف ترى أن لك أن تأخذ به؛ لأن هذا هو المقصود به: من تتبع رُخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، والمقصود بالرُخص التي فيها مخالفة للنص الثابت، أما ما ليس فيها نص أو كل واحد أخذ بنص واجتهد فلا يدخل في كلام الأئمة في ذلك، وهذا من الأخطاء أننا أحياناً نأخذ بكلام بعض الأئمة ونطبقه في كل شيء، يعني: بعضهم قد يقول قولاً في زمن الصغر، ثم إذا كبر وبدأ يحرر المسألة ربما تبين له خلاف ما قال سابقاً.
وأذكر مرة من المرات أني كنت أقول بالتحريم في مسألة بناءً على قول بعض مشايخي الذين درست عليهم، ثم بعد البحث والتحري ومناقشة المسألة تبين لي القول بالجواز، عندما عرف أحد الإخوة أني أخذت بقول الجواز جذبني وقال لي: الله المستعان، حذيفة قيل له: متى تعرف الرجل أنه قد افتتن؟ قال: إذا قال اليوم بحلٍ كان يقول بالأمس: إنه حرام، وهذا المسألة طبقت على أمور خاطئة، عندما قيل لـحذيفة رضي الله عنه هذا الأمر أن يقول: حلال ما كان بالأمس يقول: إنه حرام، يقصد بذلك: أن هواه هو الذي قاده إلى ذلك، أما إذا النصوص الشرعية بينت له حل هذا الأمر فيجب عليه أن يفتي، ولا يسوغ له أن يسكت أو يغير قناعته التي توصل إليها ببحثه واجتهاده بمجرد ضغوط طلابه عليه أو مجتمعه.
وأذكر أن عبد الحميد بن باديس رحمه الله أيام الاستعمار في الجزائر قال بقول يوافق ما يريده الاستعمار؛ لأنه يوقع عن رب العالمين، فقال قولاً موافقاً لما يريده الاستعمار، فجاء الناس وبدءوا يدخلون بيته ويضغطون عليه ويراجعونه، فقام على المنبر وقال: أيها الناس! أنتم لا تريدوني أن أكون عالم سلطة أليس كذلك؟ قالوا: نعم، قال: وأنا لا أريد أن أكون عالم سلطة ولا أريد أن أكون عالم عامة. ومن واقنا أيضاً مسألة زكاة الحُلي، جمهور الصحابة على أنه لا زكاة فيها، لكن بعض مشايخنا قال بزكاة الحلي مع العلم أن أئمة الدعوة بنجد كلهم يقولون: إنه لا زكاة فيها، لكن عندما قال شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد بزكاة الحلي بدأ طلاب العلم إذا سئلوا قالوا: الأحوط أن يُزكي؛ لأنه الآن ما يمكن أن يخالف الواقع، مع أن عامة الصحابة كما يقول أبو عمر بن عبد البر : جمهور الصحابة على القول بعدم زكاة الحلي. اليوم لو أن عندك مسألتين تجد أنه يصعب عليك أن تقول: الأحوط تركه، بل تقول: إن شاء الله نتركه، بسبب ضغط الواقع، ما ينبغي أن يكون عليه الفقيه.
مداخلة: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد، أشكر للدكتور: عبد العزيز العمري على هذا اللقاء وكذلك الشيخ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي على هذا الطرح.
حقيقة ما ذكره الشيخ لا إشكال فيه، قعد الأمور على قواعدها، لكن الإشكال اليوم مختلف مع هؤلاء الذين يستدلون بهذه النصوص، يعني: نحن نلتمس للأئمة السابقين كـأبي حنيفة ، و ابن حزم وغيرهم أنهم اجتهدوا في مسألة وقارنوا بين أدلة ولم يكن هناك هوى في نفوسهم نحسبهم كذلك، وإنما هي مسائل اجتهدوا فيها، فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ.
لكن اليوم المسألة اختلفت، المسألة ليست مقارنة بين النصوص، وليست ترجيحاً بين دليل ودليل، وإنما المسألة الآن تختلف اختلافاً جذرياً، هناك هوى ورغبةً لدى البعض في نسف بعض فسأل الشريعة والدين وبعض عادات مجتمعنا الإسلامي، ويقال: قال بها ابن حزم، قال بها أبو حنيفة وغيرهم من الأئمة، لذلك أعتقد أن هؤلاء لا ينفع أن نذكرهم بنصوص جاءت في عدم هذا القول؛ لأنهم لم يكونوا جاهلين بالنص أو التبس عليهم القول، وإنما لهوى أرادوه، أرادوا إخراج المرأة فتحدثوا عن الاختلاط، أرادوا كشف وجهها فتحدثوا عن الاختلاف في حكم تغطية الوجه، أرادوا أن تخرج وتسافر بلا محرم فأثاروا الخلاف في هذه القضية، هم يهدفون إلى شيء يريدون تحقيقه ليست إشكاليتهم في نصوص أو في أقوال أو في ترجيحات وإنما لأهداف يسعون إليها.
أذكر قصة إضافةً لما ذكره الدكتور حفظه الله: اتصلت إحدى النساء عليّ وقالت: إني أريد أن أتزوج، ولديَّ ابن يدرس في الجامعة، فذكرت أنه لابد أن يكون هناك ولي، قالت: لا أريد أن ابني يعلم بزواجي وقد تقدم إليّ أحد الأئمة، وأن أبا حنيفة يرى أن المرأة يجوز لها أن تزوج نفسها.
فالمسألة ليست قاصرة على الرجال إنما حتى بعض النساء يريدون الأخذ بهذا القول، فذكرتها بالنص الوارد الذي ذكره الشيخ وأنه لابد من ولي، لكن أقول: إن بعض الناس يريد أن يأخذ أو يقتطع القول ليس رغبة في فهم النص وإنما لهوى في نفسه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الشيخ: أنا تحدثت في أول حديثي، في مسألة القراءة الجديدة للنص، وقلت: إن الذين يأتون اليوم لا يستطيعون أن يخالفوا النصوص الشرعية ويردونها، وبدلاً من هذا قالوا: بعدم قداسة النص وتأويله، وهذه هي المشكلة؛ لأن المعتزلة والأشاعرة حينما أولوا النصوص كان بدعوى تنزيه الخالق سبحانه وتعالى، بل إني أقول: إن المعتزلة والأشاعرة في قصدهم هذا -إن كانوا صادقين- هم أفضل من الذين يأتون اليوم. يقول لي أحد القضاة -قاضي في إحدى مناطق المملكة-: إن امرأة زوجها والعياذ بالله يشرب الخمر ودائماً يضربها ويطلقها، وأنها جاءت تشتكي وترفع عنده قضية وقالت: الزوج كثيراً ما يطلقني وأنا مطلقة الآن، وأنه يشرب الخمر ويزني، يقول القاضي: أنا وضعت الجلسة وجاء هذا الشخص الذي طلق امرأته وآذاها، قلت له: امرأتك تقول: إنك طلقتها -انظروا الآن يا إخوان! الاحتجاج- قال: نعم، أنا طلقتها، وأعلم أني طلقتها، وأعلم أنها حائض، وأعلم أن طلاق الحائض لا يقع، وهو اختيار ابن تيمية وهذه المشكلة، يعني: لهذه الدرجة تجد أن الناس أحياناً يتشبثون بأي شيء، ولهذا يقول: عقلي قولي، لذا لابد من فهم من له الحق أن يفتي -وهذا الذي أريد الوصول إليه- فليس كل من درس ولو يسيراً له أن يفتي فلا يفتي إمام المسجد أو خريج الشريعة وكل من هب ودب.
ومن الطريف أنه مرة من المرات كنت أستقبل أسئلة بين المغرب والعشاء، فاتصلت عليّ امرأة كبيرة في السن فقالت بلهجتها العامية وبراءتها: أنت الشيخ؟ قلت: نعم، يا خالة! هكذا يقولون ماذا عندك؟ قالت: إيه، أريد أن تقرأ عليّ، قلت: أنا لا أقرأ على أحد، قالت: طيب! أريد أن تفسر لي رؤيا، قلت: أنا لا أفسر رؤى، قالت: طيب! وماذا تعمل؟ وهذه مشكلة مثل هذه التصورات.
فالواجب إذاً أن نبين للناس من الذي يحق له الفتوى، والفتوى ليست حكراً على كبار العلماء أو على طلاب كلية الشريعة، لكن يجب عليك أن تأخذ كما أخذ هؤلاء فتفتي مثل ما يفتون وإلا فاعتزل.
الجواب: الله سبحانه وتعالى أمرنا بأمرين: تدبر القرآن، وتأويل القرآن.
إذاً تفسير القرآن شيء، وتدبر القرآن شيء آخر تماماً، الله أمرنا بالتدبر وخاطب الكفار والمنافقين بالتدبر، هذا دليل على أن هذا الأمر -وهو التدبر- مطالب به حتى العوام، لكن تفسير القرآن لم يُطالب به العوام، ولهذا قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، خاطب الكفار والمنافقين، إذاً قضية التدبر أمرها واسع يُخاطب بها العوام وطلاب العلم والمنافقون والكفار.
أما تفسير القرآن فهذا إنما هو للعلماء، ولهذا قال مالك رحمه الله: لا ألفين بأحد يُفسر القرآن لم يعرف لغة العرب إلا أمرت السلطان بأن يجلده؛ لأنك ستبدأ تأتي بشيء جديد، إذاً تدبر القرآن لا حرج فيه بل لابد منه،، أنا أقرأ القرآن تأتيني آية عذاب فأستشعر الجنة وأستشعر النار، تأتيني آية من الحل أطبقها في واقعي، هذا لا بأس به، ولا يلزم أن يكون تدبري للقرآن موافقاً لسلف هذه الأمة، لكن إذا جاء التدبر بمعنى التفسير، نقول: قف! هل التفسير المقصود به تخالفه هذه الآية أو لا؟ ولهذا يا إخوان! تدبرك للقرآن لا حرج في ذلك، ولك أن تفهم القرآن كما شئت، لكن ليس معنى أن تفهمه: أن تفسره بمعاني لا تحتملها العربية، ففرق بين التدبر والتفسير فالتدبر للجميع كما قال علي بن أبي طالب في الصحيحين: إلا فهماً يؤتيه الله أحد خلقه.
الجواب: مسألة التأصيل العلمي لها طريقان: طريقة التلقي وهو الذي يذكره العلماء رحمهم الله بأن يحفظ القرآن، ثم يأخذ متناً بسيطاً، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً، ويعرف هذه المسألة ثم يبحث عن أدلتها فشيئاً فشيئاً حتى يكون إماماً في هذا الشأن، هذا نسميه: التأصيل وهو: التدرج في الطلب.
النوع الثاني: -وهذا الذي أقصده- التأصيل العلمي وهو: أن الإنسان لا ينبغي له حال الفتوى أو الاختيار للقول إلا ويكون قد أُطر بأطر وقواعد ومبادئ، هذه القواعد والمبادئ، ولهذا الشافعي رحمه الله عندما ألف، يقول له عبد الرحمن بن مهدي عندما جاءه: أريدك أن تكتب ما كان عليه من سبقك. والإمام أحمد عندما جاءه محمد بن مسلم بن واره يقول محمد بن مسلم : أتيت الإمام أحمد رحمه الله والإمام الشافعي في حلقة، قال: أتيت هذا المطلبي ؟ قال: لا، قال: أضعت شيئاً كثيراً، كيف تعرف العام من الخاص، والناسخ من المنسوخ؟ لأن هذا أمر عرفه من سبقه، فكان الشافعي رحمه الله حينما أخذ هذه القاعدة وطبقها، ولهذا عندما ذكر قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:269]، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، قال: وقد سمعت كل من أثق منه من أهل العلم يقولون: هي السنة.
إذاً هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
إذاً: مسألة التأصيل هي القواعد التي يسير عليها من أراد أن يعرف الحكم الشرعي بدليله.
الجواب: أما قاعدة: الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، العلماء يقولون: الاحتمال المبني على دليل وليس الاحتمال المجرد العقلي؛ لأنه إذا كان بدليل صار إما مجملاً وإما مُبيناً، وأما إذا لم يكن فيه دليل فإننا لا نأخذ به، مثال على ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا دُبغ الإهاب فقد طهُر )، استدل الزهري على أن هذا مطلق لكل إهاب سواء مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه، العلماء قالوا: لا، هذا الحديث يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد به مما يؤكل لحمه؛ لما جاء في حديث عائشة وحديث سلمة بن المحبق أنه قال: ( دباغها ذكاتها )، فجعل المذكى بمثابة المدبغ، ولا يمكن أن نأتي بالأسد فنذكيه ونقول: طهر، فكذلك لا ينفع إذا دُبغ، هذا فرض احتمال، هذا جاء من قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( إنما حرُم أكلها )، إذاً المراد هو الاحتمال الذي بني على دليل وليس احتمالات عقلية يمليها لنا العقل من غير دليل.
الجواب: أولاً: بعض الغيورين أحياناً يبالغ في قوله: بأن العوام لا يفهمون وأنهم تائهون، بل الحقيقة أنهم يفهمون كثيراً من المسائل وبالتفصيل أو عندهم القابلية والاستطاعة لفهم المسائل إن عرضت عليهم بأدلتها وتفصيلاتها، ولذلك يفضل بعض العلماء أن المفتي إذا أفتى ألا يقول: حرام وحلال؛ لأنك إذا قلت: حرام وحلال اعتمدوا على قولك، لكن إذا قلت: حرام والدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، أو حلال والدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا يعرف عندئذٍ أنك على هدى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وعلى حق ودراية.
ثانياً: نحن بحاجة إلى إعطاء العوام قبل أن نعرض عليهم الاختلافات أن نبصرهم بأدب الخلاف ومتى يجوز لك أن تأخذ بقول هذا وتترك قول هذا وهذا معروف عند العلماء.
ومن المستغرب أن الصحابة عاشوا في زمن كان فيه مشركون وأهل كتاب، وكانوا يتعاملون معهم دون تحرج في ذلك، أما المسلمون اليوم فيعيشون مع الغرب وبمجرد أن كل شيء يأتي من الغرب نقول: هذا تشبه، وهذا خطأ؛ إذ لابد أن نفرق بين أمرين: بين أن يكون الشيء اختص به غير المسلمين وأن يكون منشؤه من غير المسلمين، إذا كان منشؤه من غير المسلمين، فلا حرج أن نفعله، والعلم ليس حكراً على أحد، وكذلك اللباس فالرسول لبس اللباس العُماني، واللباس النجراني، واللباس الشامي، وكلها في ذلك الوقت ليست للمسلمين، لكن لأنهم لا يُختصوا به، إذا اختصوا بهذا الأمر فإن عمر رضي الله عنه حينما احتك المسلمون مع أهل الذمة جعل لهم لباساً خاصاً.
فينبغي ألا نجعل الناس في ضيق وحرج، ونبين لهم أن الأصل في اللباس أنه حلال، لكن إذا اختص الغرب أو الكفار بهذا اللباس بحيث لا يُعرف إلا بهم، نقول: هذا اللبس حرام، مثل الطاقية اليوم التي يلبسها اليهودي عُرف بها اليهود، مثل الطيالس التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم هذا ممنوع، لكن ما عدا ذلك الأصل فيه الحل؛ لأنه من المعلوم أن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين عايشوا بلاداً كثيرة، ولم يُنقل عن واحد منهم أنه ذكر أن هذا اللباس محرم أو غيره، ولهذا ابن تيمية قعد هذه القاعدة وفرق بين ما كان من منشأ الكفار وبين ما اختصوا به. ولهذا نقول: إن عامة الناس يعرفون الحكم الشرعي إذا بين لهم بدليل.
جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله، فقال: يا أبا عبد الله ما ترى في الطلاق الثلاث؟ قال: تطلق ثلاثاً، قال: أبا عبد الله ! أفرأيت إن ذهبت إلى فقهاء أهل خُراسان فأفتوا بأنها واحدة، قال: اذهب إليهم. جواب بسيط: اذهب إليهم، نحن الآن لو يقول لك واحد: أذهب، تقول: لا انتبه لا تتتبع الرخص، يا أخي! الرخص المقصود بها هي: التي يقولها صاحبها من غير دليل وينكرها الأئمة، أما الاختلافات في أقوال العلماء فالفرق فيها يسير، لكن لا يتشهى في اختياره دون اعتماد على ديانة هذا العالم أو علمه.
وأذكر قصة لأحد علماء هذا البلد المبارك، كانت أمه بجانبه وخرج هو للصلاة فاتصل أحدهم من منطقة أخرى ليستفتي فردت عليه، قالت: ما عندك يا ولدي! ماذا تريد؟ فسألها السؤال، فأجابت وقالت: هذا جواب الشيخ على كل من اتصل يسأل عن هذه المسألة، ولما عاد الشيخ اتصل أحدهم فرد عليه الشيخ، فإذا هو نفس السائل -لم يثق في جواب العجوز- فأجابه الشيخ بذات الإجابة، فقال له المتصل: إن والدتك أعطتني هذه الإجابة، لكني أردت التأكد منك قال: لا لا، ترى الوالدة ثقة. وهي حقاً كذلك؛ لأنها فعلاً أتت بذات الإجابة.
الجواب: أولاً: لا ينبغي للإنسان أن يفتي إلا وعنده تصور كامل لما سيفتي به، أحياناً بعض المفتين قد يفتي بفتوى ضيقة جداً لا تصلح إلا لأهله أو مجتمعه، ولم يأخذ في تصوره مجتمعات أخرى. أذكر أن أحد مشايخنا أول ما جاءت مسألة النقاب صار فيه حديث كثير؛ هل هو حلال أم حرام، أحد مشايخنا أفتى بالجواز، جاء الشباب وبعض الإخوة جزاهم الله خيراً قالوا: يا شيخ! أنت ما تدري، أنت ما عشت الواقع، الآن النساء في الأسواق تضع وتتكحل وتفعل -وهذا تبرج في النقاب- الشيخ خرج وقال: النقاب لا يجوز، اسمع المشكلة، وهذا الكلام قبل عشرين عاماً تقريباً حينما أفتى الشيخ بأنه لا يجوز، الشيخ ما تصور إلا بيئته مجتمعه، جاءت بعد ذلك اتصالات كثيرة من أخواتنا في مصر، وأخواتنا في سوريا، وأخواتنا في المغرب، وأخواتنا في دول الخليج، قالوا: يا شيخ! نحن الآن نحارب لأننا ننتقب، وسبب هذه المشكلة أن المفتي حينما أفتى تصور واقع مجتمعه فقط.
ومرة من المرات كنت في الحج فكنت أفتيت بهذه الفتوى قديماً: أن النقاب إذا لم يكن فتنة فلا بأس، الأصل فيه الجواز، واستدللت بحديث عائشة: أنها كانت تطوف وهي متنقبة، وحديث أم سلمة ، لحقني بعض الإخوة فقالوا: يا شيخ! أنت ماذا صنعت؟ قلت: ماذا صنعت يا أخي؟ قالوا: يا شيخ! أفتيت بالنقاب، قلت: أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في النقاب في صحيح البخاري من حديث ابن عمر : ( ولا تنتقب المسلمة )، أليس النقاب كذا وكذا قال: يا شيخ! لكن أنت لا تدري.. فضحكت وقلت له وأنا أضحك: أنت متزوج؟ قال: لا، قلت: أسألكم سؤالاً الآن: لو رأيت امرأة لا تغطي بعباءتها من الخلف هل في ذلك فتنة؟ قال: أي والله فتنة، قلت: أنت لا تتطلع من الفتنة، وقلت: وكل الأحكام الشرعية لا تعلق عليك وعلى فلان، ولهذا عمر رضي الله عنه حينما أراد أن أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم يُمنعن من الخروج -من غيرته- فكان يقول: يا رسول الله! مر نساءك ألا يخرجن! من غيرته، فخرجت سودة بنت زمعة وكانت فارعة في الطول فلما خرجت تريد البراز -(هو مكان للنساء لقضاء الحاجة)- فنظر إليها عمر فقال: قد عرفناك يا سودة! فانظري كيف تخرجين؟ يريد أن يضغط عليها، سودة بدل أن تذهب إلى الصحراء دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة ( فدخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم عند
الجواب: أما مسألة فقه الأقليات أحياناً السائل يصور لك تصويراً بحيث تظن أنه يعيش في ضنك عظيم، فتضطر أنت إلى أن تبيح له أشياء للضرورة في حين أن الواقع خلاف ذلك، وأنا ذهبت إلى أمريكا، وذهبت إلى بريطانيا، وذهبت إلى ألمانيا، وذهبت إلى البرازيل، وذهبت إلى نيوزلندا، ذهبت إلى دول كثيرة، الواقع الذي نسمعه في بعض الأسئلة ليس الحقيقة، ومن الغريب أنك أحياناً بسبب ضغط الواقع يجعلك تقول: جائز.
مرة من المرات سمعت أحد الفضلاء جزاه الله خيراً عندما سُئل عن الغناء والموسيقى، قال: وآلاف بل ملايين المسلمين يعشقون هذا اللون من الفن، ولا يمكن أن نحول بينهم وبين ما يشتهون بقولنا: حرام، هذا هو ضغط الواقع، وهذا خطأ ولا ينبغي.
لذلك لابد أن نعرف أن الأحكام على نوعين: شرع منصوص عليه، وشرع مؤول.
الشرع المنصوص: الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، هذا لا يمكن أن يتغير لا في شرق ولا في غرب، وهذا هو الذي يسميه العلماء المُحكم من النصوص.
القسم الثاني: الشرع المؤول، الذي يقول به العالم بناءً على ضوابط وبناءً على أدلة، فهذا للعالم أن يقيد ما توسع أو يوسع ما قيد، وهذا يدل على أن فقه الأقليات ربما يعطون من الأحكام ما كان مبنياً على أمور ثلاثة: ما كان مبنياً على سد الذرائع، ما كان مبنياً على العُرف، ما كان مبنياً على المصلحة، هذه ثلاثة كلها يجوز أن تُعطي بلدك حكماً، وتعطي إخوانك في بلد آخر حكماً آخر، مبنياً على هذه القواعد الثلاث.
الجواب: أول ما جاءت مسألة الاختلاط، هل هي: حرام أم حلال، قال لي أحدهم: الاختلاط حرام أم حلال؟ قلت له: الإنسان مسير أم مُخير؟ قال: كيف؟ قلت: هل هذا السؤال صحيح: الإنسان مسير أم مُخير؟ هذا الأسلوب خاطئ، إن قلت: مسير فقد أخطأت، وإن قلت: مُخير فقد أخطأت، وإذا قلت: الاختلاط مُباح فقد أخطأت، وإذا قلت: الاختلاط مُحرم فقد أخطأت؛ لأن السائل قد يفهم تصورات معينة، فإذا قلت: جائز بنى جميع تصوراته على القول بالجواز، وبالمقابل إذا قلت: حرام بنى جميع تصوراته على ذلك، إذاً الاختلاط لفظ متداول عند السلف وعند الفقهاء بمعنى معين، وليس مطلقاً، معروف أن الخلوة غير الاختلاط، فالاختلاط الذي يسميه الناس الاختلاط الساذج الغير منظم مثل ما يوجد في السوق، ويوجد في الطواف، هذا ما يمكن أن تستدل به على جوازه مطلقاً، وهذه من الأشياء التي ذكرتها في جمع النصوص والأدلة، كذلك مسألة الخلوة، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )، ولا يكون الشيطان ثالثهما إلا إذا كانا في مكان منعزل أو مغلق أما إن كانا في مكان مفتوح بحضور جمع فهذا لا يسمى خلوة.
الجواب: والله لا توجد كتب هذه القواعد، إنما أخذتها بناء على ممارسة، ولا أعرف كتاباً في ذلك إلا قبل أن آتي رأيت كتاباً اسمه: القواعد التأصيلية، رأيته قبل أن آتي بدقائق، ولا أستطيع أن أحكم عليه، لكن هي ممارسات يعرفها من مارس هذا الفن.
كيفية الاستفادة منها؛ لو أنك أخذت طريق الأئمة المعروفين من العلماء المتحققين كـأبي العباس بن تيمية ، و ابن القيم ، و ابن حجر ، و أبي عمر بن عبد البر ، و المازري المالكي و عبد الوهاب المالكي، هؤلاء لهم أصول تجد أنك إذا قرأت لهم تتشرب هذه القواعد في تصرفاتك وفي استدلالاتك، والله أعلم.
المقدم: أخونا الأستاذ: محمد المهلى يُتحفنا بمداخلة وجيزة.
مداخلة: بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم جميعاً، في الحقيقة هذه أول مرة أحضر هذه الجلسة المباركة أشكر مضيفنا والمحاضر ومدير اللقاء، في الحقيقة إضافة ومسباقية للمداخلة الأولى للأخ الكريم الشيخ: عبد الله أحد الدكتورات السعوديات التي حصلت على الدكتوراه من أمريكا أكيد، تزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعني: مع المرأة، ولكن بعد وفاته وكون المجتمع ذكوري فسروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تفسيراً فيه اضطهاد للمرأة، ويا ليت هذا الفهم الخاطئ منقول عن أحد المسلمين الذين على مذهب أبو حنيفة وإنما عن شخص يهودي، والسلام عليكم.
الجواب: هذه هي الجرأة على النصوص الشرعية، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود ونقل عن أبي حنيفة وغيرهم: من لم يعد كلامه من عمله هلك، ويجب أن تعرف عندما تقول: هذا حلال وهذا حرام، أنك توقع عن رب العالمين، وهو الذي يجعلك تهابه، واليوم أصبح الإنسان مع الأسف لا يبالي، بل إنك أحياناً حينما تقول في مجلس: هذا حلال ما فيه بأس، لكن لو أنك تتكلم في المسائل الطبية لقال الناس: يا أخي! أنت لست بطبيب، يا أخي! موت القلوب أشد من موت الأبدان، والغريب أيضاً تجد أنك أحياناً تريد أن تبني، أو أن تصنع سيارة، أو أن تقوم مصنعاً، ذهبت إلى هيئة الاختصاص وسألت ولم تكتف بالخبرة التقليدية، طيب أليس من حقك ومن واجبك أن تسأل أهل العلم عن المسائل الشرعية.
واليوم أصبح الإنسان مجرد أنه مثقف دكتور، يحلو له أن يفتي في دين الله، كما يقولون: أصبحت العلوم الشرعية مرتعاً خصباً لكل أحد، ولهذا يجب دائماً أن نعلم الناس أنه لا يفتي إلا أصحاب الشأن، كما أنه لا يطبب إلا أصحاب الشأن، وكما أنه لا يدخل في العقار إلا أصحاب الشأن.
وتذكرون قصة ذلك الرجل المضارب الكبير الأمريكي حينما أراد أن يخرج من بيته إلى البورصة -فأعزكم الله- وقف عند صاحب النعال الذي يُلمع الأحذية فوضع نعليه، فقال له: اليوم السهم الفلاني بكذا، قال: أنت وما يدريك؟ قال: أنا أضارب بالأسهم، يقول: من يوم ما ذهب وصفى محفظته وقال: إذا بدأ هؤلاء يضاربون فهذا دليل على عدم الفائدة في الأسهم، هذا الآن يغار على الأسهم، أليس الأولى بنا أن نغار على مبادئنا، يقول الإمام أبو الوليد الباجي: لو أن أهل العلم أنكروا على كل أحد يقول قولاً ليس له سند وليس له أحد لما رأيت من يتجرأ في مجالسنا من يقول ذلك، هذا قول أبو الوليد الباجي في القرن الخامس، فكيف نحن الآن، ولهذا نحن بحاجة إلى أن نُعظم القرآن والسنة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد، هذا مسُلم، لكن ليس لأحد الحق أن يتكلم في الدين بناءً على أنه مثقف وله كتابات كثيرة، كما أنه ليس لصاحب الدين حق أن يتكلم في الطب وهو ليس من أهل هذا الشأن.
الجواب: سبق أن قلنا: إنك إذا رأيت عالماً تثق في دينه وعلمه، ورأيت آخر مثله فلك أن تتبع من شئت إذا كنت ترى أن هؤلاء أئمة، أما أن تسمع أن فلاناً عالم أو أنه متخصص في كلية الشريعة، أو من الأزهر، أو من معهد العلوم الإسلامية، بمجرد أن هذا دكتور تتبعه هذا لا ينبغي؛ لأن كثيراً ممن يتخرج من الجامعات ربما ينسى العلم، ولعلي أيها الإخوة! أن أبين أيضاً أنه لابد أن تسع قلوبنا لأقوال أهل العلم مهما اختلفت وتنوعت.
وأذكر مرة أني حضرت مجلس اجتماع مع شيخنا عبد العزيز بن باز ، وكان شيخنا محمد بن عثيمين حاضراً في ذلك اليوم، فقال له الشيخ عبد العزيز : هناك طلاب علم وقضاة يأتون عندي يوم الثلاثاء نجتمع وندارس وأريدك أن تأتي، فجاء الشيخ محمد وكان الطلاب يسألون ويجيب أولاً الشيخ ابن باز فيقول: أما أنا فأقول كذا كذا، والدليل قال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، ثم يجيب ابن عثيمين فيقول: أما أنا فأخالفك يا شيخ! وأقول الدليل كذا، والحمد لله فتنهي الأسئلة وينفض المجلس بروح متحابة تعلوها هيبة العلماء
أما الآن وللأسف فمجالسنا مجالس لمحاولة الإقناع دون تقبل للرأي المخالف؛ ولذلك كثرت العداوة والبغضاء؛ لأنه حينما يناقش إنما يناقش لأجل إقناع الآخرين، ولو أننا أخذنا بقول السلف: كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلامك خطأ يحتمل الصواب، وتعال لأُبين لك وجهة نظري فتعذرني، وتُبين لي وجهة نظرك فأعذرك، لتصافت القلوب وسلمت النفوس.
ومن أجمل ما سمعت وقرأت في مناظرة الشافعي و إسحاق بن راهويه : كان الإمام الشافعي في مجلس، وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى مجلس شيخه: سفيان بن عيينة ولا يجلس مع الشافعي ؛ و ابن عيينة هو شيخ الشافعي فيقول أحمد لـإسحاق : تعال اجلس عند الشافعي ، قال: أذهب إلى الشافعي وأترك سفيان بن عيينة ! سفيان بن عيينة شيخ الشافعي ، قال: تعال والله! لو لم تأخذه بإسناد عال لقد أخذته بإسناد نازل، قال: فجلس إسحاق ينظر من هو الشافعي ، الشافعي جالس يُحدث حتى جاء إلى حديث أسامة بن زيد : ( قال: يا رسول الله وهل أنت نازل في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا
واجتمعوا مرة وكان الحكم أحمد يعني: بين الشافعي وبين إسحاق فتناظرا في مسألة دباغ جلد الميتة هل يطهر بالدباغ أم لا؟ فكان الشافعي يرى أن كل دباغ يطهر، فقال: ( إذا دُبغ الإهاب فقد طهُر )، وهذا نص عام يفيد كل الدباغ، قال إسحاق : فإني أرى خلاف قولك، فإنه حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن عبد الله بن عكيم : ( أنه جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )، رواه ابن حبان وأحمد ، وكان أحمد يأخذ بقول إسحاق فرجع أحمد إلى قول الشافعي ورجع الشافعي إلى قول إسحاق ورجع إسحاق إلى قول الشافعي، كل واحد غير قوله، الله أكبر! هذا الذي نريده الآن: التجرد في فهم المسائل، والحمد لله كلهم على خير فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، اقتد في القول واقتد في الهدي، والله أعلم.
الجواب: هذا من التصورات الخاطئة، ما الفتنة التي جعلت أنها مخالفة؟ إن قُصد بالفتنة التصرفات الفردية مثل الذي يريد أن يمنع خروج المرأة فهذا أمر كما قلت: لا يعمم، أما إن قُصد بالفتنة بأن المرأة تكون محتشمة وغير متبرجة فهذا موجود الآن، ويسميه الفقهاء: امرأة برزة، وامرأة من ذوات الخدور، والبرزة هي التي تخرج أو اعتادت الخروج، اليوم ليست المسألة وجود الخلاف أو عدمه في كشف وجه المرأة الآن هناك إجماع أن التصرفات الفردية الآن التي تُمارس كالمكياج والكحل وإظهار الشعر هناك إجماع على تحريمها.
إذاً: ليست المسألة الآن مسألة الخلاف في كشف الوجه بل المسألة في التطبيق على أرض الواقع، فلو أن بعض نسائنا التي تريد كشف الوجه أخذن بقول بعض أخواتنا بكشف الوجه، هل تستطيع بعض نسائنا أن تخرج من غير مكياج؟ الواقع لا، الواقع أن الممارسة خلاف ذلك، وهذا هو الإشكال وهذه هي المشكلة.
إذاً: أنا دائماً أقول: المسائل التي يشترك فيها عامة الناس لابد فيها من بيان ونظرة شاملة حتى ولو خالفت هذا القول، وقضايا العامة ما يسوغ أن يكون فيها فتوى خاصة؛ لأن تطبيقها يحدث فيها إشكالات كثيرة.
الجواب: أولاً: مسألة التعويض بالضرر المعنوي صورته: رجل خطاط يكتب ويرتزق بكتب يده، فوقع عليه حادث وانقطعت يده التي يكتب فيها، الآن فيها خُمس الدية، لكن المتضرر يقول: خُمس الدية لا تكفي؛ لأنه كان يعمل ويكسب سنوياً أربعمائة ألف، والدية هذه مقدارها تقريباً ثلاثون ألفاً، فهو يريد تعويضاً معنوياً عن هذه اليد التي قطعت، وهذه نظرية من فقهاء القانون كما يقولون، وليست حكماً شرعياً.
والضرر على نوعين: ضرر مادي، وضرر معنوي، الضرر المعنوي الذي يسميه العلماء الآن قضاء وقدر، وهذا لا يجوز فيه التعويض، أما الضرر المادي بمعنى أن الإنسان يُمنع من الشيء وقد وجد سببه وحُرم ربحه، فهذا يجوز التعويض فيه.
مثل: إنسان أراد أن يُبرم صفقة وحضرت الصفقة ثم جاء شخص ولبس عليهم وضرهم، ذهبت هذه الصفقة، الصفقة وجدت والضرر حصل بحرمانه من هذه الصفقة، فلا حرج أن يُعطى تعويضاً.
ولهذا قال العلماء رحمهم الله كالمالكية قالوا: إذا تضرر المغصوب من المال الذي غصبه الغاصب فله أن يُعيد الغاصب هذا المال وما يمكن الانتفاع به كذلك؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، فإذا ترتب عليه انتفاع ولو لم يكن له أن ينتفع فإنه يلزمها مثلاً: غصب الأرض الآن، وبعد عشر سنين قال: خذ الأرض، قلنا: لا يكفي، هذه الأرض مثلها لو أخذتها لصار فيها أجرة فيجب أن تعطي المغصوب منه أُجرة عشر سنوات؛ لأن هذا ضرر يترتب عليه ضرر مادي، فلا حرج في ذلك.
أما أن نقول: إن هذا خلاف قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا غير صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عرضت عليه قضايا بها كما في قصة عمران بن حصين حينما حصل بين شخصين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشادة، فأخذ أحدهم بيد صاحبه فقضمها، فسل الآخر يده فسقطت ثناياه، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ( فقال: يا رسول الله! أريد العوض قال: ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يضع يده في فيك حتى تقضمها قضم الفحل )، فهذه هي التي تجعل العلماء يقولون: بأن الضرر المعنوي لا يمكن أن يُقدر. ولهذا الآن المحاكم الغربية -وأنا لي علم بهذه المسألة- أكثر مشاكلهم في مسألة: كيفية التعويض عن هذا الضرر المعنوي؛ لأن الضرر المعنوي أحياناً قد يكون أكبر من السلعة وهذه هي التي يحصل فيها إشكالات كثيرة، ولهذا الدعوى شيء والواقع شيء آخر، والله أعلم.
الجواب: النصيحة كما قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم يقول: وما وقع في مسائل الاجتهاد فلا ينكر باتفاق وإنما هو النصيحة والإرشاد، يعني: أنك إذا رأيت شخصاً أخذ برأي في مسألة خلافية تقول: يا فلان! أنا أعرف أنك أخذت بقول من الأقوال لكن ترى الأخذ بالقول الثاني أحوط من هذا وأبرأ لذمتك والله يوفقك، وهذا لا يثير نزاعاً.
المشكلة أننا قد نبدع ونفسق في مسائل يسع فيها الخلاف، وهذا لا ينبغي، هذه النصيحة بين عامة الناس. أما موظفو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليست وظيفتهم الإرشاد، وظيفتهم الأخذ على يد من أخطأ، وأنا دائماً أقول للإخوة: الآمرين بالمعروف وظيفتهم وظيفة عسكرية مثل وظيفة الجندي، الجندي حازم يأخذ ويحاسب، كذلك الآمر بالمعروف ما يلزم أنك تحبه مثلما تحب الداعية الذي يوجه ويرشد فقط، الآمر بالمعروف يأخذ على يد من أخطأ، كما أن الجندي يأخذ على يد من أخطأ، لو أنك قطعت الإشارة وجاءك الشرطي وقال لك: يا أخي! والله ما يليق وقد سمعت فتوى مشايخنا يقولون: بأنها حرام، والله يوفقنا وإياك، والسلام عليكم، لا يمكن هذا؛ لا يمكن؛ لأن الشرطي جهة ضبط ومحاسبة. فكذلك الآمر بالمعروف. إلا إن تغيرت الفتوى، وهذا الذي يقول فيه العلماء: حكم الحاكم يرفع الخلاف.
الجواب: أنا ما أظن أن هناك تناسباً؛ لأن القضايا الفكرية أنواع: قضايا تتحدث عن الاستدلال بالكتاب والسنة فهذه يجب أن تصار إلى التأصيل.
أما القضايا التي يسميها علماؤنا: الفكرية والاجتماعية، فلا يلزم أن يكون القول فيها قولاً واحداً، بل لا بأس أن تأخذ بقول فلان أو علان؛ لأن هذه مما يسع فيها الخلاف. واليوم أصبحت المناهج يا إخوان! كأنها قضايا اعتقاد، وهذا خطأ، قضايا الاعتقاد شيء وقضايا التحويل والمنهجية شيء آخر.
أنا والله ممنون بهذا الاجتماع الجيد، وهذا الإنصات الذي أثلج صدري، وأحسب أني لم أعطِ الموضوع حقه ولكن حسبي أن أرى هذه الوجوه وهي مشرئبة ومستمعة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزق أخانا الدكتور: عبد العزيز كل خير وأن يرزقه حسن الإثابة وجزيل العطاء من الله سبحانه وتعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه )، اللهم أعظم أجره واغفر ذنبه، ويسر أمره، وتجاوز عن خطيئاته إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وأشكر لكم حسن إنصاتكم، وأشكر أخي الدكتور خالد على حُسن إدارته لهذا اللقاء، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
مدير اللقاء: اللهم صلِ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمتعتنا يا شيخ! وأفدتنا، وأمضينا هذه الليلة في حوار جميل ومفيد، وأجدني محتاجاً للعودة إلى الموقع لمشاهدة اللقاء لاشتغالي بالأسئلة وإدارتي للحوار، شكر الله لكم جميعاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: أشكر فضيلة الشيخ على هذا الطرح الممتع، وكذلك الشكر موصول لسعادة الدكتور خالد حفظكما الله سبحانه وتعالى، ولعلي الحقيقة استفدت كثيراً من هذه المحاضرة، وأؤكد على عبارة ذكرها الشيخ عبد الله حفظه الله وهي قضية التجرد، حينما يستفتي الإنسان لابد أن يكون متجرداً باحثاً عن الحق، وكذلك المفتي حينما يُفتي أو يغير رأيه باحثاً عن الحق متجرداً، فهذا هو الأصل.
ولعل الشيخ ذكرنا أيضاً بعلم هام يتطلب منا مزيداً من البحث وخصوصاً من لم يعرفه وهو: علم أصول الفقه، وأن الفتاوى في شريعة الإسلام جاءت من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما لم يكن واضحاً واستجد فله قواعده المعروفة عند العلماء وخصوصاً من خلال قواعد أصول الفقه، فهناك قواعد كلية وقواعد جزئية.
والشيخ حفظه الله أشار إلى شيء، وذكرني بشيء وهو: أن حال المستفتي أحياناً تتطلب أن تراعى فيها مصلحته، وأذكر أن ابن عباس دخل عليه رجل واستفتاه فقال له: يا ابن عم رسول الله! هل للقاتل توبة؟ قال: نعم، له توبة، بعد قليل جاءه رجل آخر فقال له نفس السؤال قال: يا ابن عم رسول الله! أللقاتل توبة؟ قال: لا، ليس للقاتل توبة، فاستغرب التلاميذ، أيفتى هذا بأن له توبة، ويُفتى هذا بأن ليس له توبة؟ فعلموا من ابن عباس أن الأول رُبما وقع منه القتل فأراد التوبة، وأن يفتح له باب الرحمة والكف عن الناس.
أما الثاني: فكان يُبيت نية القتل ويُريد أن يطمئن أنه إذا قتل يستطيع أن يرجع ويتوب، فأراد أن يمنعه من الشر والوقوع في الخطيئة، وبمثل هذه النظرة الثاقبة يفتي المفتي ليس تغييراً في الفتوى، لكنه منع للشر وإلا فالفتوى الأولى التي ذكرها ابن عباس هي الأصل، لكنه أراد أن يمنع هذا من ظلم نفسه وظلم الآخرين.
ومما أشار إليه فضيلة الشيخ حفظه الله أن الدليل مهم في عرض المسائل والأحكام خاصة عند اختلاف الأقوال.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الشيخ، والشيخ باحث ضليع في كثير من الأمور المستجدة وخصوصاً في قضايا المعاملات والأمور المالية، وهو عضو في عدد من اللجان في المؤسسات المالية وغيرها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك له في نفسه وعلمه وماله وأهله، وأن يرفع درجاته في عليين، ويقيه شر نفسه وشر الآخرين.
وأسأل الله سبحانه وتعالى لكم المثوبة، وأن يكتب لكم الأجر، وأن يبارك لكم في أنفسكم وأهليكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلادنا وأهلها وقادتها وكل من يُحبها من كل سوء ومكروه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، ويحفظ إخواننا في كل مكان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر