الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
يقول المؤلف: (ويستحب تحوله من موضعه ليستنجي) وهذا في الأماكن التي لا يعلم أو يظن تلبس المسلم أو المتوضئ بالنجاسة إذا استنجى أو توضأ في المكان الذي قضى فيه حاجته، فالاستحباب هنا إن ظن التلوث، أما إن تيقن أو غلب على ظنه فإنه محرم لئلا تقع النجاسة في ثيابه، فربما صلى في الثياب النجسة، كذا قال بعض الحنابلة.
ودليل الاستحباب هو أن المسلم مأمور بالابتعاد عن النجاسات والتنزه منها لما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس في قصة اللذين يعذبان في القبر: ( وأما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله )، وفي رواية: ( لا يستتر من بوله )، وجاء عند البزار : ( تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه ).
أما اليوم فمغتسلات الناس هي الحمامات التي لا يخشى فيها التلوث؛ لأن المسلم إذا قضى حاجته صب عليها الماء وذهبت، وعليه فلا يلزمه أن يغير مكانه، أما في البراري ونحوها فإن الأولى للإنسان إذا قضى حاجته أن ينتقل إلى مكان آخر حتى لا يصيبه شيء من نجاسة البول أو العذرة التي ربما ينشغل في تنظيف نفسه، وعدم معرفة ما لو أصاب شيء من تلك النجاسة ثيابه.
يقول المؤلف: (ويبدأ ذكر وبكر بقبل).
يعني: أن الرجل الذكر، وكذلك الجارية -الفتاة- التي لم تتزوج، يبدآن في الاستجمار بالقبل لا في الدبر، فلو قضى حاجته وتغوط فإنه يبدأ بقبله، قالوا: لأن قبل الذكر -ذكر الرجل- بارز، فلربما نظف دبره فوقعت نجاسته على يده أو ثيابه، أعني نجاسة البول، فناسب ذلك أن يبدأ بالقبل حتى إذا تنظف منه واستجمر شرع في دبره، وكذلك الجارية لوجود عذرة البكر دون الثيب، والواقع أن العذرة هنا ليست واضحة؛ لأن البكر والثيب كلاهما له قلفة كعرف الديك، والعذرة هنا داخلية وليست خارجية، ولهذا تخصيص البكر دون الثيب لا وجه له، وقوله: (ويبدأ ذكر) هذا على سبيل الاستحسان، وليس ثمة سنة.
الحنابلة يقولون: ويكره دخوله الخلاء مثل الحشوش ونحوها، فالخلاء هي الحمامات التي لا يقضى فيها الحاجة، وأما الحشوش فهي التي يقضى فيها الحاجة، وأماكن البراز.
قالوا: ودليل الكراهة ما رواه أصحاب السنن و ابن حبان و البيهقي من حديث همام بن يزيد الأزدي عن ابن جريج عن الزهري عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً نقشه: محمد رسول الله، وكان إذا دخل الخلاء وضعه )، وهذا الحديث ضعيف، والصحيح أن ابن جريج لم يسمعه من الزهري ، وأن هماماً الراوي عن ابن جريج أخطأ فيه، وزيادة: ( كان إذا دخل الخلاء وضعه ) وهم من همام ، وقد ضعف الحديث النسائي وقال: هذا غير محفوظ، وكذلك أبو داود ، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل، وصححه الترمذي ، والأقرب أنه ضعيف.
أما مسألة دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله فهذا ينقسم إلى قسمين كما ذكره المؤلف، فأما المصحف فيقول: يحرم، ويقول صاحب الإنصاف: فلا شك في تحريمه قطعاً، وهذا التحريم في المصحف إن لم يخف على مصحفه، فإن خاف على المصحف كأن يكون مثلاً في بلاد غربية، ولو وضعه ربما وقع عليه شيء، فإنه إن خاف على المصحف أدخله، وحاول أن يخبئه فلا يظهره، أما إن لم يخف عليه، فإنه لا يجوز له دخوله، أما البقية مثل: محمد رسول الله، أو غيرها من الكلمات فهذا الأقرب -والله أعلم- إن أمكن في الأشياء العادية فحسن، أما الكراهة فتحتاج إلى دليل.
فالآيات مثل بعض المطويات وغيرها وضعها قبل الدخول حسن، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوقى ذلك، أو يأمر أصحابه بذلك، والحديث الوارد كما قلت ضعيف.
يقول المؤلف: (إلا لحاجة) يعني: إذا كان هناك حاجة فليس ثمة كراهة، قال: (لا دراهم ونحوها)، هذا الحكم في كراهة دخول الخلاء لا يدخل فيها الدراهم، والدراهم كان النقاش فيها ذكر الله، أو عبد الملك بن مروان ، و الملك من أسماء الله، فلم يكونوا يتوقون ذلك، فكأن المؤلف يقول: هذه الكراهة غير داخلة فيها الدراهم.
قال المؤلف: (وحرز للمشقة).
الحرز: التمائم التي فيها كلام الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي توضع إما على الرقبة، وإما على اليد، وهذا مبني على الخلاف في مسألة التمائم، والمؤلف يقول: إن فكها ثم ربطها بعد ذلك فيه مشقة، ولهذا قال لك: (لا دراهم وحرز للمشقة) فكأن الدراهم والحرز المشقة فيها دائمة، فأخرجها من الحكم، وهذا مبني على أن تلك التمائم جائزة، وذهب ابن مسعود رحمه الله -وهو قول أكثر الصحابة- إلى حرمة تلك التمائم إذا كان فيها كلام الله وكلام رسوله بلسان عربي، خلافاً لـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
يقول المؤلف: [ ويجعل فص خاتم احتاج للدخول به لباطن كف يده ].
يعني: إذا كان الخاتم في نقشه بسم الله، أو محمد رسول الله، أو كلمة فيها ذكر الله، فإنه يؤمر أن يغيبه ويخبئه، إما أن يخبئه بأن ينزعه فيدخله في فمه، أو على عمامته، أو يدخل باطن الفص في باطن الكف، كذا قال المؤلف، والأقرب والله أعلم أنه لا حرج في دخوله أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتوقى ذلك، ومعلوم أن خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم نقشه محمد رسول الله كما في الصحيحين، إذاً: زيادة ( وكان إذا دخل الخلاء وضعه ) هي الإشكال عند حديث ابن جريج ، وإلا فإن كون نقشه محمد رسول الله، هذا في الصحيحين، يقولون: الله سطر، ورسول سطر، ومحمد سطر، هكذا في خاتم النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا أراد أن يقضي حاجته جالساً يكره أن يرفع ثوبه ويخرج عورته وهو ما زال قائماً؛ لأن إخراج العورة هنا حال القيام بلا حاجة، والحاجة تكون عند دنوه من الأرض، واستدلوا على ذلك بأحاديث:
أولاً: قال النووي رحمه الله: يستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض بالاتفاق، إذاً: الاستحباب غير الكراهة، فترك الاستحباب لا يلزم منه وقوع الكراهة، ودليل الاستحباب هو حديث معاوية بن قرة رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن كان أحدنا وحده؟ قال: فالله أحق أن يستحي منه )، الشاهد: (فالله أحق أن يستحي منه)، فالإنسان إذا كان وحده فلا ينبغي له أن يكشف عورته من غير حاجة، فيحرم عليه كما قال بعض الفقهاء، وقال بعضهم يكره، فإن رفع ثوبه قبل دنوه من غير حاجة، فيكون وقع في هذا المحضور، وقد جاء من حديث أنس و ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض )، وهذا الحديث يرويه الأعمش سليمان بن مهران مرة عن أنس ، ومرة عن رجل عن ابن عمر ، وكلا الحديثين غير صحيح، فكلاهما مرسل، يعني: منقطع كما قال البخاري رحمه الله، وضعفه أبو داود أيضاً.
يعني: يكره كلامه وقت قضاء الحاجة، ولعل الحنابلة يستدل لهم بما جاء عند النسائي في السنن الكبرى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت ذلك )، والواقع أن الحديث ضعيف، فقد ضعف الإمام أحمد و يحيى القطان والإمام البخاري أحاديث عكرمة بن عمار إذا رواها عن يحيى بن أبي كثير ، وهذا الحديث من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن عياض بن هلال عن أبي سعيد .
ثم إن المقت هنا لإبراز عورة كل واحد منهما ينظر بعضهما بعضاً، فليس لأجل التحدث، وإن كان الأولى بمن يقضي الحاجة أن لا يتحدث.
أما رد السلام فقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عمر : ( أن رجلاً مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم عليه فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وقد جاء عند البزار من حديث جابر بن عبد الله : ( أن رجلاً مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلم فلم يرد عليه، وقال: إذا رأيتني على هذه الحال فلا تسلم عليّ فإني لا أرد عليك )، ولكن هذا الحديث في سنده ضعف، في سنده عبد الله بن محمد بن أبي عقيل ، وأما حديث: ( إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر )، فهو من حديث المهاجر بن قنفذ عند أبي داود ، وهو أيضاً ضعيف، في سنده عبد الله الفروي وهو ضعيف، وعلى هذا نعرف أن الحديث وقت قضاء الحاجة ليس بمستحب، ولكن الكراهة تحتاج إلى دليل، ولا دليل، خلافاً لكلام المؤلف حيث يقول: يكره، نعم نقول: لا يرد السلام، فلو كان الإنسان في دورة مياه يقضي حاجته، فسلم عليك شخص وقال: السلام عليك فلا ترد عليه السلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام، وإن عطس الشخص نفسه هل يقول الحمد لله؟ يقول المؤلف: حمد الله بقلبه، ولو حمد الله بينه وبين نفسه، مثلما يقرأ في سره القرآن، أو الذكر في الصلاة بينه وبين نفسه بحيث يسمع نفسه لا حرج، بل قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: الذي يقضي الحاجة له أن يتابع المؤذن، لماذا؟ قال: لأن متابعة المؤذن مستحبة، وذكر الله في الخلاء أعلى أحواله الكراهة، والقاعدة إذا تعارض مكروه ومستحب فيقدم المستحب، ولهذا في دورة المياه إذا أراد الإنسان أن يتوضأ له أن يقول: بسم الله، يخافت بها، خلافاً لمن يقول من الحنابلة: يقول بقلبه: بسم الله، والصحيح أنه يقول: بسم الله، ولكن لا يرفع بها صوته، بينه وبين نفسه، وليس بقلبه، بالقلب ما يحرك شفتيه، أما المخافته بينه وبين نفسه فإنه يحرك شفتيه.
يعني: إذا كنت تقضي الحاجة مثلاً في الفضاء فرأيت طفلاً يوشك أن يسقط في الماء، أو شخصاً يوشك أن يقع في حفرة فيجب أن تناديه وتتحدث معه خوفاً من هلاكه؛ لأن هذا من باب المأمور الواجب، والكلام وقت قضاء الحاجة غايته أنه مكروه، وإذا تعارض مكروه وواجب قدم الواجب.
قال المؤلف: [ وجزم صاحب النظم بتحريم القراءة في الحش وسطحه وهو متوجه على حاجته ].
صاحب النظم هو محمد بن عبد القوي بن بدران ، له نظم في المفردات، ونظم في الآداب، جزم بتحريم قراءة القرآن في الحش، وهذا واضح بلا شك؛ لأن احترام القرآن واجب، أما قوله: (وسطحه) يعني: قراءة القرآن على سطح الحمام أيضاً محرمة، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا مكان طاهر، أما لو كان يقرأ القرآن وهو يقضي حاجته فهذا أيضاً محرم، لقول صاحب الفروع: (وهو متوجه على حاجته)، يعني: وقت قضاء حاجته.
وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر