فإن أمة الإسلام إنما أصابها ما أصابها من الهزائم والذل بسبب تخليها عن أسباب النصر، وقد تأخذ الأمة بأسباب النصر لكن النصر يتأخر عنها لأسباب يريدها الله تعالى، فإن المحق الذي لا يقصر في علمه يؤمر بالصبر فإذا لم يصبر، فقد ترك المأمور، وقد يتأخر النصر؛ لأن الأمة لم تأخذ بعد بأسباب النصر كاملة، فللنصر أسباب للهزيمة أسباب، فإذا أراد المسلمون جماعات وفرادى أن ينتصروا على عدوهم، وأن يمكن لهم في الأرض، فإنه يجب عليهم أن يأخذوا بأسباب النصر، كما أخذ بها الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأعظم أسباب النصر هو إقامة الصلاة في المساجد، وإيتاء الزكاة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والرجوع كلياً إلى رب الأرض والسماوات، فحينها ينزل النصر ويولون الدبر، ولقد بين أسباب النصر أحد جواسيس الروم الذين أرسلهم القبقلار القائد الرومي عند قدومه لفتح بلاد الشام، فقد قال هذا الجاسوس عند عودته للقبقلار واصفاً له حال جيش المسلمين بالليل رهباناً، وبالنهار فرساناً، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم، فقال له القبقلار : لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.
ولقد بين أسباب النصر أيضاً أحد جواسيس الروم الذين أرسلهم بطريق دمشق، وذلك عند قدوم جيش المسلمين ناحية الأردن، فقال الجاسوس للبطريق: جئتك من عند رجال دقاق، يركبون خيولاً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، فالتفت بطريق دمشق إلى أصحابه فقال: أتاكم منهم -يعني: من المسلمين- ما لا طاقة لكم به.
ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم في العهد المكي إبان ظهور الدين وإعلانه على صناديد قريش يعيشون ألوان التعذيب والإهانة، والضرب والإبادة، ويعدهم صلى الله عليه وسلم بالفرج، فلما ضجروا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقالوا: ( ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا يا رسول الله! فنظر إليهم عليه الصلاة والسلام وقال: قد كان فيمن كان قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: يا مخنث العزم أين أنت، والطريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس دراهم معدودة، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، بينما تزهو أنت باللهو واللعب.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )، وفي هذا الزمان كثرت الانحرافات الفكرية التي تنسب أحياناً للدين، والمغالطات والتوجهات المخالفة للأنبياء والمرسلين وأئمة المسلمين، فكل يوم لها مسار، وكل مصيبة عندهم لها تخريج وتأويل، سفهاء من غير عقل، وآراء من غير حكمة، وكتابات وتوجهات ربما جرَّت الأمة إلى مسارات لم يقدر قدرها، ولم يراع ويلاتها.
إن عدم فهم طبيعة هذا الدين قد يؤدي بالناس إلى الاستعجال، وإصدار بعض الأحكام والأفعال غير المدروسة، والتي لم يحسب حسابها.
وإن واجب المسلم في كل الأوقات وفي جميع الأزمات هو البلاغ وإرشاد المسلمين مع الصبر، أما هداية الناس وإلزامهم بقبول الحق فهذا أمر موكول إلى رب الأرض والسماء، ليس للبشر فيه حول ولا قوة، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية:22]، فيجب أن يفهم أهل الإسلام طبيعة هذا الدين، وأن يلتزم المسلم بخلق المرسلين، وبسنة سيد الأنام أجمعين، ومنهج سلف الأمة المهتدين، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35].
إن الالتزام بأركان الدين وواجباته سبب أكيد من أسباب النصر، وصمام أمان من الانحراف والتخبط مع ما فيه من التثبيت والهداية، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
فقد جاء في صحيح مسلم عن المستورد القرشي رضي الله عنه، وكان عنده عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس. فقال
فهذا الكلام من عمرو رضي الله عنه لا يريد منه أن يثني على الروم الكفرة، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة؛ لأنهم عند حدوث الفتن أحلم الناس، ففيهم من الحلم والأناة ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها لأجل ألا تذهب أنفسهم وحياتهم، وفي هذا دلالة على أن الرفق والأناة وترك العجلة أيام الفتن والبلايا والمحن والرزايا يجنب الناس الشرور وهلاك الأنفس والأموال.
أولاً: الصبر.
ثانياً: حفظ العبد نفسه.
فإياك أخي والمعاصي في الخلوات فإنها سبب انحراف العبد، وسبب وقوعه في الشهوات وسبب المحن والبلايا؛ لأن العبد ربما يكون التزامه في الظاهر لأجل الناس، وأما ما بينه وبين ربه فخوار وبوار، قال عليه الصلاة والسلام كما روى ابن ماجه بسند جيد من حديث ثوبان : ( يؤتى لأناس من أمتي بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاً، فيقول الله: كوني هباءً منثوراً، وقرأ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، قال ثوبان : صفهم لنا، جلهم لنا يا رسول الله! لعلنا أن نكون منهم ونحن لا نشعر، قال: أما إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ).
فانظر في نفسك، فلعلك تجلس في غرفتك تبحث في الشبكة العنكبوتية عن غانية، أو عن صورة تفتنك في دينك ودنياك، وتضل بها عن سواء السبيل، فراعِ ذاك فإنه من أهم الأشياء.
ثالثاً: حفظ الله للعبد فإن من حفظ الله لعبده أن يحفظ ذريته وأهله وذويه الذين حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر. قال محمد بن المنكدر : إن الله ليحفظ بالعبد الصالح أهله وذويه، وذريته والأقارب الذين حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ويقول سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي عنه وهو سيد التابعين لولده، وهو ينظر إليه: والله إني لأكثر الصلاة وأزيد فيها من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، فأتى بعض الطلاب إلى عطاء ، فأخبروه بقول سعيد فقال: إن صاحبكم لفقيه اقرءوا إن شئتم: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82].
رابعاً وأخيراً: الاهتمام بالصلاة في جماعة وخاصة صلاة العصر وصلاة الفجر، فإنهما بإذن الله سببان أكيدان يحفظان العبد من الزلل والخلل، ويساعدانه على رؤية الباري جل جلاله وتقدست أسماؤه، فقد روى البخاري و مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم سترون ربكم لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا )، قال أهل العلم: في هذا دلالة على أن اهتمام العبد بصلاة الفجر، وصلاة العصر من الأسباب التي يتوصل بها إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم والتقوى، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الاستبشار بهذه الآية، فقد رأى المسلمون الكثير من صنوف الأذى والجبروت من قبل أعداء الدين، حتى أدى ذلك إلى سيادة روح التشاؤم واليأس والقنوط في نفوس المسلمين وصفوفهم.
أخي المبارك! إنه إذا جاز تخلف وعود البشر فوعد الله جل جلاله وتقدست أسماؤه لا يمكن أن يتخلف، وسنته لا يمكن أن تتبدل في نصر عباده المؤمنين، أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف وأصعبها؟ وحين تحزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغت القلوب الحناجر، وظن الناس بالله الظنونا، أتى الفرج من القوي القاهر، والجبار المتكبر، والعظيم ذي الجبروت.
وحين مات عليه الصلاة والسلام عاش المسلمون في حيرة وضيق، فارتدت بعض قبائل العرب، واختلفت الآراء، وأحدق الخطر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا أيام قلائل حتى تحول المسلمون إلى فاتحين وناصرين وقاهرين، ومتمكنين في الأرض.
ولينظر العاقل في الماضي كم واجه الإسلام من حروب ومحن، وكوارث وفتن، ثم خرج منها قوياً عزيزاً متيناً، ومن ذا يكون في وحشية التتر، أو دموية الصليبيين في الأندلس، أو همجية المستعمرين، أو اليهود الغاصبين، ومع ذلك استطاع المسلمون أن ينتصروا عليهم مع ضعف الإمكانات، إلا أن التعلق بالرب من أقوى الاستمدادات، فهل يعي المسلمون هذه الحقيقة، وهم يعيشون أزمة البعد عن طاعة الله والإعراض عن شرعه، مع تآمر الكفر وأهله على المسلمين.
إن علينا أن نسأل أنفسنا لم حدث النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الأحاديث؟ ولم كان منه ذلك الاهتمام الشديد عليه الصلاة والسلام بأمر الفتن والملاحم حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يصابون بشيء من الذعر والهلع لكثرة حديثه عليه الصلاة والسلام عنها؟
ويحدثهم عليه الصلاة والسلام عن فتن بعيدة عن عصرهم، ويهتم بها أيما اهتمام، ويستعيذ منها، ويطلب من أصحابه أن يستعيذوا منها مثل فتنة الدجال وغيرها من فتن الملاحم وأشراط الساعة، فعن عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بأبي هو وأمي بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ) رواه مسلم في صحيحه.
لقد كثر في الآونة الأخيرة استشراف الناس إلى أحاديث آخر الزمان، وأحاديث الدجال ، ولعل البعض منكم قرأ عبر الشبكة العنكبوتية في خروج الدجال قبل ستة أشهر تقريباً، أو أنه قد خرج المهدي وأنه مولود، وساعد ذلك تعبير المعبرين بأن الرائي سوف يصلي خلف المهدي ، أو أنه سيقاتل الدجال ، وغير ذلك من الجزم الذي هو من الرجم بالغيب؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فاحذروا من بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل بطريقة غير شرعية ولا علمية، وتستغل ميل الناس إلى هذه الأفكار، ولم يؤمر المسلمون يوماً من الأيام أن تكون أحاديث آخر الزمان سبباً للخمول والسكون، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاسترواح لقارعة من السماء تهلك الكفار والمشركين دون رجوع المؤمنين إلى الباري جل جلاله والتوكل عليه وترك المعاصي، فهذا لون من ألوان السفه وضيق عطن، وتفسير للنصوص الشرعية على غير مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن هذا التطبيق أيها الإخوة! ليس على الجادة التي كان عليها أهل العلم الذين كانوا يوصون بها الناس.
إن الفتن وأحاديثها إنما تذكر للتحذير من وقوعها، وبيان واجب المسلم أمامها، نعم إن الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء الربانيون، وإذا أدبرت أبصرها حتى الدهماء قال عليه الصلاة والسلام: ( إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها ) رواه أبو داود بسند جيد.
قال ابن بطال رحمه الله في قوله: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات): هذه كلمة جامعة لمعان كثيرة، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل، ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك.
أحبتي الكرام! إنه لا ينفع اليوم بكاء ولا غيره فليس ثمة مخرج لهذا الهوان إلا صدق اللجوء إلى الله، فهو العظيم سبحانه الذي لا أعظم منه، والعلي سبحانه الذي لا أعلى منه، والكبير سبحانه الذي لا أكبر منه، والقادر سبحانه الذي لا أقدر منه، والقوي الذي لا أقوى منه، العظيم أبداً حقاً وصدقاً، لا يعصى كرهاً، ولا يخالف أمره قهراً، فالدعاء الدعاء يا رعاكم الله!
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ادعوا الله أن يعصمكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ادعوا الله أن يكشف البلاء عن المسلمين الذين يعانون ألوان الفتن في الدين من قبل أعداء المسلمين، ادعوا الله وتضرعوا إليه أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين، ولا تتصفوا بصفات الكافرين الذين ذكرهم الله بقوله: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
فهذا حبيبنا عليه الصلاة والسلام حينما صف الصفوف يوم بدر، والتقى الصفان أقبل بأبي هو وأمي يناجي ربه، ويتضرع إليه في طلب النصر، والتمكين في الأرض، ودفع شر أهل الباطل والكفر، وبدأ يرفع يديه رفعاً شديداً، وهو يقول: ( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال بأبي هو وأمي يهتف بربه مستقبل القبلة ماداً يديه، حتى سقط رداؤه على منكبيه، فأتاه
فمن ذا الذي سأل الله فلم يعطه، أو دعا ربه فلم يجبه، أو توكل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه؟ كان صالح بن الإمام أحمد رحمه الله يوم أن فتن الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن يقول: كنت أسمع أبي كثيراً يقول: اللهم سلم، اللهم سلم، اللهم سلم، وتذكر حديث أنس في الصحيحين: ( ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم سلم ).
إن توجيهات القرآن الكريم تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهات ضغوط الخارج وتحدياته لا يكمن فقط في التشاغل بالرد عليها ومواجهتها مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة، وإنما يتمثل بالتقويم الداخلي أولاً بإصلاح الضمائر قبل الظواهر، وإقام الصلاة في الجماعات، وإيتاء الزكاة، وألا يترك العبد ما أمره به ربه سبحانه وتعالى دقيقه وجليله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
إننا حينما نقرأ هذه الآية العظيمة يجب ألا نقرأها على أنها مجرد آية نزلت على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنها آية خاصة في زمان خاص، وإنما نقرؤها ونتعلمها ونعرف قدرها، فإنه لا يستطيع المسلم أن يغير ما حوله إن لم يقم بتغيير نفسه أولاً، ولا ريب أن ذلك شاق وعسير، غير أنه هو الطريق لو أردنا الخروج من مأزق الخطر، وتأملوا قول الرب جل وعز: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، فليس الصبر على أعباء المواجهة هو وحده يكفي، بل لا بد معه من التقوى، والتقوى هي طاعة الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، وحين حلت الهزيمة بالمسلمين في أحد أثناء المعركة، قال بعض الصحابة: كيف نهزم ونحن جند الله! فجاء الجواب من العالم بما في الصدور المطلع على مكنونات القلوب: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] أي: قل يا محمد! فالهزيمة إنما وقعت بسبب خلل راجع إلى أنفسكم لا إلى دينكم.
ولعل في هذا كفاية، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر