الغفلة عن تحري الحلال في المأكل والمشرب
إذاً نحن بحاجة -أيها الإخوة- إلى وقفة تأمل، ووقفة تأن.
كثيرون أيها الإخوة -ولله الحمد- من ختم كتاب الله سبحانه وتعالى، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يصومون النهار صيام السنة، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يكونون مع الإمام حتى ينصرف، وما أكثرهم ولله الحمد.
ولا شك أن مثل هذه العبادات لها رصيدها في تاريخك وفي حساباتك عند ربك سبحانه وتعالى، بيد أن هذه عبادة العباد، تبقى عبادة الله سبحانه وتعالى كما عرفها العارفون، وفهمها سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وفهمها علماء الأمة، قال رجل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! ما علاج قسوة القلب؟ فنظر إليه الإمام أحمد وقال: أطب مطعمك؛ لأن إطابة المطعم فيها نوع من الافتقار للمخلوق، فإذا افتقر وعرف حاجة المخلوق إلى مثل ذلك تعاطف، ولهذا قال تعالى:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
[الأعراف:156] يعني: يتقون من أكل الحرام
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
[الأعراف:156]، فالمسألة بحاجة إلى تأن، ولا تغتر بكثرة القسمات التي قسمتها، ولا بكثرة القيام الذي قمته، وجسدك نبت من سحت، ( فكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) يقول وهيب بن الورد رضي الله عنه: والله! لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك. ويقول إبراهيم بن أدهم رضي الله عن الجميع: عبد الله! أطب مطعمك، ولا يضيرك بعد ذلك أن لا تصوم النهار أو تقوم الليل.
واليوم تجد كثيراً منا يدخلون في المعاملات، ولا يسألون أهل العلم، ويظنون أنهم لو سألوا وعلموا حرمة ذلك، قالوا: نترك شيئاً من الحرام بما يسمى تطهيراً، والله! ما أدري من أين جاءت مسألة التطهير هذه؟! فالتطهير عند السلف: هو أن تتطهر من كل المال الذي كسبته، ومن كل معاملة عملت فيها، فتتطهر منها بالترك والاجتناب، أما أن تبقى على هذه المعاملة، فلا تظن أنك قد طهرت شيئاً من مالك ولهذا قال سفيان الثوري رضي الله عنه: من تصدق بمال حرام فكأنه غسل ثوبه بالبول؛ لأنه لا ينفعك ذلك.
خوف السلف من قرب الشبهة مخافة الولوج في الحرام
ولقد كان سلف هذه الأمة يخافون من الحلال أو من الشبهة مخافة الولوج في الحرام؛ ولهذا قال
عمر رضي الله عنه: إن كنا لنتقي تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن آخر الزمان يكثر فيه الربا، ويكثر فيه الحرام، ولا يبالي المرء أمن الحلال أكل أم من الحرام؟ كما جاء في
البخاري من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
سيأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام )، فالذي تأخذه من الربا أو تأخذه من الحرام وتظن أن أرصدتك قد كثرت وبال عليك يوم القيامة.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: ما أحد استكثر من الربا إلا كان مآله إلى قلة، انظروا، وهنا لا أريد أن أعدد عليكم بالعالم الغربي، أو العالم الشرقي أو الشرق الأوسطي، في الذين قد كثرت أموالهم بالحرام والربا، عبر ما يسمى السندات، أو ما يسمى التمويل الربوي، ثم مآل أمره -مع الأسف والحسرة- إلى قلة، نسأل الله العافية والسلامة.
تورع أبي بكر الصديق عن أكل الحرام
ولهذا كان سلف هذه الأمة يتورعون من أكل الحرام، هذا
البخاري يروي قصة عظيمة، وهي ما روته لنا
عائشة رضي الله عنها أن غلاماً كان يأتي بالخراج إلى
أبي بكر رضي الله عنه فيأكل
أبو بكر من خراجه، فأتاه يوماً بطعام فأكل
أبو بكر حتى إذا استقر الطعام في بطن
أبي بكر قال الغلام: يا
أبا بكر ! لم تسألني مم هذا الطعام؟! قال: فاستوقف
أبو بكر قال: مم؟ قال: كنت قد تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن والكهانة، لكني خدعته، فأعطاني الرجل.
أبو بكر أعلم هذه الأمة كما أشار إلى ذلك ابن تيمية ، ومع ذلك كان يعلم أن كل من تعامل بمعاملة ظاناً أنها حلال، فإن الله يغفر له زلله وخطأه، لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يأخذ بهذه الرخص، وهو قدير رضي الله عنه أن يؤول لنفسه المعاذير، لكنه ما إن سمع أدخل أصبعه في فيه، فأخذ الغلام بيده فقال: مه أبا بكر ، فأدخلها حتى أخرج كل ما في بطنه، وقال: والله! لو لم تخرج إلا بإخراج روحي لأخرجتها.
أكل الحرام ومنعه لإجابة الدعاء
السؤال عن مصدر الاكتساب يوم القيامة
كانت المرأة الصالحة فيمن كان قبلنا إذا خرج زوجها ومعه حبله ويحمل مسحاته، تأخذ بثوبه وتقول: زوجي عبد الله! اتق الله فينا ولا تؤكلنا إلا حلالاً، فوالله! إنا لنصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام، واليوم اذهب إلى الغرفة التجارية، انظر كثرة المساهمات العقارية المتعثرة، أنا لا أقول هنا عن إنسان فتح مساهمة عقارية ولم يبعها، فهذا أمره إلى الله، وقد دخل الناس معه على الأمن والأمان، لكن أن يذهب ليبيع جزءاً منها ليبقى بعضها ويستثمر الباقي له، ويظن أنه لم ينته بعد وهو في ذمته أو أنه ضامن لها، كل ذلك أكل لأموال الناس بالباطل، والله! ما يدري المسكين أنه ربما كانت أموال أيتام، أو فقراء، أو محتاجين، فيتضرعون إلى الله بالليل، ويقول الله لدعوة هذا المظلوم: (
وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين )، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (
واتق دعوة المظلوم )، جاء عند
الطبراني (
ولو كان كافراً )، فالمظلوم الكافر لو دعا على مسلم؛ لاستجاب الله دعاءه؛ لأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً.
فاتق الله عبد الله! ولا تغتر بأنك تحسن أن تماكر وتخادع الناس، وتظن أنك بخديعتك حصلت على مال حلال، فقد يكون حراماً.
ولقد كان سلف هذه الأمة يخافون من الدعايات التي ربما يكون فيها شيء من الشبهة، هذا يونس الأزدي كان بائع بز يعني: بائع قماش وكان من المحدثين، جعل دكاناً عنده ووضع غلاماً يبيع، ودخل المسجد، فلما سلم وصلى سمع غلامه ينادي ويصيح، انظروا إلى لينها انظروا إلى جمالها: اللهم إني أسألك الجنة، دعاية ليست ثلاثية الأبعاد كما يقولون، دعاية بسيطة وليس فيها نوع من الخداع كما يعرفها أصحاب التخصص، ليس فيها كل ذلك، فجاء رجل فنظر إليها، وقلبها، وأدخل يده في جيبه ليعطيه نقوده، وإذا بـيونس يسمع هذا الصوت ويسمع هذا الرجل يدخل الدكان، فينادي: عبد الله! عبد الله! عبد الله! سكت المشتري فقال: من؟ ماذا تريد؟ قال: ليس عندنا بيع سائر اليوم، قال: لم؟ قال: أنا صاحب الدكان لا أريد أن أبيع، قال: لم؟ قال: لأنك ما جئت إلى الدكان إلا بكلام وصياح غلامي، ولولا ذاك لما جئت، قال: ولكني رضيتها، قال: لا، ليس عندنا بيع سائر اليوم وعاقب غلامه فلم يبع اليوم كله، وقال: اتق الله؛ فإنا لا نريد أن نأكل إلا حلالاً.
وجوب تحري الحلال
يا إخوان! فتشوا عن جيوبكم، فتشوا عن أبواب أقواتكم، فلربما كانت ثمة بطاقة ائتمانية قد اشترط البنك عليك أنه متى ما تأخرت عن السداد خمسة وأربعين يوماً فإنه يأخذ ربا، والله! إنها مشكلة، مشكلة أن يدخل الحرام بيوتنا أو جيوبنا، ومع ذلك لا نشعر، والله سبحانه وتعالى قد حرم محمداً صلى الله عليه وسلم من أن ينزل عليه جبريل لأجل أن جرو كلب في البيت، ولم يعلم محمد صلى الله عليه وسلم بذلك.
فلا تظن أنك إذا أكلت الحرام ولم تسأل ولم تحتط أنك قد انتهيت من معرة ذلك، لا، وخف الله يا عبد الله! فأموال الناس ليست بالأمر السهل، والناس يظنون أنه من السهولة بمكان، ولو حدثتكم يا إخواني! أن أحد أبنائنا من الحي اتصل على فتاةٍ من المصليات، وأغراها بمعسول القول، ونزلت معه في سيارة، وركبا معاً، وذهبا إلى مطعم من المطاعم العائلية يتحدثان، والله! لو قلنا: إن هذا موجود -والحمد لله هذا غير موجود- لوضعنا أيدينا على رءوسنا ووضعنا أيدينا على قلوبنا، ونقول: اللهم حوالينا ولا علينا، هذا يحصل في رمضان! والإمام يصلي التراويح! والإمام يقنت! أعوذ بالله، ولا شك أن ذلك محرم عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين.
لكن هذا أقل بكثير من الذي يدخل البنوك الربوية، ويتعامل بمعاملة ربوية صريحة؛ لأن آكل الربا أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى.
مالك بن أنس الذي يوشك أن تضرب الإبل أكبادها حتى تأتي إلى عالم المدينة، جاء رجل إليه فقال: أبا عبد الله! السلام عليكم، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: رأيت رجلاً سكران، وهو يتعاقر يأخذ القمر، يعني: عقله ليس معه، وهو يريد أن يمسك القمر، فحلفت فقلت: امرأتي طالق إن لم يدخل بطن المرء أشر من الخمر، فهل امرأتي تطلق أم لا؟ لأن المالكية يرون أن من علق الطلاق على أمر؛ فإنه يقع، ولا ينظر إلى نيته أو أنه حلف، هذا مذهب المالكية، قال مالك رحمه الله: ماذا قلت؟ قال: قلت: امرأتي طالق إن لم يدخل جوف المرء أشر من الخمر، قال مالك: أمهلني، فلما كان الغد جاء إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله! ما ترى في مسألتي؟ قال: ما زلت أتأملها فأمهلني، قال: فلما كان الغد قال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ قال: امرأتك طلقت عليك، قال: لم؟ قال: لأن أشر ما يدخل جوف المرء هو المال الحرام والحرام من الربا؛ لأن الله يقول:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا
[البقرة:275].
ومن فضيحة آكل الربا يوم القيامة، حينما تكون مشيته ليست مثل مشية عامة الناس، فهو يتخبط كالمصروع، فيعلم الناس أن هذا آكل للربا، نسأل الله العافية والسلامة، وحذار حذار عبد الله! أن تمنع الإجابة، أو أن يكون جسدك نبت من سحت، وأنت لا تعلم ذلك، وتظن أن دعاءك ربك يصل ( وأطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء ).
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة، وأعمالنا من الرياء والسمعة، وبطوننا من أكل الحرام، وأعيننا من الخيانة:
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
[غافر:19]، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.