اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.
وبعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقد قابلت الإخوة الطلاب السعوديين الذي لم يستطع الواحد منهم أن يكمل دراسته في الثانوية هنا، والآن هو يستطيع أن يعبر عن آرائه، ومفاهيمه وهو في مرحلة بداية البكالوريوس، فعرفت أن ثمة فرقاً كبيراً، وقلتها للإخوة الذين معي بعض أصحاب الفضيلة الدكاترة، قلت لهم: إنني أعرف طالب العلم حينما أسمعه يفتي، ويبين وجهة نظره في فتواه، أعرف أنه أخذها بالتلقي، أو أخذها بالبحث والتنقيب والترجيح، أعرف ذلك من خلال عباراته، ومن خلال بيانه، ومن خلال ظهور حجته وقوتها، أعرف ذلك جيداً حينما أسمع الإنسان يفتي، أعرف أنه أخذها حينما قرأ كتاباً واحداً لشيخ جليل عظيم، فقلده في هذا الأمر، ثم بدأ يذكر أدلة شيخه، ولم يكن ذلك عن بحث وتنقيب، ومن المحال أن يكون الإنسان طالب علم حقاً، وتجد أن كل أقواله توافق قول شيخه؛ لأنه إما أن يكون شيخه أخذها بالتلقي عنه، وهذا بعيد، وإما أن يكون هو أخذها عن شيخه، وهذا هو الواقع.
ولأجل هذا علمنا الفرق الكبير بيننا وبينهم في تدريس الطلاب في مرحلة البكالوريوس، أو مرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية: الماجستير أو الدكتوراه، والفرق هو في أمر بسيط، وهو: أن عضو هيئة التدريس عندهم، أو أن المعلم عندهم يحاول أن يشارك الطالب المرحلة التعليمية، أو بمعنى أدق: أن المرحلة التعليمية يناقش فيها الطالب أكثر بكثير من المدرس أو من المعلم، أو من عضو هيئة التدريس، ولو فتحنا ذاكرتنا في الثانوية لوجدنا أن المعلم لم يسمع ولم ير من ينبس ببنت شفة في موضوع يتحدث هو به، ولم نر الطالب يقوم بالبحث عن الفائدة، أو عن المعلومة التي يتوصل بها إلى معرفة ما يريد أو يراد منه بهذه المرحلة، هل مرة من المرات بالثانوية طلب منا أن نبحث وكيف نبحث؟ أنا أجزم أننا لم يطلب منا ذلك.
أنا أسألكم سؤالاً: كم عدد الساعات التي تدرسونها بالجامعة؟ كثيرة، وسألت الطلاب هناك: كم كان عدد الساعات التي تدرسونها؟ قالوا: لا تتجاوز خمس ساعات أو أربع ساعات في فصل، يعني: يدرسون خمس مواد أو ست مواد، وأغلب الفترات للبحث، المكتبة كأنها خلية نحل، يعرف الطالب كيف يستعير كتابه، ويعاقب لو تأخر عن تسليم الكتاب بغرامة مالية، الطالب هو الذي يحمل هم العلم والتعليم، أما نحن فمرحلة الماجستير تجد أن الطلاب يلاحقون عضو هيئة التدريس في أروقة الجامعة كي يعطيهم منهجاً مقرراً عليهم يدخلون فيه الامتحان، ولا غرو أن تجد كثيراً من الطلاب في الفصل لم يعط اهتماماً للمادة؛ لأنه يعلم أن آخر الفصل، أو آخر الامتحان، أو قبيل الامتحان سوف يحصل على مذكرة يستطيع أن يحفظها؛ لأنه حفيظ كما يقول الشباب؛ ثم بعد ذلك يدخل الامتحان ويكون من الأوائل، فيتعجب عضو هيئة التدريس.
الدراسة في مرحلة البكالوريوس لا يجلس الدكتور على الطاولة أو يمشي في قاعة المحاضرة ليبين لطلابه شرح كتاب، لكن الطالب هو الذي يقوم، ويشرح ويناقش وإن كانت الدراسة التطبيقية تختلف عن الدراسة النظرية، لكن عندهم أيضاً نظريات، وقلت لهم: هل عندكم أقوال؟ قالوا: نعم، عندنا أقوال النظرية هذه، وفوائدها، وترجيحاتها، والنظرية هذه، ونقوم نحن ببيان كل نظرية، ثم نبدي وجهة نظرنا، ولو كانت خاطئة سوف يتقبلها الدكتور.
المشكلة التي عندنا -أيها الإخوة- أنه يطلب من الطالب امتحان واحد لكل مادة، أو إن شئت قل: بحثاً واحداً في كل مادة، والمفترض أن الطالب هو الذي يقوم بعملية البحث في كل المقرر، وسوف يكون الامتحان لما طلب منه، وأصبح هذا الأمر هو هم كل التعليم، لكن المشكلة لو رأيت عضو هيئة التدريس يتحمس لهذه النظرية والآخرون لم يتحمسوا، فسوف يقع عضو هيئة التدريس المتحمس بحيص بيص مع الطلاب، وربما لم يرغب الطلاب أن يقوم بتدريسهم، ولو كان من أعلم علماء الإسلام؛ لأنه لم يبين لهم المنهج الذي يقوم بتدريسه، سل الطالب في الجامعة: هل همه في مرحلة الجامعة هو: العلم والبحث والتنقيب، أم أنه جعل هم التعليم لا يجاوز ثلاثين بالمائة من حياته اليومية؟ وأما الباقي فهي مقسمة على أهله وأصحابه، لا أقول في أيام الأسبوع، ولكن في أيام الدراسة، ولا غرو أن يأتي الطالب في أيام الصباح وهو يمسح النوم عن عينيه، ولم يستطع أن يقاوم نومه إلا في الساعات المتأخرة من الدراسة ويكون نشيطاً، وهذه هي المأساة، يتخرج الطالب وهو لا يعرف الكتب التي درسها في الجامعة.
الطلاب الذين نقوم بمقابلتهم في مرحلة الماجستير لا يعرفون كتاباً من الكتب؛ لأنهم أخذوا بعض المذكرات التي تبين لهم كتب الحنفية، وتبين لهم كتب الشافعية، وتبين لهم كتب المالكية، وتبين كتب الحنابلة، وميزة كل كتاب، دون الرجوع إلى أمهات الكتب بالبحث والمراجعة والتنقيب، فهذا أنى يكون له ذلك!
القضية كبيرة جداً، الطالب الذي أعرفه بالكاد ينهي مرحلة الثانوية، ولا يستطيع أن يكمل دراسته في الجامعة، فيتوظف على نظام الساعات أو على نظام البنك، فيجلس خمس سنوات، ولو طلب منه بعد خمس سنوات أن يرجع للدراسة وجد كلفة، ثم يذهب مبتعثاً، فتجد أنه يعرف كيف يدرس، يعرف كيف يبحث، إذا كان عنده هم العلم، أعرف أنه ليس كل الذين لقيناهم عندهم اهتمام بالعلم، لكن رأيتهم يناقشون ويعبرون عن آرائهم أسألهم سؤالاً، وهم لا يدرون ماذا أقصد فتجد أن كل واحد منهم يبدي رأيه.
الآن لو أطلب من الطلاب أن يبدوا وجهة نظرهم، لوجدوا إحراجاً من زملائهم وغير ذلك.
أنا أعرف أننا -الحمد لله- متفوقون في العلم الشرعي، لكني أجزم أيضاً أن الطالب النجيب في العلم الشرعي لم يحصل ذلك في الجامعة، إنما بحضور دروس العلم والمشايخ؛ لأن عقله استشكالي دائماً يسأل: كيف نجمع بين هذه الآية وهذا الحديث؛ لأنه حفظ الحديث في خارج مدرسته أو جامعته؛ فيقع في إشكالات، بين ما سمعه في الجامعة، وبين ما عرفه من شيخه، أو عرفه من بعض المشايخ أو من بعض الكتب التي قرأ، فتجده يستطيع أن يحلل ذلك في عقله، هذا يعتبر نوعاً من البحث وإن كان قليلاً، فيتخرج وهو مهيأ للملكة الفقهية التي ننشدها.
سل الطلاب الآن: هل يبحثون المسائل هذه في الجامعة، لا أقول أولى ثانوي، بل في الجامعة؟!
إذاً: القضية ليست حافظتك هي التي تسعفك من بيان القول الراجح، بل ببحوثك تستطيع أن تميز بين قول الشافعية، وقول المالكية، وقول الحنابلة، وقول الحنفية، ببحثك تستطيع مع الممارسة أن تميز ما أصول أبي حنيفة في المسائل، ما أصول مالك في المسائل، لا أطالبك أن تبحث في كل مسألة، وهذا ليس بعسير، لكن أقول: إن المسائل التي تسمى رءوس المسائل يجب أن يعرفها طالب العلم، يجب أن يعرف طالب العلم أن الملكة لا تتأتى بشهادة، أو بالجلوس وجثي الركب عند الشيخ فقط، بل العلم يتحصل بالبحث والتمكين، وكثيراً ما يسألني الطلاب: متى ننتهي من شرح الروض؟ ليست القضية في إنهاء شرح الروض، القضية أن تتعلم كيف ترجح الأقوال، كيف تناقش؟
أنا أعلم أن بعضكم ربما ليس له اهتمام بالحديث، لكن حينما حضر الدرس عرف أن هناك علم رجال، وكيف رجح هذا القول، وكيف أن هذا الحديث ضعيف، وكيف أن كثيراً من المشايخ على هذا القول ووجد أنه ضعيف، وأن أبا حاتم ضعفه، وأن أحمد ضعفه، أو أن أبا زرعة ضعفه، فيصير عنده اهتمام بعلم الحديث، وعلم الفقه، وأقولها بملء فمي: لا يمكن أن يكون الإنسان طالب علم بالفقه وهو لا يفقه الحديث؛ لأنه لا بد حين الترجيح بين الأقوال أن يكون ذلك عن رأيه واختياره في الفقه واجتهاده في القياس، وفي صحة الحديث من عدمه، وقد تتعجب حينما تجد في بحوث كثير من الطلاب أنه يرجح كثيراً من الأحاديث، ويقول: صححه الحافظ ابن حجر ، وكل أحاديثه صححه الحافظ ابن حجر ، أو كل أحاديثه قد صححها الإمام النووي ، أو كل أحاديثه قد صححها الإمام الألباني ، وهذا بلا شك يدل على أنه متناقض، كيف متناقض؟ لأنه سوف يضطر إلى أن يأخذ بقول النووي أو قول الحافظ ابن حجر أو قول الألباني ؛ لأنه إذا صح الحديث فهو مذهبي، كما يقول الشافعي ، لكنه ربما يكون الإمام النووي الذي رجح هذا القول بناءً على صحة هذا الحديث قد ضعفه الإمام أحمد رحمه الله، أو ضعفه أبو زرعة أو الشافعي، أو غير ذلك من علماء الإسلام.
إذاً: لا بد لطالب العلم إذا أراد أن يكون طالب علم أن يبحث المسائل، وأن يعرف القول الراجح.
أنا أعرف أن بعض الإخوة قد يستكثر هذا من طالب العلم، ويقول لك: من أنت حتى تخالف شيخك فلاناً، وشيخك فلاناً؟! ولكن قل: أخذت بقول جمهور الفقهاء، وهم أعلم من هذا الشيخ أليس كذلك؟ فإذا أردت مثلاً أن تقلد البهوتي ، وأنا خالفت البهوتي فتقول: من أنت حتى تخالف البهوتي ؟ أقول: أنا لم أخالف البهوتي ، ولكني أخذت بقول مالك و الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين، و أبي حنيفة ، ومن يكون البهوتي مع هؤلاء الأئمة؟ أليس كذلك؟ فأنا أكون مثل النحلة أنتقي زهري الذي يتناسب مع طبيعتي، وأقوالي التي أقوم بترجيحها.
فأنا أقول: لا بد لطالب العلم أن يقوم بعملية البحث، لا بد أن يبحث، لا بد أن يرجح، وهذه طريقة استفدتها منذ الصغر، لا يمكن لي أن أسأل شيخاً من المشايخ عن مسألة إلا وأقوم ببحثها أو قراءتها من مصدر أو مصدرين؛ حتى إذا قال لي: والدليل كذا، قلت له: يا شيخ! أليس هذا الحديث ضعفه فلان، بحيث يستطيع أن يجيبني، فإذا لم يشف غليلي من أسئلتي التي يسميها بعض المدرسين مشاغبة؛ لأن مسائل الأحكام الفقهية التي اختلف فيها أهل العلم قول الصواب يحتمل الخطأ، وقول الخطأ يحتمل الصواب، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، بهذه النظرية، وبهذا التطبيق والبحث نستطيع أن نقول عن فلان: إنه طالب علم.
هذا مالك بن أنس يقول: ما أفتيت حتى سألت سبعين من أهل العلم هل يروني أهلاً لذلك؟ فكلهم قال لي: إني أهل لذلك، سألت ربيعة ، سألت يحيى بن سعيد ، فكلهم أخبروني أنني أهل لذلك، السؤال: كيف عرفوا مالك بن أنس ؟ عرفوا مالك بن أنس حينما حفظ لهم كتاباً واحداً يقرؤه عن ظهر قلب؟ لا، ولكنهم عرفوا طريقة مالك بن أنس في بحثه وترجيحاته، وأنه إمام حقاً منذ الصغر. ابن تيمية كيف كان إماماً؟
العلم تراكمي، الفقه ملكة، إذاً ثمة فرق بين الملكة والعلم، يعني: الملكة والمعرفة، فالملكة تأتيك بين الفينة والأخرى في مراجعتك لمعلوماتك ومعارفك تحصل هذه الملكة، لا يمكن للتاجر أن يعرف الذي يأتي أنه يريد أن يشتري أم لا؟ إذا لم يكن كثير الجلوس في تجارته، كذلك طالب العلم والباحث لا يمكن أن يعرف أن هذا القول قوي، وأن الراجح كذا إذا لم يكن كثير الاطلاع في أقوال العلماء، ولهذا ذكر أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أنه نقل عن قتادة وغيره: أنه لا يعد الإنسان فقيهاً حتى يعرف أقوال الرجال، ما مراد قول أبي حنيفة ؟ وما مراد قول مالك ؟ وما مراد قول الشافعي ؟ وما مراد قول أحمد ؟ أما إذا كان يأخذ قولاً واحداً في المذهب أياً كان هذا المذهب، فهو حامل فقه، ( ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه )، وهذا قول الحبيب عليه الصلاة والسلام.
ولأجل هذا -أيها الإخوة- لا بد أن نعلم جيداً أنه من أراد أن يسلك هذا الطريق فليعلم أنه طريق شاق؛ لأنه لا يستطاع العلم براحة الجسد، وليس العلم والفقه بكثرة القراءة، إنما يكون بأمور:
أولاً: بحفظ المسائل وتمييزها.
والثاني: بحفظ الأحاديث وتصحيحاتها وتضعيفاتها.
والثالث: بالتمييز بين الأقوال، وحينئذٍ فقط يكون الإنسان بإذن الله طالب علم للعلم الشرعي وللفقه على سبيل الخصوص.
الإمام السبكي في كتابه الجليل (معيد النعم ومبيد النقم) ذكر عن بعض طلاب أهل الحديث في زمانه، فقال: والواحد منهم مجرد أن يقرأ أو يحفظ البخاري و مسلماً يظن أنه طالب للحديث، فلا يمكن أن يكون طالباً للحديث حتى يقرأ البخاري و مسلماً ، وسنن أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه و أحمد و مالك و الدارمي ، ثم يطلع على السنن الكبرى للبيهقي ، ثم يقرأ المعاجم الثلاثة للطبراني ، ويقرأ سنن الدارقطني ، ثم يقال له بعد ذلك: أنت تصلح لعلم الحديث! أو قال كلمة نحوها، قارن بين هذا وبين ما يقرأ، أو نسمع طالب علم يقرأ له شرح نخبة الفكر، ثم بعد ذلك يقوم بالتصحيح، ولم يعرف دراسة الأسانيد، ثم يقول: أشم منه رائحة الوضع!! ظنه نكهة من النكهات التي تشم عبر الأنف أو الشم أو نحوها.
أنا أقول لكم يا إخوان: من أراد طلب العلم فلا بد أن يبحث المسائل، مثلاً إذا جاء وقت الحج فيكون هذا هو ديدنه في كتبه، يمسك كتاب الروض المربع، أو زاد المستقنع، وكل مسألة تأتيه أنا أعرف أن هذا على زمن، وبداية يمسك زاد المستقنع، ويقرأه يعني: باب المياه مثلاً، يقرأه مرة مرتين ثلاث أربع ست عشر مرات حتى تتروض نفسه ولسانه لكلمات الفقهاء، قال الشافعي رحمه الله: ما تفقه لساني في الفقه حتى جالسته وقرأت كتب محمد بن الحسن .
هذا النحرير اللغوي الأديب لم تتفتق لسانه إلا حينما قرأ كتب محمد بن الحسن .
إذاً: علم الفقه شيء، وعلم الأدب والنحو واللغة والبيان شيء آخر، وكتب الفقه شيء آخر، فلا بد أن تقرأ كتب الفقهاء، وأن يكون لسانك معبراً عن أقوالهم وآرائهم، أما أن يكون ذلك على سبيل التعبير الإنشائي الفكري الأدبي، فهذا له مقامه وطريقه، وأما الفقه فله عباراته وبيانه، فلا بد أن يقرأ طالب العلم الفقه كثيراً حتى يقوم بالتعبير عن آرائه من حيث القياس، ومن حيث الاستدلال، ومن حيث المناقشة، ومن حيث الترجيح، حينئذٍ يقرأ شرحاً ولو بسيطاً في هذا الباب، وقل مثل ذلك في الشرح الممتع لشيخنا محمد بن عثيمين يعرف دليل صاحب الزاد مثلاً، ويعرف دليل الشارح مثل شيخنا محمد بن عثيمين أو صاحب الروض، أو الحاشية، بحيث يعرف أن صاحب الزاد هذا قوله؛ لأن معرفة قول معين، يستطيع أن يرجع إليها طالب العلم في الأزمات، يستطيع كيف يبحث المسائل إذا كان عنده كتاب يميزه، فيقرأ الزاد باب المياه مرتين أو عشراً، وإن كان سريع الحفظ حفظه، ولا إشكال.
وليس الغرض حفظ الزاد، لكن الغرض أن يعرف طريقة تعبيرات الفقهاء، ثم بعد ذلك يقرأ الشرح، ثم ينطلق على هذه الوتيرة، وإذا سمع شيخاً عالماً جليلاً في زمانه مثل: الشيخ عبد العزيز بن باز ، أو اللجنة الدائمة، أو رأي ابن تيمية ، أو بعض مشايخنا الذين يجلهم، ويحترم آراءهم يفتح هذا الكتاب الذي هو مرجعه، فيضع على هذه المسألة قوسين، أو يضع رقماً بين قوسين، ويقول: وهذا يخالف رأي اللجنة الدائمة، وقد استدلت بكذا، ويستمر على هذه الطريقة وسوف يرجع إليه بعد زمن، مثلاً: راجع كتاب الصيام وجاءت السنة القادمة، فيكون قد قرأ هذه الأقوال، السنة التي بعدها يريد أن يتقوى، فيقرأ هذه المسألة عن أقوال العلماء، فلم يجد أفضل من المغني، يميز بين الأقوال؛ لأنه خلال ثلاث سنوات أو خلال سنتين وهو يقرأ في الفقه ويطلع فيه، سيميز بين الأقوال الفقهية، إذاً لم ينقطع عن الفقه، إنما كانت هذه طريقته، ولو أن يدرس ساعتين في اليوم، أو عشر ساعات، أو ست ساعات في الأسبوع، يكون مطلعاً في الفقه، ويقرأ هذا الكتاب بهذه الطريقة التي قلناها، بعد زمن يجد أنه فهم مرادات الأئمة، وبدأ يميز بين الأقوال.
هذا العلم لم يكن بعيداً عن علم الحديث، ولا بعيداً عن العربية والنحو، ولا بعيداً عن التفسير وطرق أهل العلم في التفسير وأصول الفقه، وغير ذلك، شيئاً فشيئاً فيكون بإذن الله نجيباً تعرف ذلك بمناقشته لك.
أنا أعرف طالب العلم الذي يقرأ ويطلع ويبحث من سؤاله لي؛ لأني أعرف أن هذا لا إرادي، يكتسبه عن طريق البحث والتنقيب، وعن طريق الاستشكالات.
كنت أقول للإخوة: من أراد أن يكون طالب علم، فلا بد أن يكون عنده عقل استشكالي، الذي يقول: أنا أتعجب من بعض طلاب العلم يقول: أنا أرى هذا القول منذ عشرين سنة، أو منذ عشر سنوات، أو منذ خمس عشرة سنة، ويظن أن هذا نوع من الثبات والقوة، وهذا دليل على الضعف؛ لأن طالب العلم لا بد أن تكون عنده إشكالات في المسائل، لا بد أن يكون عنده إيرادات، شيخنا عبد العزيز بن باز كان يرى أن طلاق الثلاث تقع واحدة، وهو يفتي على هذا القول وهو ابن سبع وعشرين سنة أو أقل عندما كان قاضياً في الخرج، وأفتى فتواه التي هي معلومة حينما خالف شيخه محمد بن إبراهيم ، وهو ابن واحدة وثمانين سنة، أو ثلاث وثمانين سنة، ونحن في الدرس عام 1418 للهجرة حينما سئل عن هذا، فأفتى بأن الطلاق الثلاث تقع واحدة، فقرأ أحد الإخوة كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري والإيرادات الواردة على هذا القول، فسألناه بعد ذلك، فقلنا: يا شيخ! ما هو الراجح؟ قال: الله أعلم.
إذاً: ليست القضية أنك صاحب قول لا يمكن أن تتزعزع عنه؛ لأن هذا دليل على ضعفك وعدم إدراكك للمسائل؛ لأن أكثر الأقوال لا يمكن أن يكون إلا عن طريق إجماع من أهل العلم؛ لأن العلماء إذا أجمعوا فنقول: إن الخلل فينا نحن، والله تبارك وتعالى أعلم.
لعل هذه وقفات أحببت أن أدلي بها كي يعلم الإنسان أنه لا بد أن يكون من نفسه ولنفسه جاداً، ولو سألتك وسألت كثيراً من الإخوة أن يخبروني عن شيوخ ابن تيمية رحمه الله -الذين قيل: إنهم تجاوزوا الألفين- عن سبعة منهم لما استطاعوا! والسبب أن ابن تيمية رحمه الله أضاف مع علمه علم هؤلاء المشايخ، وأصبح له القول يقرأ ويطلع حتى كان رضي الله عنه ورحمه، يقول: وإذا أردت تفسير آية لم أزل أطلع في مائة تفسير، مائة تفسير وهو يبحث! فإذا لم أفهم هذا لم أزل أستغفر وأسأله التوفيق والتسديد، وهذا ديدني في صلاتي، وديدني في مسجدي، وفي الطرقات، وأنا على هذا حتى يفتح الله عليّ، بهذا يكون العلم خشية، نسأل الله التوفيق.
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
واعلم أن كثرة الأصحاب -مع أنها مرهقة للنفس، ومبالغ فيها للمجاملات- فهي تبعدك عن طريق الوصول إلى المقامات العليا، والحياة السامية التي كان عليها سلفك وأئمتك، واعلم أن كثرة الأصحاب تمنعك من النجاحات، كما قال ابن الرومي :
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
لا بد أن تحدد مسارك.
أحزن كثيراً حينما يأتيني طالب علم بعد ما تخرج من مرحلة البكالوريوس يقول: يا شيخ! ما رأيك، ما هو التخصص الذي اختاره؟ أنا والله لا أدري ما أختار! هل أختار قسم السياسة الشرعية أو أختار الفقه المقارن أو آداب كلية الشريعة؟
فأقول: هل تعرف عن الفقه المقارن شيئاً؟ فيقول: لا، ما أعرف. هل تعرف عن السياسة الشرعية شيئاً؟ قال: لا، والله ما أعرف.
حياتنا دائماً أخذناها بالتلقي، لم يقرأ ويتفحص مناهج قسم السياسة، ومناهج قسم الفقه المقارن، لم يكن ذلك عن إرادة جازمة من عند نفسه، فتجده متخبطاً، يقال: إن عام 1917 للميلاد قامت جامعة كلفورنيا وهي من أعرق الجامعات يقولون: إنهم جمعوا الطلاب المتخرجين، فقالوا لهم: هل عندكم تخطيط لمستقبل حياتكم؟ فثلاثة في المائة عبروا عن أن عندهم تخطيطاً لمستقبل حياتهم، وأنهم إذا تخرجوا هذا يقول: سوف أكمل دراستي في كذا، والثاني يقول: سوف أقوم بكذا، والآخر كذلك، وسبعة وتسعون بالمائة كلهم يقول: ما ندري ما يفعل الله بنا، تخيل سبعة وتسعين بالمائة مقابل ثلاثة بالمائة.
بعد عشر سنوات استدعوا هؤلاء الدفعة، يعني: 1927 فوجدوا أن الذين قاموا بتخطيط مستقبل حياتهم وهم ثلاثة بالمائة استطاعوا أن ينجحوا في حياتهم، وأن البقية الذين لم يقوموا بتخطيط حياتهم، صاروا على هامش الحياة، كيف على هامش الحياة؟ صار مدرساً، ثم سكن وقام ببناء فلة، وأصبح بسيطاً في حياته، وأصبحت الحياة جل اهتماماته وأسهلها، ولم يكن ذا همة واطلاع يؤثر على أسرته، ولا على أهله، ولا على أولاده، ولا على مجتمعه، وأما البقية الذين قاموا بتخطيط مستقبل حياتهم فهم الناجحون حقاً، كل الذين نجحوا في حياتهم أياً كانت تخصصاتهم، كلهم رسموا أهدافهم، ولا أكتمكم سراً حتى اللاعبون الذين اهتماماتهم سافلة في كرة القدم، أو في ألعاب الأثقال أو غير ذلك، كلهم تجدهم يرسمون أهدافهم ولو كانت دنية، لكنهم يصلون إلى ذلك، ولعلي أذكر مثالاً -وإن كان هذا لا يليق- أحد لاعبي كرة التنس الأرضي كان يتدرب بين الفينة والأخرى ليحصل على كأس العالم، فلما حصل على كأس العالم جاء الجماهير، وجاء الصحفيون يقولون له: ما هو شعورك حينما حصلت على كأس العالم؟ نظر إليهم وقال: قد حصلت عليها مرات عدة! فتعجبوا، كيف حصلت عليها مرات عدة، وأنت لم تحصل عليها إلا هذه السنة كيف ذلك؟! فلما رأى تعجبهم، ورأى ذلك في وجوههم، قال: أنا منذ عشر سنوات، وأنا أعيش أنني أنا الفائز.
إذاً: الناجح هو يستشعر أنه سوف يفوز.
تخيل معي إذا ربيت طفلاً على أنه الدكتور الفلاني، هل سوف تكون حياته حياة الأطفال الذين يعيثون بين الدفاتر وفي أوساخ البيت، أم يقول: يا دكتور! تراك أنت دكتور، ألن يترفع في حياته؟ ليبني مستقبله، إذاً هو كلما وقع في خطأ تذكر أنه دكتور، كذلك أنت كلما أردت أن تكون في حياتك مع سفاسف الأمور مع الرحلات، هيا نذهب إلى البر، هيا نذهب إلى الشلالات الفلانية بعد نزول المطر، وتكون هذه حياته وديدنه، شنطة سيارته ملأى بأدوات الرحلات، هذا لغرض كذا، وهذا لغرض كذا، وهذا لو أدت الضرورة إلى كذا، وهذا ربما يستدعي الإسعافات والطوارئ في الرحلة إلى كذا، وإذا سئل قال: يا رجال! الحمد لله نحن على قول الشيخ الفلاني ويمشي! هذا فرق كبير بين هذا وذاك، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحني وإياكم رضاه والعمل بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
ولعل هذه الوقفات تغني عن شرحنا لهذا الكتاب، ولكن لعل فيها خيراً عميماً في مستقبل حياتنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: هذا سببه أن الإنسان لم يرسم أهدافه، لم يرسم مستقبل حياته، هل لديه هدف أولا؟ أنا أضحك وأحمد الله سبحانه وتعالى حينما أجد كثرة القيل والقال في الإنترنت، وهذا يرد على فلان وهذا يرد عليه، وهذا مطلع على المنتج الفلاني، وهذا لا يخفى عليه مقالات الفلاني، والله يا إخوان قيل وقال.
ولم نستفد من عمرنا طول بحثنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
والله لأن نموت ولم يقع في قلوبنا غل ولا حقد ولا حسد على أحد من المسلمين لكان خيراً لنا، كما قال ابن تيمية رحمه الله: وما زلت أقول دائماً: إننا لا يمكن أن نكفر مسلماً، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا عن بينة ظاهرة.
ادخل على المنتديات، وانظر إلى الاستهزاء والسخرية والقيل والقال والأسماء المستعارة، وأحياناً الإنسان يكتب ليرضي عشيرته وزملاءه، فلان تكفى! رد على فلان، أضحكنا لنعرف أسلوبه بقلمه الساخر يستطيع أن يضحك القارئ على الكاتب الليبرالي الفلاني، أو على العالم أو طالب العلم الذي وقع في خطأ أو غير ذلك، ثم يجمع أخطاءه ثم يجعلها في ورقة أو ورقتين: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25].
أنا أقول: إن منهج الرد على المخالف منهج أصيل عند أهل الإسلام لكن لا ينبغي أن يكون هذا على سبيل التكثر، أو على سبيل القيل والقال كما قال الإمام الشافعي : ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالته لصنعت، ولكن ليس هذا من هديه ومن طريقته، كذلك يجب أن ترسم هدفك، هذه الأشياء والله طفيفة لا تغني ولا تسمن من جوع، ارسم أهدافك واقرأ العلم الشرعي الحق، وسوف تجد أن هؤلاء الذين كانوا يكتبون سوف يسألونك بعد زمن عن المسائل الفقهية.
أذكر وأنا في زمن الصغر أن أحد طلاب العلم كان يقرأ كثيراً، وكان لا يذهب مع زملائه في بعض الرحلات، وكان زملاؤه يستهزئون به؛ لأنه لا يذهب معهم، كأنه يريد أن يترفع عليهم، وهم لا يريدون ذلك، فكانوا يسمونه ابن تيمية ، وحينما استطاع أن يكسب بعض زملائه ليقرؤوا في البيت سموا الآخر الشافعي ، انظر الاستهزاء، وأصبح هذان أفضل من كثير من الشباب، لماذا ينتكس طالب العلم؟ لأنه لم يكن طالب علم حقاً، يحضر الدروس ولم يكن له هدف، ولو كان عنده هدف لاستطاع.
والله إني حزنت حينما كان أحدهم يحفظ معنا صحيح مسلم ، فقال: والله يا هذه الأيام الضائعة! ونحن نحفظ صحيح مسلم يعني: عجباً لك ثم عجباً، بدلاً من أن تترحم على الأيام السوالف التي استفدت فيها، وقضيت أياماً وأنت تكابد الليل والنهار، ولو لم يكن إلا علو الهمة في طلب العلم، ولو لم يكن إلا البقاء في المسجد والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه تندب حالك على هذا! ماذا استفدت من مقالات فلان وعلان وغير ذلك.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر