وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، أما بعد:
أحبتي في الله! وكما أعلمتكم أن هذه المحاضرة في هذا المجلس المبارك هي بعنوان: العناية بفقه السلف، أو العناية بفقه الصحابة.
ولذا روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخشع له من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد فلم ير قلباً أخشع وأحسن لوزراء نبيه صلى الله عليه وسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا حقهم، فإنهم على الهدى المستقيم، ولأجل هذا كان الذي يعتني بفقه السلف وفقه الصحابة مع سهولة مراده ويسر طريقته فإنه ينال مع العلم وهو علم اللسان علم القلب.
والعلم ينقسم إلى عدة أقسام: علم اللسان وهذا حجة الله على خلقه، وعلم القلب وهذا هو العلم النافع، فربما وجدت إنساناً يجيد البيان ولكنك لا تجده يجيد علم القلوب، وهؤلاء تجد منهم من يزيغ ويسلك أودية الهوى وطرق الشياطين.
ولقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: أنه رأى رجلاً يحفظ مائتي ألف حديث، وهو من الزنادقة الذين انحرفوا عن طريق الله المستقيم.
والذي ينال علم الوحيين فقهاً ومعنىً وتأملاً سوف يرضخ لمراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أحرى بهذا الأمر، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما كان السلف يقولون: هذا حلال، وهذا حرام؛ لورعهم أن ينسبوا لله ما ليس منه، ولكن كانوا يقولون: هذا ينبغي، وهذا لا ينبغي، كل ذلك كان ورعاً.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين أنه لم يكن مصطلح الكراهة والتحريم والاستحباب والإيجاب موجوداً بقوة عند السلف؛ لأنهم متى ما علموا أن الله ورسوله أمرا به التزموا به، ومتى علموا أن الله ورسوله قد نهيا عنه اجتنبوه، وبهذا كانوا على علم القلب؛ ولهذا حينما جاء الرجل يسأل عائشة رضي الله عنها، ورأته حريصاً على معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا هذا! أكل ما عرفته عملت به؟ فهذا يدل على أنهم كانوا يهتمون بهذا العلم، وهو العلم الذي ليس ثمة فيصل بين أن يقول، وبين أن يفعل؛ ولهذا قال من قال من سلف هذه الأمة: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.
وهذا عبد الله بن المغفل كما في الصحيحين حينما رأى ابن عم له يحذف، فقال له: ( لا تحذف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، وإنما تفقأ العين وتكسر السن، ثم رآه بعد ذلك يصنع، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف أو كره الحذف وأنت تحذف لا أكلمك كذا وكذا )، فلم تكن قلوبهم تتحمل أن يعلم الإنسان ثم لا يعمل؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أعلم الناس؛ لأن من علم وعمل ورثه الله تقوىً ونوراً في قلبه ربما عرف الصراط المستقيم، وعرف خير الخيرين، فأخذ بأعلاها، وعرف شر الشرين فاجتنب أعلاها؛ ولأجل هذا قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
ولأجل هذا كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم أياً كان هذا العلم، وبمجرد تعلمهم وعملهم بعلمهم يورثهم الله علم ما لم يعلموا، فكان قرآنهم هو علمهم، واليوم تجد الواحد منا إذا قيل له: ماذا تعرف؟ قال: أعرف الفقه، فإذا قيل له: تعرف التفسير؟ قال: لا والله ما أعرف التفسير! مع أن تفسير القرآن وفهم مراد الله أولى؛ لأنك لن تستطيع أن تخشع أو تتأمل أو تستدل بالكتاب والسنة وأنت لم تفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم!
ولأجل هذا أحبتي الكرام! كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم، حتى لو كان علمهم قليلاً؛ ولهذا أحد الصحابة كما ذكر ابن هشام في سيرته أنه حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه بضعة أحاديث، وسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله سبحانه وتعالى، قال: ( ائذن لي يا رسول الله! أن أذهب إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ).
والواحد منا اليوم ربما حمل شيئاً كثيراً من العلم، وحمل شيئاً كثيراً من السنة، ومع ذلك ليس عنده من الشجاعة الإيمانية حتى يعلم الناس العلم، وهذه من المسائل التي فاز بها الصحابة، وهي الشجاعة في معرفة الحق والعمل به؛ لأجل هذا كان تعلم فقه الصحابة من الأهمية بمكان في زماننا.
أما الصحابة وإن كان الواحد لا ينفك عن هذه الطبيعة إلا أن طبيعتهم إلى معرفة السنة وإلى طريقة السنة أقرب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد : ( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن إبراهيم منهم، وإن
هذه المقدمة يا إخوان! أذكرها لكم، وإن كانت بحاجة إلى استيعاب أكثر، فقد تبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد أعطاهم الله من الجبلة والسليقة ما يفهمون بها مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم! ينال الإنسان منهم علماً كثيراً؛ لأنك ربما تجد طالب علم يدرس على شيخ ولكنه لا يعرف شيخه إلا في المسجد! ولو كان ملازماً له، لكنه لا يعرف شيخه في حله وترحاله، ولا يعرفه في غضبه ورضاه، ولا يعرفه في معاملته مع عامة الناس؛ ولهذا ينطبع في ذهنه عن شيخه صورة ملائكية؛ لأنه لم يعرف هدي شيخه في حياته كلها، أما الصحابة فإنهم عاينوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، في المسجد، وفي الأكل والشرب، وفي الجهاد والسفر وفي النوم، وفي الغضب، وفي الحلم؛ ولذا أخذوا هذه المدرسة تامة كافية؛ ولهذا صارت القدوة في هذا الزمان شحيحة؛ لأنك تجد من يتكلم في العلم ويبين الحق، لكن فيه نوع هوى، ولا تقع فتنة إلا بترك ما أمر الله كما ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله، والإنسان أحياناً يخالف الحق لأجل هواه، قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، قال ابن تيمية : فعلم من ذلك أن من لم يصب الحق لا بد أن يكون عنده شيء من الهوى.
أما الصحابة رضي الله عنهم فإن بعدهم عن الهوى أبعد من غيرهم، والهوى لا ينفك عنه الإنسان غالباً، لكن من الهوى ما يضل، ومنه ما يمنع الإنسان من معرفة الحق، قال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهذا في حق الصحابة، إذا علم هذا أيها الإخوة فلنعلم أهمية فقه الصحابة، ولابد أن نعرف لماذا فقه الصحابة؟ ويكون الاهتمام بعلمهم لأمور كثيرة منها:
قال ابن تيمية : ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، قال: وكل من له لسان صدق ممن هو مشهور بالعلم أو الدين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة، يعني: (قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قال: ولا تجد إماماً -هذا يا إخوان مهم جداً- في العلم والدين كـمالك بن أنس و أبي حنيفة و الثوري و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق ، ومثل الفضيل و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا مقتدين فيه بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أنواع وأبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة، العالمون بطريقتهم المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر.
وقد بين أبو العباس بن تيمية أن أهل الحديث ليسوا هم الذين يهتمون بعلم الرجال كما يظن كثير من الناس، بل إن أهل الحديث هم الذين يعتمدون في أقوالهم على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، ولو كانوا غير مهتمين بعلم الرجال، كما ذكر ذلك في القواعد النورانية؛ ولهذا قال: فـمالك بن أنس من أهل الحديث، و الشافعي من أهل الحديث، و الأوزاعي من أهل الحديث، و أبو محمد بن قدامة من أهل الحديث؛ لأنهم كانوا يعتمدون في أقوالهم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما ثبت في كتاب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
إذاً: كل من جاء بعد الصحابة يعرف فضلهم وعلمهم، بل -وهذه نقطة مهمة- إنهم يتركون القياس فيما يرونه في أنفسهم صحيحاً؛ لأجل مخالفة قول الصحابة، حتى أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان يترك القياس إذا علم أن الصحابي الفقيه قد صح عنه خلاف قوله.
يقول ابن تيمية : وحاشا الأئمة أن يخالفوا قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم كيف و أبو حنيفة رحمه الله يترك القياس لأجل مخالفة قول الصحابة، فرأى الوضوء من النبيذ؛ لأنه بلغه عن إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود أنه كان يتوضأ بالنبيذ، مع أنه يخالف القياس، والرواية عن ابن مسعود فيها كلام، ولا تصح عنه بسند صحيح، ومع ذلك ترك أبو حنيفة القياس لأجل قول الصحابي، فهذا يدل على أنهم يعلمون ويقرون بعلم الصحابة وفضلهم.
فإذا ثبت لك أن الصحابة هم أعلم الأمة، فإنه أحرى بطالب العلم الذي يريد معرفة الحق ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم إذا عرف قول صحابي وعرف صحة الإسناد إليه أن يتشبث به؛ لأن الصحابة -وهذه نقطة مهمة -أيها الإخوة- كما قلت: لم تتأثر أقوالهم بطبيعتهم مثل تأثر من جاء بعدهم، وأيضاً تجد أن كل إمام من أئمة المذاهب المتبعة قد بنى قولاً من أقواله على واقع بلده؛ ولهذا يقولون: عندما ضاعت الأمانة رووا حديث الفساق، أو قبلت شهادة الفساق.
أيضاً تجد أنهم أحياناً يذكرون المصالح المرسلة، وأحياناً يأتون بسد الذرائع، وأحياناً يأتون بما يسمى بما جرى عليه العمل، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستحسان، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستصحاب، كل هذه القواعد ربما أن الصحابة لم يكن اهتمامهم كثيراً بها، فأنت إذا أخذت قول الصحابي خاصة في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كان الاهتمام بقول الصحابي أولى من الاهتمام بأقوال الأئمة المتبع أقوالهم، وإن كان هؤلاء الأئمة الكبار كل واحد مدرسته مبنية على قول صحابي، فـأبو حنيفة مدرسته مبنية على قول عبد الله بن مسعود فإنه أخذ العلم عن حماد بن أبي سليمان و حماد عن إبراهيم النخعي و إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود ، وابن مسعود لا يكاد يخرج عن قول عمر ، ولهذا عدت المسائل التي خالف فيها ابن مسعود قول عمر بالأصابع، وباقي المسائل تجد أن ابن مسعود يوافق فيها قول عمر .
إذاً كان الأئمة منهم يتبعون علماء الصحابة فكانوا أعلم، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله و ابن حزم : ولا يكاد ابن عمر يقول قولاً فيما لم يجده في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه من زيد بن ثابت .
وإذا كان هذا الأمر كذلك فإنه يدل على أنهم يسيرون على مدرسة.
ومالك مدرسته مدرسة أهل المدينة، كـابن عمر و الزهري ومن كان في المدينة.
والشافعي كان يسير على مدرستين: مدرسة زيد بن ثابت ، ومدرسة ابن عباس ؛ لأنه تتلمذ على أهل الحجاز في مكة.
و أحمد بن حنبل رحمه الله تتلمذ على فقه آثار السلف، يقول ابن تيمية : ولهذا لا يكاد يوجد لـأحمد قول انفرد فيه عن الأئمة إلا والحق في الغالب لا يخرج عن قوله؛ لأنه متبع لآثار من جاء قبله، وهذا فقه عظيم يا إخوان! ولهذا تجدون أن الإمام أحمد رحمه الله أقعد أصحاب المذاهب في باب المعاملات المالية؛ لأنه أخذ مدرسة مالك بن أنس التي أخذها عن سعيد بن المسيب، وزاد عليها آثار من جاء بعده، فكان فقه أحمد أولى؛ ولهذا نجد -كما سوف يأتي إن شاء الله- أن الشروط في البيوع، أو الشروط في العقود جمهور الفقهاء يمنعونها في الجملة، و أحمد يجوزها على روايتين:
الرواية الأولى: جوز شرطين ومنع الباقي، والرواية الثانية: جوز جميع الشروط إذا لم تخالف الكتاب والسنة، وهو اختيار ابن تيمية و ابن القيم ، وهو قول عمر بن الخطاب : مقاطع الحقوق عند العقود، وكذلك قول ابن مسعود و ابن عباس .
الآن الإنسان إذا داوم على قراءة الفقه، وظل عشرين سنة أو خمس عشرة سنة يقرأ في الفقه ويدرس ويبحث، فبمجرد أن يسأل تنكشف له الأمور كأنه يقرؤها قراءة؛ لأنها صارت عنده ملكة.
إذاً: من ليس عنده ملكة فإنه يتكلف هذه الملكة، أما الصحابة فليس عندهم ذلك؛ ولهذا تجدهم أحياناً يفتون بما يعلمونه من مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، دون علم بقول النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: دون علم بالسنة صراحة، فيوفقون لها؛ ولهذا ابن مسعود عندما سئل عن مسألة البنت وبنت الابن وأخبر عن فتوى أبي موسى فقال: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56] وهذا من الوضوح في الرؤية ومن النظرة الثاقبة، فليس عنده سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، ومع ذلك يرى الحق رأي عين ثم قال: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، فيأتي معقل بن يسار فيشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك لـبروع بنت واشق فيفرح ابن مسعود رضي الله عنه.
إذاً ما عندهم تكلف، طبيعتهم وسليقتهم ومعرفتهم باللغة جعلتهم ينظرون إلى مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بوضوح.
واليوم نحن نقسم الناس إلى عرب وعجم، والعرب عندنا لا أقول عامة الناس بل طلاب العلم لا يقرءون من العربية مثل غيرهم، انظر إلى طلاب العلم في هذا الزمان! تجد أن قراءتهم في العربية قليلة جداً، بل إن بعض الفضلاء من مشايخنا حينما سئل عن كتاب لسان العرب، قال: هذا لا يقرأ، هذا مرجع، أما الصحابة فكانوا يعرفون العلم والعربية يقول عروة: ما رأيت مثل عائشة ، كان الشعراء يأتون فتعطيهم، ثم يخرجون فيأتي أهل الفقه فتعطيهم، ثم يخرجون. فـعروة يقول : ما رأيت مثل عائشة في زمن كثرة الصحابة وهذا مما يدل على أن عائشة وعمرها كان في العشرينات، ويقول عطاء بن أبي رباح و طاوس: ما رأينا أعلم من ابن عباس والله لقد خطبنا يوم عرفة ففسر لنا سورة البقرة آية آية، والله لو سمعها الترك وأبناء الترك لأسلموا؛ وذلك من شدة وضوح البيان وكثرة العلم.
فهذا يدل على أن علمهم غير علمنا تماماً، يعني: من حيث الوضوح والدقة وعدم التكلف، ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ابن منظور عندما ألف كتاب لسان العرب قال: هذه لغتكم يا أهل العرب، وفيها عشرون ألف كلمة لا تتداول في هذا الزمان مع أن أصله من فارس، أما الآن في زماننا فهناك كلمات أكثر لا شك لا تتداول.
اقرءوا خطبة عائشة رضي الله عنها في معركة الجمل، وأنا أجزم لو أن الواحد منا معه مختار الصحاح لـلرازي لن يفهمها؛ لأن ثمة كلمات لا توجد في مختار الصحاح، مما يدل على أن علم العربية عندهم كان من الأهمية بمكان، يقول ابن عباس : ما رأيت مثل عمر ! لا يكاد يقول قولاً إلا ويستشهد له ببيت للعرب، واليوم لا نحسن حتى السليقة ولا نقرأ أبيات الشعر قراءة صحيحة! وكثير من طلاب العلم المهتمين بالحديث، والمهتمين بالفقه تجده حينما يقال له: اقرأ الأدب حتى يكون في لغتك نوع من النضج، ويكون فهمك لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ليس فيه تكلف يقول: والله إنها مضيعة للوقت، وهذا خطأ.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: كتبت بيدي من العربية أكثر مما كتبه أبو عمرو بن العلاء يعني: وأنتم تعرفون علم العربية عند الشافعي رحمه الله، فإنه درس لغة هذيل وهو ابن أربع عشرة سنة، حتى كان يفسر لغة هذيل وهو على صخرة، فيمر مسلم الزنجي فيسمعه وينبهر من قوة بيانه ويقول: يا ليت هذا كان في معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتؤثر هذه الكلمة من مسلم الزنجي في الشافعي رحمه الله يقبل على العلم فيفتح الله عليه، ويقول ابن هشام -الذي ما مر على الزمان مثله في العربية- جالست محمد بن إدريس الشافعي وأريته يتكلم، والله ما لحن قط، ولا رأيته قال كلمة قلت: لو أن غيرها قالها أفصح منها.
واقرأ الآن كتاب الأم للشافعي تجد أنك تقول: ليس فيه عبارة فيها ركاكة؛ لأن اللغة تختلف تماماً بينك وبينهم، مع أن الإمام الشافعي أخذها بالدراسة، فما بالك بالصحابة الذين أخذوها بالجبلة والطبيعة، يقول ابن عباس فيما صح عنه مما رواه ابن جرير : إذا أعيتكم الآيات، فعليكم بلغة العرب، ثم فسر قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، والأثر معروف.
ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز : قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من مخال هديهم ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم.
ويقول ابن تيمية رحمه الله في بعدهم عن الهوى: لأن عندهم من الإخلاص ما ليس عند غيرهم، والمخلص لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباع الهوى، كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، والغي هو اتباع الهوى.
والخشية تمنع من اتباع الهوى، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، والكمال في عدم اتباع الهوى، وفي العلم ما تابع فيه صاحبه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: وليس الذي يثير النزاع هو الاجتهاد السائغ إذ كان ذلك موجوداً في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإنما الذي يثير النزاع هو الاجتهاد الذي فيه نوع بغي وعدوان؛ لأن الله يقول: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، فلأجل هذا ما احتاج الصحابة إلى أن يتعبوا أنفسهم في الردود، هذا يرد على هذا في هذه المسألة، ثم يأتي آخر ويرد على رده، ثم يأتي آخر فيرد على رد رده، وهكذا حتى يكون هذا شغلهم الشاغل.
فما كانت هذه طريقة السلف، نعم الرد على المخالف في العقائد أصل من أصول أهل السنة والجماعة، أما في الفروع فإنهم يذكرونها كيفما اتفق، يعني: ما يهتمون فيها، ولا بأس أن يؤلف الإنسان كتاباً مرة، لكن لا يتعب نفسه في الرد على فلان وإذا رد عليه شخص فلا يرد عليه أيضاً.
يقول الشافعي رحمه الله: ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالته لاستطعت، ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالة في كتاب لاستطعت، ولكن هذا ليس من هديي ولا من طريقتي؛ لأنك تكون في شغل، فيكون ذهنك منصب على هذه المسألة فلا تصلي إلا وأنت تفكر في المسألة، ولا تمشي إلا وأنت تفكر بهذه المسألة، ثم تجمع وتتعب، وهي مسألة بسيطة جداً.
ولهذا يا إخوان! بهذه تجدون الذين يهتمون بالتأليف وقت الصغر يحرمون التأصيل حال الكبر؛ لأنهم انشغلوا بالتأليف، فربما عرفوا المسائل الكبار وخفيت عليهم، وأهل العلم كانوا يتعلمون صغار العلم قبل كباره، وكلما كان العلم بهذا الترقي كلما كان ذلك أبعد عن التكلف، وأقرب إلى مجانبة الهوى؛ ولهذا أخذ السلف بنصيب وافر من قول الله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، قال البخاري : الرباني الذي يعلم صغار العلم قبل كباره.
يقول ابن تيمية رحمه الله: وإذا تبين هذا فالشجاعة هي ثبات القلب وقوته، وقوة الإقدام، والبعد عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلا فالرجل قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز، وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقاً كثيراً، وإذا داهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عندهم أو يخاف.
لقد كان أبو بكر الصديق أقوى الصحابة قلباً، وأربطهم جأشاً، وأعظمهم ثباتاً، وأشدهم إقداماً، وأبعدهم عن الجزع والضعف والجبن؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصحبه وحده في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة وكان معه في الغار، والأعداء يبحثون عنه، ويبذلون ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يوم بدر وحده، والكفار قاصدون الرسول صلى الله عليه وسلم. ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام ظهر من شجاعته وبسالته وصبره وفهمه لمراد الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] ما خفي على عمر حتى قال عمر : إن كنت لأسمعها أول مرة، فدل ذلك على أن أبا بكر أعلم هذه الأمة، وهذا إجماع من الأمة، كما حكى ذلك منصور السمعاني وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج السنة وفي مجموع الفتاوى، وهذا مهم لطالب العلم.
والإمام أحمد إنما نال منزلة إمام أهل السنة والجماعة عندما ادلهمت الأمور، وكثر الخطب، وقد خالفه العامة، فإنهم أخذوا بقول المعتصم و المأمون وكذلك بعض طلاب العلم ممن خالفوه، حتى علي بن المديني رضي الله عنه ورحمه وغفر له فإنه اجتمع مع أحمد بن أبي دؤاد فكان أحمد بن أبي دؤاد يورد عليه بعض الروايات فيسكت عنها علي خوفاً من سياط السلطان، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله، ومع ذلك فقد غضب الإمام أحمد على علي بن المديني بما لم يغضب على العامة الذين اتبعوا السلطان، وقد دخل علي بن المديني على الإمام أحمد بعد أن خرج من السجن وقال: يا أبا عبد الله ! لقد رأيت بياض السيف، وأخذ يعتذر وأحمد ساكت، فلما خرج قال أحمد : يقولون رأينا السيف، هل وضع السيف على رقبتك؟ فصبر أحمد ؛ لأنه كان لفهم مراد السلف أقوى؛ ولهذا كان يحيى بن معين إذا سئل عن الحديث صحة وضعفاً أجاب، فإذا سألوه عن معناه ضحك وقال: اذهب إلى أبي عبد الله ، فنال أبو عبد الله الصفتين: فقه آثار السلف، وكثرة العبادة.
يقول إبراهيم بن الجراح : كنت أعرف أحمد وهو صغير يقوم الليل، وهكذا كان سلف هذه الأمة فإن ابن عمر كان يقوم من الليل خمس مرات، فهذه العبادة تكسب الإنسان شجاعة وقوة قد يحرمها خلق كثير.
وانظروا إلى شيخنا عبد العزيز بن باز في هذا الزمن، فقد عصفت أمور مدلهمة، وكثر الخطب، وكثر القيل والقال، وربما كان بعض الفضلاء وبعض المشايخ قد أخذوا بخلاف ما يراه لكن شيخنا عبد العزيز بن باز كان صارماً ثابتاً، وكان الطلاب يخالفونه وربما يردون عليه، وهو يقول: الحمد لله ولم يتراجع.
وتعرفون قصته في مسألة الهدنة مع اليهود في فلسطين، وقد رد عليه كثير من طلاب العلم، وهو ثابت صابر محتسب، وكان الحق بإذن الله مع شيخنا عبد العزيز بن باز ، وهو قول ابن تيمية و ابن القيم كما في زاد المعاد المجلد الثالث.
وهذا يجعل طالب العلم يعرف أنه بحاجة إلى القوة، فكثير من طلاب العلم يتأثرون بأقوال تلاميذهم، فأحياناً العالم وإن كان عالماً بالسنة، صداعاً بالحق، لكنه أحياناً قد يتأثر بتلاميذه، فإذا قالوا: حصل كذا فإنه قد ينجرف معهم، وكان الأولى به أن يعلم تلاميذه الصبر والعلم والهدوء؛ لأن هذه هي الشجاعة، ولهذا عندما وقف أبو بكر في المحنة الثانية وهي محنة الردة عجب لـعمر ، وقال له: يا عمر ! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه حتى يؤدوه، يقول عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق، هذا يقوله الملهم عمر رضي الله عنه، فالعالم أحياناً تنجلي له الأمور بقوته وشجاعته، وكذلك كان سلف هذه الأمة؛ ولهذا قال العلماء: إن الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها حتى الدهماء، فهذا يدلك على أن العالم لا بد أن يعود نفسه -وكذلك طالب العلم- على الشجاعة، وقد كان سلف هذه الأمة على هذا المنوال.
يقول ابن تيمية رحمه الله: وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة.
أحياناً يصير طالب العلم ملازماً لشيخه، لكن ليس بينه وبين شيخه مودة وبالتالي لا يحصل على العلم الذي يحصله الطالب الملازم لشيخه مع محبة وتقدير.
ولهذا كان ابن مسعود كنيفاً مليئاً علماً؛ لأنه كان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يدخل عليه غيره، يقول: وكان يأتيه في السحر، وكان لا يدخل عليه فيه أحد إلا ابن مسعود ، فحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحفظه أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال ابن مسعود : ولو أعلم أحداً من أهل الأرض أعلم مني بكتاب الله ورأيت أن الإبل تصله لذهبت إليه.
ولهذا فإن طالب العلم كلما كان ملازماً لمشايخه يحضر دروسهم، ويجتمع معهم بين الفينة والأخرى، كلما كان أقوى في العلم، واليوم طلاب العلم يا إخوان! بمجرد أن يتخرج من الجامعة يقول لمشايخه: أنتم رجال، ونحن رجال، فيقل علمه ولا يدري، والسبب أنه لم ينضج بعد، وتزبب قبل أن يتحصرم، كما يقول أبو علي الفارسي .
فطلاب العلم يموجون أحياناً بعد ما يتخرجون من الجامعات أكثر من موجهم حال ملازمتهم لمشايخهم في العلم؛ لأنهم ينفردون بأنفسهم.
وأبو يوسف الفقيه النحرير الذي يضاهي مالك بن أنس ظل مع أبي حنيفة عشر سنين وكان يقول: ما تركت درسه حتى إن ابني توفي فذهبت فغسلته، ثم حضرت درس أبي حنيفة فصلي عليه، ثم جئت فصليت عليه بعد ذلك.
ومشكلة طلاب العلم أنهم يظنون أن العلم هو أن تنهي الكتاب، وهذا مع الأسف الشديد قول أكثر الذين يتحدثون عن التأصيل، فإنهم يهتمون بهذا الباب، وأقول: إن مجرد معرفة الطالب استدلال العالم، وطريقة استدلاله علم يحصل عليه، فإن كتب العلم موجودة، ولكنك لن تعرف مفاتيح العلم وطرق الاستدلال إلا بملازمتك لأهل العلم، فلو قرأت شيئاً مع شيخك في المغني، وفي بداية المجتهد، وفي كتب ابن تيمية فإنه يفتح ما استغلق عليك، ثم بعد ذلك تبدأ أنت بالقراءة؛ ولهذا ثلاثون بالمائة من علم العالم حصل عليه بسبب جلده وملازمته للعلماء، وسبعون بالمائة حصل عليه بتحصيله، لكن هذه السبعون لن تتأتى إلا بالثلاثين، وهذا مع الأسف الشديد يخفى على كثير من طلاب العلم، فيرون أن الملازمة ليست من الأهمية بمكان، وربما استروح لذلك وقال: أين العلماء؟ وهذا ليس بصحيح؛ ولأجل هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: إن أهل العلم كانوا يلازمون مشايخهم ويجثون على الركب، وقد نال مالك بن أنس قصب السبق في ذلك، وعيب على أبي محمد بن حزم حينما لم يعرف عنه الجثي على الركب عند أهل العلم؛ لأن ملازمة العلم وأهل العلم في المساجد تعطي طالب العلم كيفية استدلال العالم، وكيفية مناقشته للمسائل، وهذه يا إخواني! لا تأتي بيوم وليلة، ولا تأتي بقراءة كتب هؤلاء العلماء فقط، وربما لا تتوصل إلى ذلك إلا بعد زمن وقد ينقطع الزمن لأنك انقطعت عن العلم، وكثير من طلاب العلم ينقطعون عن العلم بسبب الانشغال، وقد ورد عن الأعمش سليمان بن مهران أنه عندما جاء إلى المسجد ووجد طلاب العلم كل معه محبرته وقلمه، فقال شريح القاضي للأعمش وكان يسمى أمير المؤمنين في القرآن، وأمير المؤمنين في الحديث؛ لأنه كان له قراءة، فقال له شريح: إن هذا من نعم الله عليك، انظر إلى هؤلاء -يعني: أنهم قد ملأوا المسجد فضحك الأعمش والتفت إلى شريح وقال: لا يضيرك هؤلاء: ثلثهم يموتون، وثلثهم ينشغلون بالدنيا، وثلثهم ليس عندهم من العلم ما يبقيهم، يعني: عندهم جلد، أي: فلا تهتم بهذا.
وهذا واقع، فتجد أن العالم أو طالب العلم بمجرد أن يفتح درساً في المسجد يمتلئ ما شاء الله وشيئاً فشيئاً ينقصون حتى لا يبقى معه إلا اثنا عشر رجلاً وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، وهذا يدل على أهمية ملازمة العالم، وهكذا كان السلف، فإن ابن عباس إنما نال العلم الغزير بسبب الملازمة.
فقد روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن ابن عباس أنه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى رجل من الأنصار، فقلت: هيا بنا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كثر؛ لنأخذ عنهم ما كانوا علموه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجباً لك يا ابن عباس ! أتظن أن تحتاجك الأمة، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو أعلم منك، قال: فتركته، فكنت أذهب إلى من أعلم أن عنده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعلمه فأجلس عند عتبة بابه، فيسفى الرمل علي، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! هلا أخبرتني فأتيتك، فيقول: العلم يؤتى ولا يأتي.
فيستمر ابن عباس بهذا الجلد، فيقدمه عمر على كبار شيوخ الصحابة، ويسألهم عمر عن مسألة فلم يعلموها إلا ابن عباس فقال عمر: والله ما أعرف عنها شيئاً إلا ما قاله ابن عباس ، ثم يقول ابن عباس بعد زمن: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
فالعلم لا يأتي بيوم وليلة؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
إذا كان يلهيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟
فلا بد من الصحبة، والجلد مع الشيخ والعالم، ولا تقل: إني أقرأ في بيتي ثلاثين صفحة، وإذا جلست مع الشيخ بين المغرب والعشاء لن نأخذ إلا مسألة أو مسألتين لا تقل هكذا يا أخي! فإن هذه الدروس تعلمك الصبر والجلد في طلب العلم؛ ولهذا تجد أن طلاب العلم الذين درسوا على مشايخهم سنة أو سنتين أو أربع أو ست أو عشر سنين، تجدهم هم المستمرون في فتح الدروس، وأما المشايخ الذين تعلموا في الجامعات، ولم يتعلموا في المساجد فإنك تجد دروسهم في المسجد أقل، فإذا كثر الطلاب استمروا، وإذا قل الطلاب انقطعوا، وهكذا دواليك! ولهذا كانت الملازمة للعالم تكسب طالب العلم صبراً، ولا يستطاع العلم براحة الجسد.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير تركيب متكلف ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس، هذا وإن كان راجعاً إلى نظم الأقدمين في التحصيل، فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود، لا من حيث احتذاء من تقدمهم، يعني: كانوا يهتمون أن يفهم الإنسان عبارتهم يقول: وأما إذا كان الطريق مرتباً على قياسات مركبة أو غير مركبة إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل فليس هذا الطريق بشرعي، ولا تجده في القرآن ولا في السنة، ولا في كلام السلف الصالح، فإن ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود.
ولهذا تجد الذين يبالغون في أصول الفقه أحياناً يكون قولهم نظري مثالي، ودائماً الذي يهتم بعلم الآلة ويبالغ فيه يبتعد عن المقصود، وينظر إلى الألفاظ دون النظر إلى المعاني والمقاصد، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني؛ ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية: أن الصحابة أفهم لمراد الله، ومقصود الله، ومقصود رسوله صلى الله عليه وسلم، ممن جاء بعدهم ممن يعتني بالألفاظ.
ويقول ابن تيمية في فضل فقه الصحابة على من جاء بعدهم: ومن أراد أن يعرف ذلك فلينظره في باب الأيمان والنذور، فإن فقه الصحابة أنظر وأبعد في فهم مراد الله، وفهم مقصود الله، ومقصود رسوله صلى الله عليه وسلم عمن جاء بعدهم. فالتكلف يكون في الاهتمام بالألفاظ؛ ولهذا تجد بعض طلاب العلم بمجرد أن يسمع طالب علم له عبارات وتقعيدات وكلام يقول: ما شاء الله! هذا عالم مؤصل، وإذا جاء الحق ربما لم يعرفه وذلك بسبب أنه لم يهتم بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يهتم بفقه الكتاب والسنة؛ ولهذا تجد الذي عنده فقه الكتاب والسنة وهو مستمر على ذلك في الغالب يصير عنده شجاعة في معرفة الحق، كما قال ابن مسعود : قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
يقول ابن تيمية رحمه الله في يسر طريقة السلف وبعدها عن التكلف: مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها كانوا أعمق الناس علماً، وأقلهم تكلفاً، وأبرهم قلوباً، ولا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجد بين الكلامين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق.
وقد ذكر ابن رجب كلاماً نفيساً في فضل علم السلف على الخلف فقال: وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة، وأحسن عبارة، بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك؛ بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه، فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلاً ولا عجزاً، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله، وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام.
قال الحسن البصري وقد سمع قوماً يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله.
ولهذا كانوا إذا جاءهم الحديث ولو كانوا يخالفون ظاهره عند المستدل يسكتون هيبة للنص، قال الإمام الأثرم : سألت أبا عبد الله عن مسألة فأجابني، قلت: فما تقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تأويل، وكره أحمد رحمه الله أن يقول: هذا يحتمل كذا ويرده، قال: فسكت ولم يجب، وطأطأ رأسه وبدأ يستغفر.
يقول ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل: وليس من وظيفة المجتهد أن يرد على كل شبهة. فلا يلزم أن كل قول ترجحه تذهب وتتبع كل دليل من أدلة المخالفين وترده؛ لأنك أحياناً قد تتكلف في الرد، وأحياناً قد يأتيك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتكلف في فهمه؛ ولهذا قال ابن تيمية في المجلد السابع: وينبغي أن يحمل كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراده الله، وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر.
واليوم تجد بعض طلاب العلم في البحوث إذا رجح قولاً قال: وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فيحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويحتمل كذا، والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
وليس الأمر كذلك بل عليك أن تعظم النص وتبقي له هيبته ولا تأول إلا بدليل، أما الاحتمالات العقلية فإنها لا تنتهي، فينبغي لطالب العلم أن يبتعد عن هذا الأمر، ويعرف أن هذا الأمر من الأهمية بمكان.
إذاً: إذا أردت أن تكون طالب علم، فعليك أن تميز نفسك، هل تريد أن تكون موسوعياً؟ أو تريد أن تكون إماماً يقتدى بك، فإذا كنت تريد أن تكون إماماً يقتدى بك فتعلم العلم الذي يعينك، كعلم العربية، والنحو، وأصول الفقه، فاقرأ فيها بما يعود عليك بالمنفعة؛ ولأجل هذا أنا أنصح طلاب العلم الذين يريدون أن يتعلموا العربية بعد أن يعرفوا النحو أن يقرءوا في كتب التفسير التي تهتم بالعربية، ولعل تفسير ابن عطية التحرير الوجيز، وكذلك تفسير الطاهر بن عاشور فيها فائدة لطالب العلم، بحيث يعرف مراد الله ويحصل على حصيلة في العربية ليست بالسهلة.
وكذلك المسح على الجوارب، فإن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية لا يجوزون المسح على الجوارب، و أحمد يجوزه لأنه قول خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك صح عن ابن عمر فيما رواه مالك في الموطأ عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه قال في المحصر الذي جرح: فإن احتاج إلى شيء من الثياب فعل وافتدى، وروى ابن أبي شيبة بسنده عن قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه كان يأمر بالفدية لمن فعل محظوراً، والرواية عن قتادة عن عبد الرحمن فيها انقطاع، لكن ما يدل على أن هذا هو فقه الصحابة أن من جاء بعدهم من الأئمة الأربعة قالوا بذلك، ونجد ابن حزم يقول: من فعل محظوراً غير الحلق فهو آثم ولا شيء عليه، ونجد أن الشوكاني وبعض الفضلاء وبعض طلاب العلم يقولون: ليس عليه شيء.
إذاً: فهم قد قالوا قولاً لم يقله الصحابة، ولا الأئمة الأربعة.
واليوم تجد بعض طلاب العلم يقول: من ترك واجباً ليس عليه شيء.
أقول: هذا القول محدث، وأول من قال به الشوكاني وسبب قولي أنه محدث أن الصحابة أفتوا على أن من ترك واجباً يهرق دماً، وهو قول الأئمة الأربعة، وعلى هذا سار الأئمة.
قال: ابن حزم: من ترك واجباً فسد حجه، ثم جاء الشوكاني وتبعه بعض الفضلاء وقالوا: من ترك واجباً يستغفر الله ويتوب إليه، ويستدلون على ذلك بأدلة ابن حزم : ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم )، أفكان يخفى هذا الدليل على عمر الملهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من يطع
وكذلك في باب الأيمان والنذور، والأمثلة في هذا تطول، لكني أقول: هذا يجعل طالب العلم يبحث عن أقوال الصحابة.
ولا بد له كذلك من معرفة الجرح والتعديل، فإنه يعاب على طالب العلم الدارس للفقه، أن يجهل تخريج الأحاديث؛ لأنه لن يعرف الصحيح من السقيم فيكون بذلك مقلداً في تخريج الحديث، وربما كان الفقيه بحاجة إلى فهم مراد الحديث، فيترك ذلك بحجة أن الحديث صحيح، والحديث ربما يكون ضعيفاً لمخالفة الأصول.
فلا بد لطالب العلم أن يكون عنده فهم في الفقه، ومعرفة الصحيح من الضعيف في الحديث، ولا يتأتى لطالب العلم معرفة فقه الصحابة إلا إذا كان عنده معرفة بالتصحيح والتضعيف، أو يكون مقلداً لشيخ من المشايخ المهتمين بهذا الباب، وهذا قصور ولا شك.
وعلى هذا فمن أراد معرفة فقه الصحابة أولاً عليه أن يتتلمذ على كتب الأئمة، وأنا أقول: كتب أئمة المذاهب؛ لأنهم درسوا هذا العلم وحرروه كابراً عن كابر وكذلك فعل من بعدهم، فنضج هذا العلم، أما تدريس طلاب العلم الآن الدرر البهية للشوكاني فأقول: أنه خطأ، ولا يصلح لطالب العلم أن يقرأ هذا؛ لأن هذا الكتاب فيه نصوص فقط، وليس فيه فقه، ولا يربي طالب العلم على الفقه، والصحابة كان عندهم من الأقيسة ما يعجب له الإنسان؛ ولهذا صح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما ناظر عمر في ميراث الجد مع الإخوة، وكان زيد بن ثابت يرى أن الإخوة يرثون، و عمر و علي و ابن عباس يرون أن الإخوة لا يرثون مع الجد.
يقول زيد بن ثابت إماماً: ما زلت أناظر أمير المؤمنين عمر حتى عذلته، يعني: لمته، فقلت له: يا أمير المؤمنين! أرأيت لو أن جذعاً -هذا قياس في العبادات لو تذكر الآن لطلاب العلم هذا القياس، لقالوا: ما دخل هذا القياس بهذه المسألة- يقول زيد بن ثابت : أرأيت لو أن جذعاً خرج منه غصن، وخرج من الغصن خوطان، أي: جذعان صغيران أو غصتان، أي الخوطين أقرب من صاحبه إلى الجذع الأول؟ الجذع هو الجد، والغصن الأب، والخوطان الأخوان، قال: فسكت عمر حتى عذلته.
واليوم بعض طلاب العلم ربما لو طلب منه أن يذكر منهج الصحابة في القياس لتكلم وأطنب، وبالغ في الرد على ابن حزم ، لكنه عند التطبيق يأخذ بأقوال الظاهرية وأقوال ابن حزم ، ويترك أقوال السلف الذين أخذوا بفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس ظاهرياً؛ ولأجل هذا لا بد من معرفة صحيح الإسناد من عدمه في فقه الصحابة، وأفضل كتب جمعت أقوال الصحابة:
أذكر الأول: كتاب الأوسط لـابن المنذر فإنه عنى بذلك عناية فائقة. والثاني: مصنف ابن أبي شيبة وغالباً ما يقدم ابن أبي شيبة في الباب ما هو أقرب إلى الصحة، وما أخره من الأحاديث فهي أقرب إلى الضعف فتنبه لذلك. الثالث: مصنف عبد الرزاق . الرابع: السنن الكبرى للبيهقي وأقول: من لم يقرأ أو يطلع على السنن الكبرى للبيهقي في كل مسألة يريد بحثها فإن اجتهاده وبذله في الاجتهاد قاصر والله أعلم، فإن البيهقي رحمه الله اعتنى عناية فائقة بأقوال الصحابة وفهمها. الخامس: شرح معاني الآثار. السادس: وسنن سعيد بن منصور فإنه اهتم بذلك، ولكن بسبب فقده فإن بعض طلاب العلم لا يهتم به، السابع: كتاب أحكام القرآن للطحاوي فإنه كتاب عظيم وفيه من الآثار ما هي حسنة. الثامن: معرفة السنن والآثار للبيهقي وإن كان غالب ما فيه موجود في السنن الكبرى لكنه أحياناً قد يذكر بعض الشواهد والآثار الأخرى. التاسع: الغيلانيات والخلافيات للبيهقي ، والله تبارك وتعالى أعلم.
أيها الإخوة! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يرزقنا وإياكم فهم الكتاب والسنة على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعل في هذا وضع النقاط على الحروف، وإلا فإن الموضوع بحاجة إلى إسهاب، وإلى تطبيق في كثير من المسائل حتى نعرف فقه الصحابة في ذلك، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر