إسلام ويب

العناية بفقه السلفللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجدر بالأمة العناية بفقه الصحابة وعلمهم؛ وذلك لأسباب عدة، منها: أنهم أكثر هذه الأمة علماً، وأبرها قلوباً وأقلها تكلفاً وأبعدها عن اتباع الهوى، ومن اهتم بعلمهم وفقههم استفاد علوماً أخرى كعلم القلب الذي يسعد به صاحبه أيما سعادة في الدنيا والآخرة.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، أما بعد:

    أحبتي في الله! وكما أعلمتكم أن هذه المحاضرة في هذا المجلس المبارك هي بعنوان: العناية بفقه السلف، أو العناية بفقه الصحابة.

    سبب اختيار الله سبحانه للصحابة ليكونوا أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم

    أنتم تعلمون أيها الإخوة أن للعلم مشارب، وله مدارس، ولقد حاز قصب السبق من كان بعلم السلف والصحابة أحرى، ومن تأمل أقوالهم وتدبر أفعالهم، وتأنى بفهم مرادهم كان أسعد. وما اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، إلا لما حباهم جل جلاله وتقدست أسماؤه من طبائعهم التي جبلهم الله جل جلاله عليها من العلم، والفقه، والإخلاص، والخشية، والتأني، والتروي، وعدم الخوف، والشجاعة، وكل ذلك قد حازه أئمة السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجهم.

    ولذا روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخشع له من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد فلم ير قلباً أخشع وأحسن لوزراء نبيه صلى الله عليه وسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا حقهم، فإنهم على الهدى المستقيم، ولأجل هذا كان الذي يعتني بفقه السلف وفقه الصحابة مع سهولة مراده ويسر طريقته فإنه ينال مع العلم وهو علم اللسان علم القلب.

    والعلم ينقسم إلى عدة أقسام: علم اللسان وهذا حجة الله على خلقه، وعلم القلب وهذا هو العلم النافع، فربما وجدت إنساناً يجيد البيان ولكنك لا تجده يجيد علم القلوب، وهؤلاء تجد منهم من يزيغ ويسلك أودية الهوى وطرق الشياطين.

    ولقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: أنه رأى رجلاً يحفظ مائتي ألف حديث، وهو من الزنادقة الذين انحرفوا عن طريق الله المستقيم.

    والذي ينال علم الوحيين فقهاً ومعنىً وتأملاً سوف يرضخ لمراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أحرى بهذا الأمر، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما كان السلف يقولون: هذا حلال، وهذا حرام؛ لورعهم أن ينسبوا لله ما ليس منه، ولكن كانوا يقولون: هذا ينبغي، وهذا لا ينبغي، كل ذلك كان ورعاً.

    وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين أنه لم يكن مصطلح الكراهة والتحريم والاستحباب والإيجاب موجوداً بقوة عند السلف؛ لأنهم متى ما علموا أن الله ورسوله أمرا به التزموا به، ومتى علموا أن الله ورسوله قد نهيا عنه اجتنبوه، وبهذا كانوا على علم القلب؛ ولهذا حينما جاء الرجل يسأل عائشة رضي الله عنها، ورأته حريصاً على معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا هذا! أكل ما عرفته عملت به؟ فهذا يدل على أنهم كانوا يهتمون بهذا العلم، وهو العلم الذي ليس ثمة فيصل بين أن يقول، وبين أن يفعل؛ ولهذا قال من قال من سلف هذه الأمة: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.

    غضب السلف على من خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

    ولأجل هذا كان الواحد منهم يغضب أشد الغضب حينما يرى مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تتحمل قلوبهم أن يروا أحداً ممن ينتسب إلى الإسلام يرى أمر الله وأمر رسوله فيخالفه، فلم تتحمل قلوبهم ذلك؛ لأن الانقياد التام هو أن يكون المرء لله، ويحيا لله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، ولأجل هذا حينما كان ابن عمر مع أبنائه فقال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الدباء -والدباء هي القرعة-، فقال أحد أبنائه: والله ما أحب الدباء -يعني: ما يشتهيه ما تعود- قال: ما تحب شيئاً أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا كلمتك سائر اليوم )، فإذا كان ابن عمر يأمر ابنه الصغير أن يحب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فما بالك بالعالم وطالب العلم.

    وهذا عبد الله بن المغفل كما في الصحيحين حينما رأى ابن عم له يحذف، فقال له: ( لا تحذف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، وإنما تفقأ العين وتكسر السن، ثم رآه بعد ذلك يصنع، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف أو كره الحذف وأنت تحذف لا أكلمك كذا وكذا )، فلم تكن قلوبهم تتحمل أن يعلم الإنسان ثم لا يعمل؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أعلم الناس؛ لأن من علم وعمل ورثه الله تقوىً ونوراً في قلبه ربما عرف الصراط المستقيم، وعرف خير الخيرين، فأخذ بأعلاها، وعرف شر الشرين فاجتنب أعلاها؛ ولأجل هذا قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

    ولأجل هذا كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم أياً كان هذا العلم، وبمجرد تعلمهم وعملهم بعلمهم يورثهم الله علم ما لم يعلموا، فكان قرآنهم هو علمهم، واليوم تجد الواحد منا إذا قيل له: ماذا تعرف؟ قال: أعرف الفقه، فإذا قيل له: تعرف التفسير؟ قال: لا والله ما أعرف التفسير! مع أن تفسير القرآن وفهم مراد الله أولى؛ لأنك لن تستطيع أن تخشع أو تتأمل أو تستدل بالكتاب والسنة وأنت لم تفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم!

    ولأجل هذا أحبتي الكرام! كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم، حتى لو كان علمهم قليلاً؛ ولهذا أحد الصحابة كما ذكر ابن هشام في سيرته أنه حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه بضعة أحاديث، وسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله سبحانه وتعالى، قال: ( ائذن لي يا رسول الله! أن أذهب إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ).

    والواحد منا اليوم ربما حمل شيئاً كثيراً من العلم، وحمل شيئاً كثيراً من السنة، ومع ذلك ليس عنده من الشجاعة الإيمانية حتى يعلم الناس العلم، وهذه من المسائل التي فاز بها الصحابة، وهي الشجاعة في معرفة الحق والعمل به؛ لأجل هذا كان تعلم فقه الصحابة من الأهمية بمكان في زماننا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521904

    عدد مرات الحفظ

    777104734