الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ وإن اجتمعت أحداث متنوعة -ولو متفرقة- توجب وضوءاً أو غسلاً، فنوى بطهارته أحدها -لا على ألا يرتفع غيره- ارتفع سائرها أي: باقيها؛ لأن الأحداث تتداخل فإذا ارتفع البعض ارتفع الكل ].
قول المؤلف رحمه الله: (وإن اجتمعت أحداث متنوعة).
يعني: كل واحد من هذه الأحداث يرفعها وضوء، فلو أنه تبول، ثم أكل لحم جزور، ثم -على مذهب الحنابلة- خرج منه دم كثير؛ لأن خروج الدم عند الحنابلة ينقض الوضوء، ثم تغوط، ثم خلع جوربيه مثلاً، فهذه أحداث يوجب كل واحد منها وضوءاً، يقول المؤلف: فإن نوى بطهارته الوضوء أحدها، يعني: هو تذكر أنه أكل لحم جزور، فأراد أن يتوضأ ليرفع حدثه، يقول المؤلف: فبمجرد نية رفع حدث واحد ارتفعت الأحداث كلها؛ لكن بشرط وهو قول المؤلف: (لا على ألا يرتفع غيره)، فإن نوى ألا يرتفع إلا حدث لحم الجزور، إذا قصد ألا يرتفع إلا، وهنا فرق بين ألا يرتفع إلا، وأن يرتفع حدث كذا، فيه فرق وهو إذا قال: لا يرتفع إلا، يعني: هو نوى حصر هذا الوضوء لحدث معين، ولم ينو غيره، وأما إذا نوى ارتفاع حدث كذا، فإنه يرتفع؛ قالوا: لأن الحدث وصف قائم بالبدن، فإذا نوى ارتفاع حدث من الأحداث، فإن الأحداث تتداخل، لكنهم قالوا: إن نوى ألا يرتفع إلا حدث كذا، فقالوا: لا يصح؛ عللوا على ذلك قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، هذا المذهب.
والقول الثاني: يرتفع حدث الجميع؛ لأن الحدث وصف قائم بالبدن -الوصف وصف معنوي- ولا يتجزأ، فإذا ارتفع حدث واحد فقد ارتفع حدث الجميع، فإذا صححتم ارتفاع حدث لحم الجزور، فلا بد أن ترتفع الأحداث الأخرى، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم، وإن كان قوله: لا يرتفع إلا حدث كذا فهذا من باب العبث ليس إلا، وهذا هو الراجح.
إذاً: لو نوى ألا يرتفع إلا حدث واحد، فالراجح أنه يرتفع حدث الجميع؛ لأن الحدث وصف قائم بالبدن، وهو لا يتبعض ولا يتجزأ، فإذا صححنا ارتفاع حدث معين، فلا بد أن ترتفع أحداث البقية.
قوله: (ويجب الإتيان بها) أي: بالنية، فلا بد أن ينوي من حين يبدأ بالتسمية؛ لأن التسمية عند الحنابلة واجبة، فلو أنه سمى، ثم نوى الوضوء، فهل يصح؟ لا؛ لأن النية جاءت بعد أول واجباتها وهي التسمية، فلا بد أن يبدأ بها مع التسمية، أو قبل التسمية بيسير كما سوف يأتي، ولهذا فلو فعل شيئاً من الواجبات قبل النية كالتسمية، فإن وضوءه لا يصح ولا يعتد به، وهذا بناءً على القول بأن التسمية واجبة.
قول المؤلف: (يجوز أن يقدم النية على الواجبات بزمن يسير) وقد حكى صاحب الإنصاف: أن ذلك بغير نزاع، أي: بغير خلاف ويظهر من قول المؤلف: (ويجوز تقديمها بزمن يسير، ولا يبطلها عمل يسير) أنه لو قدمها بزمن طويل فإنها لا تصح، مثاله: الذين يذهبون في البر، وهم يبحثون عن الماء، فلو خرجوا الساعة الحادية عشرة وهم يبحثون، وهم إذا كثروا ربما يرتفع استحضار النية، فجلسوا على ذلك ساعة أو ساعتين، فالحنابلة يقولون: لا يجزئ هذا؛ لأن النية عزبت يعني: لم تستحضر، والزمن طويل.
والقول الثاني: أن النية تجوز قبل الوضوء بزمن طويل، بشرط ألا يقطعها، أو يعرض ما يقطعها من اشتغال بعمل غير الاشتغال بشرط الصلاة، مثل أن يعمل رياضة، فالرياضة غير مشتغل بشرط الصلاة فهذا هو الراجح -والله أعلم- أنه يصح تقديم النية بزمن طويل بشرط ألا يقطعها، أو يعرض ما يقطعها من اشتغال بعمل ونحوه.
قول المؤلف: (وتسن النية عند أول مسنوناتها)، وهذا في حق من لم يستيقظ من النوم، فأول مسنونات من لم يستيقظ من النوم هو أن يغسل يديه ثلاثاً، فلو أنه غسل يديه ثلاثاً، ثم نوى صح وضوءه؛ لأن النية جاءت بعد مسنون، وليس بعد واجب.
قول المؤلف: (يسن) يعني: وهو يتوضأ، فكلما غسل وجهه مثلاً أو تمضمض يستحضر ثواب هذا الأمر، يستحضر أنه مأمور بغسل الوجه مع المضمضة والاستنشاق، ثم إذا غسل يديه يستحضر أنه مأمور بغسل اليدين، وأن ذلك يثاب عليه المرء، ثم بعد ذلك يمسح، ويتذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو معنى استحضار النية، وإلا فإن بعض الناس ربما إذا شرع في المضمضة والاستنشاق تجد أنه لا إرادي، يغسل وجهه، ثم يغسل يديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، ويجد أنه بعد مدة يسيرة ينتهي من وضوئه، فهذا لم يستحضرها في كل أفعال الوضوء، ومع ذلك يجزئ؛ لأنه بشرط ألا ينوي قطع النية. والمؤلف أشار إلى أن استحضار النية في كل أفعالها من المستحبات؛ لأن العبد يستحضر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كيف فعل، وبما أمر ربه كيف امتثل.
يعني: أنه يجب استحضار الحكم، بمعنى: ألا ينوي القطع، فلو توضأ، ثم بدأ يتكلم مع شخص، وهو يكمل، فإن النية هنا موجودة حكماً؛ لكنه بشرط ألا يقطعها، حتى يتم الطهارة، وهذه لها صورة مثل: شخص يتوضأ بماء قد تغير بملح معدني، فحكم الوضوء به على مذهب الحنابلة لا يصح، وعلى الراجح أنه إذا لم يتغير وصف الماء عنه فإنه يصح، فتوضأ، فلما غسل يديه قال له شخص: هناك ماء نظيف سوف يأتي، نوى أن يقطع النية خروجاً من الخلاف، هذه النية التي قطعها، يقول المؤلف: فإن قطعها، فلا يصح وضوءه؛ لأنه قطع الاستمرار في نية رفع الحدث، وهذا يوجد.
(فإن عزبت عن خاطره لم يؤثر)؛ لأنه بقي حكم استصحاب النية، شريطة ألا يقطعها.
المؤلف يقول: إذا توضأ، ثم بعد الوضوء تذكر، هل أنا نويت أم لا؟ وهذا يحصل في حق من اعتاد أنه إذا دخل دورات المياه يتوضأ بعدها، فتجد أنه ربما يكون الوقت ليس وقت صلاة، فيدخل دورة المياه، ثم يخرج إلى مكان الوضوء -المغسلة مثلاً- فيتوضأ فيتذكر، أنا نويت أم لم أنو؟ الآن هو شك، فهذا الشك يقول المؤلف: وإن شك في أثنائها استأنفها.
يعني: لا بد أن ينوي من جديد، ويعيد الوضوء من جديد، لا أن يكون وهماً، الوهم هذا في حق أصحاب الوسوسة القهرية، فإن شكوكهم تزداد شيء بعد شيئاً، وأرى أن تفصيلات بعض متأخري المذاهب في مسألة النية، ربما جعلت بعض الناس يصاب بالوسوسة، ولهذا لم تكن هذه التفصيلات موجودة عند المتقدمين، والعلماء رحمهم الله إنما يذكرون هذا من باب زيادة العلم والتفصيل فيه؛ لكن بسبب أن الذي يقرأ لا يحسن مدارك العلم، ربما وقع في الوسوسة، وإلا فإن الإنسان مجرد أن يذهب إلى دورات المياه، وقد علم أن دخول الوقت قد حضر، فهذه نية كافية في وجودها، فلا حاجة إلى أن يقال: شك أم لم يشك، وقد جاءني بعض الناس يقولون: نحن ما ندري هل نوينا أم لا، قلت لهم: حينما قمتم من النوم لماذا قمتم قالوا: نريد أن نصلي، قلت: هذه النية كافية، أنت حينما خرجت من عند زملائك، أو من المجلس حينما سمعت الإقامة فأنت نويت الوضوء، والنية ما تحتاج إلى تكلف.
وقد ذكر الغزالي في (إحياء علوم الدين) نقولات عن بعض السلف في تكلفهم في استحضار النية، وليس هذا من فعل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد قال الله تعالى في حق نبيه: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] ، والذين يصابون بالوسوسة بسبب هذا الأمرين نسأل الله أن يشفيهم ويعافيهم، ولهذا لا أقول: لا يلتفت؛ بل لا يجوز أن يلتفت المرء إلى مثل هذه الهواجس والوساوس؛ لأن الشك إذا استحضره الإنسان مرة بعد مرة، فستكثر وساوسه، ويصاب بالجنون، والله إن الناس يتصلون عليّ رجالاً ونساء وهم يبكون؛ بسبب هذه الوساوس، والعجب أنهم يعلمون أن هذا من الشيطان، ومع ذلك يطيعونه.
قال المؤلف رحمه الله: [ فلا يلتف إليه ولا يضر إبطالها بعد فراغه ولا شك بعده ].
يقول المؤلف: إذا انتهى من الوضوء ثم شك، أنا نويت أم لا؟ نقول: لا تلتفت إلى هذه النية؛ لأن النية والشك فيه جاء بعد انتهاء العبادة.
يقول الناظم: والشك بعد الفعل لا يؤثر.
(والشك بعد الفعل) يعني: فعل العبادة. وهكذا إذا الشكوك تكثر.
يعني: أننا لو التفتنا إلى مثل هذا فإن المسلم ستكثر شكوكه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر