إن كثيراً ممن يتحدث عن السلف حينما يتحدث عن عبادتهم، فإن أكثر حديثهم إنما هو عن عبادتهم في الظاهر، بيد أن أكثر عبادة السلف رضي الله عنهم إنما هي في عبادة القلب، وإنما فضلوا على الناس جميعاً بما استقر في قلوبهم من الإيمان، ومحبتهم لله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف: ولم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة، وإنما ببر القلوب وسلامتها ومحبتها، وتعلقها بالله خشية له، وتعظيماً له، وإيماناً به وإجلالاً.
إن الكثير منا غالب اجتهاده إنما هو في الأمور الظاهرة، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم علهم يصومون النهار تطوعاً، أو يقومون الليل، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم كي يتصدقوا لله سبحانه وتعالى إذا خرجوا من المسجد، وكثيرون هم الذين يجاهدون أنفسهم في مثل هذه الأيام حتى يأتوا إلى المسجد مبكرين، ومنهم من يصلي ركعتين وقلبه إلى المصحف، ويأخذ المصحف ولا يريد أن يضيع وقتاً أو دقيقة أو ثانية في ذلك، ولكنه مع الأسف ربما يكون عن يمينه أو عن يساره بعض إخوانه الذين كان بينه وبينهم بعض لعاعة الدنيا، فاختلفوا لأجل ذلك فلا يستطيع أن يسلم عليه، وربما سلم عليه صاحبه فمد بأصابع يديه وسلم، وما علم المسكين أن الله يقول في الحديث القدسي: ( أنظرا هذين حتى يصطلحا ).
إن الله سبحانه وتعالى حينما اختار أفضل الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا لحكمة اقتضت ذلك، وهي ما حباه الله سبحانه وتعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله وخشيته، قال ابن مسعود كما عند الإمام أحمد : (إن الله اطلع على قلوب خلقه، فرأى أخشع قلباً إليه هو قلب محمد صلى الله عليه وسلم)، وكلما كان إيمان العبد بالله قوياً كانت محبته لإخوانه في الله ليست لأجل عرضة من الدنيا.
دخل عليه الصلاة والسلام يوماً على عائشة كما روى ذلك ابن هشام في سيرته، قالت عائشة : ( فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلان فرحان تبرق أسارير وجهه، فقلت: يا رسول الله! لي إليك حاجة، قال: سليني يا
اللهم صل وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينسى نفسه بأبي هو وأمي، كل ذلك محبة للخلق. أما في عرصات يوم القيامة؛ يوم الآزفة، عندما يكون كل واحد منهم لا يلوي على شيء نفسه دونها. (يذهب الخلق كلهم وهم عراة إلى نوح، فيقول نوح: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم فيذهبون إلى إبراهيم، فيقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتي الخلق كلهم عن بكرة أبيهم، يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: أنا لها، أنا لها، أنا لها، قال: فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، فيلهمني الله من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعطه، اشفع تشفع، فيقول: رب أمتي أمتي)، نسي نفسه بأبي هو وأمي، وهو يقول: (رب أمتي أمتي)، لأجل هذا صار محمد صلى الله عليه وسلم قلباً رحيماً، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
يقول الحسن البصري : والله! ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا بكثرة صوم، ولكن بشيء وقر في قلبه. هذا هو الذي جعله يصفه ربه بقوله: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33]. جاء عند البخاري من حديث البراء ، قال: ( كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي
ثم يمتحن في صدقه، ومحبته لإخوانه، فيقول أبو جعفر المنصور : يا مالك ! ألف لنا كتاباً، ووطئه لنا، وقيل: إنه حينما ألفه قال له: سوف أجعله حجة بيني وبين الخلق، قال مالك : لا يا أمير المؤمنين! إني والله لا أحب ذلك، قال: لم؟ قال: فإن الناس تفرقوا في البلدان، وفي القرى، فربما بلغهم عن محمد صلى الله عليه وسلم سنة لم نبلغها، فدع الناس وما هم عليه، والله! لو أن أحداً قيل له: سوف يوضع كتابك ويقرأ في الصحف، أو في الإذاعات -وقد يوجد كتب أعظم منها- ربما لا يقول ذلك، أما مالك فقال: لا يا أمير المؤمنين.
ومع هذا الاختلاف ترفع السيوف، وكل واحد منهم يعتذر لأخيه، تنتهي المعركة فيقول علي رضي الله عنه: هبوا لي طلحة بن عبيد الله ! ابحثوا لي عن طلحة بن عبيد الله ، قال: فبحثوا فلم يجدوه من ضمن القتلى في المعركة، قالوا: يا أمير المؤمنين! والله! ما وجدناه، قال: هبوا لي طلحة بن عبيد الله ، قال: فبحثوا فوجدوه قد هرب من المعركة، فلحقه أحد المنافقين فطعنه في صدره، فإذا صدره يثعب دماً، فأخذه علي رضي الله عنه، وضمه إلى صدره وقال: عزيز عليّ أبا محمد! أن أراك مجندلاً في بطون الأودية، إلى الله أشكو عجري وبجري، ويدخل علي بن طلحة بن عبيد الله على علي بن أبي طالب ، فيقول علي بن أبي طالب : يا علي! ادن. فيدنيه، فيضمه ويقول: والله! إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
أيها الأخ! راجع شريط ذكرياتك، فلربما كان بينك وبين بعض أصحابك في عملك، أو في وظيفتك، أو في مسجدك بعض الاختلافات، وربما أحببت استنقاصه في المجلس، فاعلم أخي! أن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء، ولا من أخلاق المؤمنين.
هذا القبول في الأرض لم يكن ليتأتى إلا بالصدق، ومحبة الخلق والاعتذار لهم. كان أحمد بن حنبل يضرب ثمانية وعشرين سوطاً حتى إن المعتصم كان يأتي بالشرط الذين أعضادهم كبيرة، فيقول: اضرب، فيضرب، ويضرب حتى إذا كلت اليمنى أخذ اليسرى، حتى إذا كل يأتي الثاني والثالث والرابع و أحمد يقول: يا أمير المؤمنين! آية أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيخرج من السجن بعد أن أعلى الله كلمته وقوله. يقول ابنه صالح : والله إني كنت لأضع كفي على بعض الفجوات فكان لا يستطيع أن يتكئ كما تتكئون فكان يجلس جلسة القرفصاء، والناس يسألونه ويجيبهم، قال: وإذا رجل في آخر المسجد حسن البزة والهندام، قال: فلما نفر الناس عن أحمد أقبل هذا الرجل وجثا على ركبتيه، فقال: السلام عليك أبا عبد الله ! قال أحمد ورفع رأسه: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: أبا عبد الله ! استغفر لي، قال أحمد : أخي مم ذاك؟ قال: كنت أحد الشرط الذين ضربوك لأجل خلق القرآن، لكن الإمام أحمد لم يجعل هذا الخلاف حائلاً بينه وبين الرجل جاء أخوه تائباً، فلم يجعل الخلاف مسألة شخصية، ولم يجعل حظوظ النفس تدخل بينه وبين أخيه، ولم يقل وكان له أن يقول: والله! لا أسامحك، وقد كنت تنصر البدعة وتقمع السنة، لكن أحمد رحمه الله كان رحيماً بإخوانه المسلمين، فلما قال: كنت أحد الشرط الذين ضربوك لأجل خلق القرآن، قال: فسكت أحمد ، ثم رفع رأسه، فقال: يا أخي! أحدث لله توبة، قال: أبا عبد الله ! والله ما جئتك إلا تائباً من ذنبي، مستغفراً ربي، وجئت أستسمحك لحق المخلوق عليّ، قال صالح : فرأيت أبي قد وضع رأسه بين فخذيه، ثم سكت هنيهة ثم رفع رأسه، وإذا لحيته تخضب دمعاً، ثم قال: قم قد غفرت لك، قم قد غفرت لك، إني لا أحب أن يؤذى مسلم بسببي، إني جعلت كل من آذاني في حل إلا أهل البدع.
واليوم ربما يقول بعض الناس إذا مات فلان: إن فلاناً يطلبك الحل حلله جزاك الله خيراً، فيقول: والله! ما أحلله، وقد يكون لأجل مال، أو لأجل دينار، أو لأجل درهم، أو لأجل عرض من الدنيا، أما أحمد رحمه الله فقال: ما أحب أن يؤذى مسلم بسبي، والله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22].
و النووي رحمه الله كان في زمن فقر، ومرة اشترى نعلين حسنتين، فدخل المسجد فوضع نعليه في المكان الذي يوضع فيه النعال، ثم صلى، فلما خرج بحث عن نعليه فلم يجدهما، فذهب إلى الرف الأول فلم يجدها، ثم ذهب إلى الرف الآخر فلم يجدها، فالتفت، فإذا رجل قد أخذ نعلي محيي الدين ، وإذا هو يهرب، فلما رآه محيي الدين النووي أسرع خلفه، فأسرع السارق، و النووي رحمه الله يقول: على رسلك أخي! على رسلك، والرجل يلتفت، ويرى النووي قد اقترب منه، ويسرع أكثر وأكثر، و النووي يقول: على رسلك على رسلك أخي! قال: ولا يدري هذا الرجل يقول؟ وكأنه يخاف أن يمسك به النووي ، ويقول النووي : على رسلك أخي قد وهبتها لك، قل: قد قبلت، قد وهبتها قل: قد قبلت، قال: والرجل مشكلته أنه سارق وليس بفقيه، فهرب، قال: فتأثر الإمام النووي ، وعرف الحزن في وجهه، فقال لأصحابه: والله! وددت أنه قال: قد قبلت، أشهدكم إني قد وهبتها له، والله! إني لا يسرني أن أقف أنا وأخي بين يدي ربي؛ لأجل نعال.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في (صيد الخاطر): والله! لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم، ويتخشع في نفسه ولباسه، ولكني أرى القلوب تنبو عنه، وليس له محبة في قلوب الخلق، ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس هو بكثير صوم ولا صلاة، وأرى القلوب تهفو له، ومحبته في قلوب الخلق تزداد، فعلمت أن السر هو في السريرة، فالله الله في السريرة، فالله الله في السريرة، فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بذكر سيرته، فالله الله في السرائر، الله الله في السرائر، من صفى صفي له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في نهاره كفي في ليله، ومن أحسن في ليله كفي في نهاره، ومن سره أن تدوم عافيته فليتق الله في الخلوات، وليغتفر لإخوانه عن الهفوات، بذلك ينال جنة ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وفي إحدى المرات جاء اثنان من علماء الشافعية وهما من الأشاعرة نصر المنبجي و ابن الزملكاني ، فذهبوا إلى السلطان، فأججوا عليه السلطان، وألبوا عليه العوام، وسجن ابن تيمية ، ثم يخرج بعد سبع سنين عن طريق ابن طولون والي مصر والشام، فيقول لـابن تيمية : ما ترى في هؤلاء الذين سجنوك؟ قال: يا إمام! أقول: دعهم فإنك لن تعدم منهم استشارة وخيراً، وإني أقول: إن علماء أمة محمد مع ما فيهم من النقص هم خير من عوامها، فقال ابن الزملكاني في ابن تيمية حينما سجنه وعذبه، ولكن ابن تيمية عفا عنه، قال:
ماذا يقول الواصفون له؟ وصفاته جلت عن الحصر
هو آية في الله ظاهرة هو آية هو أعجوبة الدهر
قال تعالى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]، هكذا هي العبادة يا إخوان! وهكذا هو التآلف بين المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )، وأعظم عبادة هي الاغتفار للخلق، فالله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين، يقول تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [الأعراف:156]، ولو تأملت هذه الآية لوجدت أنها داخلة في عبادة القلب، (فيتقون) بين العبد وربه، (ويؤتون الزكاة) بين العبد ورحمته لإخوانه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحني وإياكم رضاه، والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر