فقد فرق الله سبحانه وتعالى بين من ينفق ماله في سبيل الله ليلاً ونهاراً، ومن يتعامل بالربا، فإن هناك أناساً ينفقون لله سبحانه وتعالى من طيب وحلال أموالهم ليلاً ونهاراً، في كل وقت من الأوقات، قال تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، ثم ذكر الله سبحانه وتعالى آكل الربا، فقال سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ [البقرة:275]، وقد ذكر علماء التفسير فوائد الأمثال؛ إذ بها بيان لما يتصور في الأذهان لوضعها في الحس، فقال تعالى في مثل هذا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275].
وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: (لا يقومون)، هل معنى (لا يقومون)، أي: يوم القيامة بعد قبورهم، كما هو تفسير ابن عباس و ابن مسعود وأكثر المفسرين؟ أم أن قوله تعالى: (لا يقومون) أي: في الحياة؟ والذي يظهر، والله أعلم، أن تفسير ابن عباس وتفسير ابن مسعود إنما هو تفسير بالمعنى المترادف وليس معنىً كلياً، وهذه هي قاعدة السلف كما ذكر ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، وهذا المعنى الثاني هو الذي اختاره ابن عطية في تفسيره، واختاره محمد رشيد رضا في المنار.
والمعنى: أن أصحاب الربا لا يقومون في الدنيا إلا كما يقوم المصروع، لأننا نشاهد أصحاب البورصات العالمية مع سمتهم ووقارهم، إلا إنهم مع الأسف الشديد، إذا رأوا بعض المعاملات التي ربما تغير أمزجتهم؛ بدءوا يتخبطون كما يتخبط المصروع، كما ذكر ذلك محمد رشيد رضا ، ولو رأيت الذين يتعاملون بالعقود المشتقات أو العقود المستقبلية بما يسمى في البورصة العالمية، لرأيت معنى هذه الآية واضحاً جلياً، وهو لا يستطيع أن يتنفس، وربما أزال كل ما في حلقه، وخلع كل ما في كتفه، وهو لا يستطيع أن يصبر وتجده يتخبط، وهذه عقوبة في الدنيا، فتجد أنه لا يستقر له قرار، ولا يهدأ له بال؛ لأن أمواله صارت وبالاً عليه وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [سبأ:37].
كثيرون أيها الإخوة -ولله الحمد- من ختم كتاب الله سبحانه وتعالى، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يصومون النهار صيام السنة، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يكونون مع الإمام حتى ينصرف، وما أكثرهم ولله الحمد.
ولا شك أن مثل هذه العبادات لها رصيدها في تاريخك وفي حساباتك عند ربك سبحانه وتعالى، بيد أن هذه عبادة العباد، تبقى عبادة الله سبحانه وتعالى كما عرفها العارفون، وفهمها سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وفهمها علماء الأمة، قال رجل للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! ما علاج قسوة القلب؟ فنظر إليه الإمام أحمد وقال: أطب مطعمك؛ لأن إطابة المطعم فيها نوع من الافتقار للمخلوق، فإذا افتقر وعرف حاجة المخلوق إلى مثل ذلك تعاطف، ولهذا قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156] يعني: يتقون من أكل الحرام وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156]، فالمسألة بحاجة إلى تأن، ولا تغتر بكثرة القسمات التي قسمتها، ولا بكثرة القيام الذي قمته، وجسدك نبت من سحت، ( فكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) يقول وهيب بن الورد رضي الله عنه: والله! لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك. ويقول إبراهيم بن أدهم رضي الله عن الجميع: عبد الله! أطب مطعمك، ولا يضيرك بعد ذلك أن لا تصوم النهار أو تقوم الليل.
واليوم تجد كثيراً منا يدخلون في المعاملات، ولا يسألون أهل العلم، ويظنون أنهم لو سألوا وعلموا حرمة ذلك، قالوا: نترك شيئاً من الحرام بما يسمى تطهيراً، والله! ما أدري من أين جاءت مسألة التطهير هذه؟! فالتطهير عند السلف: هو أن تتطهر من كل المال الذي كسبته، ومن كل معاملة عملت فيها، فتتطهر منها بالترك والاجتناب، أما أن تبقى على هذه المعاملة، فلا تظن أنك قد طهرت شيئاً من مالك ولهذا قال سفيان الثوري رضي الله عنه: من تصدق بمال حرام فكأنه غسل ثوبه بالبول؛ لأنه لا ينفعك ذلك.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: ما أحد استكثر من الربا إلا كان مآله إلى قلة، انظروا، وهنا لا أريد أن أعدد عليكم بالعالم الغربي، أو العالم الشرقي أو الشرق الأوسطي، في الذين قد كثرت أموالهم بالحرام والربا، عبر ما يسمى السندات، أو ما يسمى التمويل الربوي، ثم مآل أمره -مع الأسف والحسرة- إلى قلة، نسأل الله العافية والسلامة.
أبو بكر أعلم هذه الأمة كما أشار إلى ذلك ابن تيمية ، ومع ذلك كان يعلم أن كل من تعامل بمعاملة ظاناً أنها حلال، فإن الله يغفر له زلله وخطأه، لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يأخذ بهذه الرخص، وهو قدير رضي الله عنه أن يؤول لنفسه المعاذير، لكنه ما إن سمع أدخل أصبعه في فيه، فأخذ الغلام بيده فقال: مه أبا بكر ، فأدخلها حتى أخرج كل ما في بطنه، وقال: والله! لو لم تخرج إلا بإخراج روحي لأخرجتها.
وهذا الرجل أشعث أغبر؛ لأن كل من تواضع لله -وكانت حالته وهيئته فيها نوع من الافتقار، والتذلل، والانكسار- فإن إجابة الدعوة قمن أن تستجاب له؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ) لكن المسكين ما استجيب دعاؤه، ورفع يديه إلى السماء، لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في البيهقي بسند جيد: ( إن الله ليستحيي من عبده أن يرفع يديه إلى السماء فيردهما صفراً خائبتين )، ويقول: (يا رب! يا رب!) وقد قال مالك بن أنس و سفيان الثوري : من قال: يا رب! فثم الإجابة، اقرءوا إن شئتم أدعية السلف، وأدعية الأنبياء مع ربهم سبحانه وتعالى.
لكن هذا المسكين ما استجيب دعاؤه؛ لأن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له. ابن المبارك كان عالماً وكان تاجراً، ويقول: درهم من شبهة تتقيه يعني: تتركه، خير لك من أن تتصدق بمائة ألف ثم مائة ألف ثم مائة ألف، أي: ثلاثمائة ألف تتصدق بها لله، خير لك منها أن تترك شبهة من حرام.
واليوم تجد كثيراً من المسلمين يدخلون في الأسهم الربوية الصريحة كأسهم البنوك، وأسهم التأمين التجاري، ومع ذلك يظنون أنهم يتخلصون من معرة الإثم بأن يخرجوا شيئاً من الأموال.
أيها الإخوة! إنك ربما تتعجب حينما تجد بعض الناس قد شاخت لحيته، وانحنى ظهره، وهو يضع ماله في بنك ربوي ويأخذ فائدةً صريحة، ويتصدق فيا عبد الله! لا تتصدق ولا تأكل حراماً؛ لأن كسب الحرام ممحق للبركة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الكذب في البيع ممحق للبركة، فما بالك بآكل الربا! نسأل الله العافية والسلامة.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: يقال لآكل الربا يوم القيامة: خذ سلاحك لأنك سوف تحارب الله سبحانه وتعالى، مسكين كل المسكنة الذي يظن أن كثرة المال سبب لزيادة الرفعة، والله يقول: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [سبأ:37]، فنصيحتي يا إخوة أن ننظر إلى أجوافنا.
فاتق الله عبد الله! ولا تغتر بأنك تحسن أن تماكر وتخادع الناس، وتظن أنك بخديعتك حصلت على مال حلال، فقد يكون حراماً.
ولقد كان سلف هذه الأمة يخافون من الدعايات التي ربما يكون فيها شيء من الشبهة، هذا يونس الأزدي كان بائع بز يعني: بائع قماش وكان من المحدثين، جعل دكاناً عنده ووضع غلاماً يبيع، ودخل المسجد، فلما سلم وصلى سمع غلامه ينادي ويصيح، انظروا إلى لينها انظروا إلى جمالها: اللهم إني أسألك الجنة، دعاية ليست ثلاثية الأبعاد كما يقولون، دعاية بسيطة وليس فيها نوع من الخداع كما يعرفها أصحاب التخصص، ليس فيها كل ذلك، فجاء رجل فنظر إليها، وقلبها، وأدخل يده في جيبه ليعطيه نقوده، وإذا بـيونس يسمع هذا الصوت ويسمع هذا الرجل يدخل الدكان، فينادي: عبد الله! عبد الله! عبد الله! سكت المشتري فقال: من؟ ماذا تريد؟ قال: ليس عندنا بيع سائر اليوم، قال: لم؟ قال: أنا صاحب الدكان لا أريد أن أبيع، قال: لم؟ قال: لأنك ما جئت إلى الدكان إلا بكلام وصياح غلامي، ولولا ذاك لما جئت، قال: ولكني رضيتها، قال: لا، ليس عندنا بيع سائر اليوم وعاقب غلامه فلم يبع اليوم كله، وقال: اتق الله؛ فإنا لا نريد أن نأكل إلا حلالاً.
فلا تظن أنك إذا أكلت الحرام ولم تسأل ولم تحتط أنك قد انتهيت من معرة ذلك، لا، وخف الله يا عبد الله! فأموال الناس ليست بالأمر السهل، والناس يظنون أنه من السهولة بمكان، ولو حدثتكم يا إخواني! أن أحد أبنائنا من الحي اتصل على فتاةٍ من المصليات، وأغراها بمعسول القول، ونزلت معه في سيارة، وركبا معاً، وذهبا إلى مطعم من المطاعم العائلية يتحدثان، والله! لو قلنا: إن هذا موجود -والحمد لله هذا غير موجود- لوضعنا أيدينا على رءوسنا ووضعنا أيدينا على قلوبنا، ونقول: اللهم حوالينا ولا علينا، هذا يحصل في رمضان! والإمام يصلي التراويح! والإمام يقنت! أعوذ بالله، ولا شك أن ذلك محرم عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين.
لكن هذا أقل بكثير من الذي يدخل البنوك الربوية، ويتعامل بمعاملة ربوية صريحة؛ لأن آكل الربا أعظم جرماً عند الله سبحانه وتعالى.
مالك بن أنس الذي يوشك أن تضرب الإبل أكبادها حتى تأتي إلى عالم المدينة، جاء رجل إليه فقال: أبا عبد الله! السلام عليكم، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: رأيت رجلاً سكران، وهو يتعاقر يأخذ القمر، يعني: عقله ليس معه، وهو يريد أن يمسك القمر، فحلفت فقلت: امرأتي طالق إن لم يدخل بطن المرء أشر من الخمر، فهل امرأتي تطلق أم لا؟ لأن المالكية يرون أن من علق الطلاق على أمر؛ فإنه يقع، ولا ينظر إلى نيته أو أنه حلف، هذا مذهب المالكية، قال مالك رحمه الله: ماذا قلت؟ قال: قلت: امرأتي طالق إن لم يدخل جوف المرء أشر من الخمر، قال مالك: أمهلني، فلما كان الغد جاء إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله! ما ترى في مسألتي؟ قال: ما زلت أتأملها فأمهلني، قال: فلما كان الغد قال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ قال: امرأتك طلقت عليك، قال: لم؟ قال: لأن أشر ما يدخل جوف المرء هو المال الحرام والحرام من الربا؛ لأن الله يقول: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
ومن فضيحة آكل الربا يوم القيامة، حينما تكون مشيته ليست مثل مشية عامة الناس، فهو يتخبط كالمصروع، فيعلم الناس أن هذا آكل للربا، نسأل الله العافية والسلامة، وحذار حذار عبد الله! أن تمنع الإجابة، أو أن يكون جسدك نبت من سحت، وأنت لا تعلم ذلك، وتظن أن دعاءك ربك يصل ( وأطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء ).
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة، وأعمالنا من الرياء والسمعة، وبطوننا من أكل الحرام، وأعيننا من الخيانة: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر