الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
والسرب بفتح الراء. هو الفتحة التي يختبئ فيها الذئب والثعلب ونحو ذلك، والجحر هو أعم من ذلك، وقد روى قتادة عن عبد الله بن سرجس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر )، وهذا الحديث رواه أبو داود و النسائي ، والحديث -إن شاء الله- إسناده قوي، حيث أن علي بن المديني أثبت سماع قتادة من عبد الله بن سرجس الصحابي، وأنكر الإمام أحمد السماع، والقاعدة عندنا أن المتقدمين إذا اختلفوا بين السماع وعدمه، ولم يذكر كل إمام دليله في ذلك، فإن المقدم هو المثبت، فـعلي بن المديني مثبت، و أحمد منكر، فالمثبت مقدم على النافي، ولهذا نقول: إن الحديث إن شاء الله حسن، أو صحيح، وقد قيل لـقتادة : ما وجه الكراهة؟ قال: فإنها مساكن الجن، ويذكرون في ذلك أن سعد بن عبادة إنما مات بسبب أنه بال في الجحر، فقتلته الجن، وقال: إنهم سمعوا منادياً ينادي بعد ما مات سعد بن عبادة فقالوا:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده
وهذا الحديث لا يصح، ولكن بلا شك أن التبول في الجحر مكروه؛ لأنه ربما خرج من الجحر بعض الهوام، أو بعض الحيوانات، فربما أدى إلى فزعه، وعدم تنزهه من بوله.
أما قوله: (ويكره أيضاً بوله في إناء بلا حاجة) هذا محل نظر، فقد روى أبو داود من حديث حكيمة بنت أميمة عن أمها التي هي أميمة بنت رقيقة قالت: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه)، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع ذلك، فدعوى الكراهة لا معنى له، وأما دعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً لذلك إذ لم تكن الحشوش موجودة، فنقول: لكن الكراهة تحتاج إلى دليل.
يقول: (ويكره تبوله في مستحم)، جاء في بعض الروايات: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل في مستحمه، وقال: (إن عامة الوسواس منه)، حديث عبد الله بن مغفل وغيره، والحديث ضعيف، ولكننا نقول: إن المستحم في وقتنا المعاصر يسمى البانيو، فإن البانيو هذا لو تبول فيه، وجرى الماء بعد ذلك فلا حرج، وهذا معنى قول المؤلف: (غير مقير ومبلط).
يعني: إذا كان مقيراً أو مبلطاً مثل البانيو الآن فإنه لا حرج؛ لأن الماء سوف يأتي بعد ذلك فيجري ويزيل هذا البول.
يكره للإنسان أن يمس ذكره بيمينه، وهذا في غير قضاء الحاجة؛ لأن اليمين تستخدم في باب الكرامة، فلا ينبغي أن يمس بيده اليمنى فرجه، أو فرج امرأته، بل ينبغي له إذا أراد أن يستعمل هذا أن يستخدم اليسار؛ لأن مس الذكر فيه نوع من الاستقذار، فناسب أن لا يستخدم اليمين بذلك، أما وقت البول -يعني: يمسك ذكره وهو يبول بيمينه- فبعض أهل العلم حكم بالكراهة، والقول الثاني: التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة كما في الحديث المتفق عليه: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول )، فدل ذلك على أنه إن مس ذكره بيمينه وهو لا يتبول فليس بمنهي عنه نهياً صريحاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المس حال التبول، فدل ذلك على أن المس في غير حال التبول ليس فيه نهي صريح، ولكننا نقول: الأولى أن لا يمس بيده اليمنى ذكره، أو فرج زوجته.
يقول المؤلف: (ويكره استنجاؤه واستجماره بها)، يعني: يكره أن يزيل نجاسته بيده اليمنى، والأقرب والله أعلم التحريم؛ لحديث أبي قتادة مرفوعاً: ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه )، والقاعدة أن النهي المجرد يدل على التحريم.
قال المؤلف: [ لحديث أبي قتادة : ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ) متفق عليه ].
ويكره استقبال النيرين، يعني: استقبال الشمس أو استقبال القمر، وأدلة هذا الحكم ما يلي:
الدليل الأول: قال: لما فيهما من نور الله تعالى، أقول: إن الكراهة حكم شرعي، لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولم يدل دليل على كراهة استقبال النيرين.
الدليل الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تدل على خلاف ذلك، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا )، ومن المعلوم أن المشرِّق أو المغرِّب سوف يستقبل أحد النيرين.
الدليل الثالث: أن التعليل بكونهما من نور الله خطأ؛ لأن نورهما مخلوق، وليس من نور الله الذي هو صفته، كما في الحديث: ( حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه )، الذي في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري .
ويكفي انحرافه عن جهة القبلة وحائل ولو كمؤخرة رحل ولا يعتبر القرب من الحائل ].
الآن المؤلف يقول: ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء، أما في البنيان فلا بأس. وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
وذهب أبو حنيفة ، وهو رواية عند الإمام أحمد ، وهو اختيار ابن تيمية ، وابن القيم ، ذهبوا إلى أن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة محرم مطلقاً، لحديث أبي أيوب ، سواء كان في البنيان أو غير البنيان، قالوا: لأن حديث أبي أيوب من قوله صلى الله عليه وسلم، وهو صريح في النهي: ( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها )، وهذا هو القول الثاني، وفي المسألة أقوال معروفة تصل إلى السبعة أو الثمانية.
والذي يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- هو القول الثالث، وهو قول أبي يوسف الحنفي ، وقول بعض السلف، وهو أنه يحرم الاستقبال مطلقاً في البنيان والفضاء، ويحرم الاستدبار في غير البنيان، وجه الدلالة هنا، قالوا: لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الأمر حديثان: حديث أبي أيوب ، وحديث ابن عمر :
أما حديث أبي أيوب ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى أن تستقبل القبلة أو تستدبر ببول أو غائط )، فهذا نهي عام بعدم استقبال القبلة، وعدم استدبارها وقت قضاء الحاجة، فجاءنا حديث ابن عمر في الصحيحين حيث قال: ( ثم رقيت على ظهر بيت لـ
وعليه إذا جاء نهي عام في الاستدبار في الفضاء وغير الفضاء، وجاءنا حديث ابن عمر أنه في البنيان جائز، قلنا: إن حديث أبي أيوب خصص منه حالة حديث ابن عمر ، وهذا الذي يظهر والله أعلم.
أما ابن القيم فإنه ضعف حديث ابن عمر في العمل به من ستة أوجه، كلها فيها نوع من التكلف؛ لأنه قال: إنه لا يعلم التاريخ، والثاني: أنه يحتمل خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكل ذلك يحتاج إلى دليل، والأقرب هو قول أبي يوسف رحمه الله، وقول بعض السلف، وروي عن أيوب السختياني وغيره.
وعلى هذا فكلام المؤلف (ولو كمؤخرة رحل)، يعني: يضع كومة كمؤخرة الرحل بحيث لا يستقبل القبلة، واستدلوا بما رواه مروان بن الأصفر عن ابن عمر أنه كان إذا أراد قضاء الحاجة، عرض دابته عليها، وهذا قول ابن عمر ، والأقرب كما قلت حديث أبي أيوب : ( فوجدنا المراحيض قد بنيت قبل القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله )، وإذا اختلف الصحابة في مسألة اخترنا ما هو أقرب إلى النص.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر